قراءة في كتب السياسة الشرعية
بين القديم والحديث
محمد بن شاكر الشريف
بسم الله الرحمن الرحيم
في كثير من الأحيان تظهر مقولة ثم تنتشر ويفشو أمرها بين الناس: في أحاديثهم وكتاباتهم، حتى لا يكاد يذكر في بابها غيرها، وإذا فتشت في حقيقة ذلك وجدت أن أصلها كلمة مبتدأة في بابها لم يسبقها شيء فذاعت وانتشرت ورددها الكبير والصغير، وهي في حقيقة الأمر لا تعدو كونها رأيا لم تتوفر له دلالات الصحة وأماراتها، ونحسب أن من ذلك ما يذكره كثير من الناس عن عدم اهتمام المسلمين بالحديث عن السياسة، وأن جل همهم متعلق بالآخرة، أما الدنيا فليس لها من كتاباتهم نصيب، فاهتمامهم منصب على أمور غيبية أو على ما تحت التراب لا على ما فوق وجه الأرض، من العلوم والمعارف الدنيوية، وأن ما كتبوه في ذلك لا يتجاوز عددا محدودا من الدراسات، وأغلبهم لا يعرف من الكتب غير الأحكام السلطانية للماوردي...
وهؤلاء فريقان:
-الفريق الأول:
من يطعن بذلك في الإسلام نفسه وأنه دين لا علاقة له بالدنيا، وليس من شأنه أن يتعامل معها، وأن من يحاول ذلك من المسلمين فهو يظلم الدين إذا يدخله -حسب زعمه- في أمور لم يأت لقيادها وعلاج ما فيها من أدواء، وهؤلاء هم العلمانيون.
-والفريق الثاني:
من لا يذهب ذلك المذهب بل يرى أن الدين كما هو يعتني بأمر الآخرة التي هي مستقر الناس بعد كدحهم في الدنيا، فهو يعتني أيضا بأمر الدنيا إذ الدنيا مزرعة الآخرة، لكنه يلقي بالتبعة واللوم على علماء المسلمين لتقصيرهم في هذا الباب.
ولعلنا في هذه المقالة نعرض لمقولات كلا الفريقين ونبين مدى صوابها ودقتها، وقبل الدخول في ذلك نود الإشارة إلى أن الشريعة الخاتمة التي أنزلها الله تعالى على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وجاءت أحكامها في الكتاب والسنة تعتني بالأمرين جميعا الدنيا والآخرة ولا تعرف هذا الفصل الحاد بين المجالين، فالتفريق بينهما إنما هو تفريق تكامل لا تفريق تعارض وتضارب، فالدنيا مزرعة الآخرة، والآخرة حصاد الدنيا، وفساد الدنيا مضر بالآخرة، لكن الأحكام الشرعية لم تأت في مصادرها على وزان واحد وإنما جاءت بصور متعددة ما بين التصريح والتنبيه والإشارة والإيماء وغير ذلك من طرق دلالة الأدلة على الأحكام من خلال الأمر أو النهي أو التوجيه والإرشاد أو التقرير أو من خلال القصص وأخبار السابقين ونحو ذلك.
تعريف السياسة:
السياسة لغة:
القيام على الشيء بما يصلحه، ولفظ 'السياسة' في لغة العرب محمل بكثير من الدلالات والإرشادات والمضامين، فهي إصلاح واستصلاح، بوسائل متعددة من الإرشاد والتوجيه والتأديب والتهذيب والأمر والنهي، تنطلق من خلال قدرة تعتمد على الولاية أو الرئاسة.
وما جاء في معاجم اللغة يدل على ما تقدم، فقد جاء في تاج العروس في مادة سوس: 'سست الرعية سياسة' أمرتها ونهيتها، والسياسة القيام على الشيء بما يصلحه'، وفي لسان العرب في المادة نفسها: 'السوس: الرياسة، وإذا رأسوه قيل سوسوه، وأساسوه، وسوس أمر بني فلان: أي كلف سياستهم، وسُوِّس الرجل على ما لم يسم فاعله: إذ ملك أمرهم، وساس الأمر سياسة: قام به، والسياسة: القيام على الشيء بما يصلحه، والسياسة: فعل السائس يقال: هو يسوس الدواب إذا قام عليها وراضها، والوالي يسوس رعتيه'" ، والسياسة كما عرفها النسفي في طلبة الطلبة بقوله "السياسة حياطة الرعية بما يصلحها لطفا وعنفا".
وقد عرفت السياسة الشرعية بتعاريف عدة، والفقهاء لهم اتجاهان في بيان ذلك:
الاتجاه الأول:
يمثله قول أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي: "السياسة ما كان من الأفعال؛ بحيث يكون الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي'، وقد قيده بقوله: 'ما لم يخالف ما نطق به الوحي' وعلى هذا النحو يحمل كلام ابن نجيم الحنفي، حيث يقول في باب حد الزنا: 'وظاهر كلامهم هاهنا أن السياسة هي فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها، وإن لم يرد بذلك الفعل دليل جزئي'، وكلام ابن عقيل أدق منه وأسد؛ لأنه قيد تحقيق المصالح ودرء المفاسد بعدم مخالفة الشريعة ولم يربطها برؤية الحاكم، بعكس كلام ابن نجيم فلم يقيدها بعدم مخالفة الشريعة وربطها برؤية الحاكم، وقد يكون مراد ابن نجيم كمراد ابن عقيل، لكن عبارته قصرت عن ذلك، وهذا التعريف يوسع مجال السياسة الشرعية.
والاتجاه الثاني:
اتجاه يضيق مجال السياسة ويحصرها في باب الجنايات أو العقوبات المغلظة، وقد تجعل أحيانًا مرادفة للتعزير، وهذا الاتجاه غالب على الفقه الحنفي في نظرته للسياسة، قال علاء الدين الطرابلسي الحنفي: 'السياسة شرع مغلظ'.
وقد 'نقل العلامة ابن عابدين ـ الحنفي ـ عن كتب المذهب:
أن السياسة تجوز في كل جناية والرأي فيها إلى الإمام، كقتل مبتدع يتوهم منه انتشار بدعته وإن لم يحكم بكفره.. ولذا عرفها بعضهم بأنها تغليط جناية لها حكم شرعي حسمًا لمادة الفساد، وقوله: لها حكم شرعي معناه أنها داخلة تحت قاعدة الشرع وإن لم ينص عليها بخصوصه .. ولذا قال في البحر: ظاهر كلامهم أن السياسة هي فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها، وإن لم يرد بذلك الفعل دليل جزئي'.
وقال بعض علماء الحنفية:
'والظاهر أن السياسة والتعزيز مترادفان، ولذا عطفوا أحدهما على الآخر لبيان التفسير كما وقع في الهداية والزيلعي وغيرهما'" .
ومراد الفقهاء هنا بالسياسة هو ما يطلق عليه السياسة الشرعية، والسياسة الحقة ليست في حاجة إلى هذا القيد لأن السياسة تعني الإصلاح والاستصلاح وذلك يكون على أقصى درجات الكمال حين التقيد بالشريعة، فلا تحتاج السياسة من المنظور الإسلامي لذلك التقييد، لكن لما وجد من الولاة من لا يفهم ذلك، وظن أن السياسة أن يفعل ما يراه جالبا لمصلحة أو يدرأ مفسدة من خلال تقديره الشخصي للموقف، احتيج لتقييد ذلك بالشريعة دفعا لذلك التوهم الفاسد
ولعلنا نلحظ أن جانبا من هذه التعريفات ركز أو اقتصر على جزء مما تعالجه السياسة الشرعية، سواء من حيث التصرف فقد حصرتها في الأفعال دون غيرها، أو من حيث القائم بها فقد حصرته في الحاكم دون غيره، لكن بالنظر إلى أن الإنسان عضو في مجتمع من الآدميين أمثاله وهو لا يستطيع العيش منفردا، ولا يمكنه القيام بكل ما يحتاج إليه من الشئون إلا بالمساعدة والمعونة من الآخرين، وهذه علاقات متشابكة ومصالح متداخلة بين الناس بما تحتمله من توافق الآراء والطباع أو تخالفها، وحينئذ فإن حياتهم لا تستقيم إلا بوجود نظام يشمل كل العلاقات المتشابكة والمصالح المتداخلة يقيمها ويديرها على أساس من العدل.
وإدارة العلاقات المتشابكة بين الناس وجلب المصالح ودفع المفاسد في جميع المجالات بما يمكن أن يحقق تطلعات الجميع مع المحافظة على الصلاح والعدالة هو ما يمكن أن يطلق عليه سياسة، والسياسة بهذا الفهم مجالها واسع يمتد ليشمل مجالات الحياة كلها، فهي ليست محصورة في أفعال يقوم بها الحاكم كما سبق ذكره، وإنما تتعداها إلى الأنظمة والترتيبات التي يضعها أهل الحل والعقد محققة لتلك الأهداف، وهي أيضا ليست مساوية لنظام الحكم كما يعرفها القانونيون والكاتبون في مجال السياسة الوضعية، فنظام الحكم أو النظام السياسي ليس إلا جزءا من السياسة بمعناها الواسع الذي يشمل أمور الحياة كلها من سياسة (بمعناها الضيق) واقتصاد ومعاملات وقضاء، وعلاقات دولية ونحو ذلك...
وفيما نظن أنه تعريف أكثر شمولا للسياسة الشرعية نقول: إنها قيادة وإدارة المجتمع في جميع النواحي الداخلية والخارجية وأمور الدين والدنيا لجلب المصالح ودفع المفاسد المتعلقة بالفرد أو المجموع، بالعدل والحق، رغبًا ورهبًا، لتحقيق الغاية التي خلق الإنسان من أجلها بما يوافق كليات الشريعة وجزئياتها ولا يتعارض معها، إضافة إلى النظم والترتيبات التي يمكن بها تحقيق ما تقدم، ولعلنا نلحظ هذا الشمول في تعريف السياسة الشرعية من تعريف أبي البقاء الكفوي لها في كلياته، حيث قال: "السياسة هي استصلاح الخلق بإرشادهم إلى الطريق المنجي في العاجل والآجل، وهي من الأنبياء على الخاصة والعامة في ظاهرهم وباطنهم، ومن السلاطين والملوك على كل منهم في ظاهرهم لا غير، ومن العلماء ورثة الأنبياء على الخاصة في باطنهم لا غير" .
والسياسة إذا كانت تنطلق من الشريعة وتتقيد بنصوصها وأحكامها كانت سياسة شرعية، وإما إن كانت تنطلق مما ترى العقول صوابه من خلال تصوراتها وتجاربها من غير تقيد بالشرع فهذه سياسة عقلية أو مدنية، وهي مباينة للسياسة الشرعية.
والسياسة الشرعية ثلاثة أقسام:
قسم ثابت بالقرآن فهو سياسة إلهية، وقسم ثابت بالسنة فهو سياسة نبوية، وقسم ثابت بالاجتهاد وفق قواعد الاجتهاد المعروفة في أصول الفقه فهو سياسة اجتهادية، وكل ذلك يطلق عليه سياسة شرعية.
والسياسة الشرعية تواكب التطورات الداخلة على تصرفات الناس وأوضاعهم ولا تقف عند حد السياسات التفصيلية الجزئية السابقة، بل تتجاوزها إذا لم تكن محققة لأحكام الشريعة ومقاصدها إلى سياسات مناسبة للتطور الداخل على حياة الأفراد والأمم في ظل المحافظة على أحكام الشريعة ومقاصدها.
وإذا كانت هذه هي السياسة الشرعية بعمومها وشمولها فإننا نعالجها في مبحثين:
أحدهما:
على مستوى الإسلام نفسه في دلالة مصادره على السياسة وفيه رد على الفريق الأول الذي يقول إن الشريعة لم تعتن بالسياسة.
والثاني:
على مستوى كتابات العلماء وتواليفهم في موضوعات السياسة، وفيه رد على الفريق الثاني الذي يقول: إن العلماء أهملوا العناية بالسياسة.
المبحث الأول:
السياسة الشرعية على مستوى الإسلام نفسه في دلالة مصادره عليها وفيها الرد على الفريق الأول:
إن المطلع على نصوص الوحي المعصوم من الكتاب والسنة يجد أنها لم تقتصر على الأمور المتعلقة بالآخرة فقط، كما يقول ذلك المحادون لله ورسوله، كما لم تقتصر على الأمور المتعلقة بنظام الحكم وحده، وإنما أفردت مكانا كبيرا وعظيما للحديث عن كل المسائل التي يحتاجها الإنسان في حياته في جميع مراحله، انطلاقا من كونه فردا، ومن كونه عضوا في جماعته المحدودة أو في جماعته المتسعة، ولو حاولنا إيراد وتقصي ما ورد من النصوص المتعلقة بذلك لاحتاج الأمر إلى أسفار، ولو أضفنا على ذلك شروح أهل العلم لهذه النصوص لاحتاج كل سفر إلى أسفار، لكن لعلنا نورد هنا ما يكون بمثابة العناوين من غير تفصيل فهو اللائق بمثل هذه الدراسة.
1-ففي مجال نظام الحكم:
وردت النصوص التي تدل على طبيعة هذا النظام ووجوب إقامته، واسمه وصفات القائمين عليه وشروطهم وواجباتهم وحقوقهم وهل له حصانة تحول دون محاسبته، ومرجعية النظام التشريعية والقانونية، وتحدثت عن حكم طلب الولاية، كما تحدثت عن موقع أهل الذمة ومدى إمكانية توليهم للولايات، ودور المرأة في ذلك وكيفية الوصول إلى ذلك المنصب، والجهات التي تعين المتصدين للمنصب الأسمى، وبينت دور الأمة في ذلك، ومراقبة تصرفات الحاكم ومدى تقيدها بالشرع، وإدارة أمور الدولة ومن يعاونه في ذلك كما تحدثت عن مسئولية ولي الأمر ومسئولية من يعاونه عن تصرفاتهم، وبينت صفاتهم وصلاحياتهم، وذكرت الشورى في إدارة الأمور وصفات من يستشار والصلاحيات الممنوحة لأهل الشورى، كما تحدثت النصوص عن السمع والطاعة لولي الأمر في المعروف، وأنه لا طاعة في المعصية، كما تحدثت النصوص عن الموقف الذي ينبغي اتخاذه عند وجود خلاف بين ولي الأمر والرعية وكيف يحل ذلك الأمر، كما تحدثت النصوص عن مسوغات عزل المتولي للأمر والخروج عليه إن احتيج لذلك، مع بيان الضوابط والشروط التي تلزم لذلك، كما بينت النصوص صاحب السيادة والمرجع الذي يرجع إليه وتصدر عنه جميع اللوائح والأنظمة والقوانين، والعمل مع الخارجين عن النظام بغير حق وهم البغاة، وأحكام ذلك إلى غير ذلك من الأمور.
2-وفي مجال العلاقات الدولية:
تحدثت النصوص عن علاقة دولة الإسلام بغيرها من الأنظمة القائمة، وما واجبها تجاه رعايا الدول الكافرة التي تدين بغير دين الإسلام، وبيان أصل العلاقة بين المسلمين وغيرهم من الكافرين، وأثر العلم بدين الإسلام وعدمه على تلك العلاقة، وتحدثت عن مسوغات المحاربة لهذه الدول وما الحد الذي ينتهي عنده القتال، كما تحدثت عن عقد المعاهدات والهدنة والأمان معهم، والوفاء بما عاهد عليه المسلمون، ومن الذي له حق إبرام المعاهدات نيابة عن الأمة، والمدة الزمنية للمعاهدات، ومتى يجوز نبذ العهد، كما تحدثت عن التحالف مع الكفار وضوابط ذلك، والواجب حيال السفراء الذين ينقلون رسائل أقوامهم إلى ولي الأمر المسلم، وهل للسفير حصانة وما ضوابطها، وتحدثت عن أسرى العدو وما يفعل معه، والتجارة مع أهل الحرب، ومناصرة المسلمين في خارج دولة ولي الأمر على عدوهم وأحوال ذلك.
3-وفي مجال الحفاظ على دولة الإسلام:
شرعت النصوص الجهاد في سبيل الله تعالى ودعت للاستعداد لذلك عن طريق تجييش الجيوش، وإعداد العدة والعناية بالصناعات الحربية، والحث على التدرب على المعدات القتالية والمسابقة فيها، كما بينت حدود استخدام السلاح الفتاك، كما بينت حكم موالاة الأعداء ومساعدتهم ضد المسلمين والخروج في صفوفهم، والحكم فيمن تجسس على المسلمين لصالح الكفار، والاستعانة بغير المسلمين في الحفاظ على دولة المسلمين، كما تحدثت عن العمل في الغنائم التي تكون إحدى نتائج المعارك، وكذلك أسرى الحرب.
كما بينت النصوص الجانب الأخلاقي للجهاد في سبيل الله تعالى بحيث لم يعد قاصرا على حماية دار الإسلام وإنما تعدى ذلك للدفاع عن حقوق غير المسلمين في أن يخرجوا من تحت سلطان الحكام الطغاة، وفي التعرف على الإسلام وسماع كلام الله، وقد تحمل المسلمون في سبيل تحقيق ذلك أهوالا جمة، لم يدفعهم إليها الحرص على دنيا زائلة أو مغانم فانية، بل إخراجا للناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم.
كما تحدثت النصوص عن حماية المجتمع والحفاظ عليه أمنيا وأخلاقيا فدعت للأخلاق الحميدة ومنعت الظلم والعدوان وشرعت العقوبات المناسبة للتعدي على الآخرين في أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، وظهرت لذلك ولاية الحسبة وولاية المظالم.
4-وفي مجال حقوق وحريات الإنسان المسلم:
بينت النصوص أن المسلم عبد لله وحده ومن ثم فإن الذي يحدد حقوقه ويبين واجباته هو الله سبحانه وتعالى، وقد ساوت النصوص بين المسلمين فلا تفضيل لأحد على آخر إلا بالتقوى، وجعلت النصوص الشرعية حرمة لمال المسلم ودمه وعرضه وعملت على صيانة ذلك بكل سبيل ووضعت عقوبات لمن يخالف ويعتدي على تلك الحقوق، كما لم تلزم النصوص أحدا بالتبعية الفكرية لأحد بل كفلت له حقه في التفكير وفي الأخذ بما يظهر له أنه الصواب دون إلزام له بتبني رأي السلطة الحاكمة أو غيرها ما دام ما توصل إليه لا يخرج عن حدود الشرع، وانطلاقا من أن هذه الحقوق ثابتة للمسلم من تشريع الله تعالى وليست منحة من أحد سواء كان الأحد هذا فردا ملكا أو رئيسا أو كان جماعة أو شعبا بأكمله، فإن أحدا من هؤلاء لا يملك إلغاء هذه الحقوق أو تقييدها بغير ما قيدتها به الشريعة، وفي ذلك أكبر الضمان للحفاظ على حقوق المسلم، كما بينت النصوص حقوق وواجبات المقيمين على أرض الإسلام من غير المسلمين، وعملت على احترامها والتقيد بها وعدم مخالفتها سواء من السلطة الحاكمة أو من أفراد الشعب.
5-وفي مجال الاختراع والابتكار:
أتاحت الشريعة للمسلم العمل والسعي ودعته للجد في كل ما يعود عليه أو على مجتمعه بالخير، كما دللت على الأخذ بالمصلحة ومنع الضرر، ولم تقيد حركاته أو جهوده في ذلك بغير الالتزام بأحكام الشريعة وعدم الخروج عليها.
6- وفي مجال البناء والتعمير والعناية بالحرف والمهن التي تسمو بالمجتمع:
تحدثت النصوص عن العناية بالزرع وعن إحياء الموات، والاهتمام بالحرف وتعلم الصناعات، والصيد واستخراج الثروات التي في باطن الأرض أو البحر، وحماية البيئة من التلوث، والعناية بالنظافة والصحة والعمل على منع الإصابة بالأمراض أو نقلها من مكان إلى آخر.
7-وفي مجال القضاء بين الناس:
تحدثت النصوص عن الحكم بالعدل وعدم الظلم وبينت شروط القاضي بين الناس، ومن أين يأخذ أجره، والشريعة التي يحكم بها، كما بينت ضرورة إنفاذ حكم القضاء وبينت أيضا الأحوال التي ينقض فيها حكم القضاء، وتحدثت عن الصلح بين الناس وشروطه وحكمه، والتحكيم .
8-وفي مجال الاقتصاد:
تحدثت النصوص عن تحريم الربا ودعت للقرض الحسن، كما تحدثت عن منع الغرر والغش وحرمت كثيرا من البيوع التي توافرت فيها دواعي ذلك كالجهالة أو الغبن، أو الخداع كالنجش وغيره، وأباحت البيوع والاستئجار والمضاربة، ودعت إلى الصدق في المعاملات ومراعاة أداء الأمانة، ودعت أيضا إلى كتابة الديون والإشهاد عليها، كما دعت للتنمية الاقتصادية، وعظمت قيمة العمل ودعت للضرب في الأرض وابتغاء فضل الله، وحقرت من أمر المسألة والاتكال على الآخرين، وغير ذلك من المجالات الأخرى التي غطتها الشريعة كبيان موارد الدولة المالية وكيفية الإنفاق وضوابط ذلك، ذلك أن السياسة من معاني الدين، قال الزمخشري في أساس البلاغة: "دان القوم إذا ساسهم وقهرهم فدانوا له".
وفي لسان العرب لابن منظور:
"الديان الذي يلي أمرك ويسوسك"، وفي لسان العرب: أيضا«دِنْته أَدِينُه دَيْناً: سُسْته، ودِنته: مَلَكْتُه، و دُيّنْتُه أَي مُلِّكته ودَيَّنْتُه القومَ: ولَّيته سياستهم... والديان: السائس»، وهذا يعني أن السياسة من معاني الدين.
المبحث الثاني:
السياسة الشرعية على مستوى كتابات العلماء وتواليفهم، وفيه الرد على الفريق الثاني:
وانطلاقا من تلك المجالات المتعددة التي عالجتها مصادر الشريعة في باب السياسة الشرعية، ظهرت الكتابات المتعددة التي تعالج هذه المسائل.
ومن المعروف أن وجود العلم يسبق تدوينه بمدة قد تطول وقد تقصر، فتدوين العلم لاحق على وجوده، وذلك أمر موجود في كل العلوم الدينية أو الدنيوية، ولا يعني عدم تدوين العلم في الفترة السابقة على التدوين عدم وجد العلم فيها فذلك أمر لم يقل به أحد، وموضوعنا لا يخرج عن تلك القاعدة.
يمكننا أن نقول إن الكتابة في السياسة الشرعية مرت بثلاثة أطوار:
الطور الأول:
كانت بدايات كلام العلماء في ذلك الباب مرتبطة بالرواية التي كانت تعتمد في أول الأمر في أغلب أحيانها على النقل الشفوي.
الطور الثاني:
وانتقل كلام العلماء في ذلك في طور لاحق إلى التدوين لكنه كان ممتزجا بما كتب من تفسير القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، قبل أن تظهر الكتابات المتخصصة التي تعالج موضوعات خاصة من موضوعات السياسة الشرعية، ومما يمثل كتب هذا الطور كتب الحديث المصنفة على الأبواب كصحيح البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وموطأ مالك وسنن الدارمي ونحوها، وكذلك كتب الفقه المصنفة على الأبواب ككتاب الأم للشافعي، وسائر ما كتب من الكتب الفقهية في سائر المذاهب، فقد ضمنت هذه الكتب في داخلها فصولا متعددة عن كثير من مسائل السياسة الشرعية ففيها فصول عن الإمارة والشورى والجهاد وأحكام البغاة، والحدود والجزية والعهد والأمان والموادعة والقضاء والبيوع والمزارعة والمساقاة ونحو ذلك، وكتب السيرة النبوية أيضا، وكذلك كتب العقائد أو الكلام حيث ضمت في ثناياها الحديث عن الإمامة الكبرى (رياسة الدولة) وما دار حولها من اختلافات وما يتعلق بها من أحكام، وقد تداخل هذا الطور مع الطور الثالث فما زالت تؤلف الكتب على نهجه حتى مع ظهور الكتابات المتخصصة، كتلك الكتب المصنفة في بعض الموضوعات الشرعية حيث تتعرض في ثنايا ذلك لمسائل من السياسة الشرعية كفضائح الباطنية للغزالي حيث خصص جزءا من كتابه للحديث عن الإمامة، وكمنهاج السنة النبوية في الرد الشيعة القدرية لابن تيمية حيث ضمنه كثير من الكلام حول الإمامة وطرق انعقادها، كما تحدث عن إثبات خلافة الصديق كما ذكر الشروط التي ينبغي توافرها فيمن يعقد الإمامة لمستحقها، وكذلك كتاب الآداب الشرعية لابن مفلح حيث تعرض لكثير من مسائلها كإنكار المنكر: حالاته وأحكامه وأنواع من ينكر عليهم والإنكار على السلطان، وتحدث عن الشورى وعن الاستعانة بأهل الذمة في أمور المسلمين، وغير ذلك من الكتب.
الطور الثالث:
ثم انتقلت الكتابة إلى الطور اللاحق وهو إفراد مسائل السياسة الشرعية أو بعضها بالتصنيف، وإن كان هذا لا يمنع من وجود كتابات متخصصة في مسائلها وجدت في الطور الثاني، والكتابات المتخصصة في مجال السياسة الشرعية وجدت على صورتين إحداهما: الاقتصار على مسائل السياسية الشرعية، والثانية: ذكر جملة كبيرة من مسائلها مع وجود مسائل أخرى لا تنتمي لها، وإن كان لها بموضوع الكتاب تعلق.
وفي هذا الطور تكثر الكتابات المتخصصة في مسائل السياسة الشرعية، وقد استغرق الوصول إلى هذا الطور إلى قرابة ثلاثة قرون من الزمان.
وفي دراسة د/ نصر محمد عارف الرائدة التي توصل من خلالها إلى وجود أكثر من ثلاثمائة مؤلف في مسائل السياسة الشرعية والتي طبع منها أكثر من مائة مؤلف مع الاعتراف والإقرار أن هذا العدد لا يمثل جميع ما كتب، وهو ما يعني أن محاولة استيعاب الحديث عنها يخرج عن حدود هذه المقالة، ولذا فقد اقتصرت من أمثلة هذا الطور على ما تحت يدي من الكتب (سواء كان في صورة إلكترونية أو صورة ورقية أو مخطوط)، على أن الباحث يجد صعوبة في الفصل الحاد بين مجالات هذه المؤلفات، فكثير منها لم يخلص لغرض واحد مما يُصعِّب مسألة التصنيف، الذي يترتب عليه الاختلاف في عد هذا الكتاب ضمن هذا النطاق أو غيره.
ولا شك أن الصورة المتكاملة في تغطية موضوع السياسة الشرعية في ولاياته جميعا التي ظهر بها مؤلف الأحكام السلطانية، يرشد إلى أن هذا الكتاب يعد تطويرا وتجميعا لجهود سبقته في المجال نفسه، على أساس وجود كتابات تقتصر على ذكر ولاية أو عدة ولايات إلى أن جاء الماوردي فجمع الولايات كلها في كتاب واحد:
1- كتب الأحكام السلطانية وهي الكتب التي تتحدث عن الإمامة العظمى وما يرتبط بها من ولايات عدة، وإن كان بعضها يقتصر في الحديث عليها:
هذه الكتب ظهرت متأخرة نسبيا ومنهجها منهج فقهي يعتمد الأدلة من النصوص الشرعية في بيان الولايات وشروطها وصلاحياتها وصفات من يتولاها، فمن هذه الكتب كتاب تثبيت الإمامة وترتيب الخلافة للحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني (ت430هـ) تحدث فيه عن تثبيت إمامة الخلفاء الأربعة، وذكر أدلة ذلك ورد على من خالف فيه كالرافضة وغيرهم، وكتاب الأحكام السلطانية والولايات الدينية لأبي الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي الشافعي (ت 450هـ) [دار الكتب العلمية/ بيروت لبنان] تكلم فيه عن الإمامة والوزارة والإمارة على البلاد والإمارة على الجهاد والولاية على حروب المصالح وولاية القضاء وولاية المظالم وولاية النقابة على ذوي الأنساب والولاية على إمامة الصلاة والولاية على الحج والولاية على الصدقات وقسمة الفيء والغنيمة وإحياء الموات واستخراج المياه وأحكام الجرائم ووضع الديوان وذكر أحكامه والحسبة، فهو يكاد يتعرض لكل ولايات الدولة ومؤسساتها، وعلى المنوال نفسه سميه كتاب الأحكام السلطانية والولايات الدينية لأبي يعلى الفراء الحنبلي (ت458هـ)، [دار الكتب العلمية/بيرون لبنان]، وكتاب غياث الأمم في التياث الظلم لإمام الحرمين أبي المعالي الجويني (ت478هـ) [مؤسسة الريان/ بيروت ط1 1428هـ]، وقد قسم كتابه إلى ثلاثة أركان: أحدها عن الإمامة وما يتعلق بها من أبواب، والثاني في تقدير خلو الزمان من الأئمة والولاة، والثالث في تقدير انقراض حملة الشريعة، وقد تفرد الجويني بمنهج لم يسبقه إليه أحد حيث افترض خلو الزمان من وجود ولي الأمر الشرعي وبين ما الذي ينبغي عمله في هذه الحالة، ورسالة الخلافة والملك لتقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني ت (728هـ) [مكتبة المنار/الأردن ط2 1414هـ وهي موجودة ضمن مجموع الفتاوى]، تحدث فيها عن الخلافة والملك والفرق بينهما وبين معنى الخليفة وخطأ من قال إنه بمعنى النائب عن الله،كما تحدث عن أحكام قتال البغاة والفرق بينهم وبين الخوارج، وكتاب تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام لبدر الدين محمد بن إبراهيم ابن جماعة (ت733هـ)، [دار الثقافة/ قطر/ الدوحة - 1408هـ -1988 ط3] فتحدث عن الإمامة والوزارة والديوان، وأكثر من الحديث عن الجهاد وما يتعلق به، وقتال أهل البغي وعقد الذمة، لكنه لم يستوعب ما استوعبه كتاب الأحكام السلطانية، وكتاب حسن السلوك الحافظ دولة الملوك لمحمد بن محمد بن عبد الكريم الموصلي، (ت744هـ) [مدار الوطن/الرياض ط1 1416 ]، وكتاب مآثر الإنافة في معالم الخلافة لأحمد بن علي بن أحمد القلقشندي (ت 821هـ) [مطبعة حكومة الكويت/الكويت ط2 1985م]، جوانب عديدة من هذا الكتاب تدخل تحت كتب الأحكام السلطانية حيث تتحدث عن معنى الخلافة وطرق الانعقاد وواجب الخليفة تجاه الرعية وحقه عليهم كذلك الحديث عن ولاية العهد وعن الطوارئ التي بمقتضاها يعزل الخليفة أو ولي العهد، لكن هناك جوانب أخر تعد من قبيل التاريخ السياسي حيث يعرض لتاريخ الخلافة من بدايتها إلى زمنه في العديد من الجوانب،وكتاب الولايات لأحمد بن يحيى الونشريسي المالكي (ت914هـ)، [مكتبة الثقافة الدينية/بورسعيد/ط1 2001م]
2-الجوانب المالية المتعلقة بالدولة الإسلامية:
الدولة لا بد أن يكون لها مصادر مالية تنفق منها على المصالح العامة لتحقيق الغايات من وجود الدولة، وتحتاج إلى مسلك الرحمة والإحسان في جمع هذه الموارد، ومسلك العدل في توزيعها، وأول ما يقابلنا من الكتابات المتخصصة في الجوانب المالية كتاب الخراج للقاضي أبي يوسف (ت182هـ) [المكتبة الأزهرية/القاهرة عام 1420هـ ] صاحب الإمام أبي حنيفة، وهو كتاب مطبوع متداول كتبه أبو يوسف بأمر الخليفة هارون الرشيد، تناول فيه الجانب المتعلق بالموارد المالية للدولة كالغنيمة والفيء والخراج والصدقات وكيفية الإنفاق منه، ورواتب القضاة والعمال، كما تناول بعض ما يتعلق بالولاة والأمراء، كما تناول الحدود وأنواعها وكيفية إقامتها، وحكم المرتد عن الإسلام، ثم اختتم كتابه بالحديث عن قتال أهل الشرك والأمان والموادعة وهو مما يدخل في القانون الدولي والعلاقات الدولية، ومن الكتب التي نحت هذا المنحى الاقتصادي كتاب الخراج ليحيى بن آدم (ت206هـ) [دار الشروق/ مصر ط1 1987م]، وكتاب الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام (ت224هـ) [دار الهدي النبوى بمصر/ دار الفضيلة بالسعودية ط1 1428هـ]، وكتاب الأموال لحميد بن زنجوية (ت251هـ) [مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات/الرياض] وكتاب الأموال لأبي جعفر أحمد بن نصر الداوودي (ت402هـ)، [دار السلام/ مصر/ ط2 1427هـ]، وكتاب الاستخراج لأحكام الخراج لابن رجب الحنبلي [دار الكتب العلمية/ بيروت ط1 1405هـ]، ورسالة قاعدة في الأموال السلطانية لشيخ الإسلام ابن تيمية (ت728هـ)، [سلسلة بحوث وتحقيقات مختارة من مجلة الحكمة (22) 1422هـ]، على أن هذه الكتب كلها لم تقتصر على الجانب المالي، وإنما تحدثت عن أمور أخرى مما هو من مسائل السياسة، كالحكم بالعدل ووجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين وترك منازعتهم ونحو ذلك، ولا شك أن هناك جوانب من الموارد المالية للدولة المذكورة في هذه الكتب غير موجودة الآن، لكن الذي يهمنا بيان اشتغال علماء المسلمين في زمنهم وعنايتهم به.