القاعدة الثالثة عشرة:
الخصومة والجدال والمراء في الدين بدعة.
ومما يدخل تحت هذه القاعدة ما يأتي:
1- السؤال عن المتشابهات.
ومن الأمثلة على ذلك:
قصة صبيغ الذي كان يسأل عن المتشابهات، فلما بلغ عمر رضي الله عنه ذلك أمر به فضُرب ضربًا شديدًا، وبَعث به إلى البصرة، وأمرهم ألا يجالسوه، فكان بها كالبعير الأجرب: لا يأتي مجلسًا إلا قالوا: عزمة أمير المؤمنين فتفرقوا عنه، حتى تاب وحلف بالله ما بقي يجد مما كان في نفسه شيئًا، فأذن عمر في مجالسته، فلما خرجت الخوارج أُتي، فقيل له: هذا وقتك. فقال: لا، نفعتني موعظة العبد الصالح [1] .
ومن ذلك أيضًا:
ما ورد عن الإمام مالك لما جاءه رجل فقال: يا أبا عبد الله "الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى" كيف استوى؟ فقال: الكيف غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة؛ فإني أخاف أن تكون ضالاً وأمر به فأُخرج. [2].
قال ابن تيمية:
لأنه سؤال عما لا يعلمه البشر ولا يمكنهم الإجابة عنه [3] .
وقال أيضًا :
هذا الجواب من مالك رحمه الله في الاستواء شاف كاف في جميع الصفات ، مثل نزول والمجيء واليد والوجه وغيرها [4] .
ومعلوم أن أسماء الله وصفاته وأفعاله من جهة كيفيتها من المتشابه الذي يجب الإيمان به والكف عن الخوض فيه، كما قال تعالى: "وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا".
2- امتحان المسلمين بما ليس في الكتاب والسنة من المسائل والآراء .
قال البربهاري:
والمحنة في الإسلام بدعة، وأما اليوم فيمتحن بالسنة لقوله: إن هذا العلم دين فانظروا ممن تأخذون دينكم [5].
ومن الأمثلة على ذلك:
ما أشار إليه ابن تيمية بقوله: فالواجب الاقتصار في ذلك، والإعراض عن ذكر يزيد بن معاوية، وامتحان المسلمين به؛ فإن هذا من البدع المخالفة لأهل السنة والجماعة.
فإنه بسبب ذلك اعتقد قوم من الجهال أن يزيد بن معاوية من الصحابة، وأنه من أكابر الصالحين وأئمة العدل، وهو خطأ بيِّن [6]
3- التعصب والانتساب الذي يفرِّق الأمة، وعقْد المولاة والمعاداة على هذه النسبة.
قال ابن تيمية :
ولا ينصب لهم كلامًا يوالي عليه ويعادي غير كلام الله ورسوله وما اجتمعت عليه الأمة ؛ بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصًا أو كلامًا يفرِّقون به بين الأمة ، يوالون به على ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون [7] .
وكذلك التفريق بين الأمة ، وامتحانُها بما لم يأمر الله به ولا رسوله ؛ مثل أن يقال للرجل : أنت شكيلي أو قرفندي فإن هذه أسماء باطلة ما أنزل الله بها من سلطان ، وليس في كتاب الله ، ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولا في الآثار المعروفة عن سلف الأئمة : لا شكيل ولا قرفندي .
والواجب على المسلم إذا سئل عن ذلك أن يقول :
لا أنا شكيلي ولا قرفندي ، بل أنا مسلم متبع لكتاب الله وسنة رسوله .
وقد روينا عن معاوية بن أبي سفيان : أنه سأل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فقال : أنت على ملة علي أو ملة عثمان ؟
فقال : لست على ملة علي ، ولا على ملة عثمان ، بل أنا على ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم [8] .
وكذلك كان كل من السلف يقولون :
كل هذه الأهواء في النار .
ويقول أحدهم :
ما أبالي أي النعمتين أعظم؟ على أن هداني الله للإسلام، أو أن جنبني هذه الأهواء.
والله تعالى قد سمَّنا في القرآن :
المسلمين ، المؤمنين ، عباد الله ، فلا نعدل عن هذه الأسماء التي سمّانا الله بها إلى أسماء أحدثها قوم - وسموها هم وآباؤهم - ما أنزل الله بها من سلطان [9] .
4- رمي واحد من المسلمين بالكفر أو البدعة دون بيّنة .
قال ابن بطة :
والشهادة بدعة ، والبراءة بدعة ، والولاية بدعة .
والشهادة : أن يشهد لأحد ممن لم يأت فيه خبر أنه من أهل الجنة أو النار .
والولاية : أن يتولى قومًا ويتبرأ من آخرين .
والبراءة : أن يبرأ من قوم هم على دين الإسلام والسنة [10] .
وقد مثَّل لذلك ابن تيمية فقال :
وأول من ضل في ذلك هم الخوارج المارقون، حيث حَكَموا لنفوسهم بأنهم المتمسكون بكتاب الله وسنته، وأنَّ عليًا ومعاوية والعسكريين هم أهل المعصية والبدعة ، فاستحلوا ما استحلوه من المسلمين [11] .
توضيح القاعدة :
هذه القاعدة خاصة بالجدال في باب العقيدة وأصول الدين ، وبذلك يخرج الجدال في باب الفقه والأحكام الفرعية .
والفرق بين هذين البابين يوضحه الشافعي بقوله :
إياكم والنظر في الكلام ؛ فإن رجلاً لو سُئل عن مسألة في الفقه فأخطأ فيها ، أو سُئل عن رجل قتل رجلاً فقال: ديته بيضة ؛ كان أكثر شيء أن يُضحك منه، ولو سُئل عن مسألة في الكلام فأخطأ فيه نُسب إلى البدعة [12].
وبهذا يعلم أن الجدال في أصول الدين إذا لم يكن في ذاته بدعة فهو مفض إليها .
قال بعض السلف:
إذا جلس الرجلان يختصمان في الدين فليعلما أنهما في أمر بدعة حتى يفترقا [13].
وقال بعض الأئمة :
والسنة إنما هي التصديق لآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك معارضتها بكيف ؟ ولِمَ ؟
والكلام والخصومات في الدين والجدال محدث، وهو يوقع الشك في القلوب ويمنع من معرفة الحق والصواب [14] .
--------------------------------------------------------------------------------
[1]) انظر مجموع الفتاوى 4/3 ، 4) ، والأثر أخرجه الدارمي 1/54 ، 55)، وابن بطة في الإبانة الكبرى 1/414 - 415) برقم 329 - 330) .
[2]) أخرجه اللالكائي في السنة 3/441) برقم 664 ، وقال ابن حجر: وأخرج البيهقي بسند جيد ...)، فتح الباري 13/406 ، 407) ، وقال ابن تيمية وقد روي هذا الجواب عن أم سلمة رضي الله عنها موقوفًا ومرفوعًا ، ولكن ليس إسناده مما يعتمد عليه ) مجموع الفتاوى 5/365) وروي أيضًا عن ربيعة شيخ مالك .
انظر السنة للالكائي 3/441) برقم 665 .
[3]) مجموع الفتاوى 3/25) .
[4]) المصدر السابق 4/4) .
[5]) شرح السنة 55) .
[6]) مجموع الفتاوى 3/414) .
[7]) مجموع الفتاوى 20/164) ، وانظر منه 4/146) ، 11/514) .
[8]) أخرجه ابن بطة في الإبانة الكبرى 1/354 ، 355) برقم 237 ، 238 .
[9]) مجموع الفتاوى 3/415) .
[10]) الشرح والإبانة 341) ، وانظر الاستقامة لابن تيمية 1/13 - 116) .
[11]) الاستقامة 1/13) .
[12]) أخرجه أبو نعيم في الحلية 9/113) ، وانظر مناقب الإمام الشافعي للرازي 100) .
[13]) الإبانة الكبرى 2/520) .
[14]) الحجة في بيان المحجة 2/437) .