الخطــــة
يقول البغدادي: "وكانت خطة الانقلاب قد بنيت أساساً على ثلاث مراحل (انظر ملحق خريطة المنطقة التي شبَّت فيها ثورة 23 يوليه)
1. المرحلة الأولى منها
هي العمل على السيطرة على القوات المسلحة، بالاستيلاء، أولاً، على مبنى القيادة العسكرية، بمنطقة كوبري القبة.
وعلى أن يقوم باقتحامها والاستيلاء عليها بعض من أعضاء اللجنة التأسيسية وهم: جمال عبد الناصر، عبدالحكيم عامر، حسن إبراهيم، البغدادي.
ويعاونهم في ذلك إحدى الوحدات العسكرية.
ويعمل، في الوقت نفسه، على اعتقال بعض كبار ضباط الجيش والطيران، من قيادات الأسلحة المختلفة، حتى نضمن بذلك عدم إمكانية تحريك قوات عسكرية للتصدي لنا.
ويقوم بتنفيذ عملية الاعتقال مجموعات من الضباط، محددة لهذا الغرض.
وتقوم وحدات عسكرية، من سلاح المدفعية، بالسيطرة على مداخل القاهرة الشرقية، وكذا الطرق داخل مدينة القاهرة الموصلة إلى مبنى القيادة العسكرية بكوبري القبة.
والطرق الموصلة، كذلك، إلى وحدات الجيش المختلفة، والتي تتمركز أساساً في شرق وجنوب القاهرة.
ويعاون سلاح المدفعية في هذا وحدات من سلاح الفرسان بدباباتهم وسياراتهم المصفحة، والقيام كذلك بمحاصرة قصر عابدين، مقر الملك، وكان كمال الدين حسين مسؤولاً، مع عبدالمنعم أمين، عن تحريك قوات المدفعية، يعاونهما، في ذلك، مجموعة ضباط منهم: مصطفي مراد، أحمد أبو الفضل الجيزاوي، فتح الله رفعت، محسن عبد الخالق، محمد حمدي محمود.
وأما سلاح الفرسان فكانت تقع مسؤولية تحركه على كل من: خالد محيي الدين، حسين الشافعي، ثروت عكاشة، وقد حدد دور وحدات المشاة كذلك في الخطة.
أما سلاح الطيران فكانت السيطرة ستتم على مطاراته الثلاثة الرئيسية حول القاهرة (ألماظة، مصر الجديدة، غرب القاهرة) ليلة 23 يوليه، وعلى أن يبدأ دور الطائرات، واستخدامها، في صباح يوم 23 يوليه، للطيران فوق القاهرة والإسكندرية، ومنع الملك فاروق من الهروب، عن طريق الجو، أو البحر، مع استخدام القوة، لو حاول ذلك.
وعلى القوات الجوية، كذلك، أن تقوم بعمليات استكشاف لتحركات أية قوات بريطانية، والتصدي لها، عند أي بادرة منها للعمل ضدنا، وهذه المسؤولية كانت تقع على عاتق البغدادي، وحسن إبراهيم، وبعض ضباط آخرين، منهم عمر الجمال، ومحمد شوكت، ووجيه أباظة، وصادق القرموطي، وحمدي أبو زيد، وغيرهم.
ويُضاف إلى هذا، في الخطة، ضرورة قيام وحدات من المشاة بالسيطرة على محطة الإذاعة، وشبكة التليفونات، حتى يمكن لنا مخاطبة الشعب، عن طريق الإذاعة، بإلقاء بيان عن قيام الانقلاب وأهدافه.
وحُدد موعد إذاعة البيان الساعة السابعة من صباح يوم 23 يوليه.
أما عن شل شبكة التليفونات، فكانت تقع مسؤوليتها على عاتق محمد أنور السادات، أثناء المرحلة الأولى من الخطة.
وكانت هذه المرحلة من الخطة من أهم مراحلها الثلاث.
ونجاحها يساعد على نجاح المرحلتين التاليتين لها.
وبنجاحها سيتم لنا السيطرة على القوات المسلحة.
وتلك السيطرة لها أهميتها القصوى.
2. المرحلة الثانية
تتلخص في العمل على السيطرة على جهاز الحكومة المدني، وذلك عن طريق تعيين وزارة مدنية، نضمن ثقة الشعب فيها، وولاءها كذلك للانقلاب.
3. المرحلة الثالثة
تتلخص في التخلص من الملك نفسه.
وكان لابد من أن نعمل على إخفاء هذا الغرض الأخير، حتى آخر لحظة، قبل اتخاذ الخطوات التنفيذية لهذا، خوفاً من أن يكون ذلك مبرراً للقوات البريطانية للتدخل.
أو أن يلجأ، هو نفسه، إليها، طالباً منها التدخل لحمايته.
وما يترتب على هذا التدخل منها من أخطار، نحاول، بقدر استطاعتنا العمل على تفاديها، وتجنبها.
تلك كانت الخطوط العريضة والأساسية لتنفيذ الانقلاب، وقد وُضع لها خطة تفصيلية.
وكان قد اُتفق على أن يقوم بوضعها كل من جمال عبدالناصر، وكمال الدين حسين، وعبدالحكيم عامر، وعلى أن نجتمع الساعة الثانية، بعد ظهر يوم 22 يوليه، في منزل خالد محيي الدين لاستعراضها، بصورتها النهائية.
وحتى يلم كل منا بدوره، ودور الوحدات التابعة له.
وعلى كل منا، بعد ذلك، أن يقوم بترتيب الدور المسؤول منه مع ضباطه ووحداته.
وعلى ألا تصدر إليهم الأوامر النهائية، والتفصيلية، للبدء في التنفيذ، قبل الساعة الثامنة من مساء يوم 22 يوليه، ضماناً للسرية، وعدم تسرب أية معلومات عنها للمسؤولين، وحتى يكون الوقت المتبقي، على بداية التنفيذ، ساعات قليلة لا تسمح باتخاذ إجراءات تحريك قوات مضادة لإحباط مهمتنا، إن تسرب الخبر، وكان من الضروري وجود الضباط، الذين سيوكل إليهم تنفيذ الخطة، يوم 22 يوليه في الساعة الثامنة مساء.
وفي مكان محدد حتى يمكن إبلاغهم بالقرار، ودورهم التفصيلي.
لذا فقد سبق واتفقنا، مع جميع الضباط الأحرار، على ضرورة استعدادهم، وإعداد وحداتهم، ولكن من دون أن نذكر لهم أية تفصيلات عن نياتنا وأهدافنا.
واقتصر الأمر على ضرورة وجودهم، بمنازلهم، ويومياً، قبل الساعة الثامنة مساءاً، وذلك ابتداءً من يوم 21 يوليه حتى يمكن الاتصال بهم.
الأحد 20 يوليه
قدم حسين سري باشا استقالته، بعد 18 يوماً من الحكم، وقد سلم رئيس الوزراء كتاب الاستقالة، في بيته، إلى رئيس الديوان، الدكتور حافظ عفيفي باشا، وسبق تقديم الاستقالة، مقابلة رئيس الوزراء للقائد العام للجيش، الفريق محمد حيدر، وكان سري باشا قد صرح بأن الموقف خطير وتذمر الجيش قد يتحول إلى ثورة، ولكن لم تُقبـل الاستقالة، ولم يجـر ترشيح رئيس لتأليف وزارة جديدة، وقد هاجم الأستاذ عباس محمود العقاد مقابلة سري باشا للسفير الأمريكي والتفكير في عقد معاهدة مصرية أمريكية حتى لا تكون قيداً للأقوياء على الضعفاء.
اجتماع لجنة القيادة (اللجنة التأسيسية):
في اجتماع لجنة القيادة، حكى جمال عبدالناصر ما قاله له اللواء محمد نجيب عن قصة قائمة الإثنى عشر ضابطاً، ثم حكى حكاية أخرى، وهي أن ثروت عكاشة أبلغه أن أحمد أبوالفتح اتصل به، من الإسكندرية، ليبلغه تليفونياً أن حكومة حسين سري باشا ستُقصى عن الحكم، وأن الهلالي سوف يشكل وزارة جديدة، وسيكون وزير الحربية فيها حسين سري عامر، العدو اللدود لحركتنا، وأفهمه، بصورة ملتوية، ضرورة عمل شيء قبل أن يقبضوا علينا.
ويذكر خالد محيي الدين
"تطابقت الروايتان وعززت كل منهما الأخرى، فتولي حسين سري عامر وزارة الحربية يعني الهجوم المباشر علينا وفوراً. وقررنا أن نتحرك فوراً خلال 48 ساعة.. وتحددت ليلة 22 يوليه موعداً للعملية.
وأسرعنا إلى ضباطنا لنبلغهم بالاستعداد للتحرك ليلة 22 يوليه، وكم دهشت إذ تفجرت مشاعرهم بحماس دافق، وروح لا تهاب المخاطر.
ولكن يأتي يوم 21 يوليه ليبلغنا جمال عبدالناصر أنه يرى التأجيل ليلة أخرى انتظاراً لحشد قوات أكبر.
وأحسست بما انتاب الضباط من فتور عندما أبلغتهم بالتأجيل، وقررت في دخيلة نفسي أن يكون هذا هو آخر تأجيل.
وتحددت ليلة 23 يوليه كموعد نهائي.
أُعلنت حالة الطوارئ، ابتداءً من الساعة السابعة مساءً إلى صباح اليوم التالي.
اجتمع جمال عبدالناصر، للمرة الثانية، بممثل جماعة الإخوان، بعد يومين من الاجتماع الموسع، الذي حضره خمسة من الجماعة، في شأن معاونة الجماعة في حماية المرافق العامة، عند قيام الحركة.
وفي مساء يوم 20 يوليه عقد اجتماع موسع في منزل الصاغ صلاح نصر رقم 20 شارع الدويدار بحدائق القبة، حضرة ما يزيد على خمسة عشر ضابطاً من التنظيم منهم جمال عبدالناصر وعبدالحكيم عامر ويوسف منصور صديق وزكريا محيي الدين وصلاح سعده وعمر محمود وبعض ضباط الكتيبة الثالثة عشر من التنظيم وصلاح نصر.
وشرح جمال عبدالناصر الموقف العام وقال:
إن نسبة النجاح ضئيلة جداً فالملك متربص بنا، والإنجليز في منطقة قناة السويس قد يتدخلون لضرب الثورة، وأمريكا قد تتدخل بجانب الملك.
وقد يحدث تدخل من بعض وحدات الجيش، ولكن لابد أن نتحرك.
واستطرد جمال عبدالناصر يقول: حتى لو أخفقنا وأعدمنا الملك، فإننا نكون قد مهدنا السبيل لغيرنا كي يعرفوا طريق الثورة.
ثم شرح جمال عبد الناصر دور الكتيبة الثالثة عشر.
على أن ثمة حادثاً كاد يفشي هذا الاجتماع، إذ كان يقطن في منزل قريب من منزل الصاغ صلاح نصر ضابط برتبة الصاغ يدعى محمود الجوهري ولم يكن ينتمي إلى التنظيم.
ويبدو أنه رأى بعض الضباط الذين كانوا مجتمعين لدى صلاح نصر.
وبعد انصرافهم مر عليه يسأله: مَن الذي كان عندك؟ فقال له: لقد كنت أعرض سيارتي الخاصة للبيع، وحضر من يريد شراءها لمعاينتها.
وتقرر عقد اجتماع عصر يوم 22 يوليه في بيت الصاغ صلاح نصر.
الاثنين 21 يوليه عام 1952
كُلف الهلالي باشا بتأليف الوزارة بعد أن أكد له رئيس الديوان الدكتور حافظ باشا عفيفي بأن الملك سيلتزم بحدود الدستور ولا يمكن غير المسؤولين من شؤون الحكم، فعكف الهلالي بعد تناول الغداء بمنزل محمد فريد زعلوك باشا (وزير الدعاية في وزارته السابقة) على تحديد شروط قبول الوزارة الحكم واختيار أعضائها.
ـ أعلنت حالة الطوارئ في الإسكندرية في الساعة الثامنة مساءً حتى الصباح.
ويذكر اللواء محمد نجيب: "وكانت دهشتي بالغة عندما أذيعت أنباء استقالة وزارة حسين سري باشا وعودة نجيب الهلالي.
ولم أكن أعتقد أن أمور السلطة قد وصلت إلى هذا الحد من الاهتزاز.
ووصلتني أخبار مؤكدة بأن الملك أراد أن يفرض حسين سري عامر وزيراً للحربية ولكن نجيب الهلالي لم يوافق، فقرر تعيين صهره زوج الأميرة فوزية الأميرالاي إسماعيل شرين، وكان يعمل مديراً لشؤون فلسطين تحت رئاستي بسلاح الحدود وكان يعاونه البكباشي محمود رياض".
ـ عقد اجتماع ثالث، بين جمال عبد الناصر وممثلي جماعة الإخوان، بمنزل عبدالقادر حلمي حضره صالح أبو رقيق وحسن العشماوي وفريد عبدالخالق وصلاح شادي، وأعلنوا موافقة المرشد العام على معاونة الحركة، عند قيامها، مع تحفظات معينة.
ـ في الساعة العاشرة والنصف مساءً ذهب لزيارة البكباشي عبدالمنعم أمين، في شقته على شارع النيل بالجيزة، كل من جمال عبدالناصر جمال الدين حسين، وكان الأخير قد اتصل به تليفونياً بهذا الخصوص، وكان عبدالمنعم أمين، في هذا التاريخ، قائداً ثانياً للمدفعية المضادة للطائرات، ومقره العباسية.
وقال جمال له: "الحالة في البلد أصبحت سيئة لدرجة لا تحتمل الانتظار أكثر من ذلك، وبحثنا في التنظيم فوجدنا أن هذا الوقت أنسب ما يكون للقيام بحركة لتغيير الأوضاع، وانتهت المقابلة في الثانية صباحاً، بالموافقة على الاشتراك في الحركة من الغد".
ـ تعددت اجتماعات الضباط الأحرار، طوال هذا اليوم، ففي الصباح اتصل جمال عبدالناصر بثروت عكاشة، في مكتبه الواقع بالمبنى نفسه للاطمئنان، على مدى الاستعدادات، وفي سلاح المدفعية، قام اليوزباشي محمد أبو الفضل الجيزاوي بتجميع أكبر عدد من الضباط، بعد الظهر، وكانوا نحو ثلاثين للتحكم في مداخل المنطقة العسكرية، والسيطرة على ألماظة، وإعداد عربات من خدمة الجيش لنقل الجنود، وعقد اجتماع للمشاة، في أحد منازل الضباط، حضره عبدالحكيم عامر، وكمال رفعت، وعبدالحليم عبدالعال، وإسماعيل فريد وعباس رضوان، لتوزيع الواجبات عليهم، حيث أنهم كانوا يمثلون مجموعة الانتقالات، وهي التي عُهد إليها باعتقال كبار الضباط بالكلية الحربية، كما عقد اجتماع لضباط الفرسان، في منزل حسين الشافعي، لتدوين كشوف بأسماء الضباط المشتركين في العملية، ووحداتهم، واستبعاد المشكوك فيهم، واشترك في الاجتماع حسين الشافعي، وثروت عكاشة، وعثمان فوزي.
ـ زار جمال عبدالناصر، ومعه عبدالحكيم عامر، البكباشي يوسف منصور صديق، في منزله، بحلمية الزيتون ونصحاه بعدم الاشتراك في العمل، مراعاة لحالته الصحية، لأنه كان مريضاً يعاني نزيفاً في الرئة اليمنى.
إلا أن يوسف منصور صمم على الاشتراك وأبلغهما أن قواته على استعداد للتحرك وعرف من جمال عبدالناصر أنه سيرسل له برسول يبلغه بساعة الصفر.
يقول يوسف منصور:
"وكان واجبنا نحن الضباط، وجنود مقدمة كتيبة مدافع الماكينة المشاة، تتلخص في الآتي:
نتوجه إلى المعسكر، مساء يوم 22 يوليه، ونبقى هناك حتى تصلنا الأوامر النهائية، التي تُحمل إلينا والخاصة بكلمة السر، وساعة الصفر.
عند حلول ساعة الصفر، نتحرك إلى مبنى القيادة العامة، حيث نصلها، بعد احتلالها، بقوات الأحرار ـ هذه نقطة مهمة أي أن قوات يوسف صديق لم تكن هي المنوط بها احتلال مبنى القيادة العامة.
وكان علينا أن نصحب معنا عشرين لوري، سيقوم الضابط المسؤول عنها في قيادة الفرقة الثانية، بمعسكر "هايكستب"، بتسليمها لي عند طلبي، لتكون في خدمة الثورة، وكانت هذه اللواري خالية إلا من سائقيها".
وواضح أن العملية المسندة إلى البكباشي يوسف منصور صديق كانت عملية هامشية.
وهي المشاركة في قفل الطرق المؤدية إلى جميع المعسكرات والثكنات لمنع تسرب أي ضابط من غير الأحرار إلى الوحدات، والمشاركة في عدم السماح لأية قوات غير قوات الأحرار بالتحرك، وذلك لتتمكن قوات الأحرار من استمرار احتلال القيادة العامة والإذاعة.
وكان يوسف صديق مسؤولاً عن نشاط مقدمة كتيبة مدافع الماكينة في تنظيم الضباط الأحرار.
ويحدثنا البكباشي يوسف منصور صديق في مذكراته عن قوة كتيبة مدافع الماكينة الأولى المشاة:
"تشمل هذه الكتيبة قوة نيران رهيبة فقد كان تسليحها يشمل 48 مدفع ماكينة والمدفع الواحد من هذه المدافع يطلق نيراناً بمعدل 600 طلقة في الدقيقة الواحدة.
وكان الملازم مدبولي أحمد عبدالعزيز قد انتهز فرصة وجودنا بالعريش وتفرغ بكل طاقاته لجعل الحملات المدرعة التي تتحرك عليها هذه المدافع على خير حال".
وشاء الحظ أن تحرم حركة الضباط الأحرار من هذه الكتيبة ليلة 23 يوليه وأن تشارك فيها فقط مقدمة الكتيبة.
وطبيعة عمل مقدمة الكتيبة يوضحها البكباشي يوسف منصور في مذكراته بقوله:
"في يوم 13 يوليه تحركت على رأس مقدمة كتيبة إلى القاهرة ـومقدمة الكتيبة في مثل هذه التحركات تتشكل مما يمكن تسميته بقوة إداريةـ فهي تسبق الكتيبة إلى مقرها الجديد لتهيئ لها أسباب الإعاشة في هذا المقر وتقوم باستلام المعسكر الجديد والتموين وكان اليوزباشي عبدالحميد شديد هو قائد ثاني هذه المقدمة، وكان يوم 26 يوليه 1952 هو اليوم المحدد لوصول الكتيبة".
الثلاثاء 22 يوليه 1952
ـ أصبح مقرراً أن يبدأ التحرك في منتصف الليل، وأطلق على الحركة الاسم الكودي مصر ثم اسم نصر.
ـ في الساعة الرابعة بعد الظهر، حلفت الوزارة الجديدة، برياسة أحمد نجيب الهلالي باشا، اليمين الدستورية، أمام الملك بقصر المنتزه، وتولى منصب وزير الحربية، المختلف عليه، إسماعيل شرين بك، زوج الأميرة فوزية.
وتضمن النطق الملكي قوله:
"إن شاء الله تتم الوزارة ما بدأته من قبل من أعمال وأن تمضي في خدمة البلاد بما يعود عليها بالخير".
ـ عقدت في هذا اليوم المحكمة العسكرية للنظر في قضية التحريض على حريق القاهرة، وكان، بين الشهود، الذين حضروا الجلسة، رئيس الوزارة السابق علي ماهر باشا، وهي آخر جلسة للمحكمة قبل ليلة 23 يوليه.
ـ حفل اليوم بتحركات نشطة من جميع الذين اشتركوا في حركة الجيش، ففي الصباح، ذهب اللواء محمد نجيب، في سيارته العسكرية، إلى بيت جمال عبدالناصر، (شقة في الدور الأول في منزل بشارع والى فوق دكان مكوجي)، واعتلى درجات السلم مسرعاً مما تسبب في قطع بنطلونه، فلم يجده، فذهب إلى كلية أركان الحرب، حيث قابله، مع عبدالحكيم عامر، للتأكد من التنفيذ في الليلة نفسها.
وقال جمال عبدالناصر أنه أرسل إلى محمد أنور السادات، في العريش، بصفته ضابط إشارة، لكي يسيطر على الإذاعة وعلى التليفونات، وفي الوقت نفسه حضرت مجموعة الاعتقال إلى منزل عبدالحكيم عامر للتأكد من ساعة الصفر على أن يعودوا إلى الاجتماع في الساعة الثالثة، بمنزل البلتاجي، في العباسية، ولكن عبدالحكيم عامر لم يحضر إلا بعد الساعة السابعة مساءً وعلى إثرها توجهوا للمرور على منازل الضباط الأحرار، لتبليغهم بآخر التعليمات.
ـ في صباح اليوم، اجتمع جمال عبد الناصر، وجمال الدين حسين، بصلاح أبو رقيق ممثل جماعة الإخوان، وأخطره بساعة الصفر.
ـ في الساعة الرابعة، حضر إلى منزل اللواء محمد نجيب الزعيم السوداني محمد أحمد محجوب (رئيس الوزراء فيما بعد) وذكر أنه على موعد في نادي التجديف بالجيزة".
ويقول محمد نجيب:
"ودعاني أن أصحبه، فقبلت حرصاً مني على التعرف بما جد من أخبار، حيث أنني كنت تحت مراقبة شديدة، وبعد خمس دقائق، حضر الأستاذ محمد حسنين هيكل، المحرر بدار أخبار اليوم، ونحاني جانباً، وأسر إلى بالآتي: إنني الآن قادم من سراي عابدين، وعلمت بأن الملك قد وقع قراراً بالاستغناء عن خدماتك في الجيش (أي الفصل أو الإحالة إلى المعاش)، وأن القرار سيعلن صباح باكر، في الصحف، (ويقول نجيب) إنني تمعنت في عيني محدثي لأتأكد عما إذا كان يعرف أن تنفيذ الحركة سيتم، بعد ساعات فقط، فتبينت أنه لا يعرف، كما فكرت عما إذا كان المقصود من روايته جس النبض، لاسيما، وأنا أعرف أنه له صلة خاصة بالأمريكان".
"وحوالي الساعة السادسة مساءً حضر جمال عبد الناصر، ومعه عبد الحكيم عامر، وزكريا محيي الدين، وجمال حماد، وأخذنا نتحدث في الوضع الراهن للبلد، بصفة عامة، وتطرق الكلام إلى الجيش فسألت جمال عبد الناصر: حتعمل إيه؟ وحدد لي هدفه بأنه عازم على القيام بانقلاب، في الليلة نفسها، والاستيلاء على القيادات لتصحيح الأوضاع، وعرض علي الاشتراك معه، وفهمت منه أن ساعة الصفر هي منتصف الليل، أو الواحدة صباحاً، فوافقت واقترحت أن نقول لقواتنا (أي الكتيبة 13 أركان حربها صلاح نصر من الضباط الأحرار) بأن الإنجليز وصلوا في طريق السويس إلى الكيلو 45 فعلينا أن نوقف هجوم الإنجليز على القاهرة، وحددنا مهام الكتيبة وهي: احتلال المواقع الآتية، بمساعدة المدرعات (بقيادة حسين الشافعي، وثروت عكاشة، وخالد محيي الدين) والمدفعية (كمال حسين، وأبو الفضل) وسلاح خدمة الجيش (الطحاوي، ومجدي حسنين)، لتجهيز العربات للنقل، حيث أن كتيبتي لم تكن مجهزة تماماً، وكانت قد وصلت إلى هايكستب من العريش في 6 يوليه حيث أنني على سفر إلى السودان".
وتشمل المهام المطلوبة:
مداخل قشلاق العباسية (البوابة القريبة من كلية الشرطة، البوابة البحرية الرئيسية عند مدخل العباسية، البوابة الشرقية خلف المدفعية).
احتلال رياسة الجيش.
تأمين سلاح الحدود.
احتلال دار الإذاعة بشارع علوي.
احتلال محطة الإرسال الإذاعي في أبو زعبل.
معتقل المدرسة الحربية.
.. انتهى الاجتماع بتوقيت العملية، والذهاب إلى منزل صلاح نصر بحدائق القبة، الذي فوجئ بي إذ أنني قائده، ويعمل هو أركان حرب الكتيبة، واشترك جمال عبدالناصر، وزكريا محيي الدين، وأحمد شوقي، وصلاح نصر، لوضع خطة نهائية ثم انتقلوا إلى منزل صلاح سعده، بالمنيل، وكان مجتمعاً به نحو عشرة ضباط، من الكتيبة 13، وكان منهم فؤاد عبدالحي، وسيد عبدالحليم، وجمال القاضي، وعمر محمود علي، وتم الاتفاق على أن يكون الاجتماع بقشلاق الكتيبة في الساعة 10 مساءً، على أن نذهب متفرقين، وأن يفهم العساكر بأنها عملية ضد الإنجليز..".
وكان أحمد شوقي يمت بصلة قرابة إلى اللواء أحمد طلعت، حكمدار العاصمة، وخشي جمال عبدالناصر أن يبلغ أحمد شوقي عن التنظيم، فعين معه جمال حماد، وجمال القاضي وأمرهما بألا يتركاه حتى ساعة الصفر المحددة لتحرك القوات.
وكان أحمد شوقي ذكياً فلم يدع أدنى شك يتطرق إليهما، فاصطحبهما إلى منزله، وما كان يتحرك أنملة، إلا برفقة أحدهما.
ووضعت اللمسات الأخيرة للخطة، وانصرف الجميع، كي يتجمعوا فرادى، في وحداتهم، قبل الساعة التاسعة مساء، قبل ساعة الصفر بثلاث ساعات، لقد كانت ساعة الصفر منتصف ليلة 22/ 23 يوليه 1952.
ويذكر قائد جناح عبداللطيف بغدادي (عضو مجلس القيادة فيما بعد):
أن الخطة النهائية للانقلاب تم وضعها في عصر هذا اليوم بمنزل الصاغ خالد محيي الدين،
ويقول البغدادي:
"وفي هذا الاجتماع تحدد واجب سلاح الطيران، وهو حماية المطارات، ليلاً، مع التحليق صباحاً مع أول ضوء للنهار في شبه مظاهرة جوية".
سافر محمد أنور السادات إلى القاهرة في صباح يوم 22 قادماً من رفح، وذهب إلى منزله، بالروضة، ليفاجئ أسرته، بعودته غير المنتظرة، إذ كان، قبل أيام، في القاهرة، في إجازته الاعتيادية، وصحب زوجته إلى سينما الروضة الصيفي، التي تبدأ العرض في الساعة الثامنة مساء، حتى الواحدة صباحاً، وكانت في تلك الليلة تعرض ثلاثة أفلام هي: (القطة المتوحشة، غرام ثائر، لعبة الست)، وعند عودته، بعد منتصف الليل، كما يقول الرئيس محمد أنور السادات: "وعلمت من البواب، الذي سلمني هذه البطاقة، أن جمال عبدالناصر، قبل أن يترك البطاقة، أتى إلى بيتي، مرتين، مرة في الساعة الثالثة مساء، ومرة أخرى في العاشرة"، ويبدو أن البواب، بعد عودة محمد أنور السادات، من المحطة، لم يبلغه بأن جمال عبدالناصر جاء للسؤال عنه، في الساعة الثالثة، أي قبل وصول قطار غزة، ولعل هذا ما ضيع على محمد أنور السادات فرصة الاتصال بجمال عبدالناصر، أو بغيره، من رفاق الحركة، ليستوثق من ساعة الصفر، فأضاع عليه فرصة القيام بالدور، الذي خطط له كاملاً، لأنه لم يصل إلى مبنى القيادة، إلا بعد الاستيلاء عليها، بنحو ساعة ونصف الساعة.
ويذكر خالد محيي الدين في مذكراته بخصوص الانقلاب:
"وفي الساعة الثانية، بعد ظهر 22 يوليه، عقدت "لجنة القيادة"، اجتماعها الأخير، في بيتي، التقينا: جمال عبد الناصر، حسن إبراهيم، عبد الحكيم عامر، كمال الدين حسين، عبداللطيف البغدادي وخالد محيي الدين.
وتغيب جمال سالم وصلاح سالم، وأنور السادات، وحضر معنا زكريا محيي الدين وحسين الشافعي وعبد المنعم أمين وإبراهيم الطحاوي..
وكان حضورهم مبرراً ومنطقياً، وإن كان جمال قد دعاهم بالحضور بمبادرة منه، فزكريا شارك في إعداد خطة التحرك، ومن الطبيعي أن يحضر ليشرحها لنا، والطحاوي كان سيقود تحرك سلاح خدمة الجيش، والشافعي سيقود تحرك الفرسان. صحيح أنني كنت مسؤول مجموعة الفرسان، لكن الشافعي كانت رتبته أعلى، فقد كان "بكباشي"، وعبدالمنعم سيقود تحرك المدفعية.
عندما تحدثنا عن خطة التحرك التفت بغدادي إلى زكريا محيي الدين وقال له: اقرأ الخطة.
وعرض زكريا محيي الدين الخطة، وكانت الخطة بسيطة للغاية، ويمكن القول إنها اكتسبت عناصر نجاحها من بساطتها، وكانت تنقسم إلى ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى :
السيطرة على القوات المسلحة، وتحريك بعض القوات إلى مبنى القيادة في كوبري القبة، وأن يتم اقتحامه والاستيلاء عليه، على أن يتم في الوقت نفسه، اعتقال بعض كبار ضباط الجيش والطيران، وقادة الأسلحة المختلفة، حتى نضمن عدم تحريك أية قوات عسكرية للتصدي لنا.
وحددت الخطة في مرحلتها الأولى مهام الأسلحة المختلفة:
أ. الفرسان:
مسؤولية إغلاق المنطقة، عند شارع الخليفة المأمون، بجوار محطة البنزين، وإغلاق المنطقة عند المستشفي العسكري، وعند باب ستة، بالعباسية، وباب العباسية.
ب. المدفعية:
عزل منطقتي ألماظة والهايكستب، والطرق المؤدية لمبنى القيادة، بكوبري القبة، والطرق المؤدية لوحدات الجيش المختلفة.
وتقرر أن يعاون المدفعية، في هذه المهمة، وحدات من الفرسان، بدبابات وعربات مصفحة، وتحدد المسؤولون عن تحريك القوات في المرحلة الأولى كما يلي :
(أ) الفرسان:
حسين الشافعي، خالد محيي الدين، ثروت عكاشة.
(ب) المدفعية:
كمال الدين حسين، عبدالمنعم أمين.
(ج) الطيران:
حسن إبراهيم، عبد اللطيف البغدادي.
وكانت مهمة الطيران تالية لتحركنا في المرحلة الأولى، وكلفت مجموعة، من المدرعات، بالسيطرة على مطارات ألماظة، ومصر الجديدة، وغرب القاهرة، وتحددت مهمة الطيران، بعد ذلك، في طلعات استكشاف، للتأكد من عدم تحرك قوات بريطانية من قاعدة القناة، وطلعات استكشاف فوق القاهرة والإسكندرية، ومنع الملك فاروق من الهرب سواء عن طريق الجو، أو البحر.
2. المرحلة الثانية:
إنزال قوات إلى الشوارع للسيطرة على عدد من المواقع المدنية: الإذاعة، التليفونات، قصر عابدين… إلخ.
3. المرحلة الثالثة:
التحرك لعزل الملك.
تحدث حسين الشافعي في الاجتماع وأعلن أن سلاح الفرسان جاهز، وأن لدينا (32) ضابطاً جاهزين لتحريك قواتهم، وإننا نسيطر على (48) دبابة و(48) سيارة مدرعة، وعلى الكتيبة الميكانيكية وآلاي الخيالة: وذكر خالد محيي الدين أن قوات الفرسان كفيلة بإنجاح الحركة، دونما حاجة لانتظار وحدات مشاة، أو انتظار وصول بقية كتيبة يوسف صديق.
وتحدث عبدالناصر عن المدفعية والمشاة، وقال إنه مسؤول عن تدبير وحدات منها.
وعندما انتهى الاجتماع كانت الساعة الثالثة والنصف بعد الظهر، وتقرر ألا نتصل مع بعضنا تليفونياً..
وأن تعد كل مجموعة نفسها للتحرك.
واتفقنا أن تكون كلمة السر (نصر).
ويقول خالد محيي الدين:
قال جمال: "ثروت عاطفي خليه يخلي باله".
ربما كان جمال يلمح إلى تكرار ثروت لمخاوفه من تدخل الإنجليز، لكن الحقيقة أن ثروت كان رجلاً شجاعاً، وكانت مخاوفه مبنية على حقائق واقعية، وعندما قررنا التحرك نسى كل مخاوفه وكان حاسماً وتصرف بشجاعة تستحق الإعجاب، وعندما أتى اللواء حشمت، إلى القشلاق، قبل تحركنا، أصبح كل شيء مهدداً لولا أن ثروت اندفع نحوه، حاملاً مدفعاً رشاشاً، وألقى القبض عليه.
إنها ليست مسألة سهلة أن يقوم ضابط برتبة صاغ، داخل القشلاق، بالقبض على لواء.
لكن ثروت فعلها وبعدها اكتشف أن مدفعه الرشاش كان خالياً من الطلقات!
ويستطرد خالد محيي الدين:
وفي الساعات الأخيرة من عملية الاستعداد الختامي ذهبت لحسين الشافعي لأبلغه بأن كتيبتي ليس بها ذخيرة كافية، فقد كانت تحت الإنشاء، ولم يكن مع كل عسكري سوى خمسين طلقة. ووعدني حسين الشافعي بأن تصلني ذخيرة كافية قبل تحرك قواتي، وقد أنجز وعده.
حضر أحمد حمروش ليقابل جمال، عصر يوم 22 يوليه، وأبلغه جمال بأن "الضباط الأحرار" سيتحركون الليلة، وطلب منه الاتصال "بالضباط الأحرار" في الإسكندرية بهدف تأمين المنطقة هناك، وكنا نستشعر خطراً من وجود الملك هناك، ومعه قوات من الحرس الملكي، وخشينا من أن يجمع حوله قوات أخرى ليتقوى بها كما فعل الخديوي توفيق إبان الثورة العرابية.
ولابد أن نتساءل:
لماذا اختار جمال عبدالناصر حمروش بالذات؟ ولعل الإجابة الأكثر منطقية هي أن جمال عبد الناصر قد أراد أن يبلغ "حدتو" بموعد الحركة، كما أبلغ الإخوان، ليضمن إمكانية مساندتها له. وبالفعل أسرع حمروش إلى أحمد فؤاد، وأسرع الاثنان لمقابلتي، ثم توجه حمروش ليبلغ النبأ إلى الرفيق بدر سكرتير عام "حدتو".
وهكذا أتم جمال عبدالناصر تحصين الحركة سياسياً.
ويستطرد خالد محيي الدين قائلاً:
"وفي الساعة الثامنة، خرجت إلى بيت ثروت عكاشة حيث تناولنا عشاءنا بهدوء.
ونزلنا في التاسعة والنصف، ثروت توجه إلى قواته، واتجهت أنا إلى الكتيبة الميكانيكية، ولأنها كانت كتيبة تحت الإنشاء فقد كان الضابط النوبتجي (باشجاويش) وكنت أنا ضابط عظيم المنطقة.
ناديت الباشجاويش وأعطيته أمراً بإعداد الكتيبة للطوارئ، وتجهيز كل شئ للتحرك في تمام الساعة الثانية عشر، وكان حاضراً معي الملازم وجيه رشدي، وكان من "الضباط الأحرار"، وبدأ وجيه رشدي التفتيش على الجنود، والتأكد من الأسلحة والذخيرة، وكانت مهمته أن يأخذ ثلث القوة ليسد بها الطريق والكوبري، الذي يفصل المستشفي العسكري، عن منطقة كوبري القبة، والحدائق.
ومن هذه المنطقة عبر محمد نجيب، وأنور السادات، بعد حضورهما، لأن هذه المنطقة كانت تمثل نقطة حاكمة في المنطقة العسكرية.
وقبل أن أتحرك بقليل أتاني عثمان فوزي مسرعاً، وقال أن اللواء حشمت قائد اللواء المدرع قد حضر إلى السلاح، وأنه من الضروري أن أتحرك دون انتظار لساعة الصفر.
كان الجنود قد تم إيقاظهم في الساعة العاشرة والنصف وجهزت اللواري والأسلحة والذخيرة، وفيما أشعر بحيرة بسبب نقص الذخيرة، كان حسين الشافعي يحقق وعده لي.. ففي الساعة الحادية عشر تقريباً حضر الضابط ممدوح إسماعيل ومعه الذخيرة المطلوبة، وقال بالإنجليزية حتى لا يفهم الجنود: "اللواء حشمت تم القبض عليه".
وأصدرت الأمر تحرك:
وما أن سمعت صوت الموتورات حتى انتظمت معه دقات قلبي وكأنها تتحرك معه، ومعها دقات قلوب أربعمائة جندي هم قوتي التي أتحرك بها ومن بعيد أتي صوت طلقات رصاص. كان يوسف صديق قد تحرك مبكراً واقتحم مقر قيادة الجيش في كوبري القبة، وألقى القبض على قيادات الجيش المجتمعة هناك.
وتحركت القوة ومعي وجيه رشدي، وانفصلنا عن بعضنا، في شارع الخليفة المأمون، كل في اتجاهه، ووصلت القوة، التي أرأسها، إلى مدخل مصر الجديدة، أمام محطة بنزين "موبيل أويل" بمحاذاة خط المترو لتسد الطريق القادم من مصر الجديدة، الذي يمر أمام نادي سبورتنج، بوحدات الكتيبة الميكانيكية، وعربتين مصفحتين من الآلاي الأول سيارات مصفحة، وفصيلة خيالة.
وبعد وصولها بحوالي نصف ساعة، واستقرار الوضع، وانقطاع المواصلات، وعزل المنطقة العسكرية عن مصر الجديدة، قلت للجنود: أنتم عارفين إحنا بنعمل إيه؟
فأجابوا: إحنا طوارئ يا فندم، قلت: لا، هي حركة عسكرية ضد قادة الجيش، ومن أجل الوطن والشعب.
وتقبل الجنود كلماتي بارتياح، فلقد عملنا نحن "الضباط الأحرار" ولأمد طويل على كسب احترام وحب جنودنا؛ ولهذا أحس جنودي جميعاً أنني بالقطع أقودهم من أجل شيء جيد ومفيد.
وبدأت أحداث الليلة العظيمة:
ويذكر اللواء محمد نجيب: "وعلمت من شقيقي اللواء علي نجيب أن مؤتمراً سوف يعقد في القيادة العامة يحضره اللواء حسين فريد وقادة الأسلحة والخدمات في العاشرة مساء. فأبلغت هذا الخبر إلى عبد الحكيم عامر الذي كانت اتصالاته بي لا تثير الشبهات لأنه من أركان حربي السابقين، وقررت أن يتم اعتقالهم أثناء وجودهم في المؤتمر حقناً للدماء، وأعطيت تعليمات بذلك لعبد الحكيم عامر".
"وكانت خطة العمليات التي وضعها زكريا محيي الدين المدرس بكلية أركان الحرب في ذلك الوقت تقضي بأن أبقى في المنزل حتى تتم التحركات العسكرية ثم أذهب إلى رئاسة أركان الحرب لتولي القيادة لأن اعتقالي أو إثارة الشبهات حولي يفسد الخطة".
"وعند منتصف الليل اتصلت بنا زوجة شقيقي اللواء علي تسأل عنه وتقول إنه ليس من عادته التأخر دون إبلاغها، وطمأنتها قائلاً إني سأبحث عنه.
ولم يكن اللواء علي يعرف شيئاً عن الحركة، ولم أحدثه عنها مطلقاً، رغم ثقتي به، لأني خشيت أن يتعارض ذلك مع واجبه باعتباره قائداً لحامية القاهرة والمسؤول عن الأمن والنظام بها، وإن كنت قد نصحته من طرف خفي بأن يجري تدريبات للجنود على التحرك إلى أماكن مختارة باعتبارنا في حالة طوارئ..
وذلك تسهيلاً لمأمورية الضباط الأحرار في تحريك قواتهم بدلاً من أن يفاجئوهم بالحركة لأول مرة .. لأنهم ربما لو عرفوا أنهم يتحركون لانقلاب لأحجم بعضهم أو أفشى السر".
وبعد دقائق طلبني اللواء علي تليفونياً وكأنما ليستوثق من وجودي أولاً.. ثم أبلغني أن بعض ضباط البوليس قد أبلغوه أن قوات الجيش تتحرك إلى قصر عابدين..
ولكنني طمأنته طالباً منه إلا يثق بهم وأن عليه أن يتحرك بنفسه إلى عابدين للتأكد من صحة ذلك.. وكنت أعرف أن قصر عابدين كان خارج خطة التحركات في هذه الليلة..
ثم أبلغته عن سؤال زوجته عنه".
***********************
[1] كان تنظيم الضباط الأحرار مسيطراً على هذه الكتيبة عن طريق الصاغ صلاح نصر.. وكانت الكتيبة تضم أكبر عدد من الضباط الأحرار وتعتبر القوة الرئيسية التي اعتمد عليها التنظيم في الاستيلاء على السلطة مع كتيبة مدافع الماكينة بقيادة القائمقام يوسف منصور صديق.