قوَاعدُ مَعْرفة البدَع
محمد بن حسين الجيزاني.
قام بنشره:
أبو مهند النجدي.
مع تحيات:
عادل محمد.
مقدمة:
الحمد لله على الإسلام والسنة والعافية؛ فإن سعادة الدنيا والآخرة ونعيمهما مبنيٌّ على هذه الأركان الثلاثة، وما اجتمعن في عبد بوصف الكمال إلا وقد كملت نعمة الله عليه، وإلا فنصيبه من نعمة الله بحسب نصيبه منها [1].
والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد فالناس في تحديد مسمَّى البدعة وضبط معناها فريقان:
فريق بالغ في التبديع، وتساهل في الحكم بالبدعة على كل محدثة أو قضية لم يبلغه دليُلها، وهؤلاء جعلوا باب الابتداع واسعًا وربما أدرجوا تحت مسمّى البدعة شيئًا من الشريعة والسنة.
وفريق تساهل في الأخذ بالبدعة، وتوسَّع في ارتكابها، وهؤلاء جعلوا باب الابتداع ضيقًا، لا يدخل فيه سوى البدع الأمهات، وكبائر المحدثات، وربما وصل الحال بهم إلى إدراج الكثير من البدع والمحدثاث تحت مسمّى الشريعة والسنة.
فانظر رحمك الله كيف أن الفريق الأول وسَّعوا مسمّى البدعة حتى أدخلوا فيه ما ليس منه، وهم في المقابل قَصَروا مسمّى الشريعة على ما عرفوه وألفوه من النوازل والأحكام، حتى أخرجوا من مسمّى الشريعة بعض ما هو منها.
وانظر كيف أن الفريق الآخر ضيَّقوا مسمّى البدعة حتى أخرجوا منه بعض أفراده، وهم في المقابل وسَّعوا مسمّى الشريعة والسنة حتى أدخلوا فيه ما ليس منه.
ومن هنا يتبين لك -أيها الناظر- ما عند كل فريق من الخطأ في ضبط معنى البدعة، وهو الذي أثمر الخطأ في معنى السنة، إذ السنة والبدعة معنيان متقابلان، وعُلم بهذا أن كل فريق آخذ بطرف، مائل به عن الوسط.
وقد أشار ابن تيمية إلى نحو ذلك بقوله:
لكنَّ أعظم المهم في هذا الباب وغيره تمييز السنة من البدعة؛ إذ السنَّة ما أمَر به الشارع، والبدعة ما لم يشرعه من الدين.
فإن هذا الباب كثر فيه اضطرابُ الناس في الأصول والفروع، حيث يزعم كل فريق أنَّ طريقه هو السنة، وطريقَ مخالفه هو البدعة، ثم إنه يحكم على مخالفه بحكم المبتدع، فيقوم من ذلك من الشر ما لا يحصيه إلا الله [2].
وكان الواجب إعطاء البدعة معناها دون إجحاف ولا إسراف.
وإنما يتمهَّد هذا الواجب بوضْع ضوابط جليَّة لمعنى البدعة ورسْمِ معالم بيِّنة لحدودها، وما يدخل فيها وما لا يدخل.
وبهذا يتأتّى الحكم على آحاد البدع وأعيانها، وذلك عندما تردُّ كلُّ بدعة إلى قواعدها الكليَّة.
من هنا تظهر أهمية تحديد القواعد التي تُعرف بها البدع.
ومن جهة أخرى فإنَّ ضبط الأمور المنتشرة المتعددة، وإجمال الأحكام الكثيرة المتفرقة أوعى لحفظها، وأدعى لرسوخها.
والحكيم إذا أراد التعليم لابد له أن يجمع بين بيانين:
إجمالي تتشوَّف إليه النفس.
وتفصيلي تسكن إليه [3].
وبعد إطالة النظر وإمعان الفكر فيما حرَّره أهل العلم في باب البدع والمحدثات [4] اجتمع لديَّ ثلاث وعشرون قاعدة، عليها يقوم الابتداع في الدين، وإليها يؤول الإحداث المشين.
ومن الموافقات اللطيفة أن يوافق عدد هذه القواعد عدد سني البعثة المحمدية ?إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ?.
وقد رأيت أن أجعل بين يديَّ هذه القواعد مدخلين: أولهما في حد البدعة، وثانيهما في الأصول الجامعة للابتداع.
المدخل الأول في حد البدعة:
وفيه ثمان مسائل:
1. معنى البدعة في اللغة.
2. معنى البدعة في الشرع.
3. موازنة بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي.
4. العلاقة بين الابتداع والإحداث.
5. العلاقة بين البدعة والسنة.
6. العلاقة بين البدعة والمعصية.
7. العلاقة بين البدعة والمصلحة المرسلة.
8. خصائص البدعة.
المدخل الثاني في الأصول الجامع للابتداع:
وفيه تفصيل الكلام على الأصول الجامعة للابتداع، وهي ثلاثة:
*الأصل الأول: التقرب إلى الله بما لم يشرع.
* الأصل الثاني: الخروج على نظام الدين.
* الأصل الثالث: الذرائع المفضية إلى البدعة.
أما موضوع هذا الكتاب وعمود فسطاطه وهو بيان القواعد التي تُعرف بها البدع فقد قسَّمته إلى ثلاثة أقسام؛ بناء على أن هذه القواعد -وعددها ثلاث وعشرون- راجعة إلى أصول ثلاثة، وذلك على النحو التالي:
الأصل الأول: التقرب إلى الله بما لم يشرع.
وتحته عشر قواعد:
1- العبادة المستندة إلى حديث مكذوب.
2- العبادة المستندة إلى الهوى والرأي المجرد.
3- العبادة المخالفة للسنة التركية.
4- العبادة المخالفة لعمل السلف.
5- العبادة المخالفة لقواعد الشريعة.
6- التقرب إلى الله بالعادات والمباحات.
7- التقرب إلى الله بالمعاصي.
8- إطلاق العبادة المقيدة.
9- تقييد العبادة المطلقة.
10- الغلو في العبادة.
الأصل الثاني: الخروج على نظام الدين.
وتحته ثمان قواعد:
11- ما كان من الاعتقادات والآراء معارضًا لنصوص الوحي.
12- ما لم يرد في الوحي ولم يؤثر عن الصحابة والتابعين من اعتقادات.
13- الخصومة والجدال في الدين.
14- الإلزام بشيء من العادات والمعاملات.
15- أن يحصل بفعل العادة أو المعاملة تغييرٌ للأوضاع الشرعية الثابتة.
16- مشابهة الكافرين في خصائصهم.
17- مشابهة الكافرين في محدثاتهم.
18- الإتيان بشيء من أعمال الجاهلية.
الأصل الثالث: الذرائع المفضية إلى البدعة.
وتحته خمس قواعد:
19- أن يفعل ما هو مطلوب شرعًا على وجه يُوهم خلاف ما هو عليه في الحقيقة.
20- أن يفعل ما هو جائز شرعًا على وجه يُعتقد فيه أنه مطلوب شرعًا.
21- أن يعمل بالمعصية العلماء وتظهر من جهتهم، بحيث يعتقد العامة أن هذه المعصية من الدين.
22- أن يعمل بالمعصية العوام وتشيع فيهم، ولا ينكرها العلماء وهم قادرون على الإنكار، بحيث يعتقد العامة أن هذه المعصية مما لا بأس به.
23- ما يترتب على فعل البدع المحدثة من الأعمال.
ثم ذيَّلت هذه القواعد بخاتمة تضمنت عرضًا مجملاً لهذه القواعد، وبيان مجالات البدعة.
هذه جملة موضوعات الكتاب.
والمقصود من جمع هذه القواعد وترتبيها أن يستبين طريق الضلالة والابتداع، وأن يرفع الالتباس الناشئ بين السنن والبدع.
وهما أمران لا ثالث لهما: إتباع السنة، وإتباع الهوى.
فمن أراد إتباع السنة فإنه سيأخذ بجادّة الطريق، وهي: النصوص المُحْكمة وعمل السلف الصالح وسبيلهم.
ومن أراد إتباع هواه فسيسلك لذلك بُنيَّات الطريق، وسيجد هنالك: عمومات، أو قياسًا، أو قول صحابي أو تابعي، أو رأيًا لبعض أهل العلم، جميع هذه في ظاهرها أدلة، وما هي -عند التحقيق- بأدلة.
وكلُّ صاحب مذهب لا يعجزه أن يستدل لمذهبه بدليل شرعي؛ صحَّ أو لم يصح، والحقُّ -يا مبتغيه- إنما يُبتغى في إتباع الدليل الناصع واقتفاء السبيل الواضح، لا في موافقة جمهور الناس ومجاراتهم، والتوسعة عليهم.
واعلم أن المتعرِّض لمثل هذا الأمر -أعني مخالفة جمهور الناس وعوائدهم- ينحو نحو الخليفة الصالح عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى في العمل حيث قال: ألا وإني أُعالج أمرًا لا يعين عليه إلا الله، قد فني عليه الكبير، وكبر عليه الصغير، وفصح عليه الأعجمي، وهاجر عليه الأعرابي حتى حسبوه دينًا لا يرون الحق غيره [5].
أسأل الله جل شأنه أن يرينا الحقَّ حقَّ ويرزقنا إتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
---------------------------
([1]) انظر اجتماع الجيوش الإسلامية (33).
([2]) الاستقامة (1/13).
([3]) انظر المنثور في القواعد للزركشي (1/65، 66).
([4]) من أبرز ما كُتب في هذا الباب وأنفعه:
1. البدع والنهي عنها لابن وضاح القرطبي، المتوفي سنة 276 هـ.
2. الحوادث والبدع للطرطوشي، المتوفي سنة 530 هـ.
3. الباعث على إنكار البدع والحوادث لأبي شامة، المتوفي سنة 665 هـ.
4. اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لتقي الدين ابن تيمية، المتوفي سنة 728هـ.
5. الاعتصام للشاطبي، المتوفي سنة 790هـ.
([5]) انظر الاعتصام (1/32)