فكل مؤمن عامل للصالحات له حظ من هذه الحياة الطيبة بقدر إيمانه وعمله.
وليست الحياة في الحقيقة ما يظن كثير من الناس أنها التنعم بأنواع المأكولات والمشروبات والملابس، والنساء، أو لذة الرئاسة والمال، والعمائر، والمراكب والتفنن بأنواع المشتهيات، فإن هذه مشتركة بين بني آدم والبهائم، بل قد تكون البهائم أكثر حظاً في ذلك من الإنسان، وإنما اللذة الحقيقية والحياة هي اللذة والحياة التي إذا خالطت القلب أنسته الأبناء والنساء والأوطان والأموال، والمساكن والإخوان، ورضي عن ذلك كله وخرج مهاجراً إلى ربه مستغنياً بهداه، وعرض نفسه في سبيل ذلك لأنواع المكاره والمشقات، وهو طيب العيش ناعم البال، مستلذاً لما يصيبه في ذلك منشرحاً له صدره.
لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: «والذي نفسي بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر، إلا أدخله الله الجنة» قال عمير بن الحمام – وكان بيده تمرات يأكلهن –: بخ بخ ما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء، ثم رمى بالتمرات من يده، وأخذ سيفه فأقبل يقاتل وهو يقول:
ركضاً إلى الله بغير زاد
إلا التقى وعمل المعاد
والصبر في الله على الجهاد
وكل زاد عرضة النفاد
غير التقى والبر والرشاد
حتى قتل رضي الله عنه.
والمسلمون اليوم بأشد الحاجة إلى معرفة فضائل الصحابة، وكريم معدنهم، وأثر تربية رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم وما كانوا عليه من علو المنـزلة، التي نالوا بها ثناء الله تعالى عليهم، ومن المؤسف أن أخبار أولئك الأخيار قد طرأ عليها من التحريف، والبتر، والزيادة، وسوء التأويل والأغراض، من قلوب قد شحنت بالغل على أفضل هذه الأمة، فأنكرت عليهم حتى نعمة الإسلام، وقد أصبح من الفرض على كل من يستطيع تصحيح تاريخ صدر الإسلام على طريقة المحدثين، ووضع ذلك بين يدي شباب هذه الأمة حتى يكون ذلك قدوة لهم، ودافعاً إلى النهوض بالأمة إلى ما فيه عزتها ورفعتها.
ومن المعلوم ما عليه المسلمون اليوم في أنحاء المعمورة من الضعف أمام الكفار، وتسلط أعدائهم على التحكم فيهم، ولو أنهم تمسكوا بدينهم، واقتفوا أثر نبيهم واهتدوا بهديه لنصرهم الله على جميع من ناوأهم، على ما بهم من ضعف في الاستعداد وآلات الحرب التي يمتلكها أعداؤهم.
وقد فهم الصحابة رضوان الله عليهم ذلك، ووثقوا بالله تعالى واعتمدوا عليه، لأنهم قد تعلموه من نبيهم صلى الله عليه وسلم فنصرهم الله في كل موطن نصراً مؤزراً.
فيوم الخندق قد أحاط عدو المسلمين بالمدينة من كل جانب، وأحكموا حصارها، وظنوا أنهم يقضون على المسلمين نهائياً كما قال الله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)} [الأحزاب: 10، 11].
ابتلو بهذه الشدائد والكرب، حيث أحاط بهم أعداؤهم من الخارج ومن الداخل، فمن خارج المدينة جاءتهم قريش بقضها وقضيضها بعشرة آلاف مقاتل، من غطفان، وبني فزارة، وبني مرة، وبني طريف بن سحمة وغيرهم من المشركين، ومن داخلها اليهود، وهم المرادون بقوله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأحزاب: 10].
وكان عدد المسلمين ثلاثة آلاف، فهزم الله أعداءهم جميعاً شر هزيمة لم ينالوا خيراً، لما ظهر ثبات المؤمنين، وصدقهم وثقتهم بوعد الله تعالى، قال الله تعالى: {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب: 22]، بخلاف المنافقين، فإن الخوف والهلع، وسوء الظن بالله ورسوله جعلهم يظهرون ما كانوا يبطنونه في حالة الرخاء، وهذا شأن كل منافق.
قال الله تعالى ممتناً على المؤمنين بصبرهم وثباتهم وتصديقهم وعد الله ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} [الأحزاب: 9]، إلى قوله تعالى: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنـزلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)} [الأحزاب: 25 - 27].
ولا يقال هذا النصر بالريح والجنود غير المرئية خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه، فكل من اهتدى بهديه وسار على نهجه لا بد أن يحصل له من النصر والتأييد بحسب تمسكه بكتاب الله وسنة نبيه، كما حصل لصحابته بعده من النصر والظفر الذي لم يعرف له نظير في الدنيا مع قلة عددهم وعُدَدِهم بالنسبة لأعدائهم.
وليعلم أنه لا بد من العمل الجاد، ولا بد من النصب والكد، ولا بد من الأهبة والاستعداد فرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أشرف الخلق وأحبهم إلى الله تعالى يشارك أصحابه في حفر الخندق، وحمل التراب حتى يواري التراب جلد بطنه، ويجوع معهم ولا بد من قوة الإيمان بالله تعالى والثقة بوعده، مع ثبات العزائم، والصبر على الشدائد، والتأسي بخير أسوة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن طالع سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيرة صحابته بعده، علم أن تلك الطلائع التي أقام الله بها شوامخ صروح هذا الدين إنما قامت على الصبر على المحن، والنضال المتواصل المضني.
وقوة العزائم، ووزن الدنيا في واقعها بميزانها الحقيقي، فلم يركنوا إليها، ولا كان أملهم الترأس، وطلب السلطة، والحصول على الوظائف التي يترفعون بها على الخلق، أو يجنوا ثمارها، فقد عرفوا الدنيا وعرفوا سرعة زوالها فلم يغبنوا أنفسهم بها، كما أنهم عرفوا الآخرة وجعلوها نصب أعينهم، فلخلودها يعملون وعليها يحرصون،ولذلك هان عليهم بذل نفوسهم وأموالهم في سبيلها راغبين بها عن الدنيا بديلاً فكان أحدهم يخرج عن ماله لله ولرسوله، وكانوا يتسابقون إلى ما يرضي الله ورسوله.
فلا بد لمن يريد ترسم خطاهم بنشر رسالة الحق بين الخلق، والوقوف في وجه الباطل والشر والفساد، أن يهيئ نفسه لتحمل المكاره، والصبر على ما يناله في سبيل الله كما صبر المؤمنون على البلايا والمحن، ولا بد من بذل النفوس في سبيل إقامة الحق ونشر دين الله في الأرض، إنقاذاً للناس من أوضار الشرك ورجس الوثنية وضلال الأفكار التي نبتت على أرض الإلحاد والزندقة، وانحراف الفطر عن سنن الله تعالى إلى سنن الجاهلية وتراثها المرذول،وعبادة الشهوات، والأموال ومظاهر الدنيا.
ومع ذلك لا بد من إعداد العناصر السباقة إلى ما يطلب منها في سبيل دين الله تعالى في كل ما يقوي الحق ويظهره، ويعز أهله وينصرهم، ويضعف الباطل وحزبه ويقهره، مثل بث العيون ومعرفة ما لدى العدو من قوة واستعداد، وكذلك محاربة العدو بما يسمونه اليوم بالحرب النفسية، كما فعل نعيم بن مسعود الأشجعي يوم الخندق.
وعلى كل فما أصاب المسلمين من ذلة ومهانة وتسليط الأعداء عليهم؛ كله بسبب عصيانهم وتركهم تعاليم دينهم، وإعراضهم عن خالقهم، وإقبالهم على الدنيا، والتكالب عليها.
ولما حصل من أفضل هذه الأمة بعد نبيها، وهم الصحابة مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لم يكونوا يرونه معصية، سلط عليهم العدو فقتل منهم سبعين وشج وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكسرت البيضة على رأسه، وكسرت ثنيته وقتل عمه صلوات الله وسلامه عليه، ولما شق ذلك على الصحابة، وأشكل عليهم، كيف يدال عليهم وهم المؤمنون ومعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنـزل الله قوله: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165]. أي بسبب عصيانكم، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} [آل عمران: 152].
فلا بد من طاعة الله وطاعة رسوله، والتمسك بذلك والحذر من المخالفة والمعصية، كما كان الصحابة رضوان الله عليهم يوصي بعضهم بعضاً بالحذر من المعصية فإنها سبب تسليط العدو، ثم إعداد العدة والتوكل على الله تعالى والتوسل إليه ببذل النفوس في طاعته بأن ينـزل نصره وتأييده، فإذا صدق العبد مع ربه فهو تعالى معه بنصره وحفظه وتأييده.
وأما تفرق المسلمين واختلاف قلوبهم الذي أصيبوا به في هذا الوقت فهو بسبب عدم اهتمامهم بدينهم وعدم تطبيقهم تعاليمه، وضعف إيمانهم، فترى المسلمين اليوم عددهم كثير لكنهم غثاء كغثاء السيل نـزعت من قلوبهم المهابة وقذف فيها الوهن، الذي هو حب الدنيا وكراهية الموت، وأحاطت بهم الأعادي كإحاطة الأكلة على مأكولهم.
وذلك لأنهم تنازعوا فتفرقت قلوبهم ففشلوا وذهبت ريحهم، فخالفوا أمر الله وارتكبوا ما نهاهم عنه.
قال تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46]، أي قوتكم وهيبتكم، وهذا هو الداء الذي إذا حل بقوم أصبحوا نهبة لعدوهم، كما هو واقع المسلمين اليوم حتى ذهبوا يطلبون النصر والنصف من عدوهم.
ومن العجب قرب دواؤهم وما فيه نصرهم وهم عنه معرضون، ولن يحصل لهم نصر وعز إلا بعودتهم إلى دينهم واتباع كتاب ربهم الذي جاءهم به نبيهم، والذي فيه حياتهم والنور الذي يكشف لهم عن الحق والباطل، فيريهم الحق حقاً، والباطل باطلاً، قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122]، وقال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 257].
ومن أخرجه الله من الظلمات إلى النور، أبصر الحق واهتدى به وأبصر الباطل وجانبه وحاربه، بخلاف ما عليه المسلمون اليوم من الجهل بما يحاك لهم من مؤامرات ومخططات رهيبة تحدق بهم من جميع الجوانب وهم في غفلة عنها، فهناك مخططات يهودية ونصرانية وإلحادية باطنية، وشيوعية، تعد ويدبر لها للقضاء على المسلمين، وهم غافلون.
يدل على ذلك تأييد كثير من أهل السنة لثورة الخميني، التي شارك في تصميمها والتخطيط لها قادة الكفر الذين أزعجهم ما يتشدق به كثيرون من كُتَّاب المسلمين، من أن هناك صحوة في بلاد الإسلام بين شباب المسلمين، ومطالبات بتحكيم شرع الله في بلاد الإسلام، فهال زعماء الكفر ما يسمعون، وخافوا عودة الإسلام من جديد إلى السيادة والقيادة، فأسرعوا بتخطيطهم الماكر إلى القضاء على ما عساه أن يوجد في بلاد المسلمين من اتجاه إلى العودة إلى الإسلام بإيجاد دولة الرفض التي تنهج ما سلكه متقدموها من القرامطة والإسماعيلية والعبيديين، وبني بويه، وابن العلقمي، ونصير الكفر الطوسي، وأمثالهم، إن رجال دولة الخميني يحيكوا المؤامرات ضد المسلمين من أهل السنة، وجمهور كبير من أبناء أهل السنة يصفقون لهم، وهم يستعدون للانقضاض على دويلات الخليج بعد الانتهاء من العراق ثم على جميع شبه الجزيرة العربية وغيرها وأهمها مكة والمدينة مهما كلفهم ذلك، ولن يقفوا دون أي بلد من بلدان أهل السنة وهم يستطيعون الوصول إليه.
إذ من أخطر ما يواجه العالم الإسلامي اليوم دعوة الرافضة إلى مذهبهم الخبيث.
ووجه الخطورة في ذلك من عدة أمور:
أحدها: جهل أكثر أهل السنة بحقيقة مذهبهم.
الثاني: عدم المقاومة لدعوتهم، فقد خلي لهم الميدان، إلا ما شاء الله.
الثالث: تلبيسهم على الناس بأن دعوتهم إسلامية وأنهم يدعون إلى الإسلام ويناصرونه وأنهم هم الذين يمثلون الإسلام على الحقيقة كما يزعمون، ولذلك سموا ثورتهم الثورة الإسلامية، وجيوشهم التي أعدوها للقضاء على أهل السنة الجيوش الإسلامية.
والحقيقة إن إسلامهم غير الإسلام الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم لا في مصدره ولا في اتجاهه، ولا في مقصده وغايته، فمصادرهم مثل كتاب الكافي المشحون بالكفريات والضلالات، والكذب والتزوير، كالأحاديث التي يرويها عن أئمتهم – كما زعم – والتي فيها أن القرآن ناقص، وأنه محرف، وأن الأئمة يوحى إليهم، وأنهم ما يعلمون ما يعلمه الله، يعلمون ما كان، وما يكون، وأنهم لا يخفى عليهم شيء، وأنهم لا يموتون إلا إذا أرادوا، كل ذلك فيه وأكثر منه، وهو من أهم كتبهم، بل هو أهمها وأعظمها عندهم، وفيه تكفير الصحابة، وفيه من الفضائح والعظائم غير ذلك.
ولا يظن ظان أن رافضة اليوم غير رافضة الأمس، بل هم اليوم أكثر تطرفاً، وأشد حنقاً على المسلمين، والعاقل إذا نظر في كتبهم التي يعتمدون عليها قديماً وحديثاً يستبعد أن مسلماً يكتب مثلها فضلاً عن العمل بها، يقول في الكافي في المجلد الأول ص 176 الطبعة الثالثة في شيراز سنة 1388 يقول: «كتب الحسن بن العباس المعروفي إلى الرضا: جعلت فداءك أخبرني ما الفرق بين الرسول والنبي والإمام؟ قال: فكتب، أو قال: الفرق بين الرسول والنبي والإمام: أن الرسول الذي نـزل عليه جبريل فيراه، ويسمع كلامه وينـزل عليه الوحي، وربما رأى في منامه نحو رؤيا إبراهيم، والنبي ربما يسمع الكلام، وربما رأى الشخص ولم يسمع، والإمام هو الذي يسمع الكلام ولا يرى الشخص».
وفيه قال: سألت أبا جعفر عن قول الله عز وجل: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً} [مريم: 51]، ما الرسول وما النبي؟ قال: النبي الذي يرى في منامه ويسمع الصوت ولا يعاين الملك، والرسول الذي يسمع الصوت ويرى في المنام ويعاين الملك، قلت: الإمام ما منـزلته؟ قال: يسمع الصوت ولا يرى ولا يعاين الملك ثم تلا هذه الآية: «وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث» ثم علق على كلمة محدث وقال: «إنما هو في قراءة أهل البيت، وعلى هذا لا فرق بين النبي والإمام.
وفي صفحة 219 قال: باب عرض الأعمال على النبي والأئمة»، وفي ص 227 باب أن الأئمة عندهم جميع الكتب التي نـزلت من عند الله، وأنهم يعرفونها على اختلاف ألسنتهم، وفي ص 228 باب أنه لم يجمع القرآن كله إلا الأئمة وأنهم يعلمون علمه، وفي ص 255 باب أن الأئمة يعلمون كل العلوم التي خرجت إلى الملائكة والأنبياء والرسل، وفي ص 258 باب أن الأئمة إذا شاءوا أن يعلمون علموا.
وفي نفس الصفحة باب أن الأئمة يعلمون متى يموتون وأنهم لا يموتون إلا باختيار منهم.
وفي 260 باب أن الأئمة يعلمون ما كان وما يكون وأنه لا يخفى عليهم شيء، وفيه نصوص أخرى مثل هذا الكلام، فأئمتهم عندهم أنبياء يوحى إليهم، ورسل أيضاً لأنهم مأمورون بتبليغ ما يوحى إليهم ولهذا ادعوا لهم العصمة من القول خلاف الحق، بل ومن الخطأ والسهو والنسيان وبذلك يكونون عندهم أعظم من الرسل عند أهل السنة فإن الرسل عند أهل السنة يجوز عليهم السهو والنسيان كما جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنما أنا بشر أنسى كما تنسون».
ولا تحسبن هذه العقيدة كانت ثم بانت، بل هي عقيدة الخميني ودولته اليوم، فهو يقول في كتابه «الحكومة الإسلامية» في ص 50: «فإن للإمام مقاماً محموداً ودرجة سامية وخلافة تكوينية تخضع لولايتها وسيطرتها جميع ذرات هذا الكون» فالإمام عند هذا الخميني بمنـزلة الرب حيث أن خلافته تكوينية تسيطر على كل شيء.
ويقول في نفس الصفحة المذكورة: «والأئمة الذين لا تتصور فيهم السهو أو الغفلة».
ويقول فيها أيضاً: «وإن من ضروريات مذهبنا أن لأئمتنا مقاماً لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل» ويقول في ص 113 من الكتاب المذكور «إن تعاليم الأئمة كتعاليم القرآن يجب تنفيذها واتباعها»، وبعض من هذه الأقوال كفر عند من يعلم دين الله ويؤمن بالله، فهل قال مثل أقوال الخميني وسابقيه من أئمته أحد ممن ينتسب إلى دين سماوي مثل اليهود والنصارى وهل ينتبه المغرورون بالخميني وأتباعه، الذين يخططون للقضاء على الإسلام والمسلمين، وهل يتنبه الغافلون عن معاول الهدم التي جاءت راياتها من إيران تقودها العمائم السود، والتي انتشرت في جميع قارات الأرض، تنشر مذهب الرفض، وتضلل الناس وتشككهم في دينهم، وهل يتنبه حكام المسلمين لخطر هؤلاء الذين يديرون ضدهم المؤامرات، إن الخميني في تصريحاته يقول أنه سيحرر مكة والمدينة قبل تحرير القدس من اليهود، لأنه يعادي المسلمين أكثر من عداءه لليهود، وما جاءت دولة الخميني إلا لهدم الإسلام.
إن من الواجب على المسلمين اليوم وخاصة الشباب أن يعرفوا هؤلاء على حقيقتهم، فيعرفوا عقائدهم وما يبطنونه من العمل على القضاء على الإسلام، ومذهب الرفض في الأصل أوجد لذلك، ولهذا بدأوا بأصل الإسلام فطعنوا فيه، طعنوا في الصحابة بأنهم كفرة مرتدون منافقون؛ لأن الإسلام لم يصل إلينا إلا عن طريقهم، فهم الواسطة بيننا وبين رسولنا صلى الله عليه وسلم، فإذا كانت الواسطة التي نقلت لنا الإسلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كافرة، فنقلها غير مأمون وغير موثوق به، بل يجوز أنها نقلت الكفر بدل الإسلام، وهذا سر طعنهم في الصحابة.
وكذلك طعنوا في القرآن، وزعموا أنه ضاع منه أكثر من ثلاثة أرباعه كما قال في الكافي جـ1 ص 228 «سمعت أبا جعفر يقول: ما ادعى أحد من الناس أنه جمع القرآن كله كما أنـزل إلا كذاب، وما جمعه وحفظه كما نـزله الله إلا علي والأئمة من بعده»، وفي ص 239 يقول عن الإمام أبي عبد الله: «وإن عندنا لمصحف فاطمة، وما يدريهم ما مصحف فاطمة؟! قال: قلت: وما مصحف فاطمة؟ قال: مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات، والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد»، والنقول عن كتبهم الموثقة عندهم كثيرة جداً حتى أن أحد أئمتهم ألف كتاباً سماه: «فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب».
والمسلمون لا يختلفون في أن من زعم أن القرآن قد نقص منه حرف واحد، أو أن فيه زيادة على ما أنـزل الله أنه كافر.
وليس من شك أن من زعم أن القرآن قد ضاع ثلاثة أرباعه أو أن هذا المصحف الذي بين أيدي المسلمين ليس هو كلام الله الذي أنـزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أنه دعي في الإسلام، وأن أمره أعظم من أن يقال: أنه كافر، بل لا ينبغي أن يرتاب أن مثل هذه مزاعم زنادقة قالوا أنهم أسلموا؛ ليقوضوا دعائم الإسلام، وليضربوه الضربة المميتة، ولا شك أن الذين يصارحون بعداوة الإسلام من اليهود والنصارى وغيرهم أقل ضرراً على الإسلام والمسلمين من هؤلاء الذين يزعمون أنهم المسلمون وحدهم، وأنهم يحامون دون الإسلام.
فكيف تقبل مصانعة هؤلاء الذين هذه بعض عقائدهم، ولا يظن ظان أن هذا تقول عليهم أو أنه مبالغ فيه، فما يبطنونه للإسلام والمسلمين أعظم من ذلك، ومن خالطهم، وسبر أحوالهم علم ذلك يقيناً، وكذلك الذي يقرأ كتبهم، وفي مبادئهم الدينية عدم الولاء لأي خليفة أو أمير من غير الرافضة.
قال محب الدين الخطيب رحمه الله: «والحقيقة الخطيرة التي نلفت إليها أنظار حكوماتنا الإسلامية أن أصل مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية التي تسمى أيضاً الجعفرية قائم على اعتبار جميع الحكومات الإسلامية من يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الساعة، عدا سنوات حكم علي بن أبي طالب حكومات غير شرعية، ولا يجوز لشيعي أن يدين لها بالولاء والإخلاص من صميم قلبه، بل يداجيهم مداجاة ويتقيهم تقاة، لأنها كلها ما مضى منها وما هو قائم، وما سيقوم منها تعد حكومات مغتصبة».
والحكام الشرعيون في دين الشيعة وصميم عقيدتهم هم الأئمة الاثنا عشر وحدهم، سواء تيسر لهم مباشرة الحكم أولم يباشروه، وكل من عداهم ممن تولوا مصالح المسلمين من أبي بكر وعمر إلى من بعده حتى الآن، مهما خدموا الإسلام، ومهما كابدوا في نشر دعوته وإعلاء كلمة الله في الأرض، وتوسيع رقعة الإسلام، فإنهم مفتئتون مغتصبون إلى يوم القيامة، ولذلك يلعن الشيعة أبا بكر وعمر وعثمان، وكل من تولى الحكم في الإسلام غير علي» الذي جعلوه جداراً يتقون، ويرمون الإسلام من ورائه، لا حباً له ولأبنائه وإنما للتقية والتمويه على عمي البصائر.
يقول الخميني في كتابه الحكومة الإسلامية في الصفحة الثالثة والثلاثين: «في صدر الإسلام سعى الأمويون ومن يسايرهم لمنع استقرار حكومة الإمام علي بن أبي طالب، وبمساعيهم البغيضة تغير أسلوب الحكم ونظامه، وانحرف عن الإسلام؛ لأن برامجهم كانت تخالف وجهة الإسلام في تعاليمه تماماً، وجاء بعدهم العباسيون ونسجوا على نفس المنوال وتبدلت الخلافة إلى سلطنة موروثة، واستمر ذلك إلى يومنا هذا». فجعلهم مخالفين للإسلام تماماً بما فيهم عمر بن عبد العزيز، وأشار إلى الخلفاء الراشدين بقوله: ومن يسايرهم.
ويرمي بالجهل والكفر كل الخلفاء الذين تعاقبوا على خلافة الأمة الإسلامية كما يقول عن هارون الرشيد في ص 132 من كتابه الحكومة: «أي ثقافة حازها وكذلك من قبله ومن بعده»، ولكونهم يرون الحكم في الأرض خاصاً بهم، اقتفاءً لسلفهم المجوس الذين يرون الناس كلهم عبيداً لهم، يقول الخميني في كتابه المذكور ص54:«ولم تسنح الفرصة لأئمتنا للأخذ بزمام الأمور،وكانوا بانتظارها حتى آخر لحظة من الحياة، فعلى الفقهاء والعدول أن يتحينوا هم الفرص، وينتهزوها من أجل تنظيم وتشكيل حكومة رشيدة».
وما هي الحكومة الرشيدة في نظر الخميني وفريقه، لا شك أنها التي تقتل أهل السنة شر قتلة، وتستولي على ما بأيديهم من البلاد والأولاد والأموال وتمحو مذهبهم من الوجود، ومن أجل ذلك يقاتل الخميني ودولته لتنفيذ هذا الإجرام، ويثني كثيراً على سلفه الذين فعلوا بالمسلمين ما لم تفعله اليهود ولا النصارى مثل النصير الطوسي.
فيقول: أنه قدم الخدمات العظيمة، ويعني بالخدمات قتله المسلمين؛ حيث قتل العلماء والقضاة وغيرهم مقتلة لم يقع مثلها في التاريخ وأحرق مكتباتهم.
يقول في كتابه الحكومة ص 128: «ويشعر الناس بالخسارة بفقدان الخواجة نصير الدين الطوسي وأمثاله ممن قدموا خدمات جليلة للإسلام».
والطوسي هذا هو وابن العلقمي ومستشاره ابن أبي الحديد هم أعداء الله الذين ارتكبوا مع هولاكو الذبح الرهيب في الأمة الإسلامية سنة 655 عند استيلاء الأخير على عاصمة الخلافة، بسبب خيانة هؤلاء الذين يثني عليهم الخميني بأنهم قدموا الخدمات للإسلام وأن فقدهم خسارة.
قال ابن القيم:«ولما انتهت النوبة إلى نصير الشرك والكفر الملحد وزير الملاحدة النصير الطوسي وزير هولاكو؛ شفي نفسه من أتباع الرسول وأهل دينه فعرضهم على السيف حتى شفى خوانه من الملاحدة واستشفى هو، فقتل الخليفة والقضاة والفقهاء والمحدثين، واستبقى الفلاسفة والمنجمين، والطبائعيين والسحرة، ونقل أوقاف المدارس والمساجد والربط إليهم، وجعلهم خاصته وأولياءه، وبالجملة، فكان هذا الملحد هو وأتباعه من الملاحدة الكافرين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر».
هذا هو الذي يثني عليه الخميني ويسعى إلى أن يتمكن فيقتدي به فيفعل بالمسلمين كما فعل ومع هذا كله يجهل كثير من المسلمين مذهبه ونواياه التي تدل عليها كتاباته وتصريحاته مما يكنه من الحقد على الإسلام والمسلمين، وإن من العجيب أن يعتبره كثير من المسلمين مصلحاً وداعيةً إلى إقامة حكومة إسلامية يشترك فيها مع فريق الرفض أهل السنة، وهذا والله غاية الجهل والسذاجة.
فعلى العلماء أن يبينوا خطر هؤلاء، ويحذروا المسلمين شرهم وعدم التعاون معهم وأن يكونوا على أهبة الاستعداد لدفع شرهم عن الإسلام والمسلمين، وقد روى الآجري في السنة من حديث معاذ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا حدث في أمتي البدع، وشتم أصحابي، فليظهر العالم علمه، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين».
كما أنه يجب على المسلمين أن يكونوا على بينة من أعدائهم، فلا يغتروا بأهل النفاق والتقية الذين يتحينون الفرص للانقضاض عليهم وهم دائماً على استعداد للتعاون مع الكفرة والملاحدة على المسلمين.
وتاريخ المسلمين مليء بالعبر والعظات وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين» يعني أنه فطن يقظ، وقد أجرى الله تعالى سنته في خلقه أن يكون بين الحق والباطل صراع ومحاربة، ولهذا قص الله علينا في كتابه ما وقع للأنبياء مع أممهم بأساليب مختلفة، فمرة بالتطويل ومرة بأسلوب وسط وأخرى بإيجاز، علنا نفقه سرها والغاية منها، ومن تكرارها فيذكر ما فعله بالصالحين جزاءً لهم على استقامتهم، وما أوقعه بالمفسدين عقوبة لهم على كفرهم وطغيانهم، ويرينا أن هذه سنته في خلقه، وأن الشعوب التي لا صلة لها بالله إلا بطاعته واتباع رسله يُمكّن لها في الأرض ويغدق عليها من النعم إذا هي وقفت عند ما رسم لها من حدود،وما شرع لها من أحكام، ويذيقها العذاب ألواناً ويسلط عليها من يسلبها عزها وسلطانها إذا هي تنكبت طريق الهدى التي بينتها رسل الله، قال تعالى: {فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40].
ومن ذلك قصة أبي البشر آدم عليه السلام، فإن الله تعالى لما شرفه على سائر خلقه حيث خلقه بيده وأسكنه جنة عدن، قدر عليه المعصية فأهبطه إلى أرض التكليف والابتلاء، وعرضه للمصائب والمحن، لأنه في زمن اختبار، به يتبين إهانته ومصابه، أو نجاحه وكرامته.
وأهبطه الله تعالى إلى ميدان الامتحان والابتلاء، وأهبط معه عهده الذي عهده إليه وإلى ذريته، وأكد له ولذريته أنه إن تمسك بهذا العهد الكريم، فسوف يكون حليف السعادة والسيادة في أي وقت كان، وأن الله معه في نصره وتأييده، وحفظه وتسديده، ثم يكون مآله إلى رضوان الله وجنته التي سلبه منها عدوه.
أما إذا أعرض عن عهد ربه ونسيه فإنه يكون في الضنك والشدة، والبؤس والشقاء، ينتقل من شقوة إلى أعظم منها وفي دوره الثلاث قال تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)} [طه: 123 - 127].
فذكر أنه يعذبه في الدنيا وفي المحشر، وأنا ما بعد ذلك أشد وأبقى، بخلاف من اتبع هدى ربه فإنه يهتدي، ولا يناله شيء من الشقي، وفي الآية الأخرى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38]، وقوله: «فأما» هذه أن الشرطية المؤكدة بما الدالة على استغراق الزمان.
والمعنى في أي وقت وحين أتاكم مني هدى فمن تمسك به واتبعه فإنه لا يضل ولا يشقى، ولا خوف عليه في مستقبله ولا يحزن على ما خلفه، ومن أعرض عنه فالشقاء ملازمه، والتعاسة حليفه وقرينه.
فجعل تعالى هداه وعهده إلى أبينا آدم سبباً مقتضياً لعدم الخوف والحزن، والضلال والشقاء، وهذا جزاء ثابت بثبوت الشرط الذي هو التمسك بهذا العهد، ومنتف بانتفائه، ونفي الخوف والخزي والضلال والشقى عن متبع الهدى نفي لجميع أنواع الشرور والمكروه.
فإذا انتفى ذلك حصل الخير والسرور، وهذا لا يمنع أن يحصل للمؤمن خوف في الدنيا أو في قبره أو يوم القيامة، ولكن لا يلحقه ولا يصيبه المخوف قال ابن عباس: «تكفل الله لمن قرأ القرآن، وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة»، وذلك لأن الضلال في الدنيا هو أصل ضلال الآخرة وشقاءها، وإلا فالآية نفت عن متبع الهدى مسمى الضلال والشقاء في الدنيا والآخرة.
وقد علم بالمشاهدة أن من عاش على شيء يموت عليه، وجاء في الحديث: «إن من مات على شيء بعث عليه»، وقال الله تعالى: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} [الإسراء: 72]، وقال عن المنافقين: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [المجادلة: 18].
فأخبر أن من كان في الدنيا في عمى عن الهدى فهو في الآخرة أشد عمى وضلالاً، كما أخبر عن المنافقين أنهم يستعملون نفاقهم مع الله في الآخرة، فيحلفون له أنهم ما فعلوا الكفر، وما يسألهم عنه، كما كانوا يحلفون في الدنيا للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأنهم معهم، وليسوا مع الكفار، ويظنون أن ذلك نافعهم كما كان ينفعهم في الدنيا بإعراض المؤمنين عنهم.