منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers

(إسلامي.. ثقافي.. اجتماعي.. إعلامي.. علمي.. تاريخي.. دعوي.. تربوي.. طبي.. رياضي.. أدبي..)
 
الرئيسيةالأحداثأحدث الصورالتسجيل
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه) (فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)

IZHAR UL-HAQ

(Truth Revealed) By: Rahmatullah Kairanvi
قال الفيلسوف توماس كارليل في كتابه الأبطال عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد مُتمدين من أبناء هذا العصر؛ أن يُصْغِي إلى ما يظن من أنَّ دِينَ الإسلام كَذِبٌ، وأنَّ مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- خَدَّاعٌ مُزُوِّرٌ، وآنَ لنا أنْ نُحارب ما يُشَاعُ من مثل هذه الأقوال السَّخيفة المُخْجِلَةِ؛ فإنَّ الرِّسَالة التي أدَّاهَا ذلك الرَّسُولُ ما زالت السِّراج المُنير مُدَّةَ اثني عشر قرناً، لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا، خلقهم اللهُ الذي خلقنا، (وقت كتابة الفيلسوف توماس كارليل لهذا الكتاب)، إقرأ بقية كتاب الفيلسوف توماس كارليل عن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، على هذا الرابط: محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.

يقول المستشرق الإسباني جان ليك في كتاب (العرب): "لا يمكن أن توصف حياة محمد بأحسن مما وصفها الله بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين) فكان محمدٌ رحمة حقيقية، وإني أصلي عليه بلهفة وشوق".
فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ على سائر البُلدان، كما فَضَّلَ بعض الناس على بعض والأيام والليالي بعضها على بعض، والفضلُ على ضربين: في دِينٍ أو دُنْيَا، أو فيهما جميعاً، وقد فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ وشَهِدَ لها في كتابهِ بالكَرَمِ وعِظَم المَنزلة وذَكَرَهَا باسمها وخَصَّهَا دُونَ غيرها، وكَرَّرَ ذِكْرَهَا، وأبَانَ فضلها في آياتٍ تُتْلَى من القرآن العظيم.
المهندس حسن فتحي فيلسوف العمارة ومهندس الفقراء: هو معماري مصري بارز، من مواليد مدينة الأسكندرية، وتخرَّجَ من المُهندس خانة بجامعة فؤاد الأول، اشْتُهِرَ بطرازهِ المعماري الفريد الذي استمَدَّ مَصَادِرَهُ مِنَ العِمَارَةِ الريفية النوبية المَبنية بالطوب اللبن، ومن البيوت والقصور بالقاهرة القديمة في العصرين المملوكي والعُثماني.
رُبَّ ضَارَّةٍ نَافِعَةٍ.. فوائدُ فيروس كورونا غير المتوقعة للبشرية أنَّه لم يكن يَخطرُ على بال أحَدِنَا منذ أن ظهر وباء فيروس كورونا المُستجد، أنْ يكونَ لهذه الجائحة فوائدُ وإيجابيات ملموسة أفادَت كوكب الأرض.. فكيف حدث ذلك؟!...
تخليص الإبريز في تلخيص باريز: هو الكتاب الذي ألّفَهُ الشيخ "رفاعة رافع الطهطاوي" رائد التنوير في العصر الحديث كما يُلَقَّب، ويُمَثِّلُ هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث.
الشيخ علي الجرجاوي (رحمه الله) قَامَ برحلةٍ إلى اليابان العام 1906م لحُضُورِ مؤتمر الأديان بطوكيو، الذي دعا إليه الإمبراطور الياباني عُلَمَاءَ الأديان لعرض عقائد دينهم على الشعب الياباني، وقد أنفق على رحلته الشَّاقَّةِ من مَالِهِ الخاص، وكان رُكُوبُ البحر وسيلته؛ مِمَّا أتَاحَ لَهُ مُشَاهَدَةَ العَدِيدِ مِنَ المُدُنِ السَّاحِلِيَّةِ في أنحاء العالم، ويُعَدُّ أوَّلَ دَاعِيَةٍ للإسلام في بلاد اليابان في العصر الحديث.

أحْـلامٌ مِـنْ أبِـي (باراك أوباما) ***

 

 الباب الرابع: العصر الأوربي

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

الباب الرابع: العصر الأوربي Empty
مُساهمةموضوع: الباب الرابع: العصر الأوربي   الباب الرابع: العصر الأوربي Emptyالخميس 09 فبراير 2012, 8:28 am

الباب الرابع: العصر الأوربي

الفصل الأول: أوربا المادية

طبيعة الحضارة الغربية وتاريخها

قبل أن ننظر ماذا أثّر تحول القيادة من الأمم الإسلامية إلى الأمم الأوربية في عقلية العالم وأخلاق الشعوب والأمم والمدنية والاجتماع واتجاهات الإنسانية وميولها، وماذا جنى منه النوع الإنساني، وهل كان ربحه أكثر من خسارته ورزئه أو بالعكس؟..


يجب علينا أن نعرف طبيعة الحضارة الغربية ووضعها وروحها وفلسفة حياة هذه الأمم وكيف نشأت؟

ليست الحضارة الغربية في القرن العشرين المسيحي وليدة هذه القرون المتأخرة التي تلت القرون المظلمة في أوربا أو حديثة كما يتوهم كثير من الناس ، بل يرجع تاريخها إلى آلاف من السنين ، فهي سليلة الحضارة اليونانية الحضارة الرومية قد خلفتهما في تراثهما السياسي والعقلي والمدني ، وورثت عنهما كل ما خلفتا من ممتلكات ونظام سياسي وفلسفة اجتماعية ، وتراث عقلي وعلمي ، وانطبعت فيها ميولهما ونزعاتهما وخصائصهما.


بل انحدرت إليها في الدم ، فقد كانت الحضارة اليونانية أول مظهر رائع – حفظه لنا التاريخ – للعقلية الأوربية .


وأول حضارة – سجلها التاريخ – قامت على أساس الفلسفة الأوربية تجلت فيها النفسية الأوربية ، وعلى أنقاضها قام صرح الحضارة الرومية تحمل روحاً واحدة هي الروح الأوربية ، وظلت الشعوب الأوربية طيلة قرون محتفظة بخصائصها وطبيعتها ، وارثة لفلسفتها وعلومها وآدابها وأفكارها ، حتى برزت بها في القرن التاسع عشر في ثوب برّاق يوهمك – بطلاوته وزهو ألوانه – أنه جديد النسج ولكن لحمته وسداه من نسج اليونان والرومان .


إذاً يحسن بنا أن نتعرف بالحضارة اليونانية والرومية أولاً وأن نعرف طبائعهما وروحهما ، حتى نكون على بصيرة في انتقاد الحضارة الغربية والحكم عليها في القرن العشرين.


خصائص الحضارة الإغريقية  :

اليونان أمة موهوبة ، من أنجب أمم العالم وأذكاها وأكثرها استعداداً للعلم والأدب ، ومن أخصبها أذهاناً وعقولاً ، وقد مثلت في العالم دوراً خالداً بفلسفتها وأدبها ووفرة من نبغ فيها من العلماء والحكماء والعبقريين تزهو بآثارهم مكتبات العالم .


والذي يعنينا الآن هو أن نعرف طبيعة الحضارة التي أنشأوها ، فإذا نظرنا فيها نظرة تحليل وانتقاد وصرفنا النظر عما تشترك فيه مع الحضارات من مظاهر وظواهر وبحثنا عن طبيعتها وخصائصها وجدنا من المزايا التي تمتاز بها عن المدنيات الأخرى – خصوصاً المدنيات الشرقية – ما يلي :

(1) الإيمان بالمحسوس وقلة التقدير لما لا يقع تحت الحس .


(2) قلة الدين والخشوع .


(3) شدة الاعتداد بالحياة والاهتمام الزائد بمنافعها ولذائذها .


(4) النزعة الوطنية .


ويمكن أن نحصر هذه المظاهر المتشتتة في كلمة مفردة هي (( المادية )) فكانت الحضارة اليونانية شعارها (( المادية )) وهي التي ينم بها كل ما يتصل باليونان من ثقافة وعلم وفلسفة وشعر ودين ، فلم يستطيعوا أن يتصوروا صفات الله وقدرته إلا في شكل آلهة نحتوا لها تماثيل وبنوا لها معابد وهياكل ، فللرزق إله وللرحمة إله ، وللقهر إله ، ثم نسبوا إليها كل ما يختص بالجسم المادية ونسجوا حولها من أساطير وخرافات ، وصوروا المعاني المجردة وتصوروها في أجسام وأشكال ؛ فللحب إله وللجمال إله ، وليس نظام العقول العشرة والأفلاك التسعة في فلسفة أرسطاطاليس  إلا رشحه من رشحات هذه المادية التي تتخلى عنها الطبيعة اليونانية .


وقد سلم العلماء الأوربيون بغلبة المادية في الحضارة اليونانية ، ونوهوا بها في كتبهم وبحوثهم العلمية ، وقد ألقى العالم الألماني الدكتور (( هاس )) ( Haas ) ثلاث محاضرات في جنيف عنوانها (( ما هي المدنية الأوربية؟ )) وهو من العلماء الذين يرون أن المدنية الغربية لم تتأثر بالشرق ، وأنها مدينة مفردة ممتازة ، ونلخص هنا كلامه فيما نحن بصدده:

(( المدنية اليونانية هي مركز المدينة الغربية الحاضرة ، وكان المهم عند رجالها نشوء قوى الإنسان نشوءاً مناسباً وكان المثل الكامل عندهم الجسم الجميل المتناسب ، وليس هذا إلا اعتداداً بالمحسوسات اعتداداً كبيراً ، وكان أكبر عنايتهم بالرياضة البدنية والألعاب الرياضية والرقص وغيره ، وكان التثقيف الذهني الذي يحتوي على الشعر والغناء والتمثيل والفلسفة وعلوم الطبيعة لا يتجاوز حداً خاصاً حتى لا يكون ارتقاء الذهن على حساب الجسم ، وكان الدين خلواً من الروحانية المعنوية ؛ لم يكن فيه علم الدين ولا طبقة رجال الدين . أما اللون الروحي الذي في تقاليد (( أزفس )) وغيرها فإنما هو مستعار من الشرق ولا يصح أن ينسب إلى المدينة اليونانية )) .


ولاحظ كثير من العلماء الأوربيين رقة الدين في اليونان وقلة الخشوع والجد في أعمالهم وكثرة اللهو والطرب في حياتهم .


يقول ليكي في كتابه (( تاريخ أخلاق أوربا )) :

(( إن الحركة اليونانية كانت عقلية وذهنية محضة ، وكانت الحركة المصرية بالعكس من الأولى ، روحية باطنية .


وينقل (( أبوليس )) المؤلف الرومي قوله : (( إن المصريين كانوا يعظمون آلهتهم بالتضرع والبكاء ، وكان اليونانيون يعظمون آلهتهم بالرقص والغناء )) ويعلق عليه بقوله : (( لا ريب أن التاريخ اليوناني يصدق ذلك ويؤيده ، فلا نعلم ديناً من الأديان يزاحم دين اليونان وتقاليده في كثرة الأفراح والأعياد والألعاب وفي قلبه الخشية والخشوع ، فلم يكن اليونان يعظمون الله تعالى إلى كما يعظمون شيوخهم وعظماءهم ، وكانوا يكتفون في تعظيمه وتمجيده برسوم عادية وتقاليد جارية )) .


وكان لليونان فلسفة إلهية وعقائد يستغرب معها الخشوع لله وعبادته والتضرع له والالتجاء إليه والاطراح على عتبته ، فإن من ينفي الصفات عن الله تعالى ويعطله وينفي عنه الاختيار والأفعال والخلق والأمر في هذا الكون ، ويربط هذا العالم بما يسمونه (( العقل الفعال وحركات الأفلاك )) فإنه بطبيعة هذه العقيدة لا يقصد الله في حياته العملية إلا تقليداً ، ولا يرجوه ولا يهابه ولا يحبه ولا يخر لعظمته ، ولا يستغيث به في شدته ولا يسبح بحمده ويعيش كأنه إله ولا رب؛ فإذا سمعنا أن اليونان لم يكونوا خاشعين لله وكانت عبادتهم وأعمالهم الدينية أجساداً بغير أرواح، وأنهم كانوا يعظمون الله كما كانوا يعظمون شيوخهم وكبارهم لم نستغربه البتة، وإنما نتعجب إذا سمعنا عكس ذلك.


وقد أثرت شدة الاعتداد بالحياة الدنيا والمبالغة في قيمتها، وكذلك الولوع بالتماثيل والصور والغناء والموسيقى التي يسميها اليونان الفنون الجميلة ولهج الأدباء والمؤلفين بالحرية الشخصية التي لا تعرف قيداً ولا تقف عند حد تأثيراً سيئاً في أخلاق اليونان ومجتمعها ، فانتشرت الفوضى في الأخلاق وحدثت ثورة على كل نظام ، وأصبح شعار الرجل الجمهوري (وهو كناية عن الحر والمتنور) الجري وراء الشهوات العاجلة ، وانتهاب المسرات ، والتهام الحياة التهام الجائع النهم.


يصف سقراط – كما ينقل عنه أفلاطون في كتابه (( المملكة )) – الرجل الجمهوري فكأنما يصف ناقد من نقاد هذا القرن فتى القرن العشرين في إحدى عواصم المدينة الغربية:

(( إذا قيل له: إن بعض المسرات من الرغبات التي هي طيبة وتستحق الاحترام وبعضها من الشهوات التي هي قبيحة ، وإن الأولى ينبغي أن يعمل بمقتضاها وتحترم والأخرى مما ينبغي أن يمنع عنها ويقام عليها الحجر ، لم يقبل هذا الرجل هذا القانون الصحيح ولا يسمح بسماعه؛ فإذا عرضت عليه هذه الحقائق أنغض إليك رأسه مستهزئاً وأكد أن جميع الشهوات سواء وتستحق الاحترام بغير فرق بينها، وهكذا يعيش ويقضي أيامه مرضياً شهواته التي تعتريه أحياناً ، ذات يوم تراه سكران ثملا مصغياً إلى الغناء ، وفي يوم آخر تراه صائماً يجتزئ بالماء ، وتارة يدخل في التربية والتمرين، وأخرى تراه كسلان عاطلاً يهمل كل شيء ومرة تراه يعيش عيش فيلسوف، وأحياناً يدخل في السياسة وينهض ويخطب بمقتضى الوقت ، ربما يمدح بعض رجال الحرب والجندية ويميل إليهم أو يشرع في التجارة لأنه يغبط التاجر الرابح ، ليس لحياته نظام ولا ضبط ولكنه يعد هذه الحياة هنيئة ناعمة سارة ويواصلها إلى النهاية )).


أما الوطنية فهي من لوازم الطبيعة الأوربية ، وهي أظهر وأقوى في أوربا منها في آسيا ، وقد أغرى بذلك الطبيعة الجغرافية وأوحته ، لأن المناطق الطبيعية في آسيا واسعة جداً وتشمل على مناخات وعلى أجيال وأنواع كثيرة للبشر، وهي غنية مخصبة في وسائل المعيشة؛ فالمملكة في القارة الآسيوية تجنح بحكم الطبيعة إلى السعة والعموم ، وظهرت في أرضها وازدهرت أوسع ممالك عرفها التاريخ ، أما في أوربا فالتنازع على البقاء فيها شديد، والكفاح للحياة دائم مستمر ، لتزاحم العمران وضيق المناطق وقلة وسائل المعيشة، وقد حصرت الجبال والأنهار الأجناس الأوربية، في نطاق طبعي دائم، وبالأخص الجزء الأوسط الغربي والجزء الجنوبي من أوربا، لا يسمح لممالك واسعة عظيمة، وقد شاءت طبيعة هذه القارة أن تكون منشأ لممالك ضيقة صغيرة ، لذلك كان التصور السياسي في أوربا في القديم لا يكاد يجاوز ممالك بلدية لا تزيد منطقتها على أميال مستقلة استقلالاً تاماً ، وأكبر مظهر لهذا التصور أرض يونان حيث وجدت من فجر التاريخ عشرات من مدن صغيرة مستقلة .


فلا عجب إذا كان اليونان يدينون بالوطنية وينتحلونها ، وقد سلم (( ليكي )) أن الفكرة الوطنية هي الفكرة السائدة في اليونان ، وكانت الفكرة العالمية التي قد نطق بها بعض حكمائهم كسقراط وانكساغورس شاذة لم تنل أنصاراً وانتصاراً في يونان، فكان نظام أرسطاطاليس الأخلاقي مبنياً على التمييز بين اليوناني وغير اليوناني، وكان حب الوطن يتقدم فضائل الأخلاق التي أجمع عليها حكماء اليونان، وأن أرسطاطاليس لم يكتف بحب وطنه والولاء له فحسب؛ بل قال: إن اليونانيين ينبغي لهم أن يعاملوا الأجانب بما يعاملون به البهائم؛ وقد راجت هذه الفكرة الوطنية الضيقة في الأوساط اليونانية وتغلغلت في الأحشاء، حتى لما قال فيلسوف إنه لا يخص مواطنيه بمواساته بل سيكون بره عاماً لجميع اليونانيين استشرفه الناس عجباً ونظروا إليه شزراً .


خصائص الحضارة الرومية :

خلف اليونان الروم وفاقوهم في القوة والتنظيم للمملكة واتساع الدولة وصفات الجندية ، ولكن لم يلحقوا بهم بعد في العلم والفلسفة والآداب والشعر والتهذيب واللباقة والمدنية التي كان للإغريق فيها فضل وتقدم على جميع الأمم المعاصرة وعلى الروم أيضاً الذين كانوا لا يزالون في دورهم العسكري ، فخضعوا لهم علمياً وتطفلوا على مائدتهم واقتبسوا من علومهم وفلسفتهم وأفكارهم .


يقول ليكي :

(( إن اليونان كانت لهم ثروة علمية ضخمة أنتجوها وزادوا فيها على مر القرون والعصور ، وكانت رومة لا تزال في طورها الجندي لا تملك أثراً من الآثار الأدبية ، بل كانت لغتها قاصرة في التعبير عن الأفكار والمعاني العالية ، فغُلب الروم بتخلفهم وقصورهم في العلم ، وانقلبوا صاغرين للمدنية اليونانية التي غُلب أهلها في السياسة ، ولم يزالوا مأخوذين بسحرهم في كل قسم من أقسام العلم ، فكان المؤرخون الأقدمون في الروم يؤلفون كتبهم باليونانية ، واستمرت اليونانية لغة التأليف والعلم بعد ما بدأ شعراء الروم ينظمون الشعر في اللاتينية )) .


ولم يكن هذا الخضوع خاصاً في عالم التأليف والأدب فحسب ، بل غلبت المدنية الإغريقية المدنية الرومية في الأخلاق والسجايا والعشرة والاجتماع وفي العواطف والنزعات ، وفي كل ناحية من نواحي الحياة العامة ، وأصبح الروم يقلدون الإغريق ويتنبلون بذلك ويتظرفون .


وهكذا انتقلت الفلسفة اليونانية والثقافة اليونانية ، بل النفسية اليونانية إلى الروم ، وجرت منهم مجرى الروح والدم ، ولم يكن الروم – بطبيعتهم الأوروبية – يختلفون عن اليونان في الخصائص الفطرية كثيراً ، بل هناك شبه عظيم بين الأمتين ، إيمان بالمحسوس وغلو في تقدير الحياة وشك في دين ، وضعف في يقين ، واضطراب في العقيدة ، واستخفاف بالنظام الديني وطقوسه ، واعتزاز بالقومية وتعصب لها ، وحب مفرط للوطن .


زد إلى ذلك كله اعتداداً بالقوة واحتراماً زائداً لها يبلغ العبادة والتقديس .
يظهر من التاريخ أنه لم يكن للرومان إيمان راسخ في دينهم ، وإني أعذرهم في ذلك ، فإن النظام الديني الوثني الخرافي الذي كان سائداً في رومية يقتضي بطبيعته الشك والاضطراب وضعف الإيمان ، فكلما تقدموا في العلم وتنورت أفكارهم ، ازدادوا استخفافاً به ، وقد قضوا من أول يوم أن الآلهة لا يدخل لهم في السياسة وأمور الدنيا .


يقول ( سيسرو Cicero ) :

لما كان الممثلون ينشدون في دور التمثيل أبياتاً معناها أن الآلهة لا دخل لها في أمور الدنيا يصغي إليها الناس ويسمعونها بكل رغبة .


ويقول الراهب ( أغستين Auguostine ) :

(( إن الروم الوثنيين كانوا يعبدون آلهتهم في المعابد ويهزأون بهم في دور التمثيل )) وقد فقد الدين الرومي سلطانه الروحي على معتنقيه ، وبردت العاطفة الدينية في قلوب الناس حتى تجرأ الناس على الآلهة وأهانوها في بعض الأحيان ، فإن التاريخ يحدثنا أنه لما غرق أسطول للأمبراطور أغسطس Augustus استشاط غضباً ، وحطم تمثال نيبتون Neptone إله البحر ، ولما مات جرمينيكس Germanicus رجم الناس أنصاب الآلهة (التي كانوا يذبحون عليها ) (198).


فلم يكن للدين تأثير في أخلاق الأمة وسياستها ومجتمعها ، ولم يكن يملك عليهم شعورهم وميولهم ويراقب عليهم أخلاقهم ونزعاتهم ، ولم يكن ديناً عميقاً يحكم على الروح وينبعث من أعماق القلب ، بل كان تقليداً من التقاليد ، كانت السياسة تقتضي البقاء عليه ولو بالاسم والرسم .


يقول ليكي :

(( إن الدين الرومي كان أساسه على الأثرة ، ولم يكن يرمي إلا إلى رفاهة الأفراد وسلامتهم من المصائب والمتاعب ؛ والشاهد على ذلك أنه ظهر في رومية مئات من الأبطال والعظماء ، ولكن لم ينهض فيها زاهد في الدنيا عزوف عن ملذات الحياة ، ولا تسمع مثالاً في تاريخ الروم للتضحية والإيثار إلا وتجده لا تأثير فيه للدين ولكن مبنياً على الوطنية (199) )) .


والظاهرة التي يمتاز بها الروم من بين أمم الأرض المعاصرة بل بعدها ، والتي أصبحت لها ديناً تدين به وشعاراً تعرف به هي روح الاستعمار والنظر المادي البحت إلى الحياة . وذلك ما ورثته أوربا المعاصرة عن سلفها الروميين وخلفتهم فيه .


وقد أجاد وصفه العالم الألماني المسلم الأستاذ محمد أسد في كتابه النفيس الإسلام على مفترق الطرق ))، قال:

(( إن الفكرة التي كانت تسيطر على الإمبراطورية الرومانية هي احتكار القوة لها واستغلال الأمم الأخرى لمصلحة الوطن الرومي فقط ، لم يكن رجالها والقائمون عليها يتحاشون من أي ظلم وقسوة في سبيل حصول خفض العيش لطبقة ممتازة .


أما ما اشتهر من عدل الروم فلم يكن إلا للروم فقط ، إن هذه السيرة لا يمكن أن تقوم إلا على إدراك مادي محض للحياة والحضارة ، وإن كانت ماديتهم قد هذبت بذوق عقلي ولكنها بعيدة عن جميع القيم الروحية ، إن الروم لم يدينوا بالدين جدياً أبداً ، كانت آلهتهم التقليدية محاكاة شاحبة لأساطير الإغريق وخرافاتهم، وقد آمنوا بهذه الأرواح محافظة على الرابطة الاجتماعية التي كانت تربطهم وتوحدهم ، فلم يكونوا يسمحون لهذه الآلهة بالتدخل في حياتهم العملية ، كان لها أن يأذنوا أن تتكهن بالغيب – إذا سئلت عن ذلك – على لسان الكهان ولكن لم يحلوا لها أبداً أن تفترض شرائع أخلاقية على الناس (200) ))


الانحطاط الخلقي في الجمهورية الرومية :

وفي نهاية دور الجمهورية سال بالروم سيل الانحطاط الخلقي والبهيمية ، وفاض بحر الترف في العيش والبذخ فيضاناً عظيماً – غاص الروم فيه إلى القاع وسالت فيه النظم الأخلاقية التي كانت الروم معروفين بها كالغناء ، وتزعزع البناء الاجتماعي حتى كاد ينهدم.


وقد صوره ((درابر )) الأمريكي بقلمه البليغ :

(( لما بلغت الدولة الرومية في القوة الحربية والنفوذ السياسي أوجها، ووصلت في الحضارة إلى أقصى الدرجات هبطت في فساد الأخلاق وفي الانحطاط في الدين والتهذيب إلى أسفل الدركات.


بطر الرومان معيشتهم وأخلدوا إلى الأرض واستهتروا استهتاراً ، وكان مبدؤهم, أن الحياة إنما هي فرصة للتمتع، ينتقل فيها الإنسان من نعيم إلى ترف ومن لهو إلى لذة، ولم يكن زهدهم وصومهم في بعض الأحيان إلا ليبعث على شهوة الطعام ، ولم يكن اعتدالهم إلا ليطول به عمر اللذة ، كانت موائدهم تزهو بأواني الذهب والفضة مرصعة بالجواهر ، ويحف بهم خدام في ملابس جميلة خلابة وغادات رومية حسان وغوان عاريات كاسيات غير متعففات تدل دلالاً ، ويزيد في نعيمهم حمامات باذخة وميادين للهو واسعة ومصارع يتصارع فيها الأبطال مع الأبطال أو مع السباع ، ولا يزالون يصارعون حتى يخر الواحد منهم صريعاً يتشحط في دمه ، وقد أدرك هؤلاء الفاتحون الذين دوخوا العالم أنه إن كان هنالك شيء يستحق العبادة فهو القوة ، لأنه بها يقدر الإنسان أن ينال الثروة التي يجمعها أصحابها بعرق الجبين وكد اليمين ، وإذا غلب الإنسان في ساحة القتال بقوة ساعده فحينئذ يمكن له أن يصادر الأموال والأملاك ويعين إيرادات الإقطاع ، وإن رأس الدولة الرومية هو رمز لهذه القوة القاهرة فكان نظام رومة المدني يشف عن أبهة الملك، ولكنه كان طلاء خداعاً كالذي نراه في حضارة اليونان في عهد انحطاطها (201))).

يتبع إن شاء الله...



الباب الرابع: العصر الأوربي 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 03 مايو 2021, 9:51 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

الباب الرابع: العصر الأوربي Empty
مُساهمةموضوع: رد: الباب الرابع: العصر الأوربي   الباب الرابع: العصر الأوربي Emptyالخميس 09 فبراير 2012, 8:36 am

تنصر الروم:

وها هنا حادثة عظيمة يجب أن يسجلها المؤرخ وينوه بها، وهي اعتلاء عرش رومة الوثنية، وكان ذلك بجلوس قسطنطين الذي اعتنق النصرانية على سرير الأباطرة سنة 305م فانتصرت فيه النصرانية على الوثنية ونالت فجأة ما لم تكن تحلم به من ملك عريض ودولة مترامية الأطراف وكلمة لا تعلوها كلمة.


ولما كان قسطنطين إنما توصل إلى الملك على جسر من أشلاء النصارى وأنهار من دمائهم التي أريقت في الذب عنه والنصر له، عرف لهم الجميل وبذل لهم وجهه، ووطأ لهم أكنافه وقلدهم مفاتيح ملكه.
     

خسارة النصرانية في دولتها:

ولكن انتصر النصارى في ساحة القتال وانهزموا في معترك الأديان، ربحوا ملكاً عظيماً وخسروا ديناً جليلاً، لأن الوثنية الرومية مسخت دين المسيح ومسخه أهله، وكان أكثر مسخاً له وتحريفاً هو قسطنطين الكبير حامي ذمار النصرانية ورافع لوائها.  


يقول ((درابر)):

((دخلت الوثنية والشرك في النصرانية بتأثير المنافقين الذين تقلدوا وظائف خطيرة ومناصب عالية في الدولة الرومية بتظاهرهم بالنصرانية، ولم يكونوا يحتفلون بأمر الدين، ولم يخلصوا له يوماً من الأيام، وكذلك كان قسطنطين فقد قضى عمره في الظلم والفجور، ولم يتقيد بأوامر الكنيسة الدينية إلا قليلاً في آخر عمره (337 م).


 
أن الجماعة النصرانية وأن كانت قد بلغت من القوة بحيث ولَّت فسطنطين الملك ولكنها لم تتمكن من أن تقطع دابر الوثنية وتقتلع جرثومتها ، وكان نتيجة كفاحها أن اختلطت مبادئها ، ونشأ من ذلك دين جديد تتجلى فيه النصرانية والوثنية سواء بسواء – هنالك يختلف الإسلام عن النصرانية، إذ قضى الإسلام على منافسه (الوثنية) قضاء باتاً، ونشر عقائده خالصة بغير غش.    


وإن هذا الإمبراطور الذي كان عبداً للدنيا والذي لم تكن عقائده الدينية تساوي شيئاً رأى لمصلحته الشخصية والمصلحة الحزبين المتنافسين- النصراني والوثني- أن يوحدهما ويؤلف بينهما ، حتى إن النصارى الراسخين أيضاً لم ينكروا عليه هذه الخطة، ولعلهم كانوا يعتقدون أن الديانة الجديدة ستزدهر إذا طمست ولقحت بالعقائد الوثنية القديمة ، وسيخلص الدين النصراني عاقبة الأمر من أدناس الوثنية وأرجاسها )).


الرهبانية العاتية:

فلم تستطع هذه النصرانية الملقحة بالوثنية المشوهة التي فقدت روحها وجمالها أن تغير من سيرة الروم المنحطة وأن تبعث فيهم حياة جديدة ، حياة دينية نقية طاهرة وأن تفتح عهداً زاهراً في تاريخ الروم، بل إنها ابتدعت رهبانية لعلها كانت شراً على الإنسانية والمدنية من بهيمية رومة الوثنية، وقد جن جنون هذه الرهبانية في العالم النصراني وتخطى حدود القياس ، وإنا نلتقط أمثلة من كتاب تاريخ أخلاق أوربا وهو قليل من كثير جداً :

(( زاد عدد الرهبان زيادة عظيمة ، وعظم شأنهم واستفحل أمرهم واسترعوا الأنظار وشغلوا الناس ، ولا يمكن الآن إحصاؤهم بالدقة ، ولكن مما يلقي الضوء على كثرتهم وانتشار الحركة الرهبانية ما روى المؤرخون أنه كان يجتمع أيام عيد الفصح خمسون ألفاً من الرهبان ، وفي القرن الرابع المسيحي كان راهب واحد يشرف على خمسة آلاف راهب ، وكان الراهب (( سرابين )) يرأس عشرة آلاف ، وقد بلغ عدهم في نهاية القرن الرابع عدد أهل مصر )) .


عجائب الرهبان:

ظل تعذيب الجسم مثلاً كاملاً في الدين والأخلاق إلى قرنين، وروى المؤرخون من ذلك عجائب ، فحدثوا عن الراهب ماكاريوس ( Makarius ) أنه نام ستة أشهر في مستنقع ليقرص جسمه العاري ذباب سام، وكان يحمل دائماً نحو قنطار من حديد، وكان صاحبه الراهب يوسيبيس ( Eusebius ) يحمل نحو قنطارين من حديد، وقد أقام ثلاثة أعوام في بئر نزح، وقد عبد الراهب يوحنا (St. Jhon) ثلاث سنين قائماً على رجل واحدة ولم ينم ولم يقعد طول هذه المدة، فإذا تعب جداً أسند ظهره إلى صخرة، وكان بعض الرهبان لا يكتسون دائماً، وإنما يتسترون بشعرهم الطويل ويمشون على أيديهم وأرجلهم كالأنعام.


وكان أكثرهم يسكنون في مغارات السباع والآبار النازحة والمقابر ، ويأكل كثير من الكلأ والحشيش ، وكانوا يعدون طهارة الجسم منافية لنقاء الروح ويتأثمون عن غسل الأعضاء ، وأزهد الناس عندهم وأتقاهم أبعدهم عن الطهارة وأوغلهم في النجاسات والدنس.


يقول الراهب اتهينس: إن الراهب أنتوني لم يقترف إثم غسل الرجلين طول عمره ، وكان الراهب أبراهام لم يمس وجهه ولا رجله الماء خمسين سنة ؛ وقد قال الراهب الإسكندري بعد زمن متلهفاً: واأسفاه! لقد كنا في زمن نعد غسل الوجه حراماً فإذا بنا الآن ندخل الحمامات، وكان الرهبان يتجولون في البلاد ويختطفون الأطفال ويهربونهم إلى الصحراء والأديار وينتزعون الصبيان من حجور أمهاتهم ويربونهم تربية رهبانية والحكومة لا تملك من الأمر شيئاً، والجمهور والدهماء يؤيدونهم ويحبذون الذين يهجرون آباءهم وأمهاتهم ويختارون الرهبانية ويهتفون باسمهم، وعرف كبار الرهبان ومشاهير التاريخ النصراني بالمهارة في التهريب، حتى روي أن الأمهات كن يسترن أولادهن في البيوت إذا رأين الراهب أمبروز ( Ambrose ) وأصبح الآباء والأولياء لا يملكون من أولادهم شيئاً وانتقل نفوذهم وولايتهم إلى الرهبان والقسوس (202) .


تأثير الرهبانية في أخلاق الأوربيين:

كان نتيجة هذه الرهبانية أن خلال الفتوة والمروءة التي كانت تعد فضائل، عادت فاستحالت عيوباً ورذائل، وزهد الناس في البشاشة وخفة الروح والصراحة والسماحة والشجاعة والجرأة وهجروها، وكان من أهم نتائجها أن تزلزلت دعائم الحياة المنزلية، وعم الكنود والقسوة على الأقارب، فكان الرهبان الذين تفيض قلوبهم حناناً ورحمة، وعيونهم من الدمع، تقسو قلوبهم وتجمد عيونهم على الآباء والأمهات والأولاد، فيخلفون الأمهات ثكالى والأزواج أيامى والأولاد يتامى، عالة يتكففون الناس، ويتوجهون قاصدين الصحراء .


همهم الوحيد أن ينقذوا أنفسهم في الآخرة لا يبالون ماتوا أو عاشوا، وحكى (( ليكي )) من ذلك حكايات تدمع العين وتحزن القلب (203).


وكانوا يفرون من ظل النساء ويتأثمون من قربهن والاجتماع بهن ، وكانوا يعتقدون أن مصادفتهن في الطريق والتحدث إليهن ولو كن أمهات وأزواجاً أو شقيقات تحبط أعمالهم وجهودهم الروحية. وروى (( ليكي )) من هذه المضحكات المبكيات شيئاً كثيراً .


عجز الرهبانية عن تعديل المادية الجامحة :

ولا يتوهم أحد أن هذه الرهبانية الغالية قد عدلت من شره المادية الرومية ، وكبحت من جماحها وغلوائها في البهيمية والشهوات، فإن هذا لم يكن ولا يكون في الغالب وتأباه الفطرة الإنسانية ويكذبه التاريخ؛ فإن الذي يوجد الاعتدال ويخفض من المادية الجامحة ويجعل منها حياة معتدلة هو النظام الروحي الديني الخلقي الحكيم الذي يوافق الفطرة الإنسانية الصحيحة، والذي لا يتصدى لأن يزيل الفطرة الإنسانية، بل يوجهها توجيهاً نافعاً ، فإنها لا تزول ولكن تميل من شر إلى خير؛ وهكذا فعل الإسلام، وهكذا فعل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، فقد صرف شجاعة العرب من المنافسات القبلية والتقاتل وأخذ الثأر والأحقاد القديمة إلى الجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمة الله، وصرف تبذيرهم وسماحتهم إلى الإنفاق في سبيل الله ، وشغلهم عن الجاهلية بالدين الإسلامي ، وأبدل الشيء بالشيء ، وأعطى النفس حقها من النشاط والترويح ، فإن النفوس كما قال عالم من علماء المسلمين لا تترك شيئاً إلا بشيء، وإن النفوس قد خُلقت لتعمل لا لتترك (204)، وإن الأنبياء قد بعثوا بتكميل الفطرة وتكريرها لا بتبديلها وتغييرها (205).


قدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: ما هذان اليومان؟ قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما، يوم الأضحى ويوم الفطر (206)، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث قالت: وليستا بمغنيتين، فقال أبو بكر: أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وذلك يوم عيد, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر، إن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا. وفي رواية أنه قال: دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد (207).


أما النصرانية الرومية فقد حاولت عبثاً تغيير الفطرة وإزالتها وجاءت بنظام لا تطيقه الفطرة الإنسانية ولا تسيغه.

وحملت النفوس ما لا طاقة لها به فرغبت فيه كرد فعل ضد المادية الطاغية واحتملته كارهة ، ثم تخلصت منه وثارت عليه ولم تقدر النصرانية – بإسرافها في الرهبانية والزهد ومكابرتها للفطرة والواقع أن تصلح ما فسد من أخلاق الناس وعوائدهم، وتمسك بضبع المدينة الساقطة إلى الهاوية وتمنعها من التردي.


فكانت حركة الفجور والإباحة وحركة الغلو في الزهد والرهبانية تسيران في البلاد النصرانية جنباً إلى جنب ، بل الأصح أن الرهبانية كانت معتزلة في الصحارى والخلوات لا سلطان لها على الحياة . وحركة الخلاعة والإباحة كانت زاخرة طامة في المدن والحواضر .


بين الرهبانية العاتية، والمادية الجامحة: 

 يصور (( ليكي )) ما كان عليه العالم النصراني في ذلك العصر من التأرجح بين الرهبانية والفجور فيقول :

(( إن التبذل والإسفاف قد بلغا غايتهما في أخلاق الناس واجتماعهم ، وكانت الدعارة والفجور والإخلاد إلى الترف والتساقط على الشهوات والتملق في مجالس الملوك وأندية الأغنياء والأمراء والمسابقة في زخارف اللباس والحلي والزينة في حدتها وشدتها ، كانت الدنيا في الحين تتأرجح بين الرهبانية القصوى والفجور الأقصى، وإن المدن التي ظهر فيها أكثر الزهاد كانت أسبق المدن في الخلاعة والفجور، وقد اجتمع في هذا العصر الفجور والوهم اللذان هما عدوان لشرف الإنسان وكرامته، وقد ضعف رأي الجمهور حتى أصبح الناس لا يحلفون بسوء الأحدوثة والفضيحة بين الناس، وكأن الضمير الإنساني ربما يخاف الدين ووعيده، ولكنه أمن واطمأن، لاعتقاده أن الأدعية وغيرها تكفر عن جميع أعمال الإنسان، لقد نفقت سوق المكر والخديعة والكذب حتى فاق هذا العصر في ذلك عصر القياصرة، ولكن قل الظلم والاعتداء والقسوة والخلاعة، مع انحطاط في حرية الفكر والحماسة القومية (208) )).


الفساد في المراكز الدينية : 

ولم تكن الرهبانية والنظام الديني السلبي إلا مصادمة للفطرة ، فبقيت مقهورة بعوامل الديانة الجديدة وسلطانها الروحي وساعدتها عوامل أخرى ، ثم قهرت الطبيعة وتسرب الضعف والانحراف في المراكز الدينية حتى صارت تزاحم المراكز الدنيوية وربما تسبقها في فساد الأخلاق والدعارة والفجور ، لذلك وقفت الحكومة المآدب الدينية التي كانت ترمي إلى عقد الألفة والأخوة بين المسيحيين وأعياد الشهداء والأولياء وذكرياتهم التي وجدت فيها الخلاعة والفجور حمى ومرتعاً ، واتهم القسوس بكبائر ومنكرات .


ويقول الراهب (( جروم )) (  Jarum) :

(( إن عيش القسوس ونعيمهم كان يزري بترف الأمراء والأغنياء المترفين ، وقد انحطت أخلاق البابوات انحطاطاً عظيماً واستحوذ عليهم الجشع وحب المال وعدوا طورهم ، حتى كانوا يبيعون المناصب والوظائف كالسلع ، وقد تباع بالمزاد العلني ، ويؤجرون أرض الجنة بالوثائق والصكوك وتذاكر الغفران .


ويأذنون بنقض القانون ، ويمنحون شهادات النجاة وإجازات والمحرمات والمحظورات كأوراق النقد وطوابع البريد ، ويرتشون ويرابون ، وقد بذروا المال تبذيراً حتى اضطر البابا انوسنت الثامن أن يرهن تاج البابوية .


ويذكر عن البابا ليو العاشر أنه أنفق ما ترك البابا السابق من ثروة وأموال ، وأنفق نصيبه ودخله ، وأخذ إيراد خليفته المترقب سلفاً وأنفقه ، ويروى أن مجموع دخل مملكة فرنسا لم يكن يكفي البابوات لنفقاتهم وإرضاء شهواتهم(209) )) .


تنافس البابوية والإمبراطورية : 

وبدأ النزاع والمنافسة بين البابوية والإمبراطورية في القرن الحادي عشر ، فاشتدت بعنف وحمي وطيسها ، وانتصرت فيها البابوية أولاً حتى إن هنري الرابع ممثل الإمبراطورية اضطر سنة 1077م أن يتقدم بخضوع نحو البلاط البابوي في قلعة كانوسا ولم يسمح له البابا بالدخول إلا بعد أن شفع له الرجال ، فسمح له بالمثول بين يديه . فدخل الإمبراطور صاغراً حافياً لابساً الصوف وتاب على يديه فغفر له البابا زلته . وكانت الحرب بين البابوية والإمبراطورية بعد ذلك سجالاً حتى ضعفت البابوية ، وبقي الناس هذه المدة الطويلة يتنازعهم عاملان ديني ودنيوي وبقوا يرزحون تحت نيرين إمبراطوري وبابوي .


وكان البابوات يتمتعون في هذه العصور الوسطى بنفوذ واسع وسلطان عظيم لم يكن للملوك والأباطرة ، وكان يمكن لهم أن يتقدموا بأوربا تقدماً صحيحاًَ في العلم والمدنية تحت ظل الدين ، لأن نوابهم وممثليهم كانوا يتجولون في البلدان الأوربية وينزلون من أهلها في جناب مَربع وظل ظليل ، ويتفاهمون معهم بلغة واحدة ويتدخلون في أمور سياسية مهمة ، ووجدوا في كل بقعة أنصاراً لهم من ذوي الرأي والسياسة يتكلمون بلغة واحدة ويساعدونهم في مهمات الدولة .


شقاء أوربا برجال الدين : 

ولكن رجال الدين من سوء حظ النصرانية ومن سوء حظ الأمم التي دانت بها أساؤوا استعمال هذا السلطان الهائل فاستغلوه لأنفسهم ونفوذهم وجاههم ، وبقيت أوربا تتسكع في دياجير الجهل والخرافة والانحطاط ، وأصيبت المدنية بحكمهم ورهبانيتهم في صميمها ، فلم يتضاعف عدد سكان القارة الأوربية في ألف سنة ، ولم يتضاعف عدد سكان إنكلترة في خمسمائة سنة .


ولا شك أن من أسبابها حياة العزوبة التي كان القسوس والرهبان يزينونها للناس ويرغبون فيها ، ولم يشأ الكهان والأساقفة أن يساهم الأطباء في مرافقهم وغلاتهم فانتشرت الأوبئة والأمراض في طول القارة وعرضها ، وتعرف من رحلة أنبيس سلوئيس الذي اشتهر بعد بلقب ( Pus the Second ) التي قام بها في الجزائر البريطانية حوالي سنة 1430 م ما كانت عليه هذه الجزائر من بؤس وانحطاط في المدنية وفقر مدقع .


جناية رجال الدين على الكتب الدينية : 

ولكن من أعظم أخطاء رجال الدين في أوربا ومن أكبر جناياتهم على أنفسهم وعلى الدين الذي كانوا يمثلونه أنهم دسوا في كتبهم الدينية المقدسة معلومات بشرية ومسلمات عصرية عن التاريخ والجغرافية والعلوم الطبيعية ربما كانت أقصى ما وصلوا إليه من العلم في ذلك العصر، وكانت حقائق راهنة لا يشك فيها رجال ذلك العصر ، ولكنها ليست أقصى ما وصل إليه العلم الإنساني ، وإذا كان ذلك في عصر من العصور غاية ما وصل إليه علم البشر فإنه لا يؤمن عليه التحول والتعارض؛ فإن العلم الإنساني متدرج مترق ، فمن بنى عليه دينه فقد بنى قصرًا على كثيب مهيل من الرمل .


ولعلهم فعلوا ذلك بنية حسنة ولكنه كان أكبر جناية على أنفسهم وعلى الدين ، فإن ذلك ، كان سبباً للكفاح المشئوم بين الدين والعقل والعلم الذي انهزم فيه ذلك الدين المختلط بعلم البشر الذي فيه الحق والباطل والخالص والزائف – هزيمة منكرة ، وسقط رجال الدين سقوطاً لم ينهضوا بعده ، وشر من ذلك كله وأشأم أن أوربا أصبحت لا دينية.

           
ولم يكتف رجال الدين بما أدخلوه في كتبهم المقدسة ، بل قدسوا كل ما تناقلته الألسن واشتهر بين الناس وذكره بعض شراح التوراة والإنجيل ومفسريها من معلومات جغرافية وتاريخية وطبيعية ، وصبغوها صبغة دينية وعدوها من تعاليم الدين وأصوله التي يجب الاعتقاد بها ونبذ كل ما يعارضها ، وألفوا في ذلك كتباً وتآليف ، وسموا هذه الجغرافية التي ما أنزل الله بها من سلطان الجغرافية المسيحية ( Christian  Topography ) وعضوا عليها بالنواجذ وكفروا كل من لم يدن بها .


اضطهاد الكنيسة للعلم : 

وكان ذلك في عصر انفجر فيه بركان العقلية في أوربا ، وحطم علماء الطبيعة والعلوم سلاسل التقليد الديني فزيفوا هذه النظريات الجغرافية التي اشتملت عليها هذه الكتب وانتقدوها في صرامة وصراحة ، واعتذروا عن عدم اعتقادها والإيمان بها بالغيب، وأعلنوا اكتشافاتهم العلمية واختباراتهم ، فقامت قيامة الكنيسة ، وقام رجالها المتصرفون بزمام الأمور في أوربا وكفروهم واستحلوا دماءهم وأموالهم في سبيل الدين المسيحي ، وأنشأوا محاكم التفتيش التي تعاقب -كما يقول البابا- أولئك الملحدين والزنادقة الذين هم منتشرون في المدن وفي البيوت والأسراب والغابات والمغارات والحقول ، فجدت واجتهدت وسهرت على عملها ، واجتهدت أن لا تدع في العالم النصراني عرقاً نابضاً ضد الكنيسة، وانبثت عيونها في طول البلاد وعرضها، وأحصت على الناس الأنفاس ، وناقشت عليهم الخواطر حتى يقول عالم نصراني : (( لا يمكن لرجل أن يكون مسيحياً ويموت حتف أنفه ))، ويقدر أن من عاقبت هذه المحاكم يبلغ عددهم ثلثمائة ألف ، أحرق منهم اثنان وثلاثون ألفاً أحياء كان منهم العالم الطبيعي المعروف برونو ، نقمت منه الكنيسة آراء من أشدها قوله بتعدد العوالم ، وحكمت عليه بالقتل، واقترحت بأن لا تراق قطرة من دمه، وكان ذلك يعني أن يحرق حياً، وكذلك كان.


وهكذا عواقب العالم الطبيعي الشهير غاليليو (Galilio) بالقتل لأنه كان يعتقد بدوران الأرض حول الشمس .


ثورة رجال التجديد :

هنالك ثار المجددون المتنورون وعيل صبرهم ، وأصبحوا حرباً لرجال الدين وممثلي الكنيسة والمحافظين على القديم ، ومقتوا كل ما يتصل بهم ويعزى إليهم من عقيدة وثقافة وعلم وأخلاق وآداب، وعادوا الدين المسيحي أولاً والدين المطلق ثانياً، واستحالت الحروب بين زعماء العلم والعقلية، وزعماء الدين المسيحي، -وبلفظ أصح الديانة والبوليسية- حرباً بين العلم والدين مطلقاً، وقرر الثائرون أن العلم والدين ضرتان لا تتصالحان، وأن العقل والنظام الديني ضدان لا يجتمعان، فمن استقبل أحدهما استدبر الآخر، ومن آمن بالأول كفر بالثاني، وإذا ذكروا الدين، ذكروا تلك الدماء الزكية التي أريقت في سبيل العلم والتحقيق ، وتلك النفوس البريئة التي ذهبت ضحية لقسوة القساوسة ووساوسهم ، وتمثل لأعينهم وجوه كالحة عابسة ، وجباه مقطبة ، وعيون ترمي بالشرر ، وصدور ضيقة حرجة ، وعقول سخيفة بليدة ، فاشمأزت قلوبهم وآلوا على أنفسهم كراهة هؤلاء وكل ما يمثلونه ، وتواصوا به وجعلوه كلمة باقية في أعقابهم .

يتبع إن شاء الله...



الباب الرابع: العصر الأوربي 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 03 مايو 2021, 9:52 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

الباب الرابع: العصر الأوربي Empty
مُساهمةموضوع: رد: الباب الرابع: العصر الأوربي   الباب الرابع: العصر الأوربي Emptyالخميس 09 فبراير 2012, 8:42 am

تنصر الروم:

وها هنا حادثة عظيمة يجب أن يسجلها المؤرخ وينوه بها، وهي اعتلاء عرش رومة الوثنية، وكان ذلك بجلوس قسطنطين الذي اعتنق النصرانية على سرير الأباطرة سنة 305م فانتصرت فيه النصرانية على الوثنية ونالت فجأة ما لم تكن تحلم به من ملك عريض ودولة مترامية الأطراف وكلمة لا تعلوها كلمة.


ولما كان قسطنطين إنما توصل إلى الملك على جسر من أشلاء النصارى وأنهار من دمائهم التي أريقت في الذب عنه والنصر له، عرف لهم الجميل وبذل لهم وجهه، ووطأ لهم أكنافه وقلدهم مفاتيح ملكه.
     

خسارة النصرانية في دولتها:

ولكن انتصر النصارى في ساحة القتال وانهزموا في معترك الأديان، ربحوا ملكاً عظيماً وخسروا ديناً جليلاً، لأن الوثنية الرومية مسخت دين المسيح ومسخه أهله، وكان أكثر مسخاً له وتحريفاً هو قسطنطين الكبير حامي ذمار النصرانية ورافع لوائها.  


يقول ((درابر)):

((دخلت الوثنية والشرك في النصرانية بتأثير المنافقين الذين تقلدوا وظائف خطيرة ومناصب عالية في الدولة الرومية بتظاهرهم بالنصرانية، ولم يكونوا يحتفلون بأمر الدين، ولم يخلصوا له يوماً من الأيام، وكذلك كان قسطنطين فقد قضى عمره في الظلم والفجور، ولم يتقيد بأوامر الكنيسة الدينية إلا قليلاً في آخر عمره (337 م).


 
أن الجماعة النصرانية وأن كانت قد بلغت من القوة بحيث ولَّت فسطنطين الملك ولكنها لم تتمكن من أن تقطع دابر الوثنية وتقتلع جرثومتها ، وكان نتيجة كفاحها أن اختلطت مبادئها ، ونشأ من ذلك دين جديد تتجلى فيه النصرانية والوثنية سواء بسواء – هنالك يختلف الإسلام عن النصرانية، إذ قضى الإسلام على منافسه (الوثنية) قضاء باتاً، ونشر عقائده خالصة بغير غش.    


وإن هذا الإمبراطور الذي كان عبداً للدنيا والذي لم تكن عقائده الدينية تساوي شيئاً رأى لمصلحته الشخصية والمصلحة الحزبين المتنافسين- النصراني والوثني- أن يوحدهما ويؤلف بينهما ، حتى إن النصارى الراسخين أيضاً لم ينكروا عليه هذه الخطة، ولعلهم كانوا يعتقدون أن الديانة الجديدة ستزدهر إذا طمست ولقحت بالعقائد الوثنية القديمة ، وسيخلص الدين النصراني عاقبة الأمر من أدناس الوثنية وأرجاسها )).


الرهبانية العاتية: 

فلم تستطع هذه النصرانية الملقحة بالوثنية المشوهة التي فقدت روحها وجمالها أن تغير من سيرة الروم المنحطة وأن تبعث فيهم حياة جديدة ، حياة دينية نقية طاهرة وأن تفتح عهداً زاهراً في تاريخ الروم، بل إنها ابتدعت رهبانية لعلها كانت شراً على الإنسانية والمدنية من بهيمية رومة الوثنية، وقد جن جنون هذه الرهبانية في العالم النصراني وتخطى حدود القياس ، وإنا نلتقط أمثلة من كتاب تاريخ أخلاق أوربا وهو قليل من كثير جداً :

(( زاد عدد الرهبان زيادة عظيمة ، وعظم شأنهم واستفحل أمرهم واسترعوا الأنظار وشغلوا الناس ، ولا يمكن الآن إحصاؤهم بالدقة ، ولكن مما يلقي الضوء على كثرتهم وانتشار الحركة الرهبانية ما روى المؤرخون أنه كان يجتمع أيام عيد الفصح خمسون ألفاً من الرهبان ، وفي القرن الرابع المسيحي كان راهب واحد يشرف على خمسة آلاف راهب ، وكان الراهب (( سرابين )) يرأس عشرة آلاف ، وقد بلغ عدهم في نهاية القرن الرابع عدد أهل مصر )) .


عجائب الرهبان: 

ظل تعذيب الجسم مثلاً كاملاً في الدين والأخلاق إلى قرنين، وروى المؤرخون من ذلك عجائب ، فحدثوا عن الراهب ماكاريوس ( Makarius ) أنه نام ستة أشهر في مستنقع ليقرص جسمه العاري ذباب سام، وكان يحمل دائماً نحو قنطار من حديد، وكان صاحبه الراهب يوسيبيس ( Eusebius ) يحمل نحو قنطارين من حديد، وقد أقام ثلاثة أعوام في بئر نزح، وقد عبد الراهب يوحنا (St. Jhon) ثلاث سنين قائماً على رجل واحدة ولم ينم ولم يقعد طول هذه المدة، فإذا تعب جداً أسند ظهره إلى صخرة، وكان بعض الرهبان لا يكتسون دائماً، وإنما يتسترون بشعرهم الطويل ويمشون على أيديهم وأرجلهم كالأنعام.


وكان أكثرهم يسكنون في مغارات السباع والآبار النازحة والمقابر ، ويأكل كثير من الكلأ والحشيش ، وكانوا يعدون طهارة الجسم منافية لنقاء الروح ويتأثمون عن غسل الأعضاء ، وأزهد الناس عندهم وأتقاهم أبعدهم عن الطهارة وأوغلهم في النجاسات والدنس.


يقول الراهب اتهينس: إن الراهب أنتوني لم يقترف إثم غسل الرجلين طول عمره ، وكان الراهب أبراهام لم يمس وجهه ولا رجله الماء خمسين سنة ؛ وقد قال الراهب الإسكندري بعد زمن متلهفاً: واأسفاه! لقد كنا في زمن نعد غسل الوجه حراماً فإذا بنا الآن ندخل الحمامات، وكان الرهبان يتجولون في البلاد ويختطفون الأطفال ويهربونهم إلى الصحراء والأديار وينتزعون الصبيان من حجور أمهاتهم ويربونهم تربية رهبانية والحكومة لا تملك من الأمر شيئاً، والجمهور والدهماء يؤيدونهم ويحبذون الذين يهجرون آباءهم وأمهاتهم ويختارون الرهبانية ويهتفون باسمهم، وعرف كبار الرهبان ومشاهير التاريخ النصراني بالمهارة في التهريب، حتى روي أن الأمهات كن يسترن أولادهن في البيوت إذا رأين الراهب أمبروز ( Ambrose ) وأصبح الآباء والأولياء لا يملكون من أولادهم شيئاً وانتقل نفوذهم وولايتهم إلى الرهبان والقسوس (202) .


تأثير الرهبانية في أخلاق الأوربيين: 

كان نتيجة هذه الرهبانية أن خلال الفتوة والمروءة التي كانت تعد فضائل، عادت فاستحالت عيوباً ورذائل، وزهد الناس في البشاشة وخفة الروح والصراحة والسماحة والشجاعة والجرأة وهجروها، وكان من أهم نتائجها أن تزلزلت دعائم الحياة المنزلية، وعم الكنود والقسوة على الأقارب، فكان الرهبان الذين تفيض قلوبهم حناناً ورحمة، وعيونهم من الدمع، تقسو قلوبهم وتجمد عيونهم على الآباء والأمهات والأولاد، فيخلفون الأمهات ثكالى والأزواج أيامى والأولاد يتامى، عالة يتكففون الناس، ويتوجهون قاصدين الصحراء .


همهم الوحيد أن ينقذوا أنفسهم في الآخرة لا يبالون ماتوا أو عاشوا، وحكى (( ليكي )) من ذلك حكايات تدمع العين وتحزن القلب (203).


وكانوا يفرون من ظل النساء ويتأثمون من قربهن والاجتماع بهن ، وكانوا يعتقدون أن مصادفتهن في الطريق والتحدث إليهن ولو كن أمهات وأزواجاً أو شقيقات تحبط أعمالهم وجهودهم الروحية. وروى (( ليكي )) من هذه المضحكات المبكيات شيئاً كثيراً .


عجز الرهبانية عن تعديل المادية الجامحة : 

ولا يتوهم أحد أن هذه الرهبانية الغالية قد عدلت من شره المادية الرومية ، وكبحت من جماحها وغلوائها في البهيمية والشهوات، فإن هذا لم يكن ولا يكون في الغالب وتأباه الفطرة الإنسانية ويكذبه التاريخ؛ فإن الذي يوجد الاعتدال ويخفض من المادية الجامحة ويجعل منها حياة معتدلة هو النظام الروحي الديني الخلقي الحكيم الذي يوافق الفطرة الإنسانية الصحيحة، والذي لا يتصدى لأن يزيل الفطرة الإنسانية، بل يوجهها توجيهاً نافعاً ، فإنها لا تزول ولكن تميل من شر إلى خير؛ وهكذا فعل الإسلام، وهكذا فعل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، فقد صرف شجاعة العرب من المنافسات القبلية والتقاتل وأخذ الثأر والأحقاد القديمة إلى الجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمة الله، وصرف تبذيرهم وسماحتهم إلى الإنفاق في سبيل الله ، وشغلهم عن الجاهلية بالدين الإسلامي ، وأبدل الشيء بالشيء ، وأعطى النفس حقها من النشاط والترويح ، فإن النفوس كما قال عالم من علماء المسلمين لا تترك شيئاً إلا بشيء، وإن النفوس قد خُلقت لتعمل لا لتترك (204)، وإن الأنبياء قد بعثوا بتكميل الفطرة وتكريرها لا بتبديلها وتغييرها (205).


قدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: ما هذان اليومان؟ قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما، يوم الأضحى ويوم الفطر (206)، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث قالت: وليستا بمغنيتين، فقال أبو بكر: أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وذلك يوم عيد, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر، إن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا. وفي رواية أنه قال: دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد (207).


أما النصرانية الرومية فقد حاولت عبثاً تغيير الفطرة وإزالتها وجاءت بنظام لا تطيقه الفطرة الإنسانية ولا تسيغه.

وحملت النفوس ما لا طاقة لها به فرغبت فيه كرد فعل ضد المادية الطاغية واحتملته كارهة ، ثم تخلصت منه وثارت عليه ولم تقدر النصرانية – بإسرافها في الرهبانية والزهد ومكابرتها للفطرة والواقع أن تصلح ما فسد من أخلاق الناس وعوائدهم، وتمسك بضبع المدينة الساقطة إلى الهاوية وتمنعها من التردي.


فكانت حركة الفجور والإباحة وحركة الغلو في الزهد والرهبانية تسيران في البلاد النصرانية جنباً إلى جنب ، بل الأصح أن الرهبانية كانت معتزلة في الصحارى والخلوات لا سلطان لها على الحياة . وحركة الخلاعة والإباحة كانت زاخرة طامة في المدن والحواضر .


بين الرهبانية العاتية، والمادية الجامحة: 

 يصور (( ليكي )) ما كان عليه العالم النصراني في ذلك العصر من التأرجح بين الرهبانية والفجور فيقول :

(( إن التبذل والإسفاف قد بلغا غايتهما في أخلاق الناس واجتماعهم ، وكانت الدعارة والفجور والإخلاد إلى الترف والتساقط على الشهوات والتملق في مجالس الملوك وأندية الأغنياء والأمراء والمسابقة في زخارف اللباس والحلي والزينة في حدتها وشدتها ، كانت الدنيا في الحين تتأرجح بين الرهبانية القصوى والفجور الأقصى، وإن المدن التي ظهر فيها أكثر الزهاد كانت أسبق المدن في الخلاعة والفجور، وقد اجتمع في هذا العصر الفجور والوهم اللذان هما عدوان لشرف الإنسان وكرامته، وقد ضعف رأي الجمهور حتى أصبح الناس لا يحلفون بسوء الأحدوثة والفضيحة بين الناس، وكأن الضمير الإنساني ربما يخاف الدين ووعيده، ولكنه أمن واطمأن، لاعتقاده أن الأدعية وغيرها تكفر عن جميع أعمال الإنسان، لقد نفقت سوق المكر والخديعة والكذب حتى فاق هذا العصر في ذلك عصر القياصرة، ولكن قل الظلم والاعتداء والقسوة والخلاعة، مع انحطاط في حرية الفكر والحماسة القومية (208) )).


الفساد في المراكز الدينية : 

ولم تكن الرهبانية والنظام الديني السلبي إلا مصادمة للفطرة ، فبقيت مقهورة بعوامل الديانة الجديدة وسلطانها الروحي وساعدتها عوامل أخرى ، ثم قهرت الطبيعة وتسرب الضعف والانحراف في المراكز الدينية حتى صارت تزاحم المراكز الدنيوية وربما تسبقها في فساد الأخلاق والدعارة والفجور ، لذلك وقفت الحكومة المآدب الدينية التي كانت ترمي إلى عقد الألفة والأخوة بين المسيحيين وأعياد الشهداء والأولياء وذكرياتهم التي وجدت فيها الخلاعة والفجور حمى ومرتعاً ، واتهم القسوس بكبائر ومنكرات .


ويقول الراهب (( جروم )) (  Jarum) :

(( إن عيش القسوس ونعيمهم كان يزري بترف الأمراء والأغنياء المترفين ، وقد انحطت أخلاق البابوات انحطاطاً عظيماً واستحوذ عليهم الجشع وحب المال وعدوا طورهم ، حتى كانوا يبيعون المناصب والوظائف كالسلع ، وقد تباع بالمزاد العلني ، ويؤجرون أرض الجنة بالوثائق والصكوك وتذاكر الغفران .


ويأذنون بنقض القانون ، ويمنحون شهادات النجاة وإجازات والمحرمات والمحظورات كأوراق النقد وطوابع البريد ، ويرتشون ويرابون ، وقد بذروا المال تبذيراً حتى اضطر البابا انوسنت الثامن أن يرهن تاج البابوية .


ويذكر عن البابا ليو العاشر أنه أنفق ما ترك البابا السابق من ثروة وأموال ، وأنفق نصيبه ودخله ، وأخذ إيراد خليفته المترقب سلفاً وأنفقه ، ويروى أن مجموع دخل مملكة فرنسا لم يكن يكفي البابوات لنفقاتهم وإرضاء شهواتهم(209) )) .


تنافس البابوية والإمبراطورية : 

وبدأ النزاع والمنافسة بين البابوية والإمبراطورية في القرن الحادي عشر ، فاشتدت بعنف وحمي وطيسها ، وانتصرت فيها البابوية أولاً حتى إن هنري الرابع ممثل الإمبراطورية اضطر سنة 1077م أن يتقدم بخضوع نحو البلاط البابوي في قلعة كانوسا ولم يسمح له البابا بالدخول إلا بعد أن شفع له الرجال ، فسمح له بالمثول بين يديه . فدخل الإمبراطور صاغراً حافياً لابساً الصوف وتاب على يديه فغفر له البابا زلته . وكانت الحرب بين البابوية والإمبراطورية بعد ذلك سجالاً حتى ضعفت البابوية ، وبقي الناس هذه المدة الطويلة يتنازعهم عاملان ديني ودنيوي وبقوا يرزحون تحت نيرين إمبراطوري وبابوي .


وكان البابوات يتمتعون في هذه العصور الوسطى بنفوذ واسع وسلطان عظيم لم يكن للملوك والأباطرة ، وكان يمكن لهم أن يتقدموا بأوربا تقدماً صحيحاًَ في العلم والمدنية تحت ظل الدين ، لأن نوابهم وممثليهم كانوا يتجولون في البلدان الأوربية وينزلون من أهلها في جناب مَربع وظل ظليل ، ويتفاهمون معهم بلغة واحدة ويتدخلون في أمور سياسية مهمة ، ووجدوا في كل بقعة أنصاراً لهم من ذوي الرأي والسياسة يتكلمون بلغة واحدة ويساعدونهم في مهمات الدولة .


شقاء أوربا برجال الدين : 

ولكن رجال الدين من سوء حظ النصرانية ومن سوء حظ الأمم التي دانت بها أساؤوا استعمال هذا السلطان الهائل فاستغلوه لأنفسهم ونفوذهم وجاههم ، وبقيت أوربا تتسكع في دياجير الجهل والخرافة والانحطاط ، وأصيبت المدنية بحكمهم ورهبانيتهم في صميمها ، فلم يتضاعف عدد سكان القارة الأوربية في ألف سنة ، ولم يتضاعف عدد سكان إنكلترة في خمسمائة سنة .


ولا شك أن من أسبابها حياة العزوبة التي كان القسوس والرهبان يزينونها للناس ويرغبون فيها ، ولم يشأ الكهان والأساقفة أن يساهم الأطباء في مرافقهم وغلاتهم فانتشرت الأوبئة والأمراض في طول القارة وعرضها ، وتعرف من رحلة أنبيس سلوئيس الذي اشتهر بعد بلقب ( Pus the Second ) التي قام بها في الجزائر البريطانية حوالي سنة 1430 م ما كانت عليه هذه الجزائر من بؤس وانحطاط في المدنية وفقر مدقع .


جناية رجال الدين على الكتب الدينية : 

ولكن من أعظم أخطاء رجال الدين في أوربا ومن أكبر جناياتهم على أنفسهم وعلى الدين الذي كانوا يمثلونه أنهم دسوا في كتبهم الدينية المقدسة معلومات بشرية ومسلمات عصرية عن التاريخ والجغرافية والعلوم الطبيعية ربما كانت أقصى ما وصلوا إليه من العلم في ذلك العصر، وكانت حقائق راهنة لا يشك فيها رجال ذلك العصر ، ولكنها ليست أقصى ما وصل إليه العلم الإنساني ، وإذا كان ذلك في عصر من العصور غاية ما وصل إليه علم البشر فإنه لا يؤمن عليه التحول والتعارض؛ فإن العلم الإنساني متدرج مترق ، فمن بنى عليه دينه فقد بنى قصرًا على كثيب مهيل من الرمل .


ولعلهم فعلوا ذلك بنية حسنة ولكنه كان أكبر جناية على أنفسهم وعلى الدين ، فإن ذلك ، كان سبباً للكفاح المشئوم بين الدين والعقل والعلم الذي انهزم فيه ذلك الدين المختلط بعلم البشر الذي فيه الحق والباطل والخالص والزائف – هزيمة منكرة ، وسقط رجال الدين سقوطاً لم ينهضوا بعده ، وشر من ذلك كله وأشأم أن أوربا أصبحت لا دينية.

           
ولم يكتف رجال الدين بما أدخلوه في كتبهم المقدسة ، بل قدسوا كل ما تناقلته الألسن واشتهر بين الناس وذكره بعض شراح التوراة والإنجيل ومفسريها من معلومات جغرافية وتاريخية وطبيعية ، وصبغوها صبغة دينية وعدوها من تعاليم الدين وأصوله التي يجب الاعتقاد بها ونبذ كل ما يعارضها ، وألفوا في ذلك كتباً وتآليف ، وسموا هذه الجغرافية التي ما أنزل الله بها من سلطان الجغرافية المسيحية ( Christian  Topography ) وعضوا عليها بالنواجذ وكفروا كل من لم يدن بها .


اضطهاد الكنيسة للعلم : 

وكان ذلك في عصر انفجر فيه بركان العقلية في أوربا ، وحطم علماء الطبيعة والعلوم سلاسل التقليد الديني فزيفوا هذه النظريات الجغرافية التي اشتملت عليها هذه الكتب وانتقدوها في صرامة وصراحة ، واعتذروا عن عدم اعتقادها والإيمان بها بالغيب، وأعلنوا اكتشافاتهم العلمية واختباراتهم ، فقامت قيامة الكنيسة ، وقام رجالها المتصرفون بزمام الأمور في أوربا وكفروهم واستحلوا دماءهم وأموالهم في سبيل الدين المسيحي ، وأنشأوا محاكم التفتيش التي تعاقب -كما يقول البابا- أولئك الملحدين والزنادقة الذين هم منتشرون في المدن وفي البيوت والأسراب والغابات والمغارات والحقول ، فجدت واجتهدت وسهرت على عملها ، واجتهدت أن لا تدع في العالم النصراني عرقاً نابضاً ضد الكنيسة، وانبثت عيونها في طول البلاد وعرضها، وأحصت على الناس الأنفاس ، وناقشت عليهم الخواطر حتى يقول عالم نصراني : (( لا يمكن لرجل أن يكون مسيحياً ويموت حتف أنفه ))، ويقدر أن من عاقبت هذه المحاكم يبلغ عددهم ثلثمائة ألف ، أحرق منهم اثنان وثلاثون ألفاً أحياء كان منهم العالم الطبيعي المعروف برونو ، نقمت منه الكنيسة آراء من أشدها قوله بتعدد العوالم ، وحكمت عليه بالقتل، واقترحت بأن لا تراق قطرة من دمه، وكان ذلك يعني أن يحرق حياً، وكذلك كان.


وهكذا عواقب العالم الطبيعي الشهير غاليليو (Galilio) بالقتل لأنه كان يعتقد بدوران الأرض حول الشمس .


ثورة رجال التجديد : 

هنالك ثار المجددون المتنورون وعيل صبرهم ، وأصبحوا حرباً لرجال الدين وممثلي الكنيسة والمحافظين على القديم ، ومقتوا كل ما يتصل بهم ويعزى إليهم من عقيدة وثقافة وعلم وأخلاق وآداب، وعادوا الدين المسيحي أولاً والدين المطلق ثانياً، واستحالت الحروب بين زعماء العلم والعقلية، وزعماء الدين المسيحي، -وبلفظ أصح الديانة والبوليسية- حرباً بين العلم والدين مطلقاً، وقرر الثائرون أن العلم والدين ضرتان لا تتصالحان، وأن العقل والنظام الديني ضدان لا يجتمعان، فمن استقبل أحدهما استدبر الآخر، ومن آمن بالأول كفر بالثاني، وإذا ذكروا الدين، ذكروا تلك الدماء الزكية التي أريقت في سبيل العلم والتحقيق ، وتلك النفوس البريئة التي ذهبت ضحية لقسوة القساوسة ووساوسهم ، وتمثل لأعينهم وجوه كالحة عابسة ، وجباه مقطبة ، وعيون ترمي بالشرر ، وصدور ضيقة حرجة ، وعقول سخيفة بليدة ، فاشمأزت قلوبهم وآلوا على أنفسهم كراهة هؤلاء وكل ما يمثلونه ، وتواصوا به وجعلوه كلمة باقية في أعقابهم .

يتبع إن شاء الله...



الباب الرابع: العصر الأوربي 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 03 مايو 2021, 9:53 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

الباب الرابع: العصر الأوربي Empty
مُساهمةموضوع: رد: الباب الرابع: العصر الأوربي   الباب الرابع: العصر الأوربي Emptyالأربعاء 15 فبراير 2012, 4:36 pm

تقصير الثائرين وعدم تثبتهم: 

ولم يكن عند هؤلاء الثائرين من الصبر والمثابرة على الدراسة والتفكير، ومن الوداعة والهدوء، ومن العقل والاجتهاد ما يميزون به بين الدين ورجاله المحتكرين لزعامته، ويفرقون بين ما يرجع إلى الدين عن عهدة ومسئولية، وما يرجع إلى رجال الكنيسة من جمود وجهل واستبداد وسوء تمثيل، فلا ينبذوا الدين نبذ النواة، ولكن الحفيظه وشنآن رجال الدين والاستعجال لم يسمح بالنظر في أمر الدين والتريث في شأنه كغالب الثوار في أكثر الإعصار والأمصار.


ولم يكن عندهم من صدق الطلب والنصيحة لأنفسهم وأمتهم وسعة الصدر ما يحملهم على النظر في الدين الإسلامي الذي كان يدين به أمم معاصرة لهم، الدين الذي يخلصهم من هذه الأزمة و: { يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ }.


ولكن حمية الجاهلية والسدود التي أقامتها الحرب الصليبية بين الغرب المسيحي والشرق الإسلامي ودعاية الكهنة ورجال الكنيسة ضد الإسلام وصاحب رسالته عليه الصلاة والسلام، وعدم تجشم التعب والمطالعة، وقلة الحرص على النجاة الأخروية والاهتمام بما بعد الموت، زد إلى ذلك تفريط المسلمين في التبشير الإسلامي، ونشر الإسلام في أوربا، كل ذلك منعهم من الرجوع إلى الدين الإسلامي والأخذ به في ساعة كانوا يحتاجون إليه حاجة السليم إلى راق والمسموم إلى ترياق.


اتجاه الغرب إلى المادية: 

وعلى كل فقد وقع المحذور وانصرف اتجاه الغرب إلى المادية بكل معانيها، وبكل ما تتضمنه هذه الكلمة من عقيدة ووجهة نظر ونفسية وعقلية وأخلاق واجتماع وعلم وأدب وسياسة وحكم، وكان ذلك تدريجياً، وكان أولاً ببطء وعلى مهل، ولكن بقوة وعزيمة، فقام علماء الفلسفة والعلوم الطبيعية ينظرون في الكون نظراً مؤسساً على أنه على أنه لا خالق ولا مدبر ولا آمر، وليس هناك قوة وراء الطبيعة والمادة تتصرف في هذا العالم وتحكم عليه وتدبر شئونه، وصاروا يفسرون هذا العالم الطبيعي، ويعللون ظواهره وآثاره بطريق ميكانيكي بحت، وسموا هذا نظراً علمياً مجرداً وسموا كل بحث وفكر يعتقد بوجود إله ويؤمن به طريقاً تقليدياً لا يقوم عندهم على أساس العلم والحكمة، واستهزأوا به واتخذوه سخرياً، ثم انتهى بهم طريقهم الذي اختاروه وبحثهم ونظرهم إلى أنهم جحدوا كل شيء وراء الحركة والمادة، وأبوا الإيمان بكل ما لا يأتي تحت الحس والاختبار ، ولا يدخل تحت الوزن والعد والمساحة ، فأصبح – بحكم الطبيعة وبطريق اللزوم الإيمان بالله وبما وراء الطبيعة ، من قبيل المفروضات التي لا يؤيدها العقل ولا يشهد بها العلم .


إنهم لم يجحدوا بالله إلى زمن طويل، ولم يكاشفوا الدين العداء، ولم يجحدوا به كلهم، ولكن منهج التفكير الذي اختاروه، والموقف الذي اتخذوه في البحث والنظر لم يكن ليتفق والدين الذي يقوم على الإيمان بالغيب وأساسه الوحي والنبوة ودعوته ولهجه بالحياة الأخروية، ولا شيء من ذلك يدخل تحت الحس والاختبار ويصدقه الوزن والعد والمساحة، فلم يزالوا يزدادون كل يوم شكاً في العقائد الدينية.


افتضاح المادية في الدور الأخير: 

ولكن رجال النهضة الأوربية ظلوا قروناً يجمعون بين النظر المادي الجاحد والحياة المادية، والطقوس الدينية المسيحية، بالتقليد أو بتأثير المحيط الذي لا يزال في العالم النصراني، أو بمصالح خلقية واجتماعية كانت تقتضي البقاء ولو بالاسم على نظام ديني يؤلف بين أفراد الأمة ويحفظها من الفوضى، حتى افتضحوا في الأخير وصعب الجمع بينهما بسرعة سير الحضارة المادية، وتخلف الدين والتقاليد وعجزها عن مسايرتها وما في الجمع بينهما من متاعب وضياع للوقت وتكلف هم في غني عنه، فطرحوا الحشمة ورموا برقع النفاق.


جنود المادية ودعاتها: 

ونهض الكتاب والمؤلفون والأدباء والمعلمون والاجتماعيون والسياسيون في كل ناحية من نواحي أوربا ينفخون صور المادية، وينفثون بأقلامهم سمومها في عقل الجمهور وقلبه، ويفسرون الأخلاق تفسيراً مادياً، تارة ينشرون الفلسفة النفعية، وطوراً فلسفة اللذة الأبيقورية.


والسياسيون أمثال ميكيافيلي الفلورنسي (1469 – 1527 م) دعوا من قبل إلى فصل الدين عن السياسة، وتقسيم الأخلاق إلى شخصية واجتماعية، وقرروا أن الدين -إذا كان لابد منه- قضية شخصية لا ينبغي أن تتدخل في أمور السياسة والدولة، وأن الدولة عندهم أعز وأهم من كل شيء، وأن النصرانية إنما موضوعها الحياة الأخروية، وأن المتدينين والصالحين لا يفيد وجودهم الدولة، وإن كان يفيد الكنيسة، لأنهم يتقيدون بأحكام الدين، ولأنهم لا يستطيعون أن يحيدوا عن أحكام الدين ومبادئ الأخلاق إذا اقتضت المصلحة غير ذلك، وأن الملوك والأمراء يجب عليهم أن يتخلقوا بأخلاق الثعالب، ولا يحتشموا من نقض العهود والكذب والخيانة والغش والنفاق إذا كان في ذلك أدنى مصلحة للدولة إلى غير ذلك، ونجحت هذه الدعوة وساعدتها عوامل كثيرة من الوطنية والقومية التي خلفت الديانة القديمة.


وأحدث الأدباء والمؤلفون وأصحاب البراعة والقريحة والذكاء، خصوصاً في ثورة فرنسا وبعدها، الثورة على الأخلاق القديمة، والنظم الاجتماعية، وزينوا للناس الإثم، ونشروا دعوة الإباحة، وإطلاق الطبائع من كل قيد، والفرد من كل مسئولية، ودعوا إلى التهام الحياة البهيمية، وإرضاء الشهوات، وانتهاب المسرات، واستعجال الطيبات، وغلوا وأسرفوا في تقدير قيمة هذه الحياة وجحدوا كل شيء سوى اللذة العاجلة والنفع المادة الظاهر المحسوس.


نسخة صادقة من الحضارة اليونانية: 

فأصبحت الحياة في أوربا في القرنين التاسع عشر والعشرين نسخة صادقة من الحياة في يونان وروما الوثنيتين الجاهليتين، وعادت الطبيعة الأوربية ( التي كانت النصرانية الشرقية قد قهرتها ) جذعة.


ولا غرابة في ذلك، فالأوربيون اليوم إنما ينحدرون من أولئك اليونان والرومان، والسلائل الأوربية الأخرى ترى ديناً خلواً من الروحانية، كما لاحظ الدكتور (( هاس )) في ذكر الحضارة اليونانية.


وترى رقة الدين وقلة الخشوع والجد في أعماله.


وكثرة اللهو والطرب في الحياة، كما ذكر (( ليكي )) عن الديانة اليونانية، وهو نتيجة الوضع الديني الذي وصلت إليه أوربا، فإنه لا يتفق والخشوع لله والجد في عبادته، ونتيجة تلك النظريات والغايات التي وصل إليها علماء الطبيعة والحكمة في أوربا وأعلنوها تلقاها الجمهور بالقبول وحلت محل الدين.


وترى كذلك تهافتاً على ملذات الحياة تهافت الظمآن على الماء والفراش على النار، والحرص على اقتطاف جني الحياة وثمارها باليدين، كما وصف به سقراط الرجل الجمهوري اليوناني في عصره.


وكذلك ترى شكاً في الدين واضطراباً في العقيدة واستخفافاً بالنظام الديني وطقوسه وتقاليده ، كما رأيت في روما بعد التنور.


ديانة أوربا اليوم المادية لا النصرانية:
فمما لاشك فيه أن دين أوربا اليوم الذي يملك عليها القلب والمشاعر ويحكم على الروح هو المادية لا النصرانية، كما يعلم ذلك كل من عرف النفسية الأوربية واتصل بالأوربيين عن كثب لا عن كتب ، بل وعن كتب أيضاً – ولم ينخدع بالمظاهر الدينية التي تزيد في أبهة الدولة والتي يجد فيها الشعب ترويحاً للنفس وتنوعاً، ولم ينخدع بزيارتهم للكنائس وحضورهم في تقاليدها.


وقد بين ذلك في وضوح وصراحة الأستاذ الألماني المهتدي محمد أسد السابق ذكره في كتابه: (( الإسلام على مفترق الطرق )) قال:

(( لا شك أنه لا يزال في الغرب أفراد يعيشون ويفكرون على أسلوب ديني ويبذلون جهدهم في تطبيق عقائدهم بروح حضارتهم، ولكنهم شواذ، إن الرجل العادي في أوربا، ديمقراطياً كان أو فاشياً، رأسمالياً كان أو اشتراكياً، عاملاً باليد أو رجلاً فكرياً، إنما يعرف ديناً واحداً، وهو عبادة الرقي المادي والاعتقاد بأنه لا غاية في الحياة غير أن يجعلها الإنسان أسهل، وبالتعبير الدارج (( حرة مطلقة )) من قيود الطبيعة، أما كنائس هذا (( الدين )) فهي المصانع الضخمة ودور السينما والمختبرات الكيماوية ودور الرقص ومراكز توليد الكهرباء، وأما كهنتها فهم رؤساء الصيارف والمهندسون والممثلات وكواكب السينما وأقطاب التجارة والصناعة والطيارون والمبرزون الذين يضربون رقماً قياسياً، ونتيجة هذه النهامة للقوة، والشره للذة، النتيجة اللازمة ظهور طوائف متنافسة مدججة بالسلاح، والاستعدادات الحربية، مستعدة لإبادة بعضها بعضاً إذا تصادمت أهواؤها ومصالحها، أما في جانب الحضارة فنتيجتها ظهور طراز للإنسان يعتقد الفضيلة في الفائدة العملية، والمثل الكامل عنده والفارق بين الخير والشر هو النجاح المادي لا غير (210))).


((إن الحضارة الغربية لا تجحد الله في شدة وصراحة، ولكن ليس في نظامها الفكري موضع لله في الحقيقة ولا تعرف له فائدة ولا تشعر بحاجة إليه (211) )).


ربما يقلل من قيمة هذه الشهادات على مركز الدين في الحياة الأوربية ومدى تأثيره كون صاحبها قد انتقل من النصرانية إلى الإسلام ومن أوربا إلى الشرق الإسلامي، فها هنا شهادة أصرح منها وأدل على اضمحلال الدين الرسمي في أكبر مراكزه، واستنكاف أهله من الانتساب إليه لأحد كبار المعلمين في (( لندن )) وكتاب الإنكليزية البارزين.


قال الأستاذ جود ( Joad ) رئيس قسم الفلسفة وعلم النفس في جامعة لندن في كتابه: ( Guide to Modern Wickedness ):

(( سألت عشرين طالباً وتلميذة كلهم في أوائل العقد الثاني من أعمارهم: كم منهم مسيحي بأي معنى من معاني الكلمة، فلم يجب بـ (( نعم )) إلا ثلاثة فقط، وقال سبعة منهم: إنهم لم يفكروا في هذه المسألة أبداً.


أما العشرة الباقية فقد صرحوا أنهم معادون للمسيحية، أنا أرى أن هذه النسبة بين من يؤمن بالمسيحية ويدين بها وبين من لا يؤمن في هذه البلاد ليست شاذة ولا غريبة، نعم إذا وجه هذا السؤال إلى مثل هذه الجماعة قبل خمسين سنة أو عشرين، كانت الأجوبة مختلفة.


بناء على ذلك الذين يتفقون في الرأي مع (Canon Barry ) ويزعمون أن نهضة مسيحية كبيرة يمكن أن تنقذ العالم سيكونون قليلاً جداً، فإني لا أرى لرأيه هذا مؤيداً ومبرراً إلا أن يكون ذلك رغبته وهواه، فإن الأهواء كثيراً ما تخلق الأفكار، ولكنها لا تولد الشهادات والوثائق، وإن الأحوال والآثار في هذه البلاد لتدل على أن الكنيسة النصرانية ستموت في القرن الآتي.


وإليك ما يؤيد هذا الرأي نقلاً من صحيفة يومية:

اخترع رجل في السابعة والسبعين من عمره طريقة تحول بها نسخ الكتاب المقدس العتيقة إلى حشو البنادق والحرير الصناعي واللدائن وأوراق النقد الثمينة، وإن آلته قد نصبت في (Cardiff Factory ) وفي ثمانية مصانع أخرى وتصنع بنسخ التوراة القديمة أسلحة حربية وقد استثمر المخترع بالآلة ثروة عظيمة بعد ما عاش في ضنك من العيش.


ويختم الأستاذ مقالته هذه بجملة من التوراة -ولا أجمل منها- لمخاطبة القسوس ورجال الدين أمثال ( كينين بيري ) وغيره (( فليسمع من له أذنان (212) ))، ويقول هذا المؤلف في كتابه الثاني (Philosophy for our Times):

(( لم يزل سائداً على عقلية انكلترا منذ قرون شرهُ المال والتملك، وكانت رغبة نيل الثروة أقوى عامل في حياة البلاد وأكبر باعث على العمل، لأن الثروة وسيلة للتملك، وضخامته ووفرته مقياس لكفاءة الإنسان، ولم يزل الناس يتلقون من طرق السياسة والأدب والتمثيل والسينما والإذاعة اللاسلكية، وفي بعض الأحيان من منابر الكنائس في ظل عام وشهر - التحريضات على جمع المال واقتنائه والإقناع بأن الأمة المتمدنة هي التي ارتقت فيها عاطفة الشره والتملك.


إن هذه العبادة للمال تناقض عقائدنا الدينية، لأن الدين يمدح الفقر ويذم الغنى، ويقول: إن الفقير أقدر على الصلاح من الغني، ومع أن الحكمة والنعيم الديني متفقان على أن الفقر أوفق لعبادة الله ودخول الجنة، ولكن الناس لم يرغبوا إلى تصديق الدين في ذلك والعمل بأحكامه، ولم يزالوا يؤثرون الثروة الحاضرة على نعيم الجنة الموعود، لعلهم يظنون أنهم إذا تابوا في آخر عهدهم بالدنيا فإنهم يحرزون حسنى الآخرة، كما ظفروا بحسنى الدنيا بأموالهم المودعة في المصارف.


وقد أعرب عن فكرتهم هذه ( Sammuel Butler ) في كتابه بقوله: (( إن بعض المؤلفين يقولون: إنا لا نستطيع أن نجمع بين عبادة الله وعبادة المال، وأنا أسلم أن الأمر ليس بميسور، ولكن متى تكون المهمات في الدنيا ميسورة سهلة؟


فمهما اختلفنا في المبادئ فإن الحقيقة الراهنة أن كلنا راسخ في تقليد بتلر واتباعه، فنحن مشغوفون بحب المال، وعقيدتنا أن الثروة هي المقياس الصحيح لعظمة الفرد والحكومة ، وكانت سبباً لظهور مبدأين لهما الأهمية التاريخية الكبرى.


أحدهما : مبدأ عدم التدخل الاقتصادي الذي كان سائداً على القرن التاسع عشر ، ويدعي أصحاب هذا المبدأ أن الإنسان يبني عمله على أعظم نفع يجلبه ، وأن ليس الباعث على الأعمال الالتذاذ بالعواطف القلبية بل الالتذاذ بالثروة .


والمبدأ الثاني الذي يسود القرن العشرين : هو مبدأ التنظيم الاقتصادي المنسوب إلى ماركس ، ويقوم هذا المبدأ على أن نظام الإنسان الاقتصادي إنما يتأسس على حوائج الإنسان المالية ، وهذا النظام هو الذي يخلق الأدب والأخلاق والدين والمنطق ونظام الحكومة ، ولم يكن هذان المبدآن لينالا القبول الذي نالاه لولا شغف الناس في بلادنا بالمال والاهتمام الزائد به )) .


ويقول في مكان آخر من هذا الكتاب:

(( إن نظرية الحياة التي تسود على هذا العصر وتحكم عليه: هي النظر في كل مسألة وشأن من ناحية المعدة والجيب ( stomach and pocket view of life).


وقد أجاد الصحفي الأمريكي المشهور (Jhon Gunther) تمثيل هذه النفسية في كتابه في (( داخل أوربا )) ( Inside Europe) بقوله:

(( إن الإنجليز إنما يعبدون بنك إنجلترا (Bank of England) ستة أيام في الأسبوع ويتوجهون في اليوم السابع إلى الكنيسة )).


مظاهر الطبيعة في أوربا: 

إن هؤلاء الذين لا يؤمنون بحياة أخرى ولا يعتقدون وراء اللذة والتمتع بالحياة والعلو في الأرض غاية عليا ، ولا يذكرون الله إلا نادراً ، ولا يرجون له وقاراً ، كيف يرجى منهم أن يتضرعوا إلى الله إذا مسهم الضر، ويخبتوا إليه وينيبوا إذا دهمهم الخطر كما ذكر الله عن المشركين الذين كانوا يؤمنون بالله: {إِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ }، :{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}.


ولكن هؤلاء – بإمعانهم في المادية والتمسك بالأسباب الظاهرة والتعلل بها واستغنائهم عن الله – قد وصلوا من القسوة والغفلة إلى حيث صدق عليهم قول الله: { وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } وقوله عز وجل: { وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ }


فلا تكاد تشعر في خطب الزعماء والوزراء في أوربا برقة قلب وانكساره وإخبات إلى الله في أدهى ساعات الحرب وأمرِّها، ولا تشاهد شيئاً من ذلك في أخلاق الشعب وأعماله وأفراحه، ويعد ذلك مفكرو الغرب وأدباؤه من باب التجلد وقوة القلب وإباء الضيم، وقد افتخر أحد زعماء الإنجليز وكبار رجال السياسة في البرلمان الإنجليزي بأن رجال الشعب الإنجليزي لم يستسلموا للحوادث والنوازل، واستشهد على ذلك بأن المشتغلين بالرقص واللهو في سنغافورة لم يتحولوا عن مكانهم ولم يؤخروا أدوار الرقص والغناء، وطيارات اليابان تمطر المدينة شآبيب القنابل.

يتبع إن شاء الله...



الباب الرابع: العصر الأوربي 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 03 مايو 2021, 9:54 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

الباب الرابع: العصر الأوربي Empty
مُساهمةموضوع: رد: الباب الرابع: العصر الأوربي   الباب الرابع: العصر الأوربي Emptyالأربعاء 15 فبراير 2012, 4:42 pm

ويحكي هندي عن سهرة شهدها قال:

(( بينما نحن في الرقص إذ سمعنا الإنذار بالغارة الجوية فساد الهدوء في المكان، ثم قال أحد أصحاب المجلس: ماذا ترون؟ هل يستمر الرقص أم يؤخر؟ فأجابت فتاة: بل نستمر راقصين، وهكذا كان، ودوَّت الحارة فضلاً عن النادي الذي كنا فيه بالأغاني (213) ))، ويقول: ((من العادات اليومية أنه يعلن في السينما: تبدأ الغارة الجوية ولكن يستمر هذا الفصل ومن أراد أن يذهب إلى المخبأ فطريقه أسفل إلى اليسار، ولكن الناس يستمرون جلوساً ولا أحد يبرح من مكانه ويبدأ الفصل (214)))


ويقول كاتب إنجليزي تعليقاً على صورة نشرت في (Statesman) الصحيفة الإنجليزية اليومية الكبرى في الهند في 24 من يناير 1942 م:

((من الغريب أن أجمل التمثيليات إنما ظهرت أيام الحروب الكبرى في التاريخ، كذلك الشأن في بريطانيا اليوم فالناظر يرى الملاهي والسينما والتمثيليات والصور ما لم يرى أجمل وأبدع منها قبل الحرب، والمتفرج يجد في ملاهي لندن كل ما يسليه ويرضي ذوقه )) وفي عدد آخر من هذه الجريدة الصادر في 15 من ديسمبر 1943م (( إن صناعة الأفلام في (( لندن )) و (( لشبونة )) و (( موسكو )) إلى تقدم وفي ازدهار )).


ولا تجد مثالاً لهذا التجلد والعكوف على اللذة واللهو في أشد ساعات الحرج وفي آخر ساعات العمر إلا في يونان وروما في العهد القديم .


وقد روى مراسل روتر كيف استقبل المستر تشرشل رئيس الوزارة البريطانية العام المقبل وودع العام الراحل وذلك في يوم عصيب من أيام الحرب يلجأ فيه الإنسان إلى الله ويفيق السكران ويخشع القاسي، وإليك نص البرقية:

(( واشنطن، اليوم الأول من يناير ( عام 1942م ) البارحة لما كان العام الجديد يلتقي بالعام المنصرم وكان المستر تشرشل رئيس الوزارة مسافراً من كندا إلى الولايات المتحدة في قطار رسمي خرج رئيس الوزراء مستصحباً سير شارليس بورتل بغتة ودخل مطعم القطار والسيجار في فمه وكأس شمبانية في يده، وتعجب ممثلو الصحف الذين كانوا سائرين معه تناول المستر تشرشل الكأس مبتسماً وقال: (( باسم عام 1941م ذلك العام القائد إلى الاجتهاد والتعب والفتح )) في ذلك الوقت لفظ العام الراحل نفسه الأخير وتنفس العام الجديد وأعلنت الساعة بوفوده وهنأ الصحفيون ورؤساء القطار المستر تشرشل، وأخذ رئيس الوزراء يد سير شارليس بورتل بيد، وأخذ يد كاربورل هارنر بيده الأخرى وأخذ كل بيد الآخر وبدأوا يغنون في رقصة وانطلق المستر تشرشل إلى الباب وقال ليهنكم جميعاً ورزقنا الله الفتح، وجعلت الجماعة تغني في حدة وتصفيق، وخط رئيس الوزراء حرف v وانصرف إلى عربته سعيداً مسروراً )).


قارن هذه الطبيعة المادية بالنفسية الدينية وتعاليم الدين وعمل المتدينين وسيرتهم في الحروب والأخطار ففي القرآن: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ } وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبهُ أمر فزع إلى الصلاة، وفي سيرة ابن هشام في وقعة بدر الكبرى قال ابن إسحاق: ثم عدَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف ورجع إلى العريش فدخله ومعه فيه أبو بكر الصديق رضي الله عنه ليس معه غيره، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يناشد ربه ما وعده من النصر ويقول فيما يقول: اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد.


والمادية لأسباب حتمية طبيعية وتاريخية وعلمية قد أصبحت شعار الحضارة الغربية والحياة الغربية منذ عهد عريق في التاريخ، ولم تزدها النشأة الجديدة والنهضة العلمية والسياسية في أوربا إلا حدة وقوة، وقد لاحظ هذا الامتياز كثير من علماء الغرب والشرق، فمن علماء الشرق الأستاذ الألمعي الرحالة ذو النظر الثاقب عبدالرحمن الكواكبي في مستهل هذا القرن فقد قال في كتاب (( طبائع الاستبداد )):
(( الغربي مادي الحياة، قويُّ النفس شديد المعاملة، حريص على الاستئثار حريص على الانتقام، كأنه لم يبق عنده شيء من المبادئ العالية والعواطف الشريفة التي نقلتها له مسيحية الشرق، فالجرماني مثلاً جاف الطبع يرى أن العضو الضعيف الحياة من البشر يستحق الموت، ويرى كل الفضيلة في القوة وكل القوة في المال، فهو يحب العلم ولكن لأجل المال ويحب المجد ولكن لأجل المال، واللاتيني منه مطبوع على العجب والطيش، يرى العقل في الانطلاق، والحياة في خلع الحياة، والشرف في الزينة واللباس، والعز في التغلب على الناس )).


وهذا تصوير صادق للطبيعة الأوربية وتحليل صحيح للنفسية الغربية، ولا نظن المرحوم الكواكبي قد تحامى الكلام على غير الجنسين الألماني واللاتيني إلا تفادياً من الوقوع في العنت، فجعل الألماني واللاتيني مثلاً لسائر الأوربيين.


الغايات المادية للحركات الروحية العلمية:

وترى هذا الروح المادي في جميع نظم أوربا السياسية والاجتماعية والخلقية التي ابتكرتها أو جددتها شعوبها لهذا العهد، حتى إن الحركة الروحية التي شغلت الناس كثيراً في أوربا في الزمن الأخير إنما روحها المادية، فقد أصبحت صناعة وفناً كسائر الصناعات والفنون في أوربا، غايتها مشاهدة عجائب إقليم الروح والاطلاع على أسرارها والتحدث إلى أرواح الموتى وترويح النفس والتلهي، وليست من تزكية النفس وتصفية القلب والخشوع لله والعمل الصالح والاستعداد للموت والصبر على مكاره الحياة وهضم النفس في شيء، خلافاً للحركة الروحية والتصوف في الشرق الإسلامي.


كذلك الأعمال التي يضحي فيها الناس بنفوسهم وأرواحهم في الغرب إنما ترجع في الغالب إلى غايات مادية كحسن الأحدوثة وانتشار الصيت وخلود الذكر في التاريخ والتبريز على الناس وأن يتمجد به شعبه ويفتخر ويتشرف به وطنه ويغتبط، خلافاً للأعمال التي يُبتغي بها وجه الله، فالمسلم يخاف أن يشوب عمله شيء من الرياء والسمعة فيحبطه ويسمع قول الله تعالى: { هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً {103} الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً {104} أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً }، وقوله عز وجل: { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً } وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل الذي يقاتل شجاعة ويقاتل رياء: أي ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( مَنْ قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله )).


وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في دعائه:

(( اللهم اجعل عملي كله صالحاً واجعله كله لوجهك خالصاً ولا تجعل لغيرك فيه شيئاً )) واجتهاد الصالحين من هذه الأمة في إخفاء عبادتهم وصدقاتهم معروف في كتب التاريخ والسير.


التصوف المادي الغربي ووحدة الوجود الاقتصادي:

وقد بلغ النظر المادي والفكر المادي في أوربا درجة الاستغراق فيه والفناء ونسيان ما سوى القيم المادية ، ولنضرب بذلك مثلاً بكارل ماركس 1818 – 1883 م مؤسس الفلسفة الشيوعية .


يرى كارل ماركس أن النظام الاقتصادي هو روح الاجتماع وأن الدين والحضارة وفلسفة الحياة والفنون الجميلة كلها عكس لهذا النظام الاقتصادي ، هو يقول : إن في كل عصر وفي كل دور من أدوار التاريخ طريقة خاصة للإنتاج الصناعي وعلى وفقها تتعين العلاقات الاجتماعية ، ولكن بغد قليل لا تبقى هذه العلاقات الاجتماعية متوافقة متناسبة مع طرق الإنتاج ويجتهد بعض الناس لتشكيل هذه العلاقة تشكيلاً جديداً ، وهذه هي التي تعرف في التاريخ بالانقلابات والثورات .


والمؤرخ يجهل ماهيتها ولكن لا غرابة في ذلك، فإن الذين يشتركون في هذه الثورات قد لا يشعرون أنفسهم بالغاية التي يقاتلون لأجلها، ولكن يمكن لنا أن نحل هذه الألغاز ونعلم أن الارتقاء السياسي والتعديلات والتحسينات في النظم السياسية وما يطرأ عليها من التغيير والتطور ليست إلا صوراً جديدة للعلائق الاجتماعية تظهر لتجعل هذه العلائق متناسبة متوافقة بطرق الإنتاج الجديدة من جديد، ولما كان الاختلاف بين طرق الإنتاج الصناعي والعلائق الاجتماعية التي تقوم عليها مستمراً فيكون الجهد لتطبيقها مستمراً أيضاً ، وإذا تجاوز الاختلاف واشتد ظهر في شكل ثورة، ولكن لا ينبغي لنا -إذا لم يكن الاختلافات واضحة- أن ننفي وجودها وننكرها، والاختلاف بين مناهج الإنتاج الصناعي والوشائج الاجتماعية يظهر في حرب الطبقات، لأن جميع طبقات الاجتماع إنما هي أجزاء النظام الاقتصادي، ويستنتج من ذلك كارل ماركس أن التاريخ البشري غير العهد الذي كانت الحياة البشرية في طفولتها ليس إلا قصة حرب الطبقات الاجتماعية المختلفة.


وهكذا جحد الرجل جميع نواحي البشرية غير الناحية الاقتصادية ولم يعر غيرها شيئاً من العناية ، ولم يقم للدين والأخلاق والروح والقلب وحتى العقل وزناً وقيمة، ولم يعترف أن أحداً منها كان عاملاً من عوامل التاريخ ، وأن جميع الحروب والثورات في التاريخ لم يكن إلا ثاراً لبطن من بطن ، وجهاداً في سبيل تنظيم جديد للنظام الاقتصادي وطرق الإنتاج الصناعي، وحتى الحروب الدينية لم تكن عنده إلا حرب الطبقات الاقتصادية استأثرت إحداها بموارد الثروة ووسائلها وطرق الإنتاج، واجتهدت الأخرى في أن تنافسها وتتناول قسطها أو أن تنظمها من جديد فوقعت الحرب، ويجب أن تكون كذلك في رأيه (( بدر )) و (( أُحد )) و (( الأحزاب )) و (( القادسية )) و (( اليرموك )) ، ووقائع ومعارك حفظها التاريخ.


فهذا هو -كما ترى- التصوف المادي الغربي، وهذه هي فلسفة وحدة الوجود وحدة الاقتصاد، ولما كان الشرقيون إنما يغلبهم الروح الديني والتأله نفى المتألهون منهم والمغلوبون وجود كل شيء سوى الله، وهتفوا في سكرهم وغلبة الحال عليهم: لا موجود إلا الله، ولما كان المفكرون الأوربيون إنما تغلبهم المادية نفوا وجود كل شيء سوى الناحية الاقتصادية وهتفوا: لا موجود إلا البطن والمعدة.


إن صوفية الشرق كانوا يرون الإنسان ظلاً ربانياً، أما الماديون في الغرب فلا يرونه إلا وجوداً بهيمياً حيوانياً.


نظرية دارون وتأثيرها في الأفكار والحضارة:

وساعدهم في وجهة نظرهم هذه في جميع مسائل الإنسان وزاد الطين بلة ، النظرية التي ظهرت في القرن التاسع عشر عن ارتقاء الإنسان ، وكونه حيواناً مترقياً عما دونه من الحيوانات ، لم يزل يجتاز بمرحلة بعد مرحلة في رحلته النوعية التي استغرقت ألوفاً من السنين ولم يزل ينتقل من طور حيوان إلى طور آخر، من أميبا (Amoeba)  إلى قرد ومن قرد إلى إنسان حتى بلغ كماله النوعي.


وزعيم هذه النظرية وبطلها دارون الذي ظهر كتابه أصل الأنواع (Origin of species) سنة 1859م فكان حديث النوادي والمجامع والمدارس وشغل الناس الشاغل، وكانت هذه النظرية اتجاهاً جديداً لم يسبق في المسائل البشرية وما يتعلق بها، تقلب تيار الفكر وتصرف نظر الإنسان في الاستعلام والاستهداء في مسائله وفي تاريخه من الإنسان إلى الحيوان ، وتجعله يعتقد أن هذا الكون سائر بغير عناية إلهية، وبغير أن تتداخل فيه قوة غير طبيعة، وأن لا علة في الكون سوى السنن الطبيعية، وأن الموجودات ترتقي من مراتب الحياة الأولى إلى مراتبها العليا بعمل فطري تدريجي عار من العقل والحكمة، وأن الإنسان وسائر أنواع الحيوان ليس من صنع صانع حكيم بل هو نتيجة نواميس طبيعية انتهى بها التنازع للبقاء وناموس بقاء الأصلح والانتخاب الطبعي الذي هو سائر في الكون إلى إنسان ناطق ذي شعور.


إن مناقضة هذه النظرية للدين والعقل في المبادئ والغايات والنتائج الفكرية والخلقية وآثارها العملية واضحة، بل كان هذا ديناً جديداً يهدم الدين القديم من الأساس ويحل محله، فلا غرابة إذاً اضطرب لها رجال الدين وحسبوا لها كل حساب، وخافوا على مصير الدين في أوروبا.


يقول الأستاذ جود في كتابه:

((يصعب علينا الآن أن ندرك تلك الدهشة والاستغراب الذي فاجأ أجدادنا عندما ظهر كتاب أصل الأنواع لدارون، وعندما جاءت النتائج أن دارون اثبت -أو يظن أنه أثبت- أن عمل ارتقاء الحياة على هذا الكوكب ( الأرض ) لم يزل مستمراً متواصلاً من ظهور الأميبا (Amoeba) وفرخ البحر (Jelly Fish) في أشكاله الأولى إلى أشكاله النهائية العليا وهي أرقى أشكال الحياة وأعلاها، فلم يزل عمل الارتقاء من الأميبا إلى طورنا متواصلاً غير منقطع)).


(( بالعكس من ذلك أن الذين عاشوا في عصر فكتوريا إنما أرشدوا أن الإنسان خلق مستقل، وهو في الحقيقة نوع من ملك منحط، أما إذا كان دارون مصيباً فالإنسان لم يكن إلا قرداً راقياً، فعز على أهل عصر فكتوريا أن يكون الإنسان قرداً راقياً بدل أن يكون ملكاً منحطاً، وما طابت لهم هذه النظرية واجتهدوا أن يخلصوا الإنسان من هذه السبة التي لحقتهم من هذه العقيدة في الإنسان واقترحوا لذلك اقتراحات (215) )).


إقبال الجمهور على نظرية الارتقاء:

ولكن الجمهور والدهماء من الناس تلقوا هذه النظرية بالقبول -رغم ما فيها من ضعف ونقص من الوجهة العلمية- فهموها أو لم يفهموها، وكأن الأذهان كانت متهيئة لمثل هذه النظرية، وكأن الناس وجدوا فيها منافساً للدين ورجاله، وصعب على رجال الدين أن يعارضوا هذا التيار الجارف من أفكار الناس وأذواقهم والسيل العرم من المنشورات والمحاضرات، فوضعت الكنيسة أوزارها في هذه الحرب حتى إذا مات دارون سنة 1883م منحته الكنيسة الإنجليزية أكبر شرف تمنحه لإنسان، وذلك بأنها أذنت بدفنه في ويست منسترايبي محل دفن الرجال الدينيين.


وكان تأثير هذه النظرية بعيداً عميقاً في الأفكار والحضارة والأدب والسياسة تراه وتلمسه في أخلاق الناس، وفي نزعات الرجوع إلى الفطرة وإلى العهد الذي كان الإنسان يعيش فيه على الفطرة عارياً حراً، وفي تعيين المثل الكامل للإنسان وفي جميع الأعمال والأخلاق التي لا تصدر إلا على تسليم أن الإنسان إنما هو حيوان راق، وفي فساد الحياة المنزلية الذي يعبر عنه المستر شبرد أحد علماء الإنجليز بقوله: (( لقد ظهر في إنجلترا جيل من الناس يجهل الحياة المنزلية جهلاً باتاً، ولا يعرف غير حياة القطعان والبهائم )).


من جنايات المادية:

وكان من نتائج هذه المادية الجارفة، والتربية اللادينية التي ليس فيها نصيب للأخلاق ومخافة الله عز وجل، والإيمان بالآخرة أن أصحاب المراكز الكبيرة، ورجال السياسة والمسئولية يرتكبون في بعض الأحيان جنايات لا يتنزل إليها أكبر الآثمين.


وذلك لمصلحة سياسية وهمية لبلادهم وأمتهم أو لجاه شخصي أو ربح مالي، فمن أغرب ما روي في تاريخ البشر من القسوة والظلم، أن الإنجليز قد أوقعوا في بنغال (الهند) مجاعة مزورة غير طبيعية، لأنهم منعوا استعمال القوارب التي يحصد الناس عليها مزارع الأرز -وهو غذاء بنغال- واحتكروا الحبوب في مقدار عظيم للجند، ولم يمكنوا الناس منها حتى فسدت وضاعت، ومات مئات الألوف من الناس جوعاً، والحبوب وفيرة في البلاد، والمواصلات ميسورة، والقطر غادية رائحة، والهند بلاد مخصبة تستطيع أن تغذي بلاداً أخرى.


وذلك كله لما توقعوه من إقبال الناس على التجنيد, وليبرهنوا على فشل الحكم الذاتي في إدارة البلاد .


وقد تغافل لورد ماونت بيتن حاكم الهند العام سنة 1947عما يدبر من الفتك بالمسلمين في دلهي وبنجاب الشرقية, فقد اتصلت به أنباء المؤامرات والخطط التي كانت تبيت ضد العنصر الإسلامي في هذه المنطقة, وأنذره الخبراء بوقوع اضطراب طائفي هائل, فنام على كل ذلك انتقاماً من أن المسلمين لم ينتخبوه حاكماً عاماً لباكستان كما فعل أهل الهند، ولتكون هذه الاضطرابات الطائفية, والحروب الأهلية حجة على عدم أهلية أهل البلاد للاستقلال, وكونهم عيالاً على الإنجليز في الأمن والنظام، فكان نتيجة ذلك, تلك المجزرة البشرية الهائلة التي عقمت القرون أن تلد مثلها.


ومن ذلك أن (( ريدكلف )) الذي اختاره الفريقان الهنديان حكماً في مسألة بعض مدن بنجاب هل تنضم إلى هندوستان، أو إلى باكستان حكم حكماً جائراً، فكان نتيجة ذلك جلاء المسلمين من فيرزوبور، وكورداسبور، ومتاعب عظيمة، وخسائر كبيرة في النفوس والأموال.


أما تأييد ترومان للصهيونية، ودولة إسرائيل في فلسطين، ومعارضته للقضية العربية التي لا غبار عليها، لأجل أن يكسب ود اليهود ويتمتع بنفوذهم السياسي والمالي والصحافي، وليكسب انتخابه، وتعاميه عن براهين الدولة العربية الساطعة، وسكوت أمريكا على فظائع فرنسا في الجزائر، ووقوفها بجوار هذه الدولة الجائرة في قضية الجزائر العربية الإسلامية، وتعاونها على الإثم والعدوان، فقضية تنبئ عن ضعف أخلاق العظماء في أوربا وأمريكا، ودوران الحياة السياسية على الفوائد لا المبادئ.



الباب الرابع: العصر الأوربي 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
 
الباب الرابع: العصر الأوربي
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers :: (العربي) :: الـثـقــافـــــــــة والإعـــــــــلام :: كتاب ماذا خســر العالم-
انتقل الى: