الفصل السادس: صراع المائة ساعة لإسقاط فاروق
مقدمـة
ساعات محدودة حولت الضباط الأحرار، من شبان، يلتهب الغضب في صدورهم، إلى مسؤولين عن سياسة مصر، من دون أن يستعدوا لذلك، بدراسة عميقة، أو تخطيط واضح.
وعلى قدر ما دفعتهم الظروف والأحداث، على قدر ما كان الوقت أضيق من أن يتسع للتفكير والتأمل، وخاصة أنهم لم يكونوا قد اجتمعوا على وحدة فكر، أو منهج، أو برنامج سياسي تفصيلي. كان انتصار الحركة مفاجئاً. سقط كبار الضباط من دون مقاومة. واشتعل الحماس، بين رجال الجيش، مع شروق شمس 23 يوليه. واحتشد الجميع لتأييد الحركة. كاد يتلاشى الخط المميز، بين الضباط الأحرار، الذين تحملوا مسؤولية الإعداد، والتنظيم، والتنفيذ، وبين زملائهم، الذين لم تتح الظروف لهم فرصة الانضمام لتنظيم الضباط الأحرار.
في السادس من مايو 1936، كان رئيس الوزراء، علي ماهر باشا، يقف على رصيف ميناء الإسكندرية، ليستقبل الملك الشاب، فاروق الأول، وخلفه آلاف مؤلفة، من جماهير الشعب، وقفت متراصة، على طول الطريق، من الإسكندرية إلى القاهرة ترحب بابن الستة عشر ربيعاً. وتدور الأيام دورتها ويقف رئيس الوزراء، علي ماهر باشا نفسه، على رصيف ميناء الإسكندرية نفسه، يودع من كان منذ ساعات ملكاً، وهو في طريق إلى منفاه، وخلفه وقفت آلاف مؤلفة، من جماهير الشعب، ترحب بعهد جديد!
مسرح الأحــداث
في خلال مائة ساعة تغير الحال غير الحال، ما بين استيلاء سرية، تتألف من ستين رجلاً، على مقر رئاسة أركان الجيش في القاهرة، وبين تحرك اليخت الملكي، "المحروسة"، حاملاً الملك فاروق إلى منفاه الاختياري.
يتبين من التسلسل الزمني للأحداث، أن ما حدث وهو الاستيلاء على مقر الجيش، وعلى بعض المرافق العامة، لم يكن انتصاراً حاسماً، بل جولة في معركة، مازالت نتائجها غير منظورة، إذ ماذا لو أن قوات الإسكندرية البرية، وقفت، موقف الترقب، على الأقل، مؤيدة من القوات البحرية، التي كانت أكثر الأسلحة تأييداً للعرش؟، أو ماذا لو اتخذ الحرس الملكي، في الإسكندرية، موقف المبادرة، قبل أن تصل قوات الحركة إلى الإسكندرية، في يوم الخامس والعشرين؟ أو ماذا لو قطع عليها الطريق، عند مدخل الإسكندرية الصحراوي؟، أو ماذا لو تقدمت القوات البريطانية، بضعة كيلومترات، نحو القاهرة، لإثبات وجودها، وهى تتألف من 85 ألف رجل. وكانت مقدمتها عند الكيلو أربعين من القاهرة؟، وماذا لو أن قوات الأمن، في القاهرة، وعلى رأسها اللواء أحمد طلعت، ولديه سرية من المصفحات المسلحة الأمريكية، التي تسلمها، قبل أيام فقط، رفضت التعاون مع الجيش، أو ماذا لو أن علي ماهر اعتذر عن تشكيل وزارة، تحت هذه الظروف الضاغطة؟
كانت هناك عشرات الاحتمالات، ومن المبالغة القول أن قادة الحركة كانوا قد أعدوا، لكل شيء، عدته، لهذا كله، يمكن القول أن عوامل أخرى، بعضها سلبي محض، وبعضها من الظروف، وتوالي الحوادث، كان لها الدور الأكبر في تأكيد هذا النجاح، بعد مائة ساعة، من استيلاء سرية على مقر رئاسة أركان الحرب.
الأربعاء 23 يوليه 1952
في صباح 23 يوليه، أصبح مبنى رئاسة الأركان بؤرة النشاط والحركة والأخبار، هذا المبنى يوجد في موقع متوسط، من شارع الخليفة المأمون، إلى يسار السائر، من العباسية إلى حي مصر الجديدة، ماراً بإدارة التجنيد، فقصر الزعفران، فمصلحة الأرصاد، فالمساحة العسكرية، فقيادة الأركان، يليها فضاء هو الذي بني عليه المسجد الجديد مثوى الرئيس جمال عبدالناصر، وتقابله، على الجانب الآخر، من الشارع العريض سلسلة من المؤسسات العسكرية، تبدأ بقشلاقات العباسية، فسلاح خدمة الجيش، فسلاح الفرسان (المدرعات)، الذي كان يفصله فضاء عن الكلية الحربية الملكية، ويليه اتحاد الجيش، فالمستشفى العسكري العام، فمدرسة الصحة العسكرية، فكلية أركان الحرب، وهي أقرب هذه المؤسسات العسكرية إلى حي مصر الجديدة.
يتألف مقر رئاسة الأركان من طابقين، يضم الطابق الأرضي، إدارة رئاسة الجيش، بأقسامها، ومديرها، اللواء عباس حلمي زغلول، وتضم مكاتب نواب الأحكام، وإدارة المستخدمين العسكريين، أما الطابق العلوي، فكان يضم رئاسة الأركان، وتجاورها إدارة العمليات العسكرية، ومديرها اللواء سيد طه، ويجاور مبنى رئاسة الأركان، مبنيان صغيران نسبياً يضم الأول إدارة المخابرات الحربية، ومديرها اللواء أحمد سيف اليزل خليفة، والثاني يضم إدارة التدريب الحربي، وعليها اللواء سعد الدين صبور، وفي هذه الإدارات المتداخلة، التي يجمعها سور واحد، كانت خطة الحركة قاصرة على إخضاع رئاسة الأركان، التي كانت لا تحتل سوى الجناح الأيمن، من الطابق العلوي.
في 23 يوليه، كانت تحرس المبنى أربع دبابات، حول السور الخارجي، وفي اليوم الثاني، وضعت حراسة، في الحديقة الداخلية، حول المبنى، من سلاح المدرعات، مزودة بأسلحة أوتوماتكية سريعة الطلقات، ويحرس السلم، المؤدي إلى الطابق العلوي، أفراد من البوليس الحربي للقوات المسلحة، وفي صباح 23 يوليه، صدر الأمر بعدم خروج السيارات، لإحضار ضباط الرئاسة، حتى أن اللواء جاد سالم، نائب رئيس إدارة الجيش، وصل إلى مكتبه بالطابق الأرضي، في الساعة الثامنة ماشياً على قدميه من مسكنه بالعباسية، وطلب مقابلة القائد العام الجديد، محمد نجيب، فقبض عليه، وسُلم إلى معتقل الكلية الحربية، تنفيذاً للقرار الخاص باعتقال كبار الضباط، كما صدر أمر بمنع التجول، في داخل المبنى، بطابقيه، حتى أن أركان حرب إدارة الجيش صلاح السيد علي، عندما أراد أن يصعد إلى الطابق العلوي، لم يُسمح له، إلا بعد تصريح بالصعود.
القاهرة في يوم 23 يوليه
جلس ضباط الحركة، في غرفة رئيس الأركان السابق، يستمعون إلى البيان الأول في الساعة السابعة والنصف من الصباح، وكان اللواء محمد نجيب يجلس على مكتب الفريق حسين فريد، وحول مائدة الاجتماعات، عدد من الضباط، أخذ عددهم يتزايد، مع ضوء النهار.
إبلاغ السفير الأمريكي، صباح 23 يوليه
تأميناً للمرحلة الأولى من الانقلاب، أو الحركة، أبلغ الصاغ على صبري، قائد الأسراب، صباح 23 يوليه، السفير الأمريكي، عن طريق الملحق الأمريكي، دافيد إيفانز، بأن الجيش المصري قد تحرك لأمور داخلية، وبغرض مطالبة السلطات المصرية ببعض المطالب الخاصة به. وأن الحركة حريصة على صون مصالح الأجانب، وحماية أرواحهم. ويحذر في الوقت نفسه، من أي تدخل، من القوات البريطانية، وأن، مع ضباط الحركة، منظمات، وهيئات شعبية، ستشترك، مع ضباط الحركة، في التصدي لأي تدخل بريطاني. كل ذلك كان لتجنب الصدام مع القوات البريطانية ومحاولة تجميدها. وكان المقصود أن يتولى السفير الأمريكي إبلاغ السفير البريطاني، بتلك الرسالة.
توجه البكباشي عبدالمنعم أمين، بعد موافقة مجلس القيادة، في الساعة التاسعة صباح 23 يوليه لمقابلة القائم بالأعمال الأمريكي، لأن السفير الأمريكي المستر كافري، كان موجوداً بالإسكندرية. وشرح له هدف الثورة، أي القضاء على الفساد في الجيش فقط. عارض خالد محيي الدين الاتصال بالأمريكان، إلا أن مجلس قيادة الثورة رد عليه، بأن هذا الإجراء ضروري، لمنع التدخل البريطاني.
وفي صباح 23 يوليه، أرسل ممثل الحكومة البريطانية إنذاراً إلى قيادة الجيش المصري، يهدد بتدخل القوات الإنجليزية براً، وجواً وبحراً لحماية الأرواح، والممتلكات الأجنبية، في مصر، إذا وقع عليها أي اعتداء. وفي دقائق، أرسل مجلس قيادة الثورة دوريات، بقيادة عناصر كثيرة من الضباط الأحرار، تجوب القاهرة لمنع مظاهرات التأييد من التوسع، خوفاً من أن يندس عميل، بين جماهير الشعب.
إيدن يوضح موقف بريطانيا
يذكر السير أنتوني إيدن: "واعتقدت أن، من الضروري، إيضاح موقفنا، على الفور، للواء محمد نجيب، وأمرت سفارتنا، في القاهرة، بإرسال المستر هاملتون (مستشار السفارة في القاهرة، ومن أوسع الناس خبرة، في شؤون مصر)، إلى اللواء محمد نجيب، على الفور، ليبلغــه أننا، مع عدم رغبتنا في التدخل في شؤون مصر الداخلية، إلا أننا لن نتردد في ذلك، إذا وجدنا ضرورة التدخل لحماية أرواح البريطانيين. ولهذا السبب، فقد أصدرنا أوامرنا، إلى قواتنا لتكون على أهبة الاستعداد لحالة الطوارئ. وقد لاحظنا، من بيان اللواء محمد نجيب، أن الجيش سيكون مسؤولاً عن حماية أرواح الأجانب، وممتلكاتهم، وأننا نأمل، بإخلاص، تبعاً لذلك، ألا تكون هناك ضرورة لتدخل القوات البريطانية. على أن يضيف المستر هاملتون القول بأن الاستعدادات العسكرية، التي نقوم بها، لا تستهدف مطلقاً القوات المسلحة المصرية، وأننا سنبذل كل الجهود للحيلولة دون وقوع أي حادث".
ويستطرد أنتونى إيدن، وجاءني الرد على الفور:
"نفذنا العمل بدقة، في الساعة الحادية عشرة، مساء اليوم. شكر اللواء، لمساعد الملحق العسكري، ولي، نقلنا للرسالة، وكرر تأكيداته، بحماية أرواح الأجانب. وعلى الرغم من صعوبة تقدير الأوضاع، في مثل هذه المدة القصيرة، إلا أن القيادة بدت هادئة وواثقة". ثم يقول إيدن:"وكان لدى اللواء محمد نجيب، من الأسباب الكافية، ما يحمله على الثقة...".
وسيط القصر يقابل اللواء محمد نجيب
وقبل أن تدق الساعة تمام الثامنة، جاء للقيادة عم الملكة ناريمان، مصطفى صادق بك، وقال: "الملك مستعد لإجابة جميع مطالب الجيش، بشرط أن تتوجه إليه، وتستعطفه، لتلبية هذه المطالب".
يقول اللواء محمد نجيب: "وعندما رفضت، عاد مرة أخرى وقال: الملك موافق دون استعطاف!
وعندما رفضت، عاد مرة ثالثة، وقال: يمكنك أن تؤلف حكومة عسكرية، والملك موافق على ذلك. ثم استقل طائرته إلى الإسكندرية. وبعد ساعة، خرجتُ للجماهير، في سيارة مكشوفة، وطفت بوسط المدينة"[1].
زيارة مبنى إدارة التدريب
وفي الساعة 8.20 صباحاً، ذهب اللواء محمد نجيب، إلى مبنى إدارة التدريب المجاور، حيث اجتمع بكبار الضباط، الذين لم يعتقلوا، وأوضح لهم أهداف الحركة، وطلب منهم عدم التواجد في وحداتهم، واعتبار أنفسهم في إجازة مفتوحة، حتى تصدر إليهم أوامر أخرى. كما أوفد اللواء نجيب القائمقام أحمد شوقي، إلى الكلية الحربية، التي تحولت إلى معتقل للاطمئنان على أن المعتقلين يعاملون معاملة كريمة.
الملك يرسل إلى السفير الأمريكي
في صباح 23 يوليه 1952، وقبل أن يعرف فاروق ماذا اعتزمته الثورة، بعث برسول خاص، هو إيلي، عامل اللاسلكي بالقصر، إلى المستر جفرسون كفرى Jefferson Caffery، سفير الولايات المتحدة في مصر، يدعوه لمقابلته، فجاء السفير كفرى إلى قصر المنتزه، وتحدث معه حديثاً مقتضباً ووعده السفير إنه سيتصل بحكومته، ويبلغه نتيجة اتصاله، فعلم فاروق أن لا فائدة ترجى من تدخله. وفي الوقت نفسه، اتصل الملك فاروق، تليفونياً، بالإنجليز، وأعلنت وزارة الخارجية الأمريكية أن السفير الأمريكي أبلغ الحكومة المصرية أن الولايات المتحدة تعتبر الأحداث، التي وقعت في مصر، مسألة داخلية.
البيان الثاني
في الساعة الثامنة والنصف صباحاً، أذيع البيان التالي، من دار الإذاعة، موجهاً من، القائد العام للقوات المسلحة، إلى ضباطها:
"تعلمون جميعاً الفترة العصيبة، التي تجتازها البلاد. ورأيتم أصابع الخونة تتلاعب بمصالح البلاد، في كل فرع من فروعها، وتجرأت حتى تدخلت في داخل الجيش، وتغلغلت فيه وهي تظن أن الجيش قد خلا من الرجال الوطنيين. وإننا في هذا اليوم التاريخي، نطهر أنفسنا من الخونة، والمستضعفين. ونبدأ عهداً جديداً، في تاريخ بلدنا. وسيسجل لكم التاريخ هذه النهضة المباركة، أبد الدهر. ولا أظن أن، في الجيش، من يتخلف عن ركب النهضة، والرجولة، والتضحية، التي هي واجب كل ضابط منا والسلام".
البيـان الثالـث
ثم أذاع القائد العام للقوات المسلحة البيان التالي:
"باسم القوات المسلحة، أبعث بتحيتي، إلى جميع، الذين توجوا، بهدوئهم وثباتهم، العمل، الذي قمنا به لمصلحة الوطن، دون إراقة دماء. لقد طفت بشوارع القاهرة، في صباح اليوم، وسرني، كل السرور، أن وجدت الأمن يسود كافة أرجائها، والهدوء يملأ قلوب كل سكانها، والتعاون، لإنجاح مهمة القوات المسلحة، يربط الجميع من رجال الأمن، والمدنيين، وإخواننا الأجانب، والعسكريين، برباط قوى متين. ورجائي إلى المواطنين، ألا يستمعوا إلى الإشاعات المغرضة، فالحالة هادئة، في كل مكان. حقق الله لمصر ما تصبو إليه من آمال، وجعل النصر حليفها".
ويذكر اللواء محمد نجيب
وعلمنا أن الملك اتصل بالسفير الأمريكي، وطلب منه أن يبلغ الإنجليز، أنه في حاجة إلى عونهم، لكن السفير الأمريكي اعتذر، بحجة عدم تدخل حكومته في الشؤون الداخلية، لكنه وعد الملك بحمايته، وحماية أرواح عائلته، إذا احتاج الأمر ذلك. وغضب الملك من رد كافرى، وطلب قائد القوات البريطانية في مصر، وطلب منه أن يضع خطة لتهريبه، هو وأعوانه، خارج مصر، لكن القائد البريطاني تراخى في الاستجابة لطلب الملك، فإذا بالملك يطلب منه احتلال القاهرة، وضرب الإسكندرية بالأسطول. ورفض طلبه تماماً.
ولم ييأس الملك، فاتصل بإيدن، وكرر عليه الطلب نفسه، فعرض إيدن الأمر على حكومته، التي عرضتها على الرئيس ترومان، رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، في ذلك الوقت، فعارض بشدة أي تدخل، في شؤون مصر الداخلية. وباءت محاولات الملك الأخيرة بالفشل.
محاولات يائسة
في التاسعة صباحاً، خرج قائد الحركة، في سيارة مكشوفة، تتقدمها وتتبعها عربات الجيب وطاف موكبه بشوارع المدينة الوسطى، التي شملت قصر النيل وعلوي وشريف، وكان يقابل بالتصفيق، من الواقفين على أرصفة الشارع، وفي الوقت نفسه، كانت الإذاعة تعيد تسجيل البيان الأول، فيتجمع الجمهور حول أجهزة الراديو في المقاهي، وحول أكشاك السجائر، مع أنه لا جديد يذكر.
في العاشرة والنصف صباحاً، وصل وزير الداخلية، المراغي باشا، وبصحبته اللواء عبدالمنصف محمود، وكيل الوزارة، من الإسكندرية، بطائرة مدنية إلى مكتبه بالوزارة. واتصل باللواء محمد نجيب، طالباً منه الحضور، والاجتماع به، ولكن قائد الحركة اعتذر، وطلب أن تُجرى المقابلة، في مبنى القيادة، على أن يرسل حراسة عسكرية تصحبه إليها، وقد اتصل المراغي، وهو في مكتبه، بالهلالي باشا، في الإسكندرية، الذي كان يرأس اجتماعاً مستمراً لمجلس الوزراء، فأمره بعدم الذهاب إلى القيادة، وطلب منه بعد ذلك، العودة إلى الإسكندرية، إذ أن الوزارة بصدد تقديم استقالتها، كان هناك توجس متبادل من الجانبين، على الرغم من المهادنة التي أعلنها وزير الداخلية، باسم الهلالي باشا، بين قوات الأمن والجيش.
تشكيل وزارة جديدة
في الساعة 11,00 صباحاً، أصبحت مسألة تشكيل وزارة جديدة قضية ملحة، فإن الهلالي ليس رجل الموقف، وهو، وإن كان ينادي بالتطهير؛ فإنه كان يعني التطهير، بمفهومه الحزبي، وإن كان قد اشترط شروطاً، لوضع حد لتدخل الحاشية، في شؤون الحكم، وأعد قراراً بتنحية كريم ثابت من الإذاعة، إلا أنه أُخذ عليه قبوله اشتراك القائممقام إسماعيل شرين بك، صهر الملك، وزيراً للحربية، وإن كان لا اعتراض على شخص شرين، إلا أن صلته بالقصر كانت كافية لرفضه، لهذا انحصر تفكير قادة الحركة في أن يتولى الوزارة، رئيس، ليست له ارتباطات حزبية، وكان بهي الدين بركات باشا من الأسماء، التي استعرضتها القيادة، غير أنه رؤى، مع الاعتراف بنزاهته، أنه تنقصه الخبرة بالمناورات السياسية، وهي ما يتطلبه الموقف، كما أنه ليست له سابقة للتصدي للأزمات.
برز اسم علي ماهر، وأُجمع عليه، فهو سياسي مخضرم، وليست له ارتباطات حزبية، ولهذا، هادن جميع الأحزاب والهيئات، في وزارته، التي أعقبت حريق القاهرة، كما شهد اللواء محمد نجيب، بدوره في المفاوضات، التي أجراها مع الجانب البريطاني، وتمسكه بحقوق مصر، في قيام وحدة وادي النيل.
في الساعة 12,00 ظهراً، وأثناء انعقاد مجلس القيادة، وصل إلى إدارة الرقابة والنشر والمطبوعات، بوزارة الداخلية، ضابطان، من ضباط الجيش، بصحبة بعض الجنود، وأصدرا تعليمات خاصة بالرقابة على النشر، وعلى البرقيات الخارجية.
لم يضيع المجتمعون وقتاً لمزيد من التشاور، وكانت الخطوة التالية، الاتصال برئيس الوزراء السابق، علي ماهر باشا وكانت واسطة هذا الاتصال الصحفي، إحسان عبدالقدوس، رئيس تحرير مجلة روز اليوسف، الذي كان حاضراً، والذي كانت له صلات سابقة، مع عدد من الضباط الأحرار، حين كان يفتح صفحات مجلته لإثارة قضايا الفساد، وانحرافات بعض قادة الجيش، والدعوة إلى التطهير، وكانت بعض هذه المقالات، بقلم ضباط بأسماء مستعارة.
ويروى إحسان عبدالقدوس دوره، على النحو التالي:
"اتصلت، من القيادة، بخمسة أرقام خاصة بالرئيس علي ماهر، فلم أعثر عليه، اتصلت برئيس حركة التليفونات، وطلبت منه باسم القيادة، أن يصلني بالقصر الأخضر، (المقر الريفي لعلي ماهر)؛ فأوصلني به مباشرة، ولم أجده فيه، اتصلت بإبراهيم عبدالوهاب بك، الوزير السابق وهو الصديق الشخصي لعلي ماهر. وأبلغته، باختصار خطورة الحالة. وطلبت منه أن يسرع إلى بيت علي ماهر، ويطلبني، من هناك، على تليفون القيادة العامة. ذهب عبدالوهاب إلى بيت علي ماهر، ومرت نصف ساعة، بعد الثانية عشرة، فاتصلت، مرة ثانية، بحرم إبراهيم عبدالوهاب. وحصلت منها على الرقم السري للرئيس علي ماهر، أخيراً، رد علي ماهر. ولم أقل من المتكلم؟ بل قلت: هنا القيادة العامة، اللواء محمد نجيب يريد من رفعتك أن تأتي إلى القيادة، لأمر مهم، فإذا وافقت، سُترسل إليك حراسة تصحبك إلى هنا. "سكت علي ماهر قليلاً وقال: الباشا (أي هو) في الحمام. إستنى شويه لما أبلغه (يريد أن يمنح نفسه فرصة للتفكير). غاب قليلاً، ثم عاد يقول: أنا علي ماهر. إني لا أستطيع أن أحضر إلى القيادة، قبل أن أفهم الموضوع. أرسلوا لي مندوباً من عندكم لأتفاهم معه".
وهكذا تم الاتفاق على إرسال مندوبين إلى علي ماهر، باسم القيادة، للتعرف علي مدى استجابته، للطلب بتشكيل وزارة جديدة، فانطلقت سيارة، تحمل ضابطين، أحدهما البكباشي محمد أنور السادات، يصحبه الصحفي إحسان عبدالقدوس، تتبعها سيارة جيب، بها عدد من الجنود، مسلحين بالرشاشات (التوبى جن)، للحراسة. واتجهت إلى منزل علي ماهر، في شارع الطحاوية، بالجيزة، واتفق الثلاثة على تحاشي أية إشارة إلى موقف الحركة من الملك، وأن يكون التوكيد على استشراء الفساد، وضرورة الإصلاح والتطهير، وفي أثناء هذا الحوار، وصل، إلى دار الرئيس علي ماهر، إدجار جلاد باشا، صاحب جريدة الزمان المسائية، وجريدة جورنال ديجبت الفرنسية، وأحد المقربين من الملك، ولكن مندوبي القيادة رفضا مواصلة الحوار، في حضوره، فمُنِع من الدخول.
وافق علي ماهر، من حيث المبدأ، على تشكيل وزارة، متقيداً بمبادئ الدستور، ومبادئ التطهير، التي تقرها القيادة الجديدة، من دون أن يتقيد بالتفاصيل، وأنهى المقابلة بتحديد موقفه، على النحو التالي".. إنني لا أستطيع اتخاذ خطوة، إلا بعد تكليف الملك لي باتخاذها، كما سأبلغ السراي ما دار بيننا من حديث. فإن واجب الأمانة يدعوني أن أبلغ الملك." وقبل انصراف مندوبي القيادة، انتحى علي ماهر جانباً، وسأل إحسان عبدالقدوس عن اسم الضابطين.
قائد الحركة يستقبل أول سياسي حزبي
وفي الوقت نفسه، استقبل قائد الحركة أول سياسي حزبي، وهو علي أيوب بك، الوزير السابق، وعضو الهيئة السعدية، الذي عرض، على قائد الحركة، رأى رئيس حزب الهيئة السعدية، إبراهيم عبدالهادي باشا، في الموقف، ثم استقبل أحمد الحضري المحامى، عضو الهيئة الوفدية، كما استقبل الطيار حسن عاكف بك، قائد السرب الملكي، الذي طلب الإذن له بطائرة، يستقلها إلى الإسكندرية، ولكن طلبه رُفض بلطف، من دون أن يثير شكوكاً، حول موقف القيادة، من شخص الملك.
الحركة تتصل بالرئيس علي ماهر
يقول محمد نجيب: "وفي الظهر اتصلنا بعلي ماهر، بواسطة إحسان عبدالقدوس، ليشكل حكومة جديدة. وتوجه أنور السادات لمقابلته، وفي الوقت نفسه، توجه بعض الضباط إلى بعض السياسيين الآخرين لجس نبضهم، لتشكيل الوزارة، في حالة رفض علي ماهر، وقبل علي ماهر تشكيل الحكومة، من حيث المبدأ، وبشرط أن يصدر التكليف من الملك. وأعتقد أنه كان أصلح سياسي مصري، في ذلك الوقت، للقيام بما نطلبه؛ فهو يعرف الملك، منذ كان طفلاً، ثم هو الذي وضعه على العرش، وهو قد خدم كرئيس للديوان الملكي، وكرئيس للوزراء، قبل ذلك. وكنت أشعر أن علي ماهر سيساعدنا في خلع الملك؛ لأنه كان يشعر تجاهه بالاحتقار، ولم يكن مدينا له بشيء". في هذه الأثناء اتصل فريد زعلوك بي تليفونياً، وسألني: ما هي مطالب الجيش؟
فقلت له: نحن نطالب بتكليف علي ماهر بتشكيل الوزارة، وبتعييني قائداً عاماً للقوات المسلحة، وبطرد محمد حسن، وحلمي حسين، وأنطوان بوللي، من حاشية الملك. وقد قدمت هذه الطلبات للملك لجس نبضه، واختبار قوته، فلو قبلها عرفت أنه في مركز ضعيف، وأنه لا يستند إلى قوات إنجلترا في مصر كما سمعت. وعندما شرحت مطالب الجيش لعلي ماهر، تساءل:
ـ إنتوا ناويين توصلوها لغاية فين؟
فقلت مداعباً: إلى حد أن تصبح أول رئيس جمهورية لمصر!
في الساعة الثانية والنصف، أُعلن عن قبول استقالة أحمد نجيب الهلالي، (انظر ملحق كتاب استقالة وزارة أحمد نجيب الهلالي) بعد يوم واحد، في الحكم. وبعد ثوان اتصل بي علي ماهر، وقال: الملك كلفني بتشكيل الوزارة (انظر ملحق أمر ملكي بتكليف علي ماهر باشا بتشكيل الوزارة). ثم طلب مني أن أزوره في بيته، وذهبت إليه، بعد أقل من ساعة، ومعي ستة من ضباط القيادة، في موكب تسير أمامه، وخلفه، سيارات الحراسة. كان علي ماهر مشرقاً، يتمتع بحيوية زائدة، وأخذ يحاورني، طوال الجلسة، لمعرفة موقفنا من الملك، فقلت له: اطمئن، إذا استجاب الملك لمطالبنا، انتهى كل شيء بسلام، ويبدو أنه اقتنع، وقال لي: سوف أشكل وزارتي من الوزراء أنفسهم، الذين ألفوا معي الوزارة، بعد حريق القاهرة.
أعلن علي ماهر موقفه، في بيان منشور، جاء فيه:
"قابلت صباح هذا اليوم، مندوبين من ضباط الجيش. وفهمت ما يشكون منه، ثم استدعيت سعادة اللواء محمد نجيب، فحضر في نحو الساعة الثالثة، ومعه ستة من زملائه. وتفاهمت معهم، كما تناولنا الموضوعات، التي نشأ عنها الموقف الحالي".
كما أشار، في بيانه هذا، إلى أنه، في خلال الأشهر الأربعة الماضية، كان منصرفاً إلى إعداد مذكراته عن الحركة الوطنية في مصر، كما ذكر أنه كان على أهبة السفر إلى الخارج، للاستجمام، وكان قد حدد يوم الثلاثين من الشهر الحالي لسفره.
في الساعة الثالثة والربع، عصراً، كان اللواء محمد نجيب، كما سبق ذكره، قد اجتمع بعلي ماهر، في منزله بالجيزة وكان التفاهم تاماً، وفي هذه الأثناء، حضر، لزيارة الرئيس علي ماهر، أحمد حلمي باشا، رئيس حكومة فلسطين، والشيخ حسنين مخلوف، مفتي الديار المصرية، والوزير السابق زهير جرانة وتناولوا جميعاً الغذاء على مائدة صاحب الدار.
في الساعة الخامسة والنصف مساء، عاد اللواء محمد نجيب إلى القيادة، في شبه مظاهرة شعبية، مستقلاً سيارة مكشوفة، ترافقها سيارة عسكرية، في المقدمة، وسيارات جيب، في كل منها، ثلاثة من العسكريين، اخترقت كورنيش الجيزة إلى كوبري عباس، ثم عرج الموكب على شارع المنيل، ثم سار من أمام القصر العيني، إلى ميدان الإسماعيلية (التحرير). ومنها إلى حديقة الأزبكية، حيث كانت ترابط قوات الفرقة الثانية، منذ أحداث 26 يناير، فتفقد هذه الوحدات، وتحدث إلى رجالها قائلاً: أنا أعلم أنكم مرهقون بالعمل، ولكن التعب للرجال، فاعملوا، ولا تبخلوا على وطنكم بجهدكم، وصحتكم. ثم تفقد قوات الأمن التي كانت مرابطة بالحديقة. وتحدث إليهم قائلاً: إن الجيش والبوليس يد واحدة، والواجب أن تسهروا جميعاً على الأمن. خصوصا في وقت الغروب والفجر" ثم سار الموكب في شارع إبراهيم باشا (الجمهورية)، إلى ميدان باب الحديد، وفي الطريق، تفقد رئاسة البوليس الحربي، والتقى قادته. وفي الساعة السادسة والربع مساء، انتهت جولة قائد الحركة، وعاد إلى مبنى القيادة، ونشرت الصحف، في اليوم التالي، صور السيارة المكشوفة، واللواء محمد نجيب، يحيي الواقفين والمصفقين، على جانبي الطريق.
أما الرئيس علي ماهر فقد عكف، بعد خروج ضيوفه، على دراسة الموقف وأبعاده. وظل ساهراً، حتى منتصف الساعة الثالثة صباحاً، يضع القواعد الخاصة بتأليف الوزارة، على أن تكون مستقلة، وفي أضيق الحدود، وتعمل على تنفيذ مطالب البلاد الملحة، وإعادة الأمن. والواضح أنه لم ينم سوى ساعات محدودة، إذ كان مستعداً للسفر إلى الإسكندرية مبكراً، في صباح اليوم التالي.
كان هذا تسلسل الأحداث التي جرت بالقاهرة في يوم 23 يوليه. وهي تختلف قليلاً، عما جاء في كتاب "البحث عن الذات"، للرئيس السادات. ولعل هذا الاختلاف راجع إلى تداخل الأحداث، ومن ذلك الإغفال التام لدور قائد الحركة، اللواء نجيب، مع أن جميع تحركاته، في هذا اليوم محسوبة، ومنشورة في الصحف، إذ جاء في كتاب "البحث عن الذات": "فاتصلنا بعلي ماهر، نطلب منه انتظارنا، قبل سفره، بعد ظهر23، لمقابلة الملك، حتى يحمل مطالبنا إلى الملك. وذهبنا بها، أنا وعبدالناصر، إلى علي ماهر، وسلمناها له، وسافر الرجل إلى الإسكندرية، بعد ظهر ذلك اليوم، ليقابل الملك. وفي الليل، (أي يوم 23) اتصل بي علي ماهر، من الإسكندرية ... إلخ" مع أنه واضح، من رواية إحسان عبدالقدوس، أن شخص السادات لم يكن معروفاً للرئيس علي ماهر، حتى أنه سأل عن اسمه، واسم زميله. والفرق كبير، بين الروايتين، كما يناقض بيان علي ماهر نفسه، المنشور في الصحف، لأنه لم يسافر إلا في صباح اليوم التالي، في شبه مظاهرة شعبية.
******************************************
[1] ومصطفى صادق كان ضابطا بسلاح الطيران ثم شغل منصب مدير شركة طيران سعيد.
[2] وقد انتحر الأميرالاي محمد وصفى بك فيما بعد.
[3] الكلفوات عبارة عن آنسات تركيات. يختارهن القصر وهن صغيرات السن من اللقيطات من ملاجىء تركيا!..وفى مصر يربين تربية خاصة لكي يصبحن رفيقات وخادمات خصوصيات للملكة والأميرات. وكان عدد الكلفوات الموجودات في قصر رأس التين يوم التنازل ستة.