حـقـيـقـة الـعـبـوديـة لله..
فضيلة الشيخ/ محمد المحيسني
بسم الله الرحمن الرحيم
أخرج الإمام أحمد بسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا ابْنَ آدَمَ! تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلَأْ صَدْرَكَ غِنًى وَأَسُدَّ فَقْرَكَ، وَإِلَّا تَفْعَلْ مَلَأْتُ صَدْرَكَ شُغْلًا، وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ».. [مسند أحمد (14/321)]
الله سبحانه يطلب منك أيها العبد أن تتفرغ لعبادته، فلذلك خلقت ولم تخلق لغيره..
ولا يغيبن عن البال أن مفهوم العبادة لا يقتصر على مجرد الشعائر التعبدية وحدها، كالصلاة، والصوم، على الرغم من كونها أساسيات لا يكون الدين إلا بها..
فكل الأعمال الظاهرة والباطنة مما يحبه الله ويرضاه عبادة، وكما قال سبحانه: ((قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)) [الأنعام: 162- 163]..
فإذا جعل العبد ربه نصب عينيه في كل ما يتجه إليه.. فلا يرى شيئاً في الحياة إلا ويرى الله أقرب إليه منه..
فإن الله سبحانه يعده بأن يملأ صدره غنى، وأن يسد كل احتياجاته المادية والمعنوية..
والامتلاء الوارد في الحديث هنا للصدر وليس لليد، والفرق بينهما كبير جداً، فمليء الصدر لا يكون إلا سعيداً..
حتى ولو كانت يداه خاليتان من كل شيء، بينما مليء اليد إذا كان صدره فارغاً لا يكون إلا تعيساً شقياً...
وإذا ما تحدثنا عن الفقر والغنى، فإنه ليس بالضرورة أننا نقصد المعنى الضيق لكل من الكلمتين المنحصر في وفرة المال وقلته..
إنما المقصود هو المعنى الأوسع، الذي يشمل كل الجوانب الإنسانية المادية والروحية...
إن السائر مع ربه يعيش حالة من الغنى والهدوء الدائم، أما السائر مع نفسه وحدها فإنه يعيش حالة من الفقر الحقيقي والشقاء السرمدي، حتى ولو حاز كل أموال الدنيا في يده..
لأن اليد لا تقنع أبداً، فلو أعطي ابن آدم وادياً من ذهب لتمنى واديين، ولو أعطي واديين لتمنى ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب..
فإذا قام المسلم بواجبه في حدود استطاعته.. فإن الله سيتكفل برزقه، ويكفيه هم التفكير فيه، ويملأ عليه كل شيء بركة..
وكم غني حياته القلق والشقاء والتعاسة، وكم فقير حياته الهناء والطمأنينة والسعادة...
والخلاصة: أن هم الناس الأكبر في دنياهم رزق وأجل، وكل منهما قد تكفل به صاحب الأمر عز وجل، فلا تغيير فيه بزيادة أو نقص، ولا تبديل بإطالة أو تقصير.. أليس هذا صحيحاً؟!
ومع ذلك فإننا نتصرف مع الرزق والأجل.. وكأنما ذلك الواقع أشبه ما يكون بشيء باطل، وكان كلاً منهما غير صحيح ومقطوع بصحته..
مع أن الحقيقة أن كل ما أراد العبد به وجه الله وقصد التعبد له به، فإن الله يضاعف له فيه، ويجعل فيه البركة والنماء..
بركة في الرزق.. وبركة في العمر، وبركة في كل ما يحيط به...
أما الناس بقضهم وقضيضهم فإنهم أعجز من أن يجلبوا نفعاً أو يدفعوا ضراً.. وهم أفلس من أن يفقروا أحداً أو يغنوه...
وعندما نستحضر هذه المعاني فإنه لزاماً علينا أن نرجع إلى كتاب ربنا، لنجد فيه كثيراً من الآيات الكريمة التي تعبر عن هذه المعاني بطريقة أشمل وأوضح وأكثر عمقاً..
قال تعالى:
((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)) [الذاريات: 56] والمعنى أن كل ما سبق لا يعني إلا شيئاً واحداً: إخلاص العبادة لله وحده بكل معاني الوحدانية.
فالآية بكل ما حوته من أدوات الحصر والقصر تقول: إن الشيء الوحيد المطلوب أداؤه من العباد والذي كان هو الغاية من خلقهم، ما هو إلا العبادة مبنى ومعنى، على اعتبار أن العبادة غير مقصورة على الشعائر، بل شاملة لكل نشاط، الاتجاه فيه إلى الله، والغاية منه طاعة الله..
وكل شيء لذلك المعنى تبع، وكل شيء من الحضارة والرقي والقوة والكشف والاختراع مقطوع بتحققه إذا ما أحسنت عبادة الله..
وكل شيء من المحامد والأمجاد نتائج محققة ومؤكدة إذا صدق العباد في عبادة ربهم جل وعلا..
أما الحقيقة التي ينبغي ألا يغفل عنها إنسان أبداً، فهي أن الله تعالى ليس في حاجة لأن يعبده أحد، فلو أن الأولين والآخرين، والإنس والجن، كانوا على اتقى قلب لما زاد ذلك في ملكه شيئاً..
وكذلك لو أنهم كانوا على أفجر قلب واحد لما نقص ذلك من ملكه شيئاً... فالعباد هم المحتاجون إلى عبادة الله والرجوع إليه..
وذلك هو ما قصده القرآن وقرره، وهو حين يطالبنا بعبادة الله فإنه يبين لنا صفات أولئك العباد، ومواصفات تلك العبادة.. ومن يكون أهلاً ليتصف بصفة العبودية لله رب العالمين..
فمهما أمر به القرآن وأثنى عليه، كان من مواصفات عباد الله.. ومهما نهى عنه وذمه كان مواصفات من هم على الضد من ذلك، المحرومون من ذلك المقام الرفيع.
والحمد لله رب العالمين...
المصدر:
موقع الشيخ/ محمد بن سليمان المحيسني