مناسك الحج والعمرة
في الكتاب والسنة وآثار السلف
تاليف
محمد ناصر الدين الألباني
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
أما بعد ، فقد دعت الرغبة في تيسير العلم لعامة الناس إلى تبسيط مناسك الحج ، وذلك باستخلاصها من كتابي " حجة النبي صلى الله عليه وسلم كما رواها عنه جابر رضي الله عنه " ، على النحو الذي جريت عليه في رسالتي " تلخيص صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم " ، غير أنني زدت فيه زيادات هامة ، استدركت بها ما لم يرد ذكره من المناسك في " حجة النبي صلى الله عليه وسلم " ، ولا في التعليق عليها ، وقد عنيت خاصة بتخريج هذه الزيادات، وكذلك الفوائد الأخرى التي أوردتها فيه على النحو الذي جرينا عليه في سائر كتبنا ، من ذكر مرتبة الحديث ومصدره ، لكن على طريقة الاختصار ، مع الإحالة في غالب الأحيان إلى كتبي الأخرى ما طبع منها وما لم يطبع، وأما ما كان في كتاب "الحجة" فلم أعن بتخريجه اكتفاء بأن الكتاب متوفر بين أيدي القراء الكرام، فمن شاء منهم التثبت من شيء منه فمن الميسور أن يراجعه، وإليه الإشارة عند الإحالة عليه بكلمة (الأصل)، وإتماماً للفائدة نقلنا عنه بشيء من الاختصار الملحق الخاص ببدع الحج والزيارة .
وسميته " مناسك الحج والعمرة في الكتاب والسنة وآثار السلف " .
والله تبارك وتعالى أسأل أن يجعل عملي كله صالحاً ، وأن يجعله لوجهه خالصاً ، ولا يجعل لأحد فيه شيئاً .
دمشق 21 شعبان سنة 1395 هـ
محمد ناصر الدين الألباني
نصائح بين يدي الحج
وهذه نصائح وفوائد أقدمها إلى إخواننا الحجاج بين يدي الحج:
أولاً ـ على الحاج أن يتقي ربه، ويحرص طاقته أن لا يقع فيما حرم الله عليه، لقوله تعالى: ( الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج )، وقوله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ حج فلم يرفث، ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه "، فإنه إن فعل ذلك كان حجه مبروراً ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " الحج المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة" فلا بد من التحذير مما ابتلي به بعضهم لجهلهم أو ضلالهم:
أ ـ الإشراك بالله تعالى ، فقد رأينا كثيراً منهم يقعون في الشرك كالاستغاثة بغير الله ، والاستعانة بالأموات من الأنبياء أو الصالحين ، ودعائهم من دون الله ، والحلف بهم تعظيماً لهم ، فيبطلون بذلك حجهم ، قال تعالى : ( لئن أشركت ليحبطن عملك ) .
ب ـ تَزَيُّن بعضهم بحلق اللحية فإنه فسق، فيه مخالفات أربع مذكورة في (الأصل).
جـ ـ تختم الرجال بالذهب فإنه حرام ، لا سيما ما كان منه من النوع الذي يسمى اليوم بـ " خاتم الخطبة "، فإن فيه أيضاً تشبهاً بالنصارى .
ثانياً: على كل من أراد الحج ممن لم يسق الهدي، أن ينوي حج التمتع لأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه به آخر الأمر، ولغضبه على أصحابه الذين لم يبادروا إلى امتثال أمره بفسخ الحج إلى العمرة ، ولقوله: " دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة "، ولما قال له بعض الصحابة: أرأيت متعتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد؟ شبك النبي صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في أخرى وقال: " دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة ، لا بل لأبد أبد ، لا بل لأبد أبد ".
من أجل ذلك أمر صلى الله عليه وسلم السيدة فاطمة وأزواجه رضي الله عنهن جميعاً بالتحلل بعد عمرة الحج ، ولذلك كان ابن عباس يقول : ( من طاف بالبيت فقد حل ، سنة نبيكم وإن رَغِمتم ) فعلى كل من لم يسق الهدي أن يلبي بالعمرة في أشهر الحج الثلاثة ، فمن لبى بالحج مفرداً أو قارناً ، ثم بلغه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالفسخ فينبغي أن يبادر إليه ولو بعد قدوم مكة وطوافه بين الصفا والمروة ، فيتحلل ، ثم يلبي بالحج يوم التروية يوم الثامن.
( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ).
ثالثاً: إياك أن تدع البيات في منى ليلة عرفة ، فإنه واجب ، فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر به في قوله: " خذوا عني مناسككم.. ".
وعليك البيات أيضاً في المزدلفة حتى تصلي الصبح فإن فاتك البيات ، فلا يفوتك أداء الصلاة فيها، فإنه واجب منه ، بل هو ركن من أركان الحج على القول الأرجح عند المحققين من العلماء، إلا للنساء والضعفة.
فإنه يجوز لهم الانصراف بعد نصف الليل كما سيأتي.
رابعاً: واحذر ما استطعت أن تمر بين يدي أحد من المصلين في المسجد الحرام ، فضلاً عن غيره من المساجد وغيرها ، لقوله صلى الله عليه وسلم: " لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيراً له من أن يمر بين يديه".
فهذا نص عام يشمل كل مارٍ ومصلٍ ، ولم يصح حديث استثناء المار في المسجد الحرام ، وعليك أن تصلي فيه كغيره إلى سترة ، لعموم الأحاديث الوارده في ذلك، وفيه آثار خاصة عن بعض الصحابة مذكورة في ( الأصل ).
خامساً: على أهل العلم والفضل أن يعلموا الحجاج حيثما التقوا بهم مناسك الحج وأحكامه وفق الكتاب والسنة ، وأن لا يشغلهم ذلك عن الدعوة إلى التوحيد الذي هو أصل الإسلام ومن أجله بعث الرسل ، وأنزلت الكتب ، فإن أكثر من لقيناهم حتى بعض من ينتمي إلى العلم وجدناهم في جهل بالغ بحقيقة توحيد الله وصفاته ، كما أنهم في غفلة تامة عن ضرورة رجوع المسلمين على اختلاف مذاهبهم، وكثرة أحزابهم إلى توحيد كلمتهم وجمع صفوفهم على أساس الكتاب والسنة، في العقائد والأحكام، والمعاملات والأخلاق، والسياسة والاقتصاد ، وغير ذلك من شؤون الحياة، وأن يتذكروا أن أي صوت يرتفع، وأي إصلاح يقوم على غير هذا الأصل القويم، والصراط المستقيم ، فسوف لا يجني المسلمون منه إلا تفرقة وضعفاً، وخزياً وذلاً، والواقع أكبر شاهد على ذلك.
والله المستعان.
ولا بأس من المجادلة بالتي هي أحسن، حين الحاجة، فإن الجدال المحظور في الحج، إنما هو الجدال بالباطل المنهي عنه في غير الحج أيضاً كالفسق المنهي عنه في الحج أيضاً ، فهو غير الجدال المأمور به في مثل قوله تعالى: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن).
ومع ذلك فإنه ينبغي على الداعية أن يلاحظ أنه إذا تبين له أنه لا جدوى من المجادلة مع المخالف -لتعصبه لمذهبه أو رأيه، وأنه إذا صابره في الجدال فلربما ترتب عليه ما لا يجوز- أنه من الخير له حينئذ أن يدع الجدال معه لقوله صلى الله عليه وسلم: " أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً.." الحديث.
لا حرج لا حرج
ومما ينبغي على الداعية أن يلتزمه التيسير على الناس عامة، وعلى الحجاج خاصة، لأن التيسير أصل من أصول الشريعة السمحة، كما هو معلوم ن ما دام أنه لا نص على خلافه، فإذا جاء النص لم يجز التيسير بالرأي.
وهذا هو الموقف الوسط العدل الذي يجب على كل داعية أن يلتزمه، ولا عبرة بعد ذلك بأقوال الناس واعتراضاتهم وقولهم: شدد، أو سهل؟
وثمة أمور جائزة اعتاد بعض الحجاج أن يتحرجوا منها لفتاوى صدرت من بعضهم منافية للأصل المشار إليه آنفاً، رأيت التنبيه عليها:
1 ـ الاغتسال لغير احتلام ولو بدلك الرأس، لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في "الصحيحين" وغيرهما من حديث أبي أيوب رضي الله عنه.
2 ـ حك الرأس ولو سقط منه بعض الشعر، لحديث أبي أيوب الذي أشرت إليه آنفاً. وبه قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
3 ـ الاحتجام ولو بحلق الشعر مكان الحجم، لاحتجامه صلى الله عليه وسلم وسط رأسه وهو محرم، ولا يمكن ذلك إلا مع حلق الشعر، وهو قول ابن تيمية أيضاً، وبه قالت الحنابلة، لكنهم أوجبوا عليه الفدية، ولا دليل لهم، بل هو مردود باحتجامه صلى الله عليه وسلم، فإنه لو فدى لنقله عنه الراوي، فاقتصاره على ذكر احتجامه دون الفدية دليل على أنه لم تقع منه فدية، فالصواب قول ابن تيمية رحمه الله تعالى.
4 ـ شم الريحان، وطرح الظفر إذا انكسر، وفي ذلك آثار مذكورة في ( الأصل ).
5 ـ الاستظلال بالخيمة أو بثوب مرفوع، لثبوت ذلك عنه صلى الله عليه وسلم.
ونحوه الاستظلال بالمحمل قديماً، وبالمظلة ( الشمسية )، والسيارة ولو من داخلها حديثاً، وإيجاب الفدية على ذلك تشدد لا دليل عليه، بل النظر السليم لا يفرق بين الاستظلال بالخيمة الثابت في السنة، والاستظلال بالمحمل وما في معناه، وهو رواية عن الإمام أحمد كما في "منار السبيل" ( 1 / 246 ).
فما تفعله بعض الطوائف من إزالة سقف السيارة، تنطع في الدين لم يأذن به رب العالمين.
6 ـ شد المنطقة والحزام على الإزار، وعقده عند الحاجة، والتختم كما جاء في بعض الآثار.
ومثله، وضع ساعة اليد والنظارة، ومحفظة النقود على العنق.
كل هذه الأمور، داخلة تحت الأصل المذكور، مع تأيد بعضها بأحاديث مرفوعة، وآثار موقوفة، والله عز وجل يقول: (يريد الله بكم اليسر، ولا يريد بكم العسر).
والحمد لله رب العالمين.
بين يدي الإحرام
1 ـ يستحب لمن عزم على الحج أو العمرة المفردة، أن يغتسل للإحرام ، ولو كانت حائضاً أو نفساء.
2 ـ ثم يلبس الرجل ما شاء من الألبسة التي لم تفصل على قدر الأعضاء، وهي المسماة عند الفقهاء بـ ( غير المخيط )، فيلبس الإزار والرداء ونحوهما، والنعلين، وهما كل ما يلبس على الرجلين لوقايتهما مما لا يستر الكعبين.
3 ـ ولا يلبس القلنسوة والعمامة ونحوهما مما يستر الرأس مباشرة، هذا للرجل.
وأما المرأة فلا تنزع شيئاً من لباسها المشروع إلا أنها لا تشد على وجهها النقاب والبرقع أو اللثام أو المنديل ولا تلبس القفازين وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا يلبس المحرم القميص، ولا العمامة، ولا البرنس، ولا السراويل، ولا ثوباً مَسَّه وَرْسٌ ولا زعفران، ولا الخفين، إلا أن لا يجد نعلين ( فيلبس الخفين )، وقال: "لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين".
ويجوز للمرأة أن تستر وجهها بشيء كالخمار أو الجلباب تلقيه على رأسها وتسدله على وجهها، وإن كان يمس الوجه على الصحيح، ولكنها لا تشده عليها، كما قال ابن تيمية رحمه الله تعالى.
4 ـ وله أن يلبس الإحرام قبل الميقات ولو في بيته كما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وفي هذا تيسير على الذين يحجون بالطائرة، ولا يمكنهم لبس الإحرام عند الميقات، فيجوز لهم أن يصعدوا الطائرة في لباس الإحرام، ولكنهم لا يحرمون إلا قبل الميقات بيسير حتى لا يفوتهم الميقات وهم غير محرمين.
5 ـ وأن يدّهن ويتطيب في بدنه بأي طيب شاء له رائحة ولا لون له، إلا النساء. فطيبهن ما له لون ولا رائحة له، وهذا كله قبل أن ينوي الإحرام عند الميقات، وأما بعده فحرام.
الإحرام ونيته
6 ـ فإذا جاء ميقاته وجب عليه أن يحرم، ولا يكون ذلك بمجرد ما في قلبه من قصد الحج ونيته، فإن القصد ما زال في القلب منذ خرج من بلده، بل لا بد من قول أو عمل يصير به محرماً، فإذا لبى قاصداً للإحرام انعقد إحرامه اتفاقاً.
7 ـ ولا يقول بلسانه شيئاً بين يدي التلبية مثل قولهم: اللهم إني أريد الحج أو العمرة فيسره لي وتقبله مني... لعدم وروده عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا مثل التلفظ بالنية في الطهارة والصلاة والصيام، فكل ذلك من محدثات الأمور، ومن المعلوم قوله صلى الله عليه وسلم: " ... فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار".
المواقيت
8 ـ والمواقيت خمسة: ذو الـحُلَيفة، والـجُحْفة، وقَرْن المنازل، ويَلَمْلَمُ وذاتِ عرْق، هن لأهلن، ولمن مَرّ عليهن من أهلهن، ممن يريد الحج أو العمرة، ومن كان منزله دونهن فَمَهِلَّه من منزله، حتى أهل مكة يُهِلون من مكة.
و ( ذو الحليفة ) مهِل أهل المدينة، وهي قرية تبعد عنها ستة أميال أو سبعة، وهي أبعد المواقيت عن مكة، بينهما عشر مراحل أو أقل أو أكثر بحسب اختلاف الطرق، فإن منها إلى مكة عدة طرق كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية، وتسمى وادي العقيق، ومسجدها يسمى مسجد الشجرة، وفيها بئر تسميها جهال العامة: بئر علي، لظنهم أن علياً قاتل الجن بها، وهو كذب.
و ( الجحفة ) قرية بينها وبين مكة نحو ثلاث مراحل، وهي ميقات أهل الشام ومصر وأهل المدينة أيضاً إذا اجتازوا من الطريق الآخر، قال ابن تيمية: "هي ميقات مَنْ حج من ناحية المغرب كأهل الشام ومصر وسائر المغرب، وهي اليوم خراب، ولهذا صار الناس يحرمون قبلها من المكان الذي يسمى ( رابغاً )".
و ( قرن المنازل ) ويسمى قرن الثعالب تلقاء مكة على يوم وليلة، وهو ميقات أهل نجد.
و ( يلملم ) موضع على ليلتين من مكة بينهما ثلاثون ميلاً وهو ميقات أهل اليمن.
و ( ذات عرق ) مكان بالبادية، وهو الحد الفاصل بين نجد وتهامة، بينه وبين مكة اثنان وأربعون ميلاً، وهو ميقات أهل العراق.
أمره صلى الله عليه وسلم بالتمتع
9 ـ فإذا أراد الإحرام، فإن كان قارناً قد ساق الهدي قال: لبيك اللهم بحجة وعمرة، وإن لم يسق الهدي -وهو الأفضل- لبى بالعمرة وحدها، ولابد، فقال: "لبيك اللهم بعمرة" فإن كان لبى بالحج وحده فسخه وجعله عمرة، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وقوله: "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة" وشبك صلى الله عليه وسلم بين أصابعه. وقوله: "يا آل محمد مَنْ حج منكم فليهل بعمرة في حجة" وهذا هو التمتع بالعمرة إلى الحج.
الاشتراط
10 ـ وإن أحب قرن مع تلبيته الاشتراط على ربه تعالى خوفاً من العارض، من مرض أو خوف، فيقول كما جاء في تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم: "اللهم مِحِلّي حيث حبستني" فإنه إن فعل ذلك فحبس أو مرض جاز له التحلل من حجته أو عمرته، وليس عليه دم وحج من قابل، إلا إذا كانت حجة الإسلام، فلا بد من قضائها.
11 ـ وليس للإحرام صلاة تخصه، لكن إن أدركته الصلاة قبل إحرامه، فصلى ثم أحرم عقب صلاته كان له أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث أحرم بعد صلاة الظهر.
الصلاة بوادي العقيق
12 ـ لكن مَنْ كان ميقاته ذا الحليفة استحب له أن يصلي فيها، لا لخصوص الإحرام، وإنما لخصوص المكان وبركته، فقد روى البخاري عن عمر رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول: "أتاني الليلة آتٍ من ربي فقال: صلِّ في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في ( وفي رواية: عمرة و ) حجة".
وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه رؤي (وفي رواية: أُرِيَ) وهو مُعَرس بذي الحليفة ببطن الوادي، قيل له: إنك ببطحاء مباركة".
التلبية ورفع الصوت بها
13 ـ ثم يستقبل القبلة قائماً ثم يلبي بالعمرة أو الحج والعمرة كما تقدم، ويقول: اللهم هذه حجة لا رياء ولا سمعة.
14 ـ ويلبي بتلبية النبي صلى الله عليه وسلم:
أ ـ "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك" وكان لا يزيد عليها.
ب ـ وكان من تلبيته صلى الله عليه وسلم: "لبيك إله الحق".
15 ـ والتزام تلبيته صلى الله عليه وسلم أفضل، وإن كانت الزيادة عليها جائزة لإقرار النبي صلى الله عليه وسلم الناس الذين كانوا يزيدون على تلبيته قولهم: "لبيك ذا المعارج، لبيك ذا الفواضل".
وكان ابن عمر يزيد فيها: "لبيك وسعديك، والخير بيديك، والرغباءُ إليك والعمل".
16 ـ ويؤمر الملبي بأن يرفع صوته بالتلبية، لقوله صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي ومَنْ معي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية" وقوله: " أفضل الحج العَجُّ والثَج" ولذلك كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا أحرموا لم يبلغوا (الرَوْحاء) حتى تبح أصواتهم وقوله صلى الله عليه وسلم: "كأني أنظر إلى موسى عليه السلام هابطاً من الثَّنيِة، له جُوار إلى الله تعالى بالتلبية".
17 ـ والنساء في التلبية كالرجال لعموم الحديثين السابقين فيرفعن أصواتهن ما لم يُخْش الفتنة، ولأن عائشة كانت ترفع صوتها حتى يسمعها الرجال، فقال أبو عطية: سمعت عائشة تقول: إني لأعلم كيف كانت تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سمعتها تلبي بعد ذلك: "لبيك اللهم لبيك... " إلخ.
وقال القاسم بن محمد: خرج معاوية ليلة النفر فسمع صوت تلبية فقال: مَنْ هذا؟ قيل: عائشة أم المؤمنين اعتمرت من التنعيم. فذكر ذلك لعائشة فقالت: لو سألني لأخبرته.
18 ـ ويلتزم التلبية، لأنها "من شعائر الحج" ولقوله صلى الله عليه وسلم: "ما من مُلبٍّ يلبي إلا لبّى ما عن يمينه وعن شماله من شجر وحجر، حتى تنقطع الأرض من هنا وهنا -يعني- عن يمينه وشماله".
وبخاصة كلما علا شرفاً، أو هبط وادياً، للحديث المتقدم قريباً: "كأني أنظر إلى موسى عليه السلام هابطاً من الثنية، له جوار إلى الله تعالى بالتلبية". وفي حديث آخر: "كأني أنظر إليه إذا انحدر في الوادي يلبي".
19 ـ وله أن يخلطها بالتلبية والتهليل لقول ابن مسعود رضي الله عنه: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ترك التلبية حتى رمى جمرة العقبة، إلا أن يخلطها بتلبية أو تهليل.
20 ـ فإذا بلغ الحرم المكي، ورأى بيوت مكة أمسك عن التلبية ليتفرغ للاشتغال بغيرها مما يأتي.
الاغتسال لدخول مكة
21 ـ ومَنْ تيسر له الاغتسال قبل الدخول فليغتسل، وليدخل نهاراً أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم.
22 ـ وليدخل من الناحية العليا التي فيها اليوم باب المعلاة، فإنه صلى الله عليه وسلم دخلها من الثنية العليا (كَداء) المشرفة على المقبرة، ودخل المسجد من باب بني شيبة، فإن هذا أقرب الطرق إلى الحجر الأسود.
23 ـ وله أن يدخلها من أي طريق شاء لقوله صلى الله عليه وسلم: "كل فجاج مكة طريق ومنحر".
وفي حديث آخر: "مكة كلها طريق: يدخل من ههنا ويخرج من ههنا".
24 ـ فإذا دخلت المسجد، فلا تنس أن تقدم رجلك اليمنى وتقول: "اللهم صلّ على محمد وسلم، اللهم افتح لي أبواب رحمتك" أو: "أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم".
25 ـ فإذا رأى الكعبة رفع يديه إن شاء، لثبوته عن ابن عباس.
26 ـ ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم هنا دعاء خاص، فيدعو بما تيسر له، وإن دعا بدعاء عمر: (اللهم أنت السلام، ومنك السلام فحينا ربّنا بالسلام) فحسنٌ، لثبوته عنه رضي الله عنه.
طواف القدوم
27 ـ ثم يبادر إلى الحجر الأسود فيستقبله استقبالاً فيكبر، والتسمية قبله صحت عن ابن عمر موقوفاً، ووهم من ذكره مرفوعاً.
28 ـ ثم يستلمه بيده، ويقبله بفمه، ويسجد عليه أيضاً، فقد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمر، وابن عباس.
29- فإن لم يمكنه تقبيله استلمه بيده، ثم قبل يده.
30- فإن لم يمكنه الاستلام أشار إليه بيده.
31- ويفعل ذلك في كل طَوْفة.
32- ولا يزاحم عليه لقوله صلى الله عليه وسلم: "يا عمر! إنك رجل قوي، فلا تؤذ الضعيف، و إذا أردت استلام الحجر، فإن خَلا لك فاستلمه، وإلا فاستقبله وكبر".
33- و في استلام الحجر فضل كبير لقوله صلى الله عليه وسلم: "لَيبعثن الله الحجر يوم القيامة، وله عينان يبصر بهما، ولسان ينطق به، ويشهد على مَنْ استلمه بحق". وقال: "مسح الحجر الأسود والركن اليماني يحطّان الخطايا حطاً".
وقال: "الحجر الأسود من الجنة، وكان أشد بياضاً من الثلج، حتى سودته خطايا أهل الشرك".
34- ثم يبدأ بالطواف حول الكعبة يجعلها عن يساره، فيطوف من وراء الحِجر سبعة أشواط، من الحَجَر إلى الحَجَر شوط، يضطبع فيها كلها، ويرمل في الثلاثة الأول منها، من الحجر إلى الحجر، ويمشي في سائرها.
35- ويستلم الركن اليماني بيده في كل طرفة، ولا يقبله، فإن لم يتمكن من استلامه لم تشرع الإشارة إليه بيده.
36- ويقول بينهما: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار).
37- ولا يستلم الركنين الشاميين اتباعاً للنبي صلى الله عليه وسلم.
التزام ما بين الركن و الباب
38- وله أن يلتزم ما بين الركن والباب، فيضع صدره ووجهه وذراعيه عليه.
39- وليس للطواف ذكر خاص، فله أن يقرأ من القرآن أو الذكر ما شاء، لقوله صلى الله عليه وسلم: "الطواف بالبيت صلاة، ولكن الله أحل فيه النطق، فمن نطق فلا ينطق إلا بخير" وفي رواية: "فأقلّوا فيه الكلام".
40- ولا يجوز أن يطوف بالبيت عريان ولا حائض، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يطوف بالبيت عريان".
وقوله لعائشة حين قدمت معتمرة في حجة الوداع: "افعلي كما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت [ولا تصلي] حتى تطهري".
41- فإذا انتهى من الشوط السابع غطى كتفه الأيمن، وانطلق إلى مقام إبراهيم، وقرأ: (واتخذوا من مقام ابراهيم مصلى).
42- وجعل المقام بينه وبين الكعبة، وصلى عنده ركعتين.
43- وقرأ فيهما (قل يا أيها الكافرون) و (قل هو الله أحد).
44- وينبغي أن لا يمر بين يدي المصلي هناك، ولا يدع أحداً يمر بين يديه، وهو يصلي، لعموم الأحاديث الناهية عن ذلك، وعدم ثبوت استثناء المسجد الحرام منها، بله مكة كلها!.
45- ثم إذا فرغ من الصلاة ذهب إلى زمزم فشرب منها، وصب على رأسه، فقد قال صلى الله عليه و سلم: "ماء زمزم لما شُرب له"، وقال: "إنها مباركة وهي طعامُ طُعم، [وشفاء سقم]"، وقال: "خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم، فيه طعام الطعم، وشفاء السقم".
46- ثم يرجع إلى الحجر الأسود فيكبر ويستلم على التفصيل المتقدم.
يتبع إن شاء الله...