| تفسير سورة البقرة من الآية 271 - 286 | |
|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52879 العمر : 72
| موضوع: تفسير سورة البقرة من الآية 271 - 286 الأربعاء 27 نوفمبر 2024, 8:03 am | |
| {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة: 271]. استئناف بياني ناشئ عن قوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة: 270] إذ أشعر تعميم "من نفقة" بحال الصدقات الخفية فيتساءل السامع في نفسه هل إبداء الصدقات يعد ريائا وقد سمع قبل ذلك قوله: {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} [البقرة: 264] ولأن قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} قد كان قولا فصلا في اعتبار نيات المتصدقين وأحوال ما يظهرونه منها وما يخفونه من صدقاتهم.فهذا الاستئناف يدفع توهما من شأنه تعطيل الصدقات والنفقات، وهو أن يمسك المرء عنها إذا لم يجد بدا من ظهورها فيخشى أن يصيبه الرياء. والتعريف في قوله: {الصَّدَقَاتِ} تعريف الجنس، ومحمله على العموم فيشمل كل الصدقات فرضها ونفلها، وهو المناسب لموقع هذه الآية عقب ذكر أنواع النفقات. وجاء الشرط بإن في الصدقتين لأنها أصل أدوات الشرط، ولا مقتضى للعدول عن الأصل، إذ كلتا الصدقتين مرض لله تعالى، وتفضيل صدقة السر قد وفى به صريح قوله: {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}. وقوله: {فَنِعِمَّا} أصله فنعم ما، فأدعم المثلان وكسرت عين نعم لأجل التقاء الساكنين، وما في مثله نكرة تامة أي متوغلة في الإبهام لا يقصد وصفها بما يخصصها، فتمامها من حيث عدم اتباعها بوصف لا من حيث أنها واضحة المعنى، ولذلك تفسر بشيء. ولما كانت كذلك تعين أن تكون في موضع التمييز لضمير نعم المرفوع المستتر، فالقصد منه التنبيه على القصد إلى عدم التمييز حتى إن المتكلم –إذا ميز– لا يميز إلا بمثل المميز، وقوله: {هي} مخصوص بالمدح، أي الصدقات، وقد علم السامع أنها الصدقات المبدأة، بقرينة فعل الشرط، فلذلك كان تفسير المعنى فنعما إبداؤها. وقرأ ورش عن نافع وان كثير وحفص ويعقوب فنِعِمَّا –بكسر العين وتشديد الميم من نعم مع ميم ما– وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي بفتح النون وكسر العين. وقرأه قالون عن نافع وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم بكسر النون واختلاس حركة العين بين الكسر والسكون. وقرأه أبو جعفر بكسر النون وسكون العين مع بقاء تشديد الميم، ورويت هذه أيضاً عن قالون وأبي عمرو وأبي بكر. وقوله: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} تفضيل لصدقة السر لأن فيها إبقاء على ماء وجه الفقير، حيث لم يطلع عليه غير المعطي. وفي الحديث الصحيح، عد من السبعة الذين يظلهم الله بظله "... ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه" "يعني من شدة القرب بين اليمين والشمال، لأن حساب الدراهم ومناولة الأشياء بتعاونهما، فلو كانت الشمال من ذوات العلم لما اطلعت على ما أنفقته اليمين". وقد فضل الله في هذه الآية صدقة السر على صدقة العلانية على الإطلاق، فإن حملت الصدقات على العموم – كما هو الظاهر –إجراءا للفظ الصدقات مجرى لفظ الإنفاق في الآي السابقة واللاحقة– كان إخفاء صدقة الفرض والنفل أفضل، وهو قول جمهور العلماء، وعن إلكيا الطبري أن هذا أحد قول الشافعي. وعن المهدوي: كان الإخفاء أفضل فيهما في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ساءت ظنون الناس بالناس فاستحسن العلماء إظهار صدقة الفرض، قال ابن عطية: وهذا مخالف للآثار أن إخفاء الصدقة أفضل. فيكون عموم الصدقات في الآية مخصوصا بصدقة التطوع، ومخصص العموم الإجماع، وحكى ابن العربي الإجماع عليه. وإن أريد بالصدقات في الآية غير الزكاة كان المراد بها أخص من الإنفاق المذكور في الآي قبلها وبعدها، وكان تفضيل الإخفاء مختصا بالصدقات المندوبة. وقال ابن عباس والحسن: إظهار الزكاة أفضل، وإخفاء صدقة التطوع أفضل من إظهارها وهو قول الشافعي. وقوله: {وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ} توقف المفسرون في حكمة ذكره، مع العلم بأن الصدقة لا تكون إلا للفقراء، وأن الصدقة المبدأة أيضا تعطي للفقراء. فقال العصام: "كأن نكتة ذكره هنا أن الإبداء لا ينفك عن إيتاء الفقراء، لأن الفقير يظهر فيه ويمتاز عن غيره إذ يعلمه الناس بحاله، بخلاف الإخفاء فاشترط معه إيتاؤها للفقير حثا على الفحص عن حال من يعطيه الصدقة" "أي لأن الحريصين –من غير الفقراء– يستحيون أن يتعرضوا للصدقات الظاهرة ولا يصدهم شيء عن التعرض للصدقات الخفية". وقال الخفاجي: "لم يذكر الفقراء مع المبدأة لأنه أريد بها الزكاة ومصارفها الفقراء وغيرهم، وأما الصدقة المخفاة فهي صدقة التطوع ومصارفها الفقراء فقط". وهو ضعيف لوجهين: أحدهما أنه لا وجه لقصر الصدقة المبدأة على الفريضة ولا قائل به بل الخلاف في أن تفضيل الإخفاء هل يعم الفريضة أولا، الثاني أن الصدقة المتطوع بها لا يمتنع صرفها لغير الفقراء كتجهيز الجيوش. وقال الشيخ ابن عاشور جدي في تعليق له على حديث فضل إخفاء الصدقة من "صحيح مسلم": "عطف إيتاء الفقراء على الإخفاء المجعول شرطا للخيرية في الآية –مع العلم بأن الصدقة للفقراء– يؤذن بأن الخيرية لإخفاء حال الفقير وعدم إظهار اليد العليا عليه"، أي فهو إيماء إلى العلة وأنها الإبقاء على ماء وجه الفقير، وهو القول الفصل لانتفاء شائبة الرياء. وقوله: {وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} قرأه نافع والكسائي وأبو بكر وأبو جعفر وخلف بنون العظمة، وبجزم الراء عطفا على موضع جملة الجواب وهي جملة فهو خير لكم، فيكون التكفير معلقا على الإخفاء.وقرأه ابن كثير وأبو عمرو بالنون أيضا وبرفع الراء على أنه وعد على إعطاء الصدقات ظهرة أو خفية وقرأه ابن عامر وحفص بالتحتية –على أنه ضميره عائد إلى الله– وبالرفع.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52879 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 271 - 286 الأربعاء 27 نوفمبر 2024, 8:04 am | |
| [272] {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ}. استئناف معترض به بين قوله: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 271] وبين قوله: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ} ومناسبته هنا أن الآيلت المتقدمة يلوح من خلالها أصناف من الناس: منهم الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ومنهم الذين يبطلون صدقاتهم بالمن والأذى، ومنهم الذين يتيممون الخبيث منه ينفقون، ومنهم من يعدهم الشيطان الفقر ويأمرهم بالفحشاء.وكان وجود هذه الفرق مما يثقل على النبي صلى الله عليه وسلم، فعقب الله ذلك بتسكين نفس رسوله والتهوين عليه بأن ليس عليه هداهم ولكن عليه البلاغ. فالهدى هنا بمعنى الإلجاء لحصول الهدي في قلوبهم، وأما الهدي بمعنى التبليغ والإرشاد فهو على النبي، ونظائر هذا في القرآن كثيرة. فالضمير راجع إلى جميع من بقي فيهم شيء من عدم الهدى أنه وأشدهم المشركون والمنافقون، وقيل الضمير راجع إلى ناس معروفين، روي أنه كان لأسماء ابنة أبي بكر أم كافرة وجد كافر فأرادت أسماء –عام عمرة القضية– أن تواسيهما بمال، وأنه أراد بعض الأنصار الصدقة على قرابتهم وأصهارهم في بني النضير وقريظة، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين عن الصدقة على الكفار، إلجاء لأولئك الكفار على الدخول في الإسلام، فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} الآيات، أي هدى الكفار إلى الإسلام، أي فرخص للمسلمين الصدقة على أولئك الكفرة. فالضمير عائد إلى معلوم للمخاطب. فيكون نزول الآية لذلك السبب ناشئا عن نزول أيات الأمر بالإنفاق والصدقة، فتكون الآيات المتقدمة سبب السبب لنزول هذه الآية. والمعنى أن ليس عليك أن تهديهم بأكثر من الدعوة والإرشاد، دون هداهم بالفعل أو الإلجاء، إذ لا هادي لمن يضلل الله، وليس مثل هذا بميسر للهدى. والخطاب في {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} ظاهره أنه خطاب للرسول على الوجه الأول الذي ذكرناه في معاد ضمير هداهم. ويجوز أن يكون خطابا لمن يسمع على الوجه الآتي في الضمير إذا اعتبرنا ما ذكروه في سبب النزول، أي ليس عليك أيها المتردد في إعطاء قريبك. وعلى في قوله: {عليك} للاستيلاء المجازي، أي طلب فعل على وجه الوجوب. والمعنى ليس ذلك بواجب على الرسول، فلا يحزن على عدم حصول هداهم لأنه أدى واجب التبليغ، أو المعنى ليس ذلك بواجب عليكم أيها المعالجين لإسلامهم بالحرمان من الإنفاق حتى تسعوا إلى هداهم بطرق الإلجاء. وتقديم الظرف وهو {عليك} على المسند إليه وهو {هداهم} إذا أجرى على ما تقرر في علم المعاني من أن تقديم المسند الذي حقه التأخير يفيد قصر المسند إليه إلى المسند، وكان ذلك في الإثبات بينا لا غبار عليه نحو {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6]. وقوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286] فهو إذا وقع في سياق النفي غير بين لأنه إذا كان التقديم في صورة الإثبات مفيدا للحصر اقتضى أنه إذا نفي فقد نفي ذلك الانحصار، لأن الجملة المكيفة بالقصر في حالة الإثبات هي جملة مقيدة نسبتها بقيد الأنحصار أي بقيد انحصار موضوعها في معنى محمولها. فإذا دخل عليها النفي كان مقتضيا نفي النسبة المقيدة، أي نفي ذلك الانحصار، لأن شأن النفي إذا توجه إلى كلام مقيد أن ينصب على ذلك القيد. لكن أئمة الفن حين ذكروا أمثلة تقديم المسند على المسند إليه سووا فيها بين الإثبات –كما ذكرنا– وبين النفي نحو: {لا فِيهَا غَوْلٌ} فقد مثل به في "الكشاف" عند قوله تعالى: {لا فِيهَا غَوْلٌ} [الصافات: 47] فقد مثل به في "الكشاف" عند قوله تعالى: {لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] فقال: "قصد تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا" وقال السيد في شرحه هنالك "عد قصرا للموصوف على الصفة أي الغول مقصور على عدم الحصول في خمور الجنة لا يتعداه إلى عدم الحصول فيما يقابله، أو عدم الغول مقصور على الحصول فيها لا يتجاوزه إلى الحصول في هذه الخمور". وقد أحلت عند قوله تعالى: {لاريب فيه} على هذه الآية هنا، فبنا أن نبين طريقة القصر بالتقديم في النفي، وهي أن القصر لما كان كيفية عارضة للتركيب ولم يكن قيدا لفظيا بحيث يتوجه النفي إليه كانت تلك الكيفية مستصحبة مع النفي، فنحو: {لا فِيهَا غَوْلٌ} يفيد قصر الغول على الانتفاء عن خمور الدنيا ولا يفيد قصر الغول على الكون في خمور الجنة. وإلى هذا أشار السيد في شرح "الكشاف" عند قوله: {لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] إذ قال: "وبالجملة يجعل حرف النفي جزءا أو حرفا من حروف المسند أو المسند إليه" وعلى هذا بنى صاحب "الكشاف" فجعل وجه أن لم يقدم الظرف في قوله: {لا رَيْبَ فِيهِ}كما قدم الظرف في قوله: {لا فِيهَا غَوْلٌ} لأنه لو أول لقصد أن كتابا آخر فيه الريب، لا في القرآن، وليس ذلك بمراد. فإذا تقرر هذا فقوله: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} إذا أجري على هذا المنوال كان مفاده هداهم مقصور على انتفاء كونه عليك، فيلزم منه استفادة إبطال انتفاء كونه على غير المخاطب، أي إبطال انتفاء كونه على الله، وكلا المفادين غير مراد إذ لا يعتقد الأول ولا الثاني. فالوجه: إما أن يكون التقديم هنا لمجرد الاهتمام كتقديم يوم الندى في قول الحريري: ما فيه من عيب سوى أنه . . . يوم الندى قسمته ضيزى بنفي كون هداهم حقا على الرسول تهوينا للأمر عليه، فأما الدلالة على كون ذلك مفوضا إلى الله تعالى فمن قوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} وإما أن يكون جرى على خلاف مقتضى الظاهر بتنزيل السامعين منزلة من يعتقد أن إيجاد الإيمان في الكفار يكون بتكوين الله وبالإلجاء من المخلوق، فقصر هداهم على عدم الكون في إلجاء المخلوقين إياهم لا على عدم الكون في أنه على الله، فيلزم من ذلك أنه على الله، أي مفوض إليه. وقوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} جيء فيه بحرف الاستدراك لما في الكلام المنفي من توهم إمكان هديهم بالحرص أو بالإلجاء، فمصب الاستدراك هو الصلة أعني {مَنْ يَشَاءُ}، فلا فائدة في إلجاء من لم يشأ الله هديه. والتقدير: ولكن هداهم بيد الله، وهو يهدي من يشاء، فإذا شاء الله أن يهديهم هداهم. {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ}. عطف على جملة: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 271] وموقعها زيادة بيان فضل الصدقات كلها، وأنها لما كانت منفعتها لنفس المتصدق فليختر لنفسه ما هو خير، وعليه أن يكثر منها بنبذ كل ما يدعو لترك بعضها. وقوله: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} جملة حالية، وهو خبر مستعمل في معنى الأمر، أي إنما تكون منفعة الصدقات لأنفسكم إن كنتم ما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله لا للرياء ولا لمراعاة حال مسلم وكافر، وهذا المعنى صالح لكلا المعنيين المحتملين في الآية التي قبلها. ويجوز كونها معطوفة عليها إذا كان الخبر بمعنى النهي، أيلا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله. وهذ الكلام خبر مستعمل في الطلب لقصد التحقيق والتأكيد، ولذلك خولف فيه أسلوب ما خف به من جملة: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ} - وجملة - {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ}. وقوله: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} عطف على التي قبلها لبيان أن جزاء النفقات بمقدارها وأن من نقص له من الأجر فهو الساعي في نقصه. وكررر فعل تنفقون ثلاث مرات في الآية لمزيد الاهتمام بمدلوله وجيء به مرتين بصيغة الشرط عند قصد بيان الملازمة بين الإنفاق والثواب، وجيء به مرة في صيغة النفي والاستثناء لأنه قصد الخبر بمعنى الإنشاء، أي النهي عن أن ينفقوا إلا لابتغاء وجه الله. وتقديم {وَأَنْتُمْ} على الخبر الفعلي لمجرد التقوى وزيادة التنبيه على أنهم لا يظلمون، وإنما يظلمون أنفسهم. وإنما جعلت هاته الأحكام جملا مستقلا بعضها عن بعض ولم تجعل جملة واحدة مقيدة فائدتها بقيود جميع الجمل وأعيد لفظ الإنفاق في جميعها بصيغ مختلفة تكريرا للاهتمام بشأنه، لتكون كل جملة مستقلة بمعناها قصيرة الألفاظ كثيرة المعاني فتجري مجرى الأمثال، وتتناقلها الأجيال. وقد أخذ من الآيات الأخيرة –على أحد التفسيرين– جواز الصدقة على الكفار، والمراد بالكفار الذين يختلطون بالمسلمين غير مؤذنين لهم وهم اهـل العهد وأهل الذمة والجيران. واتفق فقهاء الإسلام على جواز إعطاء صدقة التطوع للكافرين، وحكمة ذلك أن الصدقة من إغاثة الملهوف والكافر من عباد الله، ونحن قد أمرنا بالإحسان إلى الحيوان، ففي الحديث الصحيح: قالوا يا رسول الله وإن لنا في البهائم لأجراً؟ فقال: "في كل ذي كبد رطبة أجر". واتفق الفقهاء على أن الصدقة المفروضة –أعني الزكاة– لا تعطى للكفار، وحكمة ذلك أنها إنما فرضت لإقامة أود المسلمين ومواساتهم، فهي مال الجامعة الإسلامية يؤخذ بمقادير معينة، ففيه غنى للمسلمين، بخلاف ما يعطيه المرء عن طيب نفس لأجل الرأفة والشفقة. واختلفوا في صدقة الفطر، فالجمهور ألحقوه بالصدقات المفروضة، وأبو حنيفة ألحقها بصدقة التطوع فأجاز إعطاؤها إلى الكفار، ولو قيل ذلك في غير زكاة الفطر، كان أشبه، فإن العيد عيد المسلمين، ولعله رآها صدقة شكر على القدرة على الصيام، فكان المنظور فيها حال المتصدق لا حال المتصدق عليه وليكونوا في ذلك اليوم أوسع حالا منهم في سائر المدة، وهذا القدر لا تظهر حكمته في فقراء الكافرين.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52879 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 271 - 286 الأربعاء 27 نوفمبر 2024, 8:05 am | |
| [273] {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}. {لِلْفُقَرَاءِ} متعلق بتنفقون الأخير، وتعلقه به يؤذن بتعلق معناه بنظائره المقدمة، فما من نفقة ذكرت آنفا إلا وهي للفقراء لأن الجمل قد عضد بعضها بعضا. و {الَّذِينَ أُحْصِرُوا} أي حبسوا وأرصدوا. ويحتمل أن المراد بسبيل الله هنا الجهاد، فإن كان نزولها في قوم جرحوا في سبيل الله فصاروا زمني ففي للسببية والضرب في الأرض المشي للجهاد بقرينة قوله: {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} والمعنى أنهم أحقاء بأن ينفق عليهم لعجزهم الحاصل بالجهاد، وإن كانوا قوما بصدد القتال يحتاجون للمعونة، ففي للظرفية المجازية، وإن كان المراد بهم اهـل الصفة1، وهم فقراء المهاجرين الذين خرجوا من ديارهم وأموالهم بمكة وجاءوا دار الهجرة لا يستطيعون الزراعة ولا تجارة، فمعنى أحصروا في سبيل الله عيقوا عن أعمالهم لأجل سبيل الله وهو الهجرة، ففي للتعليل وقد قيل: لإن اهـل الصفة كانوا يخرجون في كل سرية يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه فسبيل الله هو الجهاد. ومعنى "أحصروا" على هذا الوجه أرصدوا. و"في" باقية على التعليل. والظاهر من قوله: {لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً} أنهم عاجزون عن التجارة لقلة ذات اليد، والضرب في الأرض كناية عن التجر لأن شأن التاجر أن يسافر ليبتاع ويبيع فهو يضرب الأرض برجليه أو دابته. وجملة {لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً} يجوز أن تكون حالا، وأن تكون بيانا لجملة أحصروا. وقوله: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ} حال من الفقراء، أي الجاهل بحالهم من الفقر يظنهم أغنياء، ومن للإبتداء لأن التعفف مبدأ هذا الحسبان. والتعفف تكلف العفاف وهو النزاهة عما يليق. وفي "البخاري: باب الاستعفاف عن المسألة، أخرج فيه حديث أبي سعيد: أن الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى نفد ما عنده فقال: "ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن ----------------------------------------------- 1 الصُفَّة -بضم الصاد وتشديد الفاء- بهو واسع طويل السمك، وهو موضع بناه النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد النبوي في المدينة كالرواق ليأوي إليه فقراء المهاجرين الذين خرجوا من أموالهم بمكة وكانوا أربعمائة في عددهم وكانوا يقلون ويكثرون، منهم أبو ذر جندب الغفاري ومنهم أبو هريرة ومنهم جعيل بن سراقة الضمري ولم أقف على غيرهم. وذكر المرتضى في شرح "القاموس" أنه جمع من أسمائهم اثنين وتسعين، وعن أبي ذر: "كنا إذا أمسينا حضرنا باب رسول الله فيأمر كل رجل فينصرف برجل ويبقى من بقي مع رسول الله عشرة أو أقل يوتى رسول الله بعشائه فنتعشى معه فإذا فرغنا قال لنا: "ناموا في المسجد"، كان هذا في صدر أيام الهجرة ثم فتح الله على المسلمين فاستغنوا وخرجوا ودامت الصفة حياة النبي صلى الله عليه وسلم" فقد عد أبو هريرة من أصحابها وهو أسلم عام خيبر. ----------------------------------------------- يستعفف يعفه الله، ومن يستغني يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله". وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو والكسائي وخلف ويعقوب يحسبهم بكسر السين وقرأه الباقون بفتح السين، وهما لغتان. ومعنى {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} أي بعلامة الحاجة والخطاب لغير معين ليعم كل مخاطب، وليس للرسول لأنه أعلم بحالهم. والمخاطب لتعرفهم هو الذي تصدى لتطلع أحوال الفقراء، فهو المقابل للجاهل في قوله: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ}، كأنه قيل: فبماذا تصل إليهم صدقات المسلمين إذا كان فقرهم خفيا، وكيف يطلع عليهم فأحيل ذلك على مظنة المتأمل كقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75]. والسيما العلامة، مشتقة من سام الذي هو مقلوب وسم، فأصله وسمى فوزنها عفلى، وهي في الصورة فعلى، يدل لذلك قولهم سمة، فإن أصلها وسمة. ويقولون سيمي بالقصر وسيماء بالمد وسيمياء بزيادة الياء بعد الميم وبالمد، ويقولون سوم إذا جعل سمة. وكأنهم إنما قلبوا حروف الكلمة لقصد التوصل إلى التخفيف بهذه الأوزان لأن قلب عين الكلمة متأت بخلاف قلب فائها. ولم يسمع من كلامهم فعل مجرد من سوّم المقلوب، وإنما سمع منه فعل مضاعف في قولهم سوّم فرسه. وقوله: {لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} بيان لقوله يحسبهم الجاهل أغنياء بيانا ثانيا، لكيفية حسبانهم أغنياء في أنهم لا يسألون الناس. وكان مقتضى الظاهر تقديمه على الذي قبله إلا أنه أخر للإهتمام بما سبقه من الحق على توسم احتياجهم بأنهم محصرون لا يستطيعون ضربا في الأرض لأنه المقصود من سياق الكلام. فأنت تري كيف لم يغادر القرآن شيئا من الحث على إبلاغ الصدقات إلى أيدي الفقراء إلا وقد جاء به، وأظهر به مزيد الاعتناء. والإلحاف الإلحاح في المسألة. ونصب على أنه مفعول مطلق مبين للنوع، ويجوز أن يكون حالا من ضمير يسألون بتأويل ملحفين.وأيا ما كان فقد نفي عنهم السؤال المقيد بالإلحاف أو المقيدون فيه بأنهم ملحفون –وذلك لا يفيد صدور نفي المسألة منهم– مع أن قوله: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ} يدل على أنهم لا يسألون أصلا، وقد تأوله الزجاج والزمخشري بأن المقصود نفي السؤال ونفي الإلحاف معا كقول امرئ القيس: ألا لآحب لا يهتدى بمناره يريد نفي المنار والاهتداء، وقرينة هذا المقصود أنهم وصفوا بأنهم يحسبون أغنياء من التعفف، ونظيره قوله تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18] أي لا شفيع أصلا، ثم حيث لا شفيع فلا إطاعة، فأنتج لا شفيع يطاع، فهو مبالغة في نفي الشفيع لأنه كنفيه بنفي لازمه وجعلوه نوعا من أنواع الكناية، وقال التفتازاني: "إنما تحسن هذه الطريقة إذا كان القيد الواقع بعد النفي بمنزلة اللازم للنفي، لأن شأن اللآحب أن يكون له منار، وشأن الشفيع أن يطاع، فيكون نفي اللازم نفيا للملزوم بطريق برهاني، وليس الإلحاف بالنسبة إلى السؤال كذلك، بل لا يبعد أن يكون ضذ الإلحاف –وهو الرفق والتلطف– أشبه باللازم"، "أي أن يكون المنفي مطرد اللزوم للمنفي عنه" وجوز صاحب "الكشاف" أن يكون المعنى أنهم إن سألوا سألوا بتلطف خفيف دون إلحاف،أي إن شأنهم أن يتعففوا، فإذا سألوا سألوا بغير إلحاف، وهو بعيد لأن فصل الجملة عن التي قبلها دليل على أنها كالبيان لها، والأظهر الوجه الأول – الذي جعل في "الكشاف" ثانيا – وأجاب الفخر بأنه تعالى وصفهم بالتعفف فأغنى عن ذكر أنهم لا يسألون، وتعين أن قوله: {لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} تعريض بالملحفين في السؤال، أي زيادة فائدة في عدم السؤال. {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}. أعيد التحريض على الإنفاق فذكر مرة رابعة، وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} كناية عن الجزاء عليه لأن العلم يكنى به عن أثره كثيرا، فلما كان الإنفاق مرغبا فيه من الله، وكان علم الله بذلك معروفا للمسلمين، تعين أن يكون الإخبار بأنه عليم به أنه عليم بامتثال المنفق، أي فهو لا يضيع أجره إذ لا يمنعه منه مانع بعد كونه عليما به، لأنه قدير عليه. وقد حصل بمجموع هذه المرات الأربع من التحريض ما أفاد شدة فضل الإنفاق بأنه نفع للمنفق، وصلة بينه وبين ربه، ونوال الجزاء من الله، وأنه ثابت له في علم الله.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52879 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 271 - 286 الأربعاء 27 نوفمبر 2024, 8:07 am | |
| [274] {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}. جملة مستأنفة تفيد تعميم أحوال فضائل الإنفاق بعد أن خصص الكلام بالإنفاق للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله فاسم الموصول مبتدأ وجملة {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} خبر مبتدأ. وأدخل الفاء في خبر الموصول للتنبيه على تسبب استحقاق الأجر على الإنفاق لأن المبتدأ لما كان مشتملا على صلة مقصود منها التعميم، والتعليل،والإيماء إلى علة بناء الخبر على المبتدأ –وهي ينفقون– صح إدخال الفاء في خبره كما تدخل في جواب الشرط، لأن أصل الفاء الدلالة على التسبب وما ادخلت في جواب الشرط إلا لذلك. والسر: الخفاء. والعلانية: الجهر والظهور. وذكر عند ربهم لتعظيم شأن الأجر. وقوله: {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} مقابل قوله: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [البقرة: 270] إذ هو تهديد لمعاني الصدقات بإسلام الناس إياهم عند حلول المصائب بهم، وهذا بشارة للمنفقين بطيب العيش في الدنيا فلا يخافون اعتداء المعتدين لأن الله أكسبهم محبة الناس إياهم، ولا تحل بهم المصائب المحزنة إلا ما لا يسلم منه أحد مما هو معتاد في إبانه. أما انتفاء الخوف والحزن عنهم في الآخرة فقد علم من قوله: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ}. ورفع خوف في نفي الجنس إذ لا يتوهم نفي المفرد لأن الخوف من المعاني التي هي أجناس محضة لا أفراد لها كما تقدم في قوله تعالى: {لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ} [البقرة: 254] ومنه ما في حديث أم زرع: "لا حر ولا قر ولا مخافة ولا سآمة".
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52879 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 271 - 286 الأربعاء 27 نوفمبر 2024, 8:08 am | |
| [275] {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. نظم القرآن اهـم أصول حفظ مال الأمة في سلك هاته الآيات، فبعد أن ابتدأ بأعظم تلك الأصول وهو تأسيس مال للأمة به قوام أمرها، يؤخذ من اهـل الأموال أخذا عدلا مما كان فضلا عن الغنى فقرضه على الناس، يؤخذ من أغنيائهم فيرد على فقرائهم، سواء في ذلك ما كان مفروضا وهو الزكاة أوتطوعا وهو الصدقة، فأطنب في الحث عليه، والترغيب في ثوابه، والتحذير من إمساكه، ما كان فيه موعظة لمن اتعظ، عطف الكلام إلى إبطال وسيلة كانت من أسباب ابتزاز الأغنياء أموال المحتاجين إليهم، وهي المعاملة بالربا الذي لقبه النبي صلى الله عليه وسلم ربا الجاهلية، وهو أن يعطي المدين مالا لدائنه زائدا على قدر الدين لأجل الانتظار، فإذا حل الأجل ولم يدفع زاد في الدين، يقولون: إما أن تقضي وإما أن تربي. وقد كان ذلك شائعا في الجاهلية كذا قال الفقهاء. والظاهر أنهم كانوا يأخذون الربا على المدين من وقت إسلافه وكلما طلب النظرة أعطى ربا آخر، وربما تسامح بعضهم في ذلك. وكان العباس بن عبد المطلب مشتهرا بالمراباة في الجاهلية، وجاء في خطبة حجة الوداع: "ألا وإن ربا الجاهلية موضوع وإن أول ربا أبدأ به ربا عمي عباس بن عبد المطلب". وجملة {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا} استئناف، وجيء بالموصول للدلالة على علة بناء الخبر وهو قوله: {لا يَقُومُونَ} إلى آخره. والأكل في الحقيقة ابتلاع الطعام، ثم أطلق على الانتفاع بالشيء وأخذه بحرص، وأصله تمثيل، ثم صار حقيقة عرفية فقالوا: أكل مال الناس {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى} [النساء: 10] -{أَلا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ} [الصافات: 92] ولا يختص بأخذ الباطل ففي القرآن {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [النساء: 4]. والربا: اسم على وزن فعل بكسر الفاء وفتح العين لعلهم خففوه من الرباء –بالمد– فصيروه اسم مصدر، لفعل ربا الشيء يربوا ربوا –بسكون الباء على القياس كما في "الصحاح" وبضم الراء والباء كعلو– ورباء بكسر الراء وبالمد مثل الرماء إذا زاد قال تعالى: {فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} [الروم: 39] وقال: {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [الحج: 5] –ولكونه من ذوات الواو ثني على ربوان. وكتب بالألف،وكتبه بعض الكوفيين بالياء نظرا لجواز الإمالة فيه لمكان كسرة الراء1 ثم ثنوه بالياء لأجل الكثرة أيضا– قال الزجاج: "ما رأيت خطأ أشنع من هذا، ألا يكفيكم الخطأ في الخط حتى أخطؤوا في التثنية كيف وهم يقرؤون {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ} [الروم: 39] بفتحة على الواو - {فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} [الروم: 39] يشير إلى قراءة عاصم والأعمش، وهما كوفيان، وبقراءتهما يقرأ اهـل الكوفة". ----------------------------------------------- 1 من العرب من جعل الراء المكسورة في الكلمة ذات ألف المنقلبة عن واو تجوز إمالتها سواء تقدمت الراء نحو ربا أم تأخرت نحو دار. ----------------------------------------------- وكتب الربا في المصحف حيثما وقع بواو بعدها ألف، والشأن أن يكتب ألفا، فقال صاحب "الكشاف": كتبت كذلك على لغة من يفخم أي ينحو بالألف منحى الواو والتفخيم عكس الإمالة، وهذا بعيد، إذ ليس التفخيم لغة قريش حتى يكتب بها المصحف. وقال المبرد: كتب كذلك للفرق بين الربا والزنا، وهو أبعد لأن سياق الكلام لا يترك اشتباها بينهما من جهة المعنى إلا في قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الاسراء: 32] وقال الفراء: إن العرب تعلموا الخط من اهـل الحيرة وهم نبط يقولون في الربا: ربو –بواو ساكنة– فكتبت كذلك، وهذا أبعد من الجميع. والذي عندي أن الصحابة كتبوه بالواو ليشيروا إلى أصله كما كتبوا الألفات المنقلبة عن الياء في أواسط الكلمات بياءات عليها ألفات، وكأنهم أرادوا في ابتداء الأمر أن يجعلوا الرسم مشيرا إلى أصول الكلمات ثم استعجلوا فلم يطرد في رسمهم، ولذلك كتبوا الزكاة بالواو، وكتبوا الصلاة بالواو تنبيها على أن أصلها هو الركوع من تحريك الصلوين لا من الاصطلاء. وقال صاحب "الكشاف": وكتبوا بعدها ألفا تشبيها بواو الجمع. وعندي أن هذا لا معنى للتعليل به، بل إنما كتبوا الألف بعدها عوضا عن أن يضعوا الألف فوق الواو، كما وضعوا المنقلب عن ياء ألفا فوق الياء لئلا يقرأها الناس الربو. وأريد بالذين يأكلون الربا هنا من كان على دين الجاهلية، لأن هذا الوعيد والتشنيع لا يناسب إلا التوجه إليهم لأن ذلك من جملة أحوال كفرهم وهم لا يرعوون عنها ما داموا على كقرهم. أما المسلمون فسبق لهم تشريع بتحريم الربا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130] وهم لا يقولون إنما البيع مثل الربا، فجعل الله هذا الوعيد من جملة أصناف العذاب خاصا للكافرين لأحل ما تفرع عن كفرهم من وضع الربا. وتقدم ذلك كله إنكار القرآن على اهـل الجاهلية إعطاءهم الربا، وهو من أول ما نعاه القرآن عليهم في مكة، فقد جاء في سورة الروم: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39] وهو خطاب للمشركين لأن السورة مكية ولأن بعد الآية قوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ}. ومن عادات القرآن أن يذكر أحوال الكفار إغلاظا عليهم، وتعريضا بتخويف المسلمين، ليكره إياهم لأحوال اهـل الكفر. وقد قال ابن عباس: كل ما جاء في القرآن من ذم أحوال الكفار فمراد منه أيضا تحذير المسلمين من مثله في الإسلام، ولذلك قال الله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: من الآية 275] وقال تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة: 276]. ثم عطف إلى خطاب المسلمين فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة: 278] الآيات، ولعل بعض المسلمين لم ينكف عن تعاطي الربا أو لعل بعضهم فتن بقول الكفار: إنما البيع مثل الربا. فكانت آية سورة آل عمران مبدأ التحريم، وكانت هذه الآية إغلاق بال المعذرة في أكل الربا وبيان لكيفية تدارك ما سلف منه. والربا يقع على وجهين: أحدهما السلف بزيادة على ما يعطيه المسلف، والثاني السلف بدون زيادة إلى أجل، يعني فإذا لم يوف المستلف أداء الدين عند الأجل كان عليه أن يزيد فيه زيادة يتفقان عليها عند حلول كل أجل. وقوله: {لا يَقُومُونَ} حقيقة القيام النهوض والاستقلال، ويطلق مجازا على تحسن الحال، وعلى القوة، من ذلك قامت السوق، وقامت الحرب. فإن كان القيام المنفي هنا القيام الحقيقي فالمعنى: لا يقومون – يوم يقوم الناس لرب العالمين- إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان، أي إلا قياما كقيام الذي يتخبطه الشيطان، وإن كان القيام المجازي فالمعنى إما على أن حرصهم ونشاطهم في معاملات الربا كقيام المجنون تشنيعا لجشعهم، قاله ابن عطية، ويجوز على هذا أن يكون المعنى تشبيه ما يعجب الناس من استقامة حالهم، ووفرة مالهم، وقوة تجارتهم، بما يظهر من حال الذي يتخبطه الشيطان حتى تخاله قويا سريع الحركة، مع أنه لا يملك لنفسه شيئا. فالآية على المعنى الحقيقي وعيد لهم بابتداء تعذيبهم من وقت القيام للحساب إلى أن يدخلوا النار، وهذا هو الظاهر وهو المناسب لقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} وهي على المعنى المجازي تشنيع، أو توعد بسوء الحال في الدنيا ولقي المتاعب ومرارة الحياة تحت صورة يخالها الرائي مستقيمة. والتخبط مطاوع خبطه إذا ضربه ضربا شديدا فاضطرب له، أي تحرك تحركا شديدا، ولما كان من لازم هذا التحرك عدم الاتساق، أطلق التخبط على اضطراب الإنسان من غير اتساق. ثم إنهم يعمدون إلى فعل المطاوعة فيجعلونه متعديا إلى مفعول إذا أرادوا الاختصار، فعوضا عن أن يقولوا خبطه فتخبط يقولون تخبطه كما قالوا: اضطره إلى كذا فتخبط الشيطان المرء جعله إياه متخبطا، أي متحركا على غير اتساق. والذي يتخبطه الشيطان هو المجنون الذي أصابه الصرع. فيضطرب به اضطرابات، ويسقط على الأرض إذا أراد القيام، فلما شبهت الهيأة بالهيأة جيء في لفظ الهيأة المشبه بها بالألفاظ الموضوعة للدلالة عليها في كلامهم وإلا لما فهمت الهيأة المشبه بها، وقد عرف ذلك عندهم. قال الأعشى يصف ناقته بالنشاط وسرعة السير، بعد أن سارت ليلاً كاملاً: وتصبح عن غب السري وكأنها . . . ألم بها من طائف الجن أولق1 والمس في الأصل هو اللمس باليد كقولها2: "المس مس الأرنب" وهو إذا أطلق معرفا بدون عهد مس معروف دل عندهم على مس الجن، فيقولون: رجل ممسوس أي مجنون، وإنما أحتيج إلى زيادة قوله من المس ليظهر المراد من تخبط الشيطان فلا يظن أنه تخبط مجازي بمعنى الوسوسة. و"من" ابتدائية متعلقة بيتخبطه لا محالة. وهذا عند المعتزلة جار على ما عهده العربي مثل قوله: "طلعها كأنه رؤوس الشياطين" وقول امرؤ القيس: ومسنونة زرق كأنياب أغوال إلا أن هذا أثره مشاهد وعلته متخيلة والآخران وتخيلان لأنهم ينكرون تأثير الشياطين بغير الوسوسة. وعندنا أيض مبني على تخييلهم والصرع إنما يكون من علل تعتري الجسم مثل فيضان المرة عند الأطباء المتقدمين وتشنج المجموع العصبي عند المتأخرين، إلا أنه يجوز عندنا أن تكون هاته العلل كلها تنشأ في الأصل من توجهات شيطانية، فإن عوالم المجردات –كالأرواح– لم تنكشف أسرارها لنا حتى الآن ولعل لها ارتباطات شعاعية هي مصادر الكون والفساد. وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} الإشارة إلى {كَمَا يَقُومُ} لأن ما مصدرية، والباء سببية. ----------------------------------------------- 1يريد أنها بعد أن تسري الليل تصبح نشيطة لشدة قوتها بحيث لا يقل نشاطها. والغب بكسر الغين بمعنى عقب. وطائف الجن ما يحيط بالإنسان من الصرع والاضطراب قال تعالى: {إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا}. والأولق اسم مس الجن والفعل منه أولق بالبناء للمجهول. 2 في حديث أم زرع من "صحيح البخاري". ----------------------------------------------- والمحكي عنهم بقوله: {قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا}، إن كان قولا لسانيا فالمراد به قول بعضهم أو قول دعاتهم وهم المنافقون بالمدينة، ظنوا بسوء فهمهم أن تحريم الربا اضطراب في حين تحليل البيع، لقصد أن يفتنوا المسلمين في صحة أحكام شريعتهم، إذ يتعذر أن يكون كل من أكل الربا قال هذا الكلام، وإن كان قولاً حالياً بحيث يقوله كل من يأكل الربا لو سأله سائل عن وجه تعاطيه الربا، فهو استعارة. ويجوز أن يكون {قالوا} مجازا لأن اعتقادهم مساواة البيع للربا يستلزم أن يقوله قائل، فأطلق القول وأريد لازمه، وهو الاعتقاد به وقولهم: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} قصر إضافي للرد على من زعم تخالف حكمهما فحرم الربا وأحل البيع، ولما صرح فيه بلفظ مثل ساغ أن يقال البيع مثل الربا كما يسوغ أن يقال الربا مثل البيع، ولا يقال إن الظاهر أن يقولوا إنما الربا مثل البيع لأنه هو الذي قصد إلحاقه به، كما في سؤال الكشاف وبني عليه جعل الكلام من قبيل المبالغة، لأنا نقول: ليسوا هم بصدد إلحاق الفروع بالأصول على طريقة القياس بل هم كانوا يتعاطون الربا والبيع، فهما في الخطور بأذهانهم سواء، غير أنهم لما سمعوا بتحريم الربا وبقاء البيع على الإباحة سبق البيع حينئذ إلى أذهانهم فأحضروه ليثبتوا به إباحة الربا، أو أنهم جعلوا البيع هو الأصل تعريضا بالإسلام في تحريمه الربا على الطريقة المسماة في الأصول بقياس العكس1، لأن قياس العكس إنما يلتجأ إليه عند كفاح المناظرة، لا في وقت استنباط المجتهد في خاصة نفسه. وأرادوا بالبيع هنا بيع التجارة لا بيع المحتاج سلعته براس ماله. وقوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} من كلام الله تعالى جواب لهم وللمسلمين، فهو إعراض عن مجادلتهم إذ لا جدوى فيها لأنهم قالوا ذلك كفرا ونفاقا فليسوا ممن تشملهم أحكام الأحكام الإسلام. وهو إقناع للمسلمين بأن ما قاله الكفار هو شبهة محضة وأن الله العليم قد حرم هذا وأباح ذاك، وما ذلك إلا لحكمة وفروق معتبرة لو تدبرها اهـل التدبر لأدركوا الفرق بين البيع والربا، وليس في هذا الجواب كشف للشبهة فهو مما وكله الله تعلى لمعرفة اهـل العلم من المؤمنين مع أن ذكر تحريم الربا عقب التحريض على الصدقات يومئ إلى كشف الشبهة. ----------------------------------------------- 1 هو الاستدلال بحكم الفرع على حكم الأصل لقصد إبطال مذهب المستدل عليه ويقابله قياس الطرد وهو الاستدلال بحكم الأصل على حكم الفرع لإثبات حكم الفرع في نفس الأمر. مثال الأول أن تقول: النبيذ مثل الخمر في الإسكار، فلو كان النبيذ حلالا لكانت الخمر حلالا وهو باطل. ومثال الثاني أن تقول: النبيذ مسكر فهو حرام كالخمر. ----------------------------------------------- وأعلم أن مبنى شبهة القائلين {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} أن التجارة فيها زيادة على ثمن المبيعات لقصد انتفاع التاجر في مقابلة جلب السلع وإرصادها للطالبين في البيع الناض ثم لأجل انتظار الثمن في البيع المؤجل، فكذلك إذا أسلف عشرة دراهم مثلا على أنه يرجعها له أحد عشر درهما، فهو قد أعطاه هذا الدرهم الزائد لأجل إعداد مله لمن يستسلفه، لأن المقرض تصدى لإقراضه وأعد ماله لأجله، ثم لأجل انتظار ذلك بعد محل أجله. وكشف هاته الشبهة قد تصدى له القفال: "من باع ثوبا يساوي عشرة بعشرين فقد جعل ذات الثوب مقابلا بعشرين، فلما حصل التراضي على هذا التقابل صارت العشرون عوضا للثوب في المالية فلم يأخذ البائع من المشتري شيئا بدون عوض، أما إذا أقرضه عشرة بعشرين فقد أخذ المقرض العشرة الزائدة من غير عوض. ولا يقال إن الزائد عوض الإمهال لأن الإمهال ليس مالا أو شيئا يشار إليه حتى يجعله عوضا عن العشرة الزائدة" ومرجع هذه التفرقة إلى أنها مجرد اصطلاح اعتباري فهي تفرقة قاصرة. وأشار الفخر في أثناء تقرير حكمة تحريم الربا إلى تفرقة أخرى زادها البيضاوي تحريرا، حاصلها أن الذي يبيع الشيء المساوي عشرة بأحد عشر يكون قد مكن المشتري من الانتفاع بالمبيع إما بذاته وإما بالتجارة به، فذلك الزائد لأجل تلك المنفعة وهي مسيس الحاجة أو توقع الرواج والربح، وأما الذي دفع درهما لأجل السلف فإنه لم يحصل منفعة أكثر من من مقدار المال الذي أخذه، ولا يقال: إنه يستطيع أن يتجر به فيربح لأن هذه منفعة موهومة غير محققة الحصول، مع أن أخذ الزائد أمر محقق على كل تقدير. وهذه التفرقة أقرب من تفرقة قفال، لكنها يرد عليها أن انتفاع المقترض بالمال فيه سد حاجته فهو كانتفاع المشتري بالسلعة، وأما تصديه للمتاجرة بمال القرض أو بالسلعة المشتراة فأمر نادر فيها. فالوجه عندي في التفرقة بين البيع والربا أن مرجعها إلى التعليل بالمظنة مراعاة للفرق بين حلي المقترض والمشتري، فقد كان الإقتراض لدفع حاجة المقترض للإنفاق على نفسه وأهله لأنهم كانوا يعدون التداين هما وكربا، وقد استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم، وحال التاجر حال التفضل.وكذلك اختلاف حالي المسلف والبائع، فحال باذل ماله للمحتاجين لينتفع بما يدفعونه من الربا فيزيدهم ضيقا، لأن المتسلف مظنة الحاجة، ألا تراه ليس بيده مال، وحال بائع السلعة تجارة حال من تجشم مشقة لجلب ما يحتاجه المتفضلون وإعداده لهم عند دعاء حاجتهم إليه مع بذلهم له ما بيده من المال، فالتجارة معاملة بين غنيين: ألا ترى أن كليهما باذل لما لا يحتاج إليه وآخذ ما يحتاج إليه، فالمتسلف مظنة الفقر، والمشتري مظنة الغنى، فلذلك حرم الربا لأنه استغلال لحاجة الفقير وأحل البيع لأنه إعانة لطلب الحاجات. فتبين أن الإقراض من نوع المواساة والمعروف، وأنها مؤكدة التعين على المواسي وجوبا أو ندبا، وأيا ما كان فلا يحل للمقرض أن يأخذ أجرا على عمل المعروف. فأما الذي يستقرض مالا ليتجر به أو ليوسع تجارته فليس مظنة الحاجة فلم يكن من اهـل استحقاق مواساة المسلمين، فلذلك لا يجب على الغني إقراضه بحال فإذا قرضه فقد تطوع بمعروف. وكفى بهذا تفرقة بين الحالين. وقد ذكر الفخر لحكمة تحريم الربا أسبابا أربعة: أولها: أن فيه أخذ مال الغير بغير عوض، وأورد عليه ما تقدم في الفرق بينه وبين البيع، وهو فرق غير وجيه. الثاني: أن في تعاطي الربا ما يمنع الناس من اقتحام مشاق الاشتغال في الاكتساب، لأنه إذا تعود صاحب المال أخذ الربا خف عنه اكتساب المعيشة، فإذا فشا في الناس أفضى إلى انقطاع منافع الخلق لأن مصلحة العالم لا تنتظم إلا بالتجارة والصناعة والعمارة. الثالث: أنه يفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس بالقرض. الرابع: أن الغالب في المقرض أن يكون غنيا، وفي المستقرض أن يكون فقيرا، فلو أبيح الربا لتمكن الغني من أخذ مال الضعيف. وقد أشرنا فيما مر في الفرق بين الربا والبيع إلى علة تحريمه وسنبسط ذلك عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130]. هذا وقد تعرضت الآية إلى حكم هو تحليل البيع وتحريم الربا، لأنها من قول الله تعالى لإعلان هذا التشريع بعد تقديم الموعظة بين يديه. و"أل" في كل من البيع والربا لتعريف الجنس، فثبت بها حكم أصلين عظيمين في معاملات الناس محتاج إليهما فيها: أحدهما يسمى بيعا والآخر يسمى ربا. أولهما مباح معتبر كونه حاجيا للأمة، وثانيهما محرم ألغيت حاجيته لما عارضها من المفسدة. وظاهر تعريف الجنس أن الله أحل البيع بجنسه فيشمل التحليل سائر أفراده، وأنه حرم الربا بجنسه كذلك. ولما كان معنى {َأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] أذن فيه كان في قوة قضية موجبة، فلم يقتض استغراق الجنس بالصيغة، ولم تقم قرينة على قصد الاستغراق قيامها في نحو الحمد لله، فبقي محتملا شمول الحل لسائر أفراد البيع ، ولما كان البيع قد تعتريه أسباب توجب فساده وحرمته تتبعت الشريعة أسباب تحريمه، فتعطل احتمال الاستغراق في شأنه في هذه الآية. أما معنى قوله: {وَحَرَّمَ الرِّبا} فهو في حكم المنفي لأن حرم في معنى منع، فكان مقتضيا استغراق جنس الربا بالصيغة، إذ لا يطرأعليه ما يصيره حلالا. ثم اختلف علماء الإسلام في أن لفظ الربا في الآية باق على معناه المعروف في اللغة، أو هو منقول إلى معنى جديد في اصطلاح الشرع. فذهب ابن عباس وابنعمر ومعاوية إلى أنه باق معناه المعروف وهو ربال الجاهلية، أعني الزيادة لأجل التأخير، وتمسك ابن عباس بحديث أسامة: "إنما الربا في النسيئة" ولم يأخذ بما ورد في إثبات ربا الفضل بدون نسيئة، قال الفخر: "ولعله لا يرى تخصيص القرآن بخبر الأحاد" يعني أنه حمل {أحل الله البيع} على عمومه. وأما جمهور العلماء فذهبوا إلى أن الربا منقول في عرف الشرع إلى معنى جديد كما دلت عليه أحاديث كثيرة، وإلى هذا نحا عمر بن الخطاب وعائشة وأبو سعيد الخدري وعبادة بن الصامت بل رأى عمر أن لفظ الربا نقل إلى معنى جديد ولم يبين جميع المراد منه فكأنه عنده مما يشبه المجمل، فقد حكى عنه ابن رشد في المقدمات أنه قال: "كان من آخر ما أنزل الله على رسوله آية الربا فتوفي رسول الله ولم يفسرها، وإنكم تزعمون أنا نعلم أبواب الربا، ولأن أكون أعلمه أحب إلي من أن يكون لي مثل مصر وكورها" قال ابن رشد: ولم يرد عمر بذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفسر آية الربا، وإنما أراد والله أعلم أنه لم يعم وجوه الربا بالنص عليها. وقال ابن العربي: بين رسول الله صلى الله عليه وسلم معنى الربا في ستة وخمسين حديثا. والوجه عندي أن ليس مراد عمر أن لفظ الربا مجمل لأنه قابله بالبيان وبالتفسير، بل أراد أن تحقيق حكمه في صور البيوع الكثيرة لم يعمه النبي صلى الله عليه وسلم بالتنصيص، لأن المتقدمين لا يتوخون في عباراتهم ما يساوي المعاني الاصطلاحية، فهؤلاء الحنفية سموا المخصصات بيان تغيير. وذكر ابن العربي في العواصم أن اهـل الحديث يتوسعون في معنى البيان. وفي تفسير الفخر عن الشافعي أن قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} من المجملات التي لا يجوز التمسك بها، أي بعمومها: عموم البيع وعموم الربا، لأنه إن كان المراد جنس البيع وجنس الزيادة لزم بيان أي بيع وأي زيادة، وإن كان المراد كل بيع وكل زيادة فما من بيع إلا وفيه زيادة، فأول الآية أباح جميع البيوع وآخرها حرم الجميع، فوجب الرجوع إلى بيان الرسول عليه السلام. والذي حمل الجمهور على اعتبار لفظ الربا مستعملا في معنى جديد أحاديث وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل دلت على تفسير الربا بما هو أعم من ربا الجاهلية المعروف عندهم قبل الإسلام، وأصولها ستة أحاديث: الحديث الأول حديث أبي سعيد الخدري: "الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد وازداد فقد أربى، الآخذ والمعطي في ذلك سواء". الثاني حديث عبادة بن الصامت: "الذهب بالذهب تبرها وعينها والفضة بالفضة تبرها وعينها والبر بالبر مدا بمد والشعير بالشعير مدا بمد والتمر بالتمر مدا بمد والملح بالملح مدا بمد، فمن زاد واستزاد فقد أربى، ولا بأس ببيع الذهب بالفضة والفضة بالذهب أكثرهما يدا بيد، وأما النسيئة فلا". رواه أبو داود، فسماه في هذين الحديثين ربا. الثالث حديث أبي سعيد: أن بلال جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر برني فقال له: "من أين هذا"؟ فقال بلال: تمر كان عندنا رديء فبعت منه صاعين بصاع لطعم النبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوه عين الربا، لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري التمر فبعه ثم اشتر من هذا" فسمى التفاضل ربا. الرابع حديث "الموطأ" و "البخاري" عن ابن سعيد وأبي هريرة: أن سواد بن عزية جاء في خيبر بتمر جنيب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أكل تمر خيبر هكذا" فقال: "يا رسول الله إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والثلاثة" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبا". الخامس حديث عائشة في "صحيح البخاري": قالت: "لما نزلت الآيات من آخر البقرة في الربا قرأها النبي ثم حرم التجارة في الخمر" فظاهره أن تحريم التجارة في الخمر كان عملا بآية النهي عن الربا وليس في تجارة الخمر معنى من معاني الربا المعروف عندهم وإنما هو بيع فاسد. السادس حديث الدار قطني –ورواه ابن وهب عن مالك– أن العالية بنت أينع وفدت إلى المدينة من الكوفة، فلقيت عائشة فأخبرتها أنها باعت من زيد بن أرقم في الكوفة جارية بثمانمائة درهما إلى العطاء، ثم إن زيدا باع الجارية فاشترتها العالية منه بستمائة نقدا، فقالت لها عائشة: "بئس ما شريت وما اشتريت"، أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله إلا أن يتوب"، قالت فقلت لها: "أرأيت إن لم آخذ منه إلا رأس مالي" قالت: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} فجعلته عائشة من الربا ولذلك تلت الآية. فلأجل الأحاديث الستة أثبت الفقهاء ثلاثة أنواع للربا في اصطلاح الشرع: الأول ربا الجاهلية وهو زيادة على الدين لأجل التأخير. الثاني ربا الفضل وهو زيادة في أحد العوضين في بيع الصنف بصنفه من الأصناف المذكورة في حديث أبي سعيد وعبادة بن الصامت. الثالث ربا النسيئة وهو بيع شيء من تلك الأصناف بمثله مؤخرا. وزاد المالكية نوعا رابعا: وهو ما يؤول إلى واحد من الأصناف بتهمة التحيل على الربا، وترجمه في المدونة ببيوع الآجال، ودليل مالك فيه حديث العالية. ومن العلماء من زعم أن لفظ الربا يشمل كل بيع فاسد أخذا من حديث في تحريم تجارة الخمر، وإليه مال ابن العربي. وعندي أن أظهر المذاهب في هذا مذهب ابن عباس، وأن أحاديث ربا الفضل تحمل على حديث أسامة: "إنما الربا في النسيئة" ليجمع بين الحديثين، وتسمية التفاضل بالربا في حديثي أبي سعيد وعبادة بن الصامت دليل على ما قلناه، وأن ما راعاه مالك من إبطال ما يفدي إلى تعامل الربا إن صدر من مواقع التهمة رعي حسن، وما عداه إغرق في الاحتيات، وقد يؤخذ من بعض أقوال مالك في الموطأ" وغيره أن انتفاء التهمة لا يبطل العقد. ولا متمسك في نحو حديث عائشة في زيد بن أرقم لأن المسلمين في أمرهم الأول كانوا قريبي عهد بربا الجاهلية، فكان حالهم مقتضيا لسد الذرائع. وفي "تفسير القرطبي": كان معاوية بن أبي سفيان يذهب إلى أن النهي عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة متفاضلا إنما ورد في الدينار المضروب والدرهم المضروب لا في التبر ولا في المصوغ، فروى مسلم عن عبادة بن الصامت قال: غزونا وعلى الناس معاوية فغنمنا غنائم كثيرة، فكان فيما غنمنا آنية من ذهب، فأمر معاوية رجالا ببيعها في أعطيات الناس، فتنازع الناس في ذلك، فبلغ ذلك عبادة بن الصامت فقام فقال: "سمعت رسول الله ينهى عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة إلا سواء بسواء عينا بعين، من زاد وازداد فقد أربى" فبلغ ذلك معاوية فقام خطيبا فقال: "ألا ما بال أقوام يتحدثون عن رسول الله أحاديث قد كنا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه" فقال عبادة بن الصامت: "لنحدثن بما سمعنا من رسول الله وإن كره معاوية". والظاهر أن الآية لم يقصد منها إلا ربا الجاهلية، وأن ما عداه من المعاملات الباطلة التي فيها أكل مال بالباطل مندرجة في أدلة أخرى. وقوله: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى} الآية تفريع على الوعيد في قوله: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا} والمجيء بمعنى العلم والبلاغ، أي من علم هذا الوعيد، وهذا عذر لمن استرسل على معملة الربا قبل بلوغ التحريم إليه، فالمراد بالموعظة هذه الآية وآية آل عمران. والاتهاء مطاوع نهاه إذا صده عما لا يليق، وكأنه مشتق من من النهي –بضم النون– وهو العقل.ومعنى "فله ما سلف"، أي ما سلف قبضه من مال الربا لا ما سلف عقده ولم يقبض، بقرينة قوله –الآتي– {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة: 279]. وقوله: {وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} فرضوا فيه احتمالات يرجع بعضها إلى رجوع الضمير إلى "من جاءه" وبعضها إلى رجوعه إلى ما سلف، والأظهر أنه راجع إلى من جاءه لأنه المقصود، وأن معنى {وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} أن أمر جزائه على الانتهاء موكول إلى الله تعالى، وهذا من الإيهام المقصود منه التفخيم، فالمقصود الوعد بقرينة مقابلته بالوعيد في قوله: {وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. وجعل العائد خالدا في النار إما لأن المراد العود إلى قوله: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} أي عاد إلى استحلال الربا وذلك نفاق، فإن كثيرا منهم قد شق عليهم ترك التعامل بالربا، فعلم الله منهم ذلك وجعل عدم إقلاعهم عنه أمارة على كذب إيمانهم، فالخلود على حقيقته. وإما لأن المراد العود إلى المعاملة بالربا، وهو الظاهر من مقابلتهم، بقوله: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى} والخلود طول المكث كقول لبيد: فوقفت أسألها وكيف سؤالنا . . . صما خوالد ما يبين كلامها ومنه: خلد الله ملك فلان. وتمسك بظاهر هاته الآية ونحوها الخوارج القائلون بتكفير مرتكب الكبيرة كما كما تمسكوا بنظائرها. وغفلوا عن تغليظ وعيد الله تعالى في وقت نزول القرآن، إذ الناس يومئذ قريب عهدهم بكفر. ولا بد من الجمع بين أدلة الكتاب والسنة.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52879 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 271 - 286 الأربعاء 27 نوفمبر 2024, 8:09 am | |
| [276] {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}. استئناف لبيان سوء عاقبة الربا في الدنيا بعد أن بينت عاقبته في الآخرة، فهو استئناف بياني لتوقع سؤال من يسأل عن حال هؤلاء الذين لا ينتهون بموعظة الله. وقوله: {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} استطراد لبيان عاقبة الصدقة في الدنيا أيضا ببيان أن المتصدق يفوز بالخير في الدارين كما باء المرابي بالشر فيهما، فهذا وعد ووعيد دنيويان. والمحق هو كالمحو: بمعنى إزالة الشيء، ومنه محاق القمر ذهاب نوره ليلة السرار. ومعنى {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا} أنه يتلف ما حصل منه في الدنيا، {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} أي يضاعف ثوابها لأن الصدقة لا تقبل الزيادة إلا بمعنى زيادة ثوابها، وقد جاء نظيره في قوله في الحديث: "من تصدق بصدقة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيبا تلقاها الرحمان بيمينه وكلتا يديه يمين فيربيها له كما يربي أحدكم فلوه".. ولما جعل المحق بالربا وجعل الإرباء بالصدقات كانت المقابلة مؤذنة بحذف مقابلين آخرين، والمعنى: يمحق الله الربا ويعاقب عليه، ويربي الصدقات ويبارك لصاحبها، على طريقة الاحتباك. وجملة: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} معترضة بين أحكام الربا. ولما كان شأن الاعتراض ألا يخلو من مناسبة بينه وبين سياق الكلام، كان الإخبار بأن الله لا يحب جميع الكافرين مؤذنا بأن الربا من شعار اهـل الكفر، وأنهم الذين استباحوه فقالوا إنما البيع مثل الربا، فكان هذا تعريضا بأن المرابي متسم بخلال اهـل الشرك. ومفاد التركيب أن الله لا يحب أحدا من الكافرين الآثمين لأن "كل" من صيغ العموم، فهي موضوعة لاستغراق أفراد ما تضاف إليه وليست موضوعة للدلالة على صبرة مجموعة، ولذلك يقولون: هي موضوعة للكل الجميعي، وأما الكل المجموعي فلا تستعمل فيه كل إلا مجازاً. فإذا أضيفت "كل" إلى اسم استغرقت جميع أفراده، سواء ذلك في الإثبات وفي النفي، فإذا دخل النفي على "كل" كان المعنى عموم النفي لسائر الأفراد، لأن النفي كيفية تعرض للجملة فالأصل فيه أن يبقى مدلول الجملة كما هو، إلا أنه يتكيف بالسلب عوضا عن تكيفه بالإيجاب، فإذا قلت كل الديار ما دخلته، أو لم أدخل كل دار، أو كل دار لم أدخل، أفاد ذلك نفي دخولك أية دار من الديار، كما أن مفاده في حالة الإثبات ثبوت دخولك كل دار، ولذلك كان الرفع والنصب للفظ كل سواء في المعنى في قول أبي النجم: قد أصبحت أم الخيار تدعي . . . علي ذنبا كله لم أصنع كما قال سيبويه: إنه لو نصب لكان أولى، لأن النصب لا يفسد معنى ولا يخل بميزان. ولا تخرج "كل" عن إفادة العموم إلا إذا استعملها المتكلم في خبر يريد به إبطال خبر وقعت فيه "كل" صريحا أو تقديرا، كأن يقول أحد: كل الفقهاء يحرم أكل لحوم السباع، فتقول له: ما كل العلماء يحرم لحوم السباع، فأنت تريد إبطال الكلية فيبقى البعض، وكذلك في رد الاعتقادات المخطئة كقول المثل: "ما كل بيضاء شحمة"، فإنه لرد اعتقاد ذلك كما قال زفر بن الحارث الكلابي: وكنا حسبنا كل بيضاء شحمة وقد نظر الشيخ عبد القادر الجرجاني إلى هذا الاستعمال الأخير فطرده في استعمال "كل" إذا وقعت في حيز النفي بعد أداة النفي وأطال في بيان ذلك في كتابه دلائل الإعجاز، وزعم أن رجز أبي النجم يتغير معناه باختلاف رفع "كل" ونصبه في قوله: "كله لم أصنع". وقد تعقبه العلامة التفتازاني تعقبا مجملا بأن ما قاله الأغلبي، وأنه قد تخلف في مواضع. وقفيت أنا على أثر التفتازاني فبينت في تعليقي " الايجاز على دلائل الإعجاز" أن الغالب هو العكس وحاصله ما ذكرت هنا.
[277] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}. جملة معترضة لمقابلة الذم بالمدح، وقد تقدم تفسير نظيرتها قريبا. والمقصود التعريض بأن الصفات المقابلة لهاته الصفات صفة غير المؤمنين. والمناسبة تزداد ظهورا لقوله: {وَآتَوُا الزَّكَاةَ}.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52879 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 271 - 286 الأربعاء 27 نوفمبر 2024, 8:10 am | |
| [278, 279] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ}. قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} إفضاء إلى التشريع بعد أن قدم أمامه من الموعظة ما هيأ النفوس إليه. فإن كان قوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 275] من كلام الذين الذين قالوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} [البقرة: 275] فظاهر، وإن كان من كلام الله تعالى فهو تشريع وقع في سياق الرد، فلم يكتف بتشريع غير مقصود ولذا احتيج إلى هذا التشريع الصريح المقصود، وما تقدم كله وصف لحال اهـل الجاهلية وما بقي منه في صدر الإسلام قبل التحريم. وأمروا بتقوى الله قبل الأمر بترك الربا لأن تقوى الله هي أصل الامتثال والاجتناب، ولأن ترك الربا من جملتها. فهو كالأمر بطريق برهاني. ومعنى {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} الآية اتركوا ما بقي في ذمم الذين عاملتموهم بالربا، فهذا مقابل قوله: {فله ما سلف}، فكان الذي سلف قبضه قبل نزول الآية معفوا عنه وما لم يقبض مأمورا بتركه. قيل نزلت هذه الآية خطابا لثقيف –أهـل الطائف– إذ دخلوا في الإسلام بعد فتح مكة وبعد حصار الطائف على صلح وقع بينهم وبين عتاب بن أسيد –الذي أولاه النبي صلى الله عليه وسلم مكة بعد الفتح– بسبب أنهم كانت لهم معاملات بالربا مع قريش، فاشترطت ثقيف قبل النزول على الإسلام أن كل ربا لهم على الناس يأخذونه، وكل ربا عليهم فهو موضوع، وقبل منه رسول الله شرطهم، ثم أنزل الله تعالى هذه الآية خطابا لهم –وكانوا حديثي عهد بإسلام– فقالوا: لا يدي لنا1 بحرب الله ورسوله. وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} معناه إن كنتم مؤمنين حقا، فلا ينافي قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} إذ معناه يأيها الذين دخلوا في الإيمان، واندفعت أشكالات عرضت. وقوله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} يعني إن تمسكتم بالشرط فقد انتقض الصلح بيننا، فاعلموا أن الحرب عادت جذعة، فهذا كقوله: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} وتنكير حرب لقصد تعظيم أمرها، ولأجل هذا المقصد عدل عن إضافة الحرب إلى الله وجيء عوضا عنها بمن ونسبت إلى الله، لأنها بإذنه على سبيل مجاز الإسناد، وإلى رسوله لأنه المبلغ والمبشر، وهذا هو الظاهر. ----------------------------------------------- 1 أي لا قدرة لنا. فاليدان مجاز في القدرة، لأنهما آلتها، وأصله: لا يدين لنا، فعاملوا المجرور باللام معاملة المضاف إليه كما في قولهم: لا أبا له، بإثبات ألف أبا، قاله ابن الحاجب. وقال غيره: اللام مقحمة بين المضاف والمضاف إليه. ----------------------------------------------- فإذا صح ما ذكر في سبب نزولها فهو من تجويز الاجتهاد للنبي صلى الله عليه وسلم في الأحكام إذ قبل من ثقيف النزول على اقتضاء ما لهم من الربا عند اهـل مكة، وذلك قبل أن ينزل قوله تعالى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} فيحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الصلح مع ثقيف على دخولهم في الإسلام مع تمكينهم مما لهم قبل قريش من أموال الربا الثابتة في زممهم قبل التحريم مصلحة، إذ الشأن أن ما سبق التشريع لا ينقض كتقرير أنكحة المشركين، فلم يقره الله على ذلك وأمر بالانكفاف عن قبض مال الربا بعد التحريم ولو كان العقد قبل التحريم، ولذلك جعلهم على خيرة من أمرهم في الصلح الذي عقدوه. ودلت الآية على أن مجرد العقد الفاسد لا يوجب فوات التدارك إلا بعد القبض، ولذلك جاء قبلها "فله ما سلف" وجاء هنا: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} -إلى قوله- {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ}. وهذه الآية أصل عظيم في البيوع الفاسدة تقتضي نقضها، وانتقال الضمان بالقبض، والفوات بانتقال الملك، والرجوع بها إلى رؤوس الأموال أو إلى القيم إن فاتت، لأن القيمة بدل من رأس المال. ورؤوس الأموال أصولها، فهو من إطلاق الرأس على الأصل، وفي الحديث: "رأس الأمر الإسلام". ومعنى {لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} لا تأخذون مال الغير ولا يأخذ غيركم أموالكم. وقرأ الجمهور {فَأْذَنُوا}- بهمزة وصل وفتح الذال – أمرا من أذن، وقرأه حمزة وأبو بكر وخلف { فَآذِنُوا} بهمزة قطع بعدها ألف وبذال مكسورة – أمرا من آذن بكذا إذا أعلم به أي فآذنوا أنفسكم ومن حولكم.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52879 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 271 - 286 الأربعاء 27 نوفمبر 2024, 8:10 am | |
| [280] {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. عطف على قوله: {فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} لأن ظاهر الجواب أنهم يسترجعونها معجلة، إذ العقود قد فسخت. فعطف عليه حالة أخرى، والمعطوف عليه حالة مقدرة مفهومة لأن الجزاء يدل على التسبب، والأصل حصول المشروط عند الشرط. والمعنى وإن حصل ذو عسرة، أي غريم معسر. وفي الآية حجة على أن "ذو" تضاف لغير ما يفيد شيئاً شريفاً. والنظِرة -بكسر الظاء- الانتظار. والميسُرة ـ بضم السين في قراءة نافع وبفتحها في قراءة الباقين ـ اسم لليسر وهو ضد العسر ـ بضم العين ـ وهي مفعلة كمشرفة ومشربة ومالكة ومقدرة، قال أبو علي ومفعلة بالفتح أكثر في كلامهم. وجملة فنظرة جواب الشرط، والخبر محذوف، أي فنظرة له. والصيغة طلب، وهي محتملة للوجوب والندب. فإن أريد بالعسرة العُدْم أي نفاد مالِهِ كله فالطلب للوجوب، والمقصود به إبطال حكم بيع المعسر واسترقاقه في الدين إذا لم يكن له وفاء. وقد قيل: إن ذلك كان حكماً في الجاهلية وهو حكم قديم في الأمم كان من حكم المصريين، ففي القرآن الإشارة إلى ذلك بقوله تعالى: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف: 79]. وكان في شريعة الرومان استرقاق المدين، وأحسب أن في شريعة التوراة قريباً من هذا، وروي أنه كان في صدر الإسلام، ولم يثبت. وإن أريد بالعسرة ضيق الحال وإضرار المدين بتعجيل القضاء فالطلب يحتمل الوجوب، وقد قال به بعض الفقهاء، ويحتمل الندب، وهو قول مالك والجمهور، فمن لم يشأ لم ينظره ولو ببيع جميع ماله لأن هذا حق يمكن استيفاؤه، والإنظار معروف والمعروف لا يجب. غير أن المتأخرين بقرطبة كانوا لا يقضون عليه بتعجيل الدفع، ويؤجلونه بالاجتهاد لئلا يدخل عليه مضرة بتعجيل بيع ما به الخلاصُ. ومورد الآية على ديون معاملات الربا، لكن الجمهور عمموها في جميع المعاملات ولم يعتبروا خصوص السبب لأنه لما أبطل حكم الربا صار رأس المال ديناً بحتاً، فما عين له من طلب الإنظار في الآية حكم ثابت للدين كله. وخالف شريح فخصَّ الآية بالديون التي كانت على ربا ثم أبطل رباها. وقوله: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} أي أن إسقاط الدين عن المعسر والتنفيس عليه بإغنائه أفضل، وجعله الله صدقة لأن فيه تفريج الكرب وإغاثة الملهوف. وقرأ الجمهور من العشرة {تَصَدَّقُوا} ـ بشديد الصاد ـ على أن أصله تتصدقوا فقلت التاء الثانية صاداً لتقاربهما وأدغمت في الصاد، وقرأه عاصم بتخفيف الصاد على حذف إحدى التاءين للتخفيف.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52879 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 271 - 286 الأربعاء 27 نوفمبر 2024, 8:11 am | |
| [281] {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}. جئ بقوله: {واتقوا يوماً} تذييلاً لهاته الأحكام لأنه صالح للترهيب من ارتكاب ما نهي عنه والترغيب في فعل ما أمر به أو ندب إليه، لأن في ترك المنهيات سلامة من آثامها، وفي فعل المطلوبات استكثاراً من ثوابها، والكل يرجع إلى اتقاء ذلك اليوم الذي تطلب فيه السلامة وكثرة أسباب النجاح. وفي "البخاري" عن ابن عباس أن هذه آخر آية نزلت. وعن ابن عباس هي آخر ما نزل فقال جبريل: "يا محمد ضعها على رأس ثمانين ومائتين من البقرة". وهذا الذي عليه الجمهور، قاله ابن عباس والسدي والضحاك وابن جريج وابن جبير ومقاتل. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاش بعد نزولها واحداً وعشرين يوماً، وقيل واحداً وثمانين، وقيل سبعة أيام، وقيل تسعة، وقيل ثلاث ساعات. وقد قيل: إن آخر آية هي آية الكلالة، وقيل غير ذلك، وقد استقصى الأقوال صاحب الإتقان. وقرأه الجمهور ترجعون بضم التاء وفتح الجيم، وقرأ يعقوب بفتح التاء وكسر الجيم.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52879 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 271 - 286 الأربعاء 27 نوفمبر 2024, 8:14 am | |
| [282] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. لما اهـتم القرآن بنظام أحوال المسلمين في أموالهم فابتدأ بما به قوام عامتهم من مواساة الفقير وإغاثة الملهوف، ووضح ذلك بما فيه عبرة للمعتبر، ثم عطف عليه التحذير من مضايقة المحتاجين إلى المواساة مضايقة الربا مع ما في تلك المعاملات من المفاسد، ثلَّث ببيان التوثقات المالية من الإشهاد، وما يقوم مقامه وهو الرهن والائتمان. وإن تحديد التوثق في المعاملات من أعظم وسائل بث الثقة بين المتعاملين، وذلك من شأنه تكثير عقود المعاملات ودوران دولاب التمول. والجملة استئناف ابتدائي، والمناسبة في الانتقال ظاهرة عقب الكلام على غرماء اهـل الربا. والتداين من أعظم أسباب رواج المعاملات لأن المقتدر على تنمية المال قد يعوزه المال فيضطر إلى التداين ليظهر مواهبه في التجارة أو الصناعة أو الزراعة، ولأن المترفه قد ينضب المال من بين يديه وله قِبل به بعد حين، فإذا لم يتداين اختل نظام ماله، فشرع الله تعالى للناس بقاء التداين المتعارف بينهم كيلا يظنوا أن تحريم الربا والرجوع بالمتعاملين إلى رؤوس أموالهم إبطال للتداين كله. وأفاد ذلك التشريع بوضعه في تشريع آخر مكمل له وهو التوثق له بالكتابة والإشهاد. والخطاب موجه للمؤمنين أي لمجموعهم، والمقصود منه خصوص المتداينين، والأخص بالخطاب هو المدين لأن من حق عليه أن يجعل دائنه مطمئن البال على ماله. فعلى المستقرض أن يطلب الكتابة وإن لم يسألها الدائن، ويؤخذ مما حكاه الله في سورة القصص عن موسى وشعيب، إذ استأجر شعيب موسى. فلما تراوضا على الإجارة وتعين أجلها قال موسى: "والله على ما نقول وكيل" فذلك إشهاد على نفسه لمؤاجره دون أن يسأله شعيب ذلك. والتداين تفاعل، وأطلق هنا ـ مع أن الفعل صادر من جهة واحدة وهي جهة المُسَلِّف ـ لأنك تقول أدّان منه فدانه، فالمفاعلة منظور فيها إلى المخاطبين هم مجموع الأمة؛ لأن في المجموع دائناً ومديناً، فصار المجموع مشتملاً على جانبين. ولك أن تجعل المفاعلة على غير بابها كما تقول تداينت من زيد. وزيادة قيد {بدين} إما لمجرد الإطناب، كما يقولون رأيته بعيني ولمسته بيدي، وإما ليكون معاداً للضمير في قوله فاكتبوه، ولولا ذكره لقال فاكتبوا الدين فلم يكن النظم بذلك الحسن، ولأنه أبين لتنويع الدين إلى مؤجل وحال، قاله في "الكشاف". وقال الطيبي عن صاحب الفرائد: يمكن أن يظن استعمال التداين مجازاً في الوعد كقوله رؤبة: داينتُ أروى والديون تُقضى . . . فمطلت بعضاً وأدت بعضاً فذكر قوله "بدين" دفعاً لتوهم المجاز. والدين في كلام العرب العوض المؤخر قال شاعرهم: وعدتنا بدرهمينا طلاء . . . وشواء معجلا غير دين وقوله: {إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} طلب تعيين الآجال للديون لئلا يقعوا في الخصومات والتداعي في المرادات، فأدمج تشريع التأجيل في أثناء تشريع التسجيل. والأجل مدة من الزمان محدودة النهاية مجعولة ظرفاً لعمل غير مطلوب فيه المبادرة، لرغبة تمام ذلك العمل عند انتهاء تلك المدة أو في أثنائها. والأجل اسم وليس بمصدر، والمصدر التأجيل، وهو إعطاء الأجل. ولما فيه من معنى التوسعة في العمل أطلق الأجل على التأخير، وقد تقدم في قوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} [البقرة: 234]، وقوله: {حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235]. والمسمى حقيقته المميز باسم يميزه عما يشابهه في جنسه أو نوعه، فمنه أسماء الأعلام وأسماء الأجناس، والمسمى هنا مستعار للمعين المحدود، وإنما يقصد تحديده بنهاية من الأزمان المعلومة عند الناس، فشبه ذلك بالتحديد بوضع الاسم بجامع التعيين؛ إذ لا يمكن تمييزه عن أمثاله إلا بذلك، فأطلق عليه لفظ التسمية، ومنه قول الفقهاء المَهر المسمى. فالمعنى أجل معين بنهايته. والدين لا يكون إلا إلى أجل، فالمقصود من وصف الدين بهذا الوصف، هو وصف أجل بمسمى إدماجاً للأمر بتعيين الأجل. وقوله: {بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} يعم كل دين: من قرض أو من بيع أو غير ذلك. وعن ابن عباس أنها نزلت في السلم ـ يعني بيع الثمار ونحوها من المثليات في ذمة البائع إذا كان ذا ذمة إلى أجل ـ وكان السلم من معاملات اهـل المدينة. ومعنى كلامه أن بيع السلم سبب نزول الآية، ومن المقرر في الأصول أن السبب الخاص لا يخصص العموم. والأمر في "فاكتبوه" قيل للاستحباب، وهو قول الجمهور ومالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد، وعليه فيكون قوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [البقرة: 283] تكميلاً لمعنى الاستحباب. وقيل الأمر للوجوب، قاله ابن جريج والشعبي وعطاء والنخعي، وروي عن أبي سعيد الخدري، وهو قول داوود، واختاره الطبري. ولعل القائلين بوجوب الإشهاد الآتي عند قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} قائلون بوجوب الكتابة، وعليه فقوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [البقرة: 283] تخصيص لعموم أزمنة الوجوب لأن الأمر للتكرار، لا سيما مع التعليق بالشرط، وسماه الأقدمون في عباراتهم نسخاً. والقصد من الأمر بالكتابة التوثق للحقوق وقطع أسباب الخصومات، وتنظيم معاملات الأمة، وإن كان الاطلاع على العقود الفاسدة. والأرجح أن الأمر للوجوب فإنه الأصل في الأمر، وقد تأكد بهذه المؤكدات، وأن قوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} الآية رخصة خاصة بحالة الائتمان بين المتعاقدين كما سيأتي ـ فإن حالة الائتمان حالة سالمة من تطرق التناكر والخصام ـ لأن الله تعالى أراد من الأمة قطع أسباب التهارج والفوضى فأوجب عليهم التوثق في مقامات المشاحنة، لئلا يتساهلوا ابتداءً ثم يفضوا إلى المنازعة في العاقبة، ويظهر لي أن في الوجوب نفياً للحرج عن الدائن إذا طلب من مدينه الكتب حتى لا يعد المدين ذلك من سوء الظن به، فإن في القوانين معذرة للمتعاملين. وقال ابن عطية: "الصحيح عدم الوجوب لأن للمرء أن يهب هذا الحق ويتركه بإجماع، فكيف يجب عليه أن يكتبه، وإنما هو ندب للاحتياط". وهذا كلام قد يروج في بادئ الرأي ولكنه مردود بأن مقام التوثق غير مقام التبرع. ومقصد الشريعة تنبيه أصحاب الحقوق حتى لا يتساهلوا ثم يندموا وليس المقصود إبطال ائتمان بعضهم بعضاً، كما أن من مقاصدها دفع موجدة الغريم من توثق دائنه إذا علم أنه بأمر من الله ومن مقاصدها قطع أسباب الخصام. وقوله: {فَاكْتُبُوهُ} يشمل حالتين: الأولى حالة كتابة المتداينين بخطيهما أو خط أحدهما ويسلمه للآخر إذا كانا يحسنان الكتابة معاً، لأن جهل أحدهما بها ينفي ثقته بكتابة الآخر. والثانية حالة كتابة ثالث يتوسط بينهما. فيكتب ما تعاقدا عليه ويشهد عليه شاهدان ويسلمه بيد صاحب الحق إذا كانا لا يحسنان الكتابة أو أحدهما، وهذه غالب أحوال العرب عند نزول الآية. فكانت الأمية بينهم فاشية، وإنما كانت الكتابة في الأنباط والحيرة وبعض جهات اليمن وفيمن يتعلمان قليلاً من مكة والمدينة. وقوله: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} أمر للمتداينين بأن يتوسطوا كاتباً يكتب بينهم لأن غالب حالهم جهل الكتابة. فعل الأمر به إلى الكاتب مبالغة في أمر المتعاقدين بالاستكتاب. والعرب تعمد إلى المقصود فتنزله منزلة الوسيلة مبالغة في حصوله كقولهم في الأمر ليكن ولدك مهذباً، وفي النهي لا تنسَ ما أوصيتك، ولا أعرفنك تفعل كذا. فمتعلق فعل الطلب هو ظرف بينكم وليس هذا أمراً للكاتب، وأما أمر الكاتب فهو قوله: {وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ}. وقوله: {بِالْعَدْلِ} أي بالحق، وليس العدل هنا بمعنى العدالة التي يوصف بها الشاهد فيقال رجل عدل لأن وجود الباء يصرف عن ذلك، ونظيره قوله الآتي: {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ}. ولذلك قصر المفسرون قوله: {فَاكْتُبُوهُ} على أن يكتبه كاتب غير المتداينين لأنه الغالب، ولتعقيبه بقوله: وليكتب بينكم كاتب بالعدل، فإنه كالبيان لكيفية فاكتبوه، على أن كتاب المتعاقدين إن كانا يحسنانها تؤخذ بلحن الخطاب أو فحواه. ولذلك كانت الآية حجة عند جمهور العلماء لصحة الاحتجاج بالخط، فإن استكتاب الكاتب إنما ينفع بقراءة خطه. وقوله: {وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ} نهي لمن تطلب منه الكتابة بين المتداينين عن الامتناع منها إذا دعي إليها، فهذا حكم آخر وليس تأكيداً لقوله: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ}. لما علمت آنفاً من كون ذلك حكماً موجهاً للمتداينين. وهذا النهي قد اختلف في مقتضاه فقيل نهي تحريم، فالذي يدعى لأن يكتب بين المتداينين يحرم عليه الامتناع. وعليه فالإجابة للكتابة فرض عين، وهو قول الربيع ومجاهد وعطاء والطبري، وهو الذي لا ينبغي أن يعدل عنه. وقيل: إنما تجب الإجابة وجوباً عينياً إذا لم يكن في الموضع إلا كاتب واحد، فإن كان غيره فهو واجب على الكفاية وهو قول الحسن، ومعناه أنه موكول إلى ديانتهم لأنهم إذا تمالأوا على الامتناع أثموا جميعاً، ولو قيل: إنه واجب على الكفاية على من يعرف الكتابة من اهـل مكان المتداينين، وإنه يتعين بتعيين طالب التوثق أحدهم لكان وجيهاً، والأحق بطلب التوثق هو المستقرض كما تقدم آنفاً. وقيل: إنما يجب على الكاتب في حال فراغه، قاله السدي. وقيل: هو منسوخ بقوله: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} وهو قول الضحاك، وروي عن عطاء، وفي هذا نظر لأن الحضور للكتابة بين المتداينين ليس من الإضرار إلا في أحوال نادرة كبعد مكان المتداينين من مكان الكاتب. وعن الشعبي وابن جريج وابن زيد أنه منسوخ بقوله تعالى ـ بعد هذا ـ {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283]. وسيأتي لنا إبطال ذلك. وعلى هذا الخلاف يختلف في جواز الأجر على الكتابة بين المتداينين، لأنها إن كانت واجبة فلا أجر عليها، وإلا فالأجر جائز. ويلحق بالتداين جميع المعاملات التي يطلب فيها التوثق بالكتابة والإشهاد، وسيأتي الكلام على حكم أداء الشهادة عند قوله تعالى: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ}. وقوله: {كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} أي كتابة تشابه الذي علمه الله أن يكتبها، والمراد بالمشابهة المطابقة لا المقاربة، فهي مثل قوله: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} [البقرة: 137]، فالكاف في موضع المفعول المطلق لأنها صفة لمصدر محذوف. و"ما" موصولة. ومعنى ما عمله الله أنه يكتب ما يعتقده ولا يجحف أو يوارب، لأن الله ما علم إلا الحق وهو المستقر في فطرة الإنسان، وإنما ينصرف الناس عنه بالهوى فيبدلون ويغيرون وليس ذلك التبديل بالذي علمهم الله تعالى، وهذا يشير إليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "واستفتِ نفسك وإن أفتاك الناس". ويجوز أن تكون الكاف لمقابلة الشيء بمكافئه والعوض بمعوضه، أي أن يكتب كتابة تكافئ تعليم الله إياه الكتابة، بأن ينفع الناس بها شكراً على تيسير الله له أسباب عملها، وإنما يحصل هذا الشكر بأن يكتب ما فيه حفظ الحق ولا يقصر ولا يدلس، وينشأ عن هذا المعنى من التشبيه معنى التعليل كما في قوله تعالى: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص: 77] وقوله: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 198]. والكاف على هذا إما نائبة عن المفعول المطلق أو صفة لمفعول به محذوف على تأويل مصدر فِعل أن يكتب بالمكتوب، و"ما" على هذا الوجه مصدرية، وعلى كلا الوجهين فهو متعلق بقوله: {أَنْ يَكْتُبَ}، وجوز صاحب "الكشاف" تعليقه بقوله فليكتب فهو وجه في تفسير الآية. وقوله: {فَلْيَكْتُبْ} تفريع على قوله: {وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ}، وهو تصريح بمقتضى النهي وتكرير للأمر في قوله: {فَاكْتُبُوهُ}، فهو يفيد تأكيد الأمر وتأكيد النهي أيضاً، وإنما أعيد ليُرتَّب عليه قوله: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} لبعد الأمر الأول بما وليه، ومثله قوله تعالى: {اتَّخَذُوهُ} [الأعراف: 148] بعد قوله: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً} [الأعراف: 148] الآية. وقوله: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} أمل وأملي لغتان: فالأولى لغة اهـل الحجاز وبني أسد، والثانية لغة تميم، وقد جاء القرآن بهما قال تعالى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} وقال: { فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان: 5]، قالوا والأصل هو أملل ثم أبدلت اللام ياء لأنها أخف؛ أي عكس ما فعلوا في قولهم تقضي البازي إذ أصله تقضض. ومعنى اللفظين أن يلقي كلاماً على سامعه ليكتبه عنه، هكذا فسره في "اللسان" و"القاموس".وهو مقصور في التفسير أحسب أنه نشأ عن حصر نظرهم في هذه الآية الواردة في غرض الكتابة، وإلا فإن قوله تعالى في سورة الفرقان [5]: {فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} تشهد بأن الإملاء والإملال يكونان لغرض الكتابة ولغرض الرواية والنقل كما في آية الفرقان، ولغرض الحفظ كما يقال مَلّ المؤدب على الصبي للحفظ، وهي طريقة تحفيظ العميان. فتحرير العبارة أن يفسر هذا اللفظان بإلقاء كلام ليكتب عنه أو ليروى أو ليحفظ، والحق هنا ما حقَّ أي ثبت للدائن. وفي هذا الأمر عبرة للشهود فإن منهم من يكتبون في شروط الحبس ونحوه ما لم يملله عليهم المشهود عليه إلا إذا كان قد فوض إلى الشاهد الإحاطة بما فيه توثقه لحقة أو أوقفه عليه قبل عقده على السدارة. والضمير في قوله: {وَلْيَتَّقِ}، وقوله: {وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} يحتمل أن يعودا إلى الذي عليه الحق لأنه أقرب مذكور من الضميرين، أي لا ينقص رب الدين شيئاً حين الإملاء، قاله سعيد بن جبير، وهو على هذا أمر للمدين بأن يقر بجميع الدين ولا يغبن الدائن. وعندي أن هذا بعيد إذ لا فائدة بهذه الوصاية؛ فلو أخفى المدين شيئاً أو غبن لأنكر عليه رب الدين لأن الكتابة يحضرها كلاهما لقوله تعالى: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ}. ويحتمل أن يعود الضميران إلى {كاتب} بقرينة أن هذا النهي أشد تعلقاً بالكاتب؛ فإنه الذي قد يغفل عن بعض ما وقع إملاؤه عليه. والضمير في قوله: {منه} عائد إلى الحق وهو حق لكلا المتداينين، فإذا بخس منه شيئاً أضر بأحدهما لا محالة، وهذا إيجاز بديع. والبخس فسره اهـل اللغة بالنقص ويظهر أنه أخص من النقص، فهو نقص بإخفاء. وأقرب الألفاظ إلى معناه الغبن، قال ابن العربي في الأحكام في سورة الأعراف: "البخس في لسان العرب هو النقص بالتعييب والتزهييد، أو المخادعة عن القيمة، أو الاحتيال في التزيد في الكيل أو النقصان منه". أي عن غفلة من صاحب الحق، وهذا هو المناسب في معنى الآية لأن المراد النهي عن النقص من الحق عن غفلة من صاحبه، ولذلك نهي الشاهد أو المدين أو الدائن، وسيجيء في سورة الأعراف عند قوله تعالى: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الأعراف: 85]. وقوله: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً} السفيه هو مختل العقل، وتقدم بيانه عند قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ} [البقرة: 142]. والضعيف الصغير، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ} [البقرة: 266]. والذي لا يستطيع أن يملِّ هو العاجز كمن به بكم وعمىً وصمم جميعاً. ووجه تأكيد الضمير المستتر في فعل يملِّ بالضمير البارز هو التمهيد لقوله: {فَلْيُمْلِلْ} لئلا يتوهم الناس أن عجزه يسقط عنه واجب الإشهاد عليه بما يستدينه، وكان الأولياء قبل الإسلام وفي صدره كبراء القرابة. والولي من له ولاية على السفيه والضعيف ومن لا يستطيع أن يمل كالأب والوصي وعرفاء القبيلة، وفي حديث وفد هوازن: قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليرفع إلي عرفاؤكم أمركم"، وكان ذلك في صدر الإسلام وفي الحقوق القبلية. ومعنى {بالعدل} أي بالحق. وهذا دليل على أن إقرار الوصي والمقدم في حق المولي عليه ماضٍ إذا ظهر سببه، وإنما لم يعمل به المتأخرون من الفقهاء سداً للذريعة خشية التواطؤ على إضاعة أموال الضعفاء.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52879 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 271 - 286 الأربعاء 27 نوفمبر 2024, 8:15 am | |
| {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى}. عطف على {فَاكْتُبُوهُ}، وهو غيره وليس بياناً له إذ لو كان بياناً لما اقترن بالواو. فالمأمور به المتداينون شيئان: الكتابة، والإشهاد عليها. والمقصود من الكتابة ضبط صيغة التعاقد وشروطه وتذكر ذلك خشية النسيان. ومن أجل ذلك سماها الفقهاء ذُكْر الحق، وتسمى عقداً قال الحارس بن حلزة: حذر الجور والتطاخي وهل ينـ . . . ـقض ما في المهارق الأهواء قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]. فلم يجعل بين فقدان الكاتب وبين الرهن درجة وهي الشهادة بلا كتابة لأن قوله: {وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً} [البقرة: 283]. صار في معنى ولم تجدوا شهادة، ولأجل هذا يجوز أن يكون الكاتب أحد الشاهدين. وإنما جعل القرآن كاتباً وشاهدين لندرة الجمع بين معرفة الكتابة وأهلية الشهادة. {وَاسْتَشْهِدُوا} بمعنى أشهدوا، فالسين والتاء فيه لمجرد التأكيد، ولك أن تجعلهما للطلب أي أطلبوا شهادة شاهدين، فيكون تكليفاً بالسعي للإشهاد وهو التكليف المتعلق بصاحب الحق. ويكون قوله: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} تكليفاً لمن يطلب منه صاحب الحق أي أن يشهد عليهما أن لا يمتنع. والشهادة حقيقتها الحضور والمشاهدة، والمراد بها هنا حضور خاص وهو حضور لأجل الاطلاع على التداين، وهذا إطلاق معروف للشهادة على حضور لمشاهدة تعاقد بين متعاقدين أو لسماع عقد من عاقد واحد مثل الطلاق والحبس. وتطلق الشهادة أيضاً على الخبر الذي يخبر به صاحبه عن أمر حصل لقصد الاحتجاج به لمن يزعمه، والاحتجاج به على من ينكره، وهذا هو الوارد في قوله: {ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} [النور: 4]. وجعل المأمور به طلب الإشهاد لأنه الذي في قدرة المكلف وقد فهم السامع أن الغرض من طلب الإشهاد حصوله. ولهذا أمر المستشهد ـ بفتح الهاء ـ بعد ذلك بالامتثال فقال: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا}. والأمر في قوله: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} قيل للوجوب، وهو قول جمهور السلف، وقيل للندب، وهو قول جمهور الفقهاء المتأخرين: مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وسيأتي عند قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}. وقوله: {مِنْ رِجَالِكُمْ} أي من رجال المسلمين، فحصل به شرطان: أنهم رجال، وأنهم ممن يشملهم الضمير. وضمير جماعة المخاطبين مراد به المسلمون لقوله في طالعة هذه الأحكام: {يا أيها الذين آمنوا}. وأما الصبي فلم يعتبره الشرع لضعف عقله عن الإحاطة بمواقع الإشهاد ومداخل التهم. والرجل في أصل اللغة يفيد وصف الذكورة فخرجت الإناث، ويفيد البلوغ فخرج الصبيان، والضمير المضاف إليه أفاد وصف الإسلام. فأما الأنثى فيذكر حكمها بعد هذا، وأما الكافر فلأن اختلاف الدين يوجب التباعد في الأحوال والمعاشرات والآداب فلا تمكن الإحاطة بأحوال العدول والمرتابين من الفريقين، كيف وقد اشترط في تزكية المسلمين شدة المخالطة، ولأنه قد عرف من غالب اهـل الملل استخفاف المخالف في الدين لحقوق مخالفه، وذلك من تخليط الحقوق والجهل بواجبات الدين الإسلامي. فإن الأديان السالفة التي لم تتعرض لاحترام حقوق المخالفين، فتوهم أتباعهم دحضها. وقد حكى الله عنهم أنهم قالوا: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ}. وهذه نصوص التوراة في مواضع كثيرة تنهي عن أشياء أو تأمر بأشياء وتخصها ببني إسرائيل، وتسوغ مخالفة ذلك مع الغريب، ولم نر في دين من الأديان التصريح بالتسوية في الحقوق سوى دين الإسلام، فكيف نعتد بشهادة هؤلاء الذين يرون المسلمين مارقين عن دين الحق مناوئين لهم، ويرمون بذلك نبيهم فمن دونه، فماذا يرجى من هؤلاء أن يقولوا الحق لهم أو عليهم والنصرانية تابعة لأحكام التوراة.على أن تجافي اهـل الأديان أمر كان كالجبلي فهذا الإسلام مع أمره المسلمين بالعدل مع اهـل الذمة لا نرى منهم امتثالاً فيما يأمرهم به في شأنهم. وفي القرآن إيماء إلى هذه العلة {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ}. وفي "البخاري" في حديث أبي قلابة في مجلس عمر بن عبد العزيز. وما روي عن سهل بن أبي حثمة الأنصاري: أن نفراً من قومه ذهبوا إلى خيبر فتفرقوا بها، فوجدوا أحدهم قتيلاً، فقالوا للذين وجد فيهم القتيل أنتم قتلتم صاحبنا، قالوا ما قتلنا، فانطلقوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكوا إليه، فقال لهم: "تأتون بالبينة على من قلته"، قالوا: "ما لنا بينة"، قال: "فتحلف لكم يهود خمسين يميناً"، قالوا: "ما يبالون أن يقتلونا أجمعين ثم يحلفون"، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبطل دمه ووداه من مال الصدقة. فقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم قول الأنصار في اليهود: إنهم ما يبالون أن يقتلوا كل القوم ثم يحلفون. فإن قلت: كيف اعتدت الشريعة بيمين المدعى عليه من الكفار، قلت: اعتدت بها لأنها أقصى ما يمكن في دفع الدعوى، فرأتها الشريعة خيراً من اهـمال الدعوى من أصلها. ولأجل هذا اتفق علماء الإسلام على عدم قبول شهادة اهـل الكتاب بين المسلمين في غير الوصية في السفر، واختلفوا في الإشهاد على الوصية في السفر، فقال ابن عباس ومجاهد وأبو موسى الأشعري وشريح بقبول شهادة غير المسلمين في الوصية في السفر، وقضى به أبو موسى الأشعري مدة قضائه في الكوفة، وهو قول أحمد وسفيان الثوري وجماعة من العلماء، وقال الجمهور: لا تجوز شهادة غير المسلمين على المسلمين ورأوا أن ما فيه آية الوصية منسوخ، وهو قول زيد بن أسلم ومالك وأبي حنيفة والشافعي، واختلفوا في شهادة بعضهم على بعض عند قاضي المسلمين فأجازها أبو حنيفة ناظراً في ذلك إلى انتفاء تهمة تساهلهم بحقوق المسلمين، وخالفه الجمهور، والوجه أنه يتعذر لقاضي المسلمين معرفة أمانة بعضهم مع بعض وصدق أخبارهم كما قدمناه آنفاً. وظاهر الآية قبول شهادة العبد العدل وهو قول شريح وعثمان البتي وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وعن مجاهد: المراد الأحرار، وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي، والذي يظهر لي أن تخصيص العبد من عموم الآية بالعرف وبالقياس، أما العرف فلأن غالب استعمال لفظ الرجل والرجال ألا يرد مطلقاً إلى مراداً به الأحرار، يقولون: رجال القبيلة ورجال الحي، قال محكان التميمي: يا ربة البيت قويم غير صاغرة . . . ضمي إليك رجال الحي والغربا وأما القياس فلعدم الاعتداد بهم في المجتمع لأن حالة الرق تقطعهم عن غير شؤون مالكيهم فلا يضبطون أحوال المعاملات غالباً؛ ولأنهم ينشؤون على عدم العناية بالمروءة، فترك اعتبار شهادة العبد معلوم للمظنة وفي النفس عدم انثلاج لهذا التعليل. واشترط العدد في الشاهد ولم يكتف بشهادة عدل واحد لأن الشهادة لما تعلقت بحق معين لمعين اتهم الشاهد باحتمال أن يتوسل إليه الظالم الطالب لحق مزعوم فيحمله على تحريف الشهادة، فاحتيج إلى حيطة تدفع التهمة فاشترط فيه الإسلام وكفى به وازعاً، والعدالة لأنها تزع من حيث الدين والمروءة، وزيد انضمام ثان إليه لاستبعاد أن يتواطأ كلا الشاهدين على الزور.فثبت بهذه الآية أن التعدد شرط في الشهادة من حيث هي، بخلاف الرواية لانتفاء التهمة فيها إذ لا تتعلق بحق معين، ولهذا لو روى راوٍ حديثاً هو حجة في قضية للراوي فيها حق لما قبلت روايته، وقد كلف عمر أبا موسى الأشعري أن يأتي بشاهد معه على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا استأذن أحدكم ثلاثاً ولم يؤذن له فليرجع" إذ كان ذلك في ادعاء أبي موسى أنه لما لم يأذن له عمر في الثالثة رجع، فشهد له أبو سعيد الخدري في ملإِ من الأنصار. والعدد هو اثنان في المعاملات المالية كما هنا. وقوله: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ} أي لم يكن الشاهدان رجلين، أي بحيث لم يحضر المعاملة رجلان بل حضر واحد، فرجل وامرأتان يشهدان. فقوله: {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} جواب الشرط، وهو جزء جملة حذف خبرها لأن المقدر أنسب بالخبرية ـ ودليل المحذوف قوله: {وَاسْتَشْهِدُوا} ـ وقد فهم المحذوف فكيفما قدرته ساغ لك. وجيء في الآية بكان الناقصة مع التمكن من أن يقال فإن لم يكن رجلان لئلا يتوهم منه أن شهادة المرأتين لا تقبل إلا عند تعذر الرجلين كما توهمه قوم، وهو خلاف قول الجمهور لأن مقصود الشارع التوسعة على المتعاملين. وفيه مرمى آخر وهو تعويدهم بإدخال المرأة في شؤون الحياة إذ كانت في الجاهلية لا تشترك في هذه الشؤون، فجعل الله المرأتين مقام الرجل الواحد وعلل ذلك بقوله: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى}، وهذه حيطة أخرى من تحريف الشهادة وهي خشية الاشتباه والنسيان لأن المرأة أضعف من الرجل بأصل الجبلة بحسب الغالب، والضلال هنا بمعنى النسيان. وقوله: {أَنْ تَضِلَّ} قرأه الجمهور بفتح همزة أن على أنه محذوف منه لام التعليل كما هو الغالب في الكلام العربي مع أن، والتعليل في هذا الكلام ينصرف إلى ما يحتاج فيه إلى أن يُعلل لقصد إقناع المكلفين، إذ لا نجد في هذه الجملة حكماً قد لا تطمئن إليه النفوس إلا جعل عوض الرجل الواحد بامرأتين اثنتين فصرح بتعليله. واللام المقدرة قبل أن متعلقة بالخبر المحذوف في جملة جواب الشرط إذ التقدير فرجل وامرأتان يشهدان أو فليشهد رجل وامرأتان، وقرأوه بنصب {فَتُذَكِّرَ} عطفاً على {أَنْ تَضِلَّ}، وقرأه حمزة بكسر الهمزة على اعتبار أن شرطية وتضل فعل الشرط، وبرفع تذكر على أنه خبر مبتدأ محذوف بعد الفاء لأن الفاء تؤذن بأن ما بعدها غير مجزوم والتقدير فهي تذكرها الأخرى على نحول قوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95]. ولما كان "أن تضل" في معنى لضلال إحداهما صارت العلة في الظاهر هي الضلال، وليس كذلك بل العلة هي ما يترتب على الضلال من إضاعة المشهود به، فتفرع عليه قوله: {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} لأن فتذكر معطوف على تضل بفاء التعقيب فهون من تكملته، والعبرة بآخر الكلام كما قدمناه في قوله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} [البقرة: 266]، ونظيره في "الكشاف" أن تقول: أعددت الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه، وأعددت السلاح أن يجيء عدو فأدفعه. وفي هذه الاستعمال عدول عن الظاهر وهو أن يقال: أن تذكر إحداهما الأخرى عند نسيانها. ووجهه صاحب "الكشاف" بأن فيه دلالة على الاهتمام بشأن التذكير حتى صار المتكلم يعلل بأسبابه المفضية إليه لأجل تحصيله. وادعى ابن الحاجب في أماليه على هذه الآية بالقاهرة سنة ست عشرة وستمائة: أن من شأن لغة العرب إذا ذكروا علة ـ وكان للعلة علة ـ قدموا ذكر علة العلة وجعلوا العلة معطوفة عليها بالفاء لتحصل الدلالتان معاً بعبارة واحدة. ومثله بالمثال الذي مثل به "الكشاف"، وظاهر كلامه أن ذلك ملتزم ولم أره لغيره. والذي أراه أن سبب العدول في مثله أن العلة تارة تكون بسيطة كقولك: فعلت كذا إكراماً لك، وتارة تكون مركبة من دفع ضر وجلب نفع بدفعه. فهنالك يأتي المتكلم في تعليله بما يدل على الأمرين في صورة علة واحدة إيجازاً في الكلام كما في الآية والمثالين. لأن المقصود من التعدد خشية حصول النسيان للمرأة المنفردة، فلذا أخذ بقولها حق المشهود عليه وقصد تذكير المرأة الثانية إياها، وهذا أحسن مما ذكره صاحب "الكشاف". وفي قوله: {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} إظهار في مقام الإضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقول فتذكرها الأخرى، وذلك أن الإحدى والأخرى وصفان مبهمان لا يتعين شخص المقصود بهما، فكيفما وضعتهما في موضعي الفاعل والمفعول كان المعنى واحداً، فلو أضمر للإحدى ضمير المفعول لكان المعاد واضحاً سواء كان قوله إحداهما ـ المظهر ـ فاعلاً أو مفعولاً به، فلا يظن أن كون لفظ إحداهما المظهر في الآية فاعلاً ينافي كونه إظهاراً في مقام الإضمار لأنه لا أضمر لكان الضمير مفعولاً، والمفعول غير الفاعل كما قد ظنه التفتازاني لأن المنظور إليه في اعتبار الإظهار في مقام الإضمار هو تأتي الإضمار مع اتحاد المعنى.وهو موجود في الآية كما لا يخفى. ثم نكتة الإظهار هنا قد تحيرت فيها أفكار المفسرين ولم يتعرض لها المتقدمون، قال التفتازاني في "شرح الكشاف": "ومما ينبغي أن يتعرض له وجه تكرير لفظ إحداهما، ولا خفاء في أنه ليس من وضع المظهر موضع المضمر إذ ليست المذكرة هي المناسبة إلا أن يجعل إحداهما الثانية في موقع المفعول، ولا يجوز ذلك لتقديم المفعول في موضع الإلباس، ويصح أن يقال: فتذكرها الأخرى، فلا بد للعدول من نكتة".وقال العصام في "حاشية البيضاوي" نكتة التكرير أنه كان فصل التركيب أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت، فلما قدم إن ضلت وأبرز في معرض العلة لم يصح الإضمار "أي لعدم تقدم إمعاد" ولم يصح أن تضل الأخرى لأنه لا يحسن قبل ذكر إحداهما "أي لأن الأخرى لا يكون وصفاً إلى في مقابلة وصف مقابل مذكور فأبدل بإحداهما "أي أبدل موقع لفظ لأخرى بلفظ إحداهما ولم يغير ما هو أصل العلة عن هيأته لأنه كأن لم يقدم عليه، {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} يعني فهذا وجه الإظهار. وقال الخفاجي في "حاشية التفسير": "قالوا: إن النكتة الإبهام لأن كل واحدة من المرأتين يجوز عليها ما يجوز على صاحبتها من الضلال والتذكير، فدخل الكلام في معنى العموم" يعني أنه أظهر لئلا يتوهم أن إحدى المرأتين لا تكون إلا مذكرة الأخرى، فلا تكون شاهدة بالأصالة. وأصل هذا الجواب لشهاب الدين الغزنوي عصري الخفاجي عن سؤال وجهه إليه الخفاجي، وهذا السؤال: يا رأس اهـل العلوم السادة البررة . . . ومن نداه على كل الورى نشره ما سر تكرار إحدى دون تذكرها . . . في آية لذوي الأشهاد في البقرة وظاهر الحال إيجاز الضمير على . . . تكرار إحداهما لو أنه ذكره وحمل الإحدى على نفس الشهادة في . . . أولاهما ليس مرضياً لدى المهره فغص بفكرك لاستخراج جوهرة . . . من بحر علمك ثم ابعث لنا درره فأجاب الغزنوي: يا من فوائده بالعلم منتشرة . . . ومن فضائله في الكون مشتهره تضل إحداهما فالقول محتمل . . . كليهما فهي للإظهار مفتقره ولو أتى بضمير كان مقتضياً . . . تعيين واحدة للحكم معتبره ومن رددتم عليه الحل فهو كما . . . أشرتم ليس مرضياً لمن سبره هذا الذي سمح الذهن الكليل به . . . والله أعلم في الفحوى بما ذكره وقد أشار السؤال والجواب إلى رد على جواب لأبي القاسم المغربي في تفسيره1؛ إذ جعل إحداهما الأول مراداً به إحدى الشهادتين، وجعل تضل بمعنى تتلف بالنسيان، وجعل إحداهما الثاني مراداً به إحدى المرأتين. ----------------------------------------------- 1 هو أبو القاسم حسين بن علي الشهري بالمغربي استوزره البوهي ببغداد وفي سنة 418. ----------------------------------------------- ولما اختلف المدلول لم يبق إظهار في مقام الإضمار، وهو تكلف وتشتيت للضمائر لا دليل عليه، فينزه تخريج كلام الله عليه، وهو الذي عناه الغزنوي بقوله: "ومن رددتم عليه الحل الخ...". والذي أراه أن هذا الإظهار في مقام الإضمار لنكتة هي قصد استقلال الجملة بمدلولها كيلا تحتاج إلى كلام آخر فيه معاد الضمير لو أضمر، وذلك يرشح الجملة لأن تجري مجرى المثل. وكأن المراد هنا الإيماء إلى أن كلتا الجملتين علة لمشروعية تعدد المرأة في الشهادة، فالمرأة معرضة لتطرق النسيان إليها وقلة ضبط ما يهم ضبطه، والتعدد مظنة لاختلاف مواد النقص والخلل، فعسى ألا تنسى إحداهما ما نسيته الأخرى. فقوله أن تضل تعليل لعدم الاكتفاء بالواحدة، وقوله: {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} تعليل لإشهاد امرأة ثانية حتى لا تبطل شهادة الأولى من أصلها.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52879 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 271 - 286 الأربعاء 27 نوفمبر 2024, 8:15 am | |
| {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا}. عُطف {وَلا يَأْبَ} على {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ} لأنه لما أمر المتعاقدين باستشهاد شاهدين نهي من يطلب إشهاده عن أن يأبى، ليتم المطلوب وهو الإشهاد. وإنما جيء في خطاب المتعاقدين بصيغة الأمر وجيء في خطاب الشهداء بصيغة النهي اهـتماماً بما فيه التفريط. فإن المتعاقدين يظن بهما اهـمال الإشهاد فأمرا به، والشهود يظن بهما الامتناع فنهوا عنه، وكل يستلزم ضده. وتسمية المدعوين شهداء باعتبار الأول القريب، وهو المشارفة، وكأن في ذلك نكتة عظيمة: وهي الإيماء إلى أنهم بمجرد دعوتهم إلى الإشهاد، قد تعينت عليهم الإجابة، فصاروا شهداء. وحذف معمول دعوا إما لظهوره من قوله ـ قبله ـ {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ} أي إذا ما دعوا إلى الشهادة أي التحمل، وهذا قول قتادة، والربيع بن سليمان، ونقل عن ابن عباس، فالنهي عن الإباية عند الدعاء إلى الشهادة حاصل بالأولى، ويجوز أن يكون حذف المعمول لقصد العموم، أي إذا ما دعوا للتحمل والأداء معاً؛ قاله الحسن، وابن عباس، وقال مجاهد: إذا ما دعوا إلى الأداء خاصة، ولعل الذي حمله على ذلك هو قوله: {الشُّهَدَاءِ} لأنهم لا يكونون شهداء حقيقة إلا بعد التحمل، ويبعده أن الله تعالى قال ـ بعد هذا ـ {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة: 283] وذلك نهي عن الإباية عند الدعوة للأداء. والذي يظهر أن حذف المتعلق بفعل {دُعُوا} لإفادة شمول ما يدعون لأجله في التعاقد: من تحمل، عند قصد الإشهاد، ومن أداء، عند الاحتياج إلى البينة. قال ابن الحاجب: "والتحمل حيث يفتقر إليه فرض كفاية والأداء نحو البريدين ـ إن كانا اثنين ـ فرض عين، ولا تحل إحالته على اليمين". والقول في مقتضى النهي هنا كالقول في قوله: {وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ} ويظهر أن التحمل يتعين بالتعيين من الإمام، أو بما يعينه، وكان الشأن أن يكون فرض عين إلا لضرورة فينتقل المتعاقدان لآخر، وأما الأداء ففرض عين إن كان لا مضرة فيه على الشاهد في بدنه، أو ماله، وعند أبي حنيفة الأداء فرض كفاية إلا إذا تعين عليه، بأن لا يوجد بدله، وإنما يجب بشرط عدالة القاضي، وقرب المكان: بأن يرجع الشاهد إلى منزله في يومه، وعلمه بأنه تقبل شهادته، وطلب المدعي. وفي هذه التعليقات رد بالشهادة إلى مختلف اجتهادات الشهود، وذلك باب من التأويلات لا ينبغي فتحه. قال القرطبي: "يؤخذ من هذه الآية أنه يجوز للإمام أن يقيم للناس شهوداً، ويجعل لهم كفايتهم من بيت المال، فلا يكون لهم شغل إلا تحمل حقوق الناس حفظاً لها". قلت: وقد أحسن قضاة تونس المتقدمون، وأمراؤها، في تعيين شهود منتصبين للشهادة بين الناس، يؤخذون ممن يقبلهم القضاة ويعرفونهم بالعدالة، وكذلك كان الأمر في الأندلس، وذلك من النظر للأمة، ولم يكن ذلك متبعاً في بلاد المشرق؛ بل كانوا يكتفون بشهرة عدالة بعض الفقهاء وضبطهم للشروط وكتب الوثائق فيعتمدهم القضاة، ويكلون إليهم ما يجري في النوازل من كتابة الدعوى والأحكام، وكان مما يعد في ترجمة بعض العلماء أن يقال: كان مقبولاً عند القاضي فلان. {وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ}. تعميم في أكوان أو أحوال الديون المأمور بكتابتها، فالصغير والكبير هنا مجازان في الحقير والجليل.والعاملات الصغيرة أكثر من الكبيرة، فلذلك نهوا عن السآمة هنا. والسآمة: الملل من تكرير فعل ما. والخطاب للمتداينين أصالة، ويستتبع ذلك خطاب الكاتب: لأن المتداينين إذا دعواه للكتابة وجب عليه أن يكتب. والنهي عنها نهي عن أثرها، وهو ترك الكتابة، لأن السآمة تحصل للنفس من غير اختيار، فلا ينهى عنها في ذاتها، وقيل السآمة هنا كناية عن الكسل والتهاون. وانتصب صغيراً أو كبيراً على الحال من الضمير المنصوب بتكتبوه، أو على حذف كان مع اسمها. وتقديم الصغير على الكبير هنا، مع أن مقتضى الظاهر العكس، كتقديم السنة على النوم في قوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة: 255] لأنه قصد هنا إلى التنصيص على العموم لدفع ما يطرأ من التوهمات في قلة الاعتناء بالصغير، وهو أكثر، أو اعتقاد عدم وجوب كتابة الكبير، لو اقتصر في اللفظ على الصغير. وجملة {إلى أجله} حال من الضمير المنصوب بتكتبوه، أي مغيِّى الدين إلى أجله الذي تعاقداً عليه، والمراد التغيية في الكتابة. {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا}. تصريح بالعلة لتشريع الأمر بالكتابة: بأن الكتابة فيها زيادة التوثق، وهو أقسط أي أشد قسطاً، أي عدلاً، لأنه أحفظ للحق، وأقوم للشهادة، أي أعون على إقامتها، وأقرب إلى نفي الريبة والشك، فهذه ثلاث علل، ويستخرج منها أن المقصد الشرعي أن تكون الشهادة في الحقوق بينة، واضحة، بعيدة عن الاحتمالات، والتوهمات. واسم الإشارة عائد إلى جميع ما تقدم باعتبار أنه مذكور، فلذلك أشير إليه باسم إشارة الواحد. وفي الآية حجة لجواز تعليل الحكم الشرعي بعلل متعددة وهذا لا ينبغي الاختلاف فيه. واشتقاق {أَقْسَطُ} من أقسط بمعنى عدل، وهو رباعي، وليس من قسط لأنه بمعنى جار، وكذا اشتقاق {َأَقْوَمُ} من أقام الشهادة إذا أظهرها جارٍ على قول سيبويه بجواز صوغ التفضيل والتعجب من الرباعي المهموز، سواء كانت الهمزة للتعدية نحو أعطى أم لغير التعدية نحو أفرط. وجوز صاحب "الكشاف" أن يكون أقسط مشتقاً من قاسط بمعنى ذي قسط أي صيغة نسب وهو مشكل، إذ ليس لهذه الزنة فعل. واستشكل أيضاً بأن صوغه من الجامد أشد من صوغه من الرباعي. والجواب عندي أن النسب هنا لما كان إلى المصدر شابه المشتق: إذ المصدر أصل الاشتقاق، وأن يكون أقوم مشتقاً من قام الذي هو محول إلى وزن فعل ـ بضم العين ـ الدال على السجية، الذي يجيء منه قويم صفة مشبهة. قيل منقطع، لأن التجارة الحاضرة ليست من الدين في شيء، والتقدير: إلا كون تجارة حاضرة. والحاضرة الناجزة، التي لا تأخير فيها، إذ الحاضر، والعاجل، والناجز: مترادفة. والدين، الأجل، والنسيئة: مترادفة. {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا}. استثناء من عموم الأحوال أو الأكوان في قوله: {صغيراً أو كبيراً} وهو استثناء؛ وقوله: {تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} بيان لجملة {أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ} بل البيان في مثل هذا، أقرب منه في قول الشاعر مما أنشده ابن الأعرابي في نوادره، وقال العيني: ينسب إلى الفرزدق: إلا الله أشكو بالمدينة حاجة . . . وبالشام أخرى كيف يلتقيان إذ جعل صاحب "الكشاف" كيف يلتقيان بياناً لحاجة وأخرى، أو تجعل {تُدِيرُونَهَا} صفة ثانية لتجارة في معنى البيان، ولعل فائدة ذكره الإيماء إلى تعليل الرخصة في ترك الكتابة، لأن إدارتها أغنت عن الكتابة. وقيل: الاستثناء متصل، والمراد بالتجارة الحاضرة المؤجلة إلى أجل قريب، فهي من جملة الديون، رخص فيها ترك الكتابة بها، وهذا بعيد. وقوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا} تصريح بمفهوم الاستثناء، مع ما في زيادة قوله: {جُنَاحٌ} من الإشارة إلى أن هذا الحكم رخصة، لأن رفع الجناح مؤذن بأن الكتابة أولى وأحسن. وقرأ الجمهور تجارة بالرفع: على أن تكون تامة، وقرأه عاصم بالنصب: على أن تكون ناقصة، وأن في فعل تكون ضميراً مستتراً عائداً على ما يفيده خبر كان، أي إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة، كما في قول عمرو بن شاس ـ أنشده سيبويه ـ: بني أسد هل تعلمون بلاءنا . . . إذا كان يوماً ذا كواكب أشنعا تقديره إذا كان اليوم يوماً ذا كواكب، وقوله: {ألا} أصله أن لا فرسم مدغماً. {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}. تشريع للإشهاد عند البيع ولو بغير دين إذا كان البيع غير تجارة حاضرة، وهذا إكمال لصور المعاملة: فإنها إما تداين، أو آيل إليه كالبيع بدين، وإما تناجز في تجارة، وإما تناجز في غير تجارة كبيع العقار والعروض في غير التجر. وقيل: المراد بتبايعتم التجارة، فتكون الرخصة في ترك الكتابة مع بقاء الإشهاد بدون كتابة، وهذا بعيد جداً، لأن الكتابة ما شرعت لأجل الإشهاد والتوثق. وقوله تعالى: {وَأَشْهِدُو} أمر: قيل هو للوجوب، وهذا قول أبي موسى الأشعري، وابن عمر، وأبي سعيد الخدري، وسعيد بن المسيب، ومجاهد، والضحاك، وعطاء، وابن جريج، والنخعي، وجابر بن زيد، وداوود الظاهري، والطبري. وقد أشهد النبي صلى الله عليه وسلم على بيعد عبد باعه للعداء بن خالد بن هوذة، وكتب في ذلك "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله اشترى منه عبداً لا داء ولا غائلة ولا خبثة بيع المسلم للمسلم" وقيل: هو للندب وذهب إليه من السلف الحسن، والشعبي، وهو قول مالك، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، وتمسكوا بالسنة: أن النبي صلى الله عليه وسلم باع ولم يشهد، قاله ابن العربي، وجوابه: أن ذلك في مواضع الائتمان، وسيجيء قوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [البقرة: 283] الآية وقد تقدم ما لابن عطية في توجيه عدم الوجوب وردنا له عند قوله تعالى: {فَاكْتُبُوهُ}. {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ}. نهي عن المضارة وهي تحتمل أن يكون الكاتب والشهيد مصدراً للإضرار، أو أن يكون المكتوب له والمشهود له مصدراً للإضرار: لأن يضار يحتمل البناء للمعلوم وللمجهول، ولعل اختيار هذه المادة هنا مقصود، لاحتمالها حكمين، ليكون الكلام موجهاً فيحمل على كلا معنييه لعدم تنافيهما، وهذا من وجه الإعجاز. والمضارة: إدخال الضر بأن يوقع المتعاقدان الشاهدين والكاتب في الحرم والخسارة، أو ما يجر إلى العقوبة، وأن يوقع الشاهدين أحد المتعاقدين في إشاعة حق أو تعب في الإجابة إلى الشهادة. وقد أخذ فقهاؤنا من هاته الآية أحكاماً كثيرة تتفرع عن الإضرار: منها ركوب الشاهد من المسافة البعيدة، ومنها ترك استفساره بعد المدة الطويلة التي هي مظنة النسيان، ومنها استفساره استفساراً يوقعه في الاضطراب، ويؤخذ منها أنه ينبغي لولاة الأمور جعل جانب من مال بيت المال لدفع مصاريف انتقال الشهود وإقامتهم في غير بلدهم وتعويض ما سينالهم من ذلك الانتقال من الخسائر المالية في إضاعة عائلاتهم، إعانة على إقامة العدل بقدر الطاقة والسعة. وقوله تعالى: {وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} حذف مفعول تفعلوا وهو معلوم، لأنه الإضرار المستفاد من لا يضار مثل "اعدلوا هو أقرب" والفسوق: الإثم العظيم، قال تعالى: {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ}.[الحجرات: 11]. {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. أمر بالتقوى لأنها ملاك الخير، وبها يكون ترك الفسوق. وقوله: {وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} تذكير بنعمة الإسلام، الذي أخرجهم من الجهالة إلى العلم بالشريعة، ونظام العالم، وهو أكبر العلوم وأنفعها، ووعد بدوام ذلك لأنج جيء به بالمضارع، وفي عطفه على الأمر بالتقوى إيماء إلى أن التقوى سبب إفاضة العلوم، حتى قيل: إن الواو فيه للتعليل أي ليعلمكم. وجعله بعضهم من معاني الواو، وليس بصحيح. وإظهار اسم الجلالة في الجمل الثلاث: لقصد التنويه بكل جملة منها حتى تكون مستقلة الدلالة، غير محتاجة إلى غيرها المشتمل على معاد ضميرها، حتى إذا سمع السامع كل واحدة منها حصل له علم مستقل، وقد لا يسمع إحداها فلا يضره ذلك في فهم أخراها، ونظير هذا الإظهار قول الحماسي1: اللؤم أكرم من وبر ووالده . . . واللؤم أكرم من وبر وما ولدا واللؤم داءٌ لوبر يقتلون به . . . لا يقتلون بداء غير أبدا فإنه لما قصد التشنيع بالقبيلة ومن ولدها، وما ولدته، أظهر اللؤم في الجمل الثلاث ولما كانت الجملة الرابعة كالتأكيد للثالثة لم يظهر اسم اللؤم بها. هذا، ولإظهار اسم الجلالة نكتة أخرى وهي التهويل. وللتكرير مواقع يحسن فيها، ومواقع لا يحسن فيها، قال الشيخ في "دلائل الإعجاز"2، في الخاتمة التي ذكر فيها أن الذوق قد يدرك أشياء لا يهتدى لأسبابها، وأن بعض الأئمة قد يعرض له الخطأ في التأويل: "ومن ذلك ما حكي عن الصاحب أنه قال: كان الأستاذ ابن العميد يختار من شعر ابن الرومي وينقط على ما يختاره، قال الصاحب فدفع إليَّ القصيدة التي أولها: أتحت ضلوعي جمرة تتوقد . . . على ما مضى أم حسرة تتجدد وقال لي: تأملها، فتأملتها فوجدته قد ترك خير بيت فيها لم ينقِّط عليه وهو قوله: بجهل كجهل السيف والسيف منتضى . . . وحلم كحلم السيف والسيف مغمدُ ----------------------------------------------- 1 وهو الحكم ابن مقداد ويدعى ابن زهرة وزهرة أمه ويعرف بالحكم الأصم الفزاري، وتنسب الأبيات إلى عويف القوافي أيضاً واسمه عوف بن حصن الفزاري. 2 ص: 400 مطبعة الموسوعات بمصر. ----------------------------------------------- فقلت: لم ترك الأستاذ هذا البيت؟ فقال: لعل القلم تجاوزه، ثم رآني من بعد فاعتذر بعذر كان شراً من تركه؛ فقال: إنما تركته لأنه أعاد السيف أربع مرات، قال الصاحب: لو لم يعده لفسد البيت، قال الشيخ عبد القاهر: والأمر كما قال الصاحب ـ ثم قال ـ قال أبو يعقوب: إن الكناية والتعريض لا يعملان في العقول عمل الإفصاح والتكشيف لأجل ذلك كان لإعادة اللفظ في قوله تعالى: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [الإسراء: 105]. وقوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 1-2] عمل لولاه لم يكن. وقال الراغب: قد استكرهوا التكرير في قوله: فما للنوى جُذّ النوى قطع النوى حتى قيل: لو سلط بعير على هذا البيت لرعى ما فيه من النوى، ثم قال: إن التكرير المستحسن هو تكرير يقع على طريق التعظيم، أو التحقير، في جمل متواليات كل جملة منها مستقلة بنفسها، والمستقبح هو أن يكون التكرير في جملة واحدة أو في جمل في معنى، ولم يكن فيه معنى التعظيم والتحقير، فالراغب موافق للأستاذ ابن العميد، وعبد القاهر موافقٌ للصاحب بن عباد، قال المرزوقي في شرح الحماسة1 عند قول يحيى بن زياد: لما رأيت الشيب لاح بياضه . . . بمفرق رأسي قلت للشيب مرحبا "كان الواجب أن يقول: قلت له مرحباً، لكنهم يكررون الأعلام وأسماء الأجناس كثيراً والقصد بالتكرير التفخيم". واعلم أنه ليس التكرير بمقصور على التعظيم بل مقامه كل مقام يراد منه تسجيل انتساب الفعل إلى صاحب الاسم المكرر، كما تقدم في بيتي الحماسة: اللؤم أكرم من وبر"...الخ. وقد وقع التكرير متعاقباً في قوله تعالى في سورة آل عمران [78]: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 78]. ----------------------------------------------- 1 في باب الأدب من ديوان الحماسة. -----------------------------------------------
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52879 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 271 - 286 الأربعاء 27 نوفمبر 2024, 8:16 am | |
| [283] {وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}. {وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}. هذا معطوف على قوله: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} [البقرة: 282] الآية، فجميع ما تقدم حكم في الحضر والمكنة، فإن كانوا على سفر ولم يتمكنوا من الكتابة لعدم وجود من يكتب ويشهد فقد شرع لهم حكم آخر وهو الرهن، وهذا آخر الأقسام المتوقعة في صور المعاملة، وهي حالة السفر غالباً، ويلحق بها ما يماثل السفر في هاته الحالة. والرهان جمع رهن ـ ويجمع أيضاً على رُهُن بضم الراء وضم الهاء ـ وقد قرأه جمهور العشرة: بكسر الراء وفتح الهاء، وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو: بضم الراء وضم الهاء، وجمعه باعتبار تعدد المخاطبين بهذا الحكم. والرهن هنا اسم للشيء المرهون تسمية للمفعول بالمصدر كالخلق. ومعنى الرهن أن يجعل شيء من متاع المدين بيد الدائن توثقة له في دينه. وأصل الرهن في كلام العرب يدل على الحبس قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38] فالمرهون محبوس بيد الدائن إلى أن يستوفى دينه قال زهير: وفارقتك برهن لا فكاك له . . . يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا والرهن شائع عند العرب: فقد كانوا يرهنون في الحمالات والديات إلى أن يقع دفعها، فربما رهنوا أبناءهم، وربما رهنوا واحداً من صناديدهم، قال الأعشى يذكر أن كسرى رام أخذ رهائن من أبنائهم: أليت لا أعطيه من أبنائنا . . . رهناً فنفسدهم كمن قد أفسدا وقد عبد الله بن همام السلولي1: فلما خشيت أظافيرهم . . . نجوت وأرهنتهم مالكا ومن حديث كعب بن الأشرف أنه قال لعبد الرحمن بن عوف: ارهنوني أبناءكم. ومعنى فرهانٌ: أي فرهان تعوض بها الكتابة. ----------------------------------------------- 1 في باب ديوان الحماسة. لأن الرهان لا تكون إلا مقبوضة، وإما للاحتراز عن الرهن للتوثقة في الديون في الحضر فيؤخذ من الإذن في الرهن أنه مباح فلذلك إذا سأله رب الدين أجيب إليه فدلت الآية على أن الرهن توثقة في الدين. والآية دالة على مشروعية الرهن في السفر بتصريحها. ----------------------------------------------- ووصفها بمقبوضة إما لمجرد الكشف، وأما مشروعية الرهن في الحضر فلأن تعليقه هنا على حال السفر ليس تعليقاً بمعنى التقييد بل هو تعليق بمعنى الفرض والتقدير، إذا لم يوجد الشاهد في السفر، فلا مفهوم للشرط لوروده مود بيان حالة خاصة لا للاحتراز، ولا تعتبر مفاهيم القيود إلا إذا سيقت مساق الاحتراز، ولذا لم يعتدوا بها إذا خرجت مخرج الغالب. ولا مفهوم له في الانتقال عن الشهادة أيضاً؛ إذ قد علم من الآية أ، الرهن معاملة لهم، فلذلك أحيلوا عليها عند الضرورة على معنى الإرشاد والتنبيه. وقد أخذ مجاهد، والضحاك، وداود الظاهري، بظاهر الآية من تقييد الرهن بحال السفر، مع أن السنة أثبتت وقوع الرهن من الرسول صلى الله عليه وسلم ومن أصحابه في الحضر. والآية دليل على أن القبض من متممات الرهن شرعاً، ولم يختلف العلماء في ذلك، وإنما اختلفوا في الأحكام الناشئة عن ترك القبض، فقال الشافعي: القبض شرط في صحة الرهن، لظاهر الآية، فلو لم يقارن عقدة الرهن قبض فسدت العقدة عنده، وقال محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة: لا يجوز الرهن بدون قبض، وتردد المتأخرون من الحنفية في مفاد هذه العبارة؛ فقال جماعة: هو عنده شرط في الصحة كقول الشافعي، وقال جماعة: هو شرط في اللزوم قريباً من قول مالك، واتفق الجميع على أن للراهن أن يرجع بعد عقد الرهن إذا لم يقع الحوز، وذهب مالك إلى أن القبض شرط في اللزوم، لأن الرهن عقد يثبت بالصيغة كالبيع، والقبض من لوازمه، فلذلك يجبر الراهن على تحويز المرتهن إلا أنه إذا مات الراهن أو أفلس قبل التحويز كان المرتهن أسوة الغرماء؛ إذ ليس له ما يؤثره على بقية الغرماء، والآية تشهد لهذا لأن الله سبحانه وتعالى جعل القبض وصفاً للرهن، فعلم أن ماهية الرهن قد تحققت بدون القبض.وأهل تونس يكتفون في رهن الرباع والعقار برهن رسوم التملك، ويعدون ذلك في رهن الدين حوزاً.وفي الآية دليل واضح على بطلان الانتفاع؛ لأن الله تعالى جعل الرهن عوضاً عن الشهادة في التوثق فلا وجه للانتفاع، واشتراط الانتفاع بالرهن يخرجه عن كونه توثقاً إلى ماهية البيع. {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ}. متفرع على جميع ما تقدم من أحكام الدين: أي إن أمن كل من المتداينين الآخر أي وثق بعضكم بأمانة بعض فلم يطالبه بإشهاد ولا رهن، فالبعض ـ المرفوع ـ هو الدائن، والبعض ـ المنصوب ـ هو المدين وهو الذي اؤتمن. والأمانة مصدر آمنه إذا جعله آمناً. والأمن اطمئنان النفس وسلامتها مما تخافه، وأطلقت الأمانة على الشيء المؤمن عليه، من إطلاق المصدر على المفعول. وإضافة أمانته تشبه إضافة المصدر إلى مفعوله. وسيجيء ذكر الأمانة بمعنى صفةِ الأمين عند قوله تعالى: {وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} في سورة الأعراف [68]. وقد أطلق هنا اسم الأمانة على الدين في الذمة وعلى الرهن لتعظيم ذلك الحق لأن اسم الأمانات له مهابة في النفوس، فذلك تحذير من عدم الوفاء به؛ لأنه لما سمى أمانة فعدم أدائه ينعكس خيانة؛ لأنها ضدها، وفي الحديث: "أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك". والأداء: الدفع والتوفية، ورد الشيء أو رد مثله فيما لا تقصد أعيانه، ومنه أداء الأمانة وأداء الدين أي عدم جحده قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى اهـلِهَا} [النساء: 58]. والمعنى: إذا ظننتم أنكم في غنية عن التوثق في ديونكم بأنكم أمناء عند بعضكم، فأعطوا الأمانة حقها. وقد علمت مما تقدم عند قوله تعالى: {فَاكْتُبُوهُ} أن آية {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} تعتبر تكميلاً لطلب الكتابة والإشهاد طلب ندب واستحباب عند الذين حملوا الأمر في قوله تعالى: {فَاكْتُبُوهُ} على معنى الندب والاستحباب، وهم الجمهور. ومعنى كونها تكميلاً لذلك الطلب أنها بينت أن الكتابة والإشهاد بين المتداينين، مقصود بهما حسن التعامل بينهما، فإن بدا لهما أن يأخذا بهما فعما، وإن اكتفيا بما يعلمانه من أمان بينهما فلهما تركهما. وأتبع هذا البيان بوصاية كلا المتعاملين بأن يؤديا الأمانة ويتقيا الله. وتقدم أيضاً أن الذين قالوا بأن الكتابة والإشهاد على الديون كان واجباً ثم نسخ وجوبه، ادعوا أن ناسخه هو قوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} الآية، وهو قول الشعبي، وابن جريج، وجابر بن زيد، والربيع بن سليمان، ونسب إلى أبي سعيد الخدري. ومحمل قولهم وقول أبي سعيد ـ إن صح ذلك عنه ـ أنهم عنوا بالنسخ تخصيص عموم الأحوال والأزمنة. وتسمية مثل ذلك نسخاً تسمية قديمة. أما الذين يرون وجوب الكتابة والإشهاد بالديون حكماً محكماً، ومنهم الطبري، فقصروا آية {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} الآية على كونها تكملة لصورة الرهن في السفر خاصة، كما صرح به الطبري ولم يأت بكلام واضح في ذلك ولكنه جمجم الكلام وطواه. ولو أنهم قالوا: إن هذه الآية تعني حالة تعذر وجود الرهن في حالة السفر، أي فلم يبق إلا أن يأمن بعضكم فالتقدير: فإن لم تجدوا رهناً وأمن بعضكم بعضاً إلى آخره لكان له وجه، ويفهم منه أنه إن لم يأمنه لا يداينه، ولكن طوى هذا ترغيباً للناس في المواساة والاتسام بالأمانة. وهؤلاء الفرق الثلاثة كلهم يجعلون هذه الآية مقصورة على بيان حالة ترك التوثق في الديون. وأظهر مما قالوه عندي: أن هذه الآية تشريع مستقل يعم جميع الأحوال المتعلقة بالديون: من إشهاد، ورهن، ووفاء بالدين، والمتعلقة بالتبايع، ولهذه النكتة أبهم المؤتمنون بكلمة {بعض} ليشمل الائتمان من كلا الجانبين: الذي من قبل رب الدين، والذي من قبل المدين. فرب الدين يأتمن المدين إذا لم ير حاجة إلى الإشهاد عليه، ولم يطالبه بإعطاء الرهن في السفر ولا في الحضر. والمدين يأتمن الدائن إذا سلم له رهناً أغلى ثمناً بكثير من قيمة الدين المرتهن فيه، والغالب أن الرهان تكون أوفر قيمة من الديون التي أرهنت لأجلها، فأمر كل جانب مؤتمن أن يؤدي أمانته، فأداء المدين أمانته بدفع الدين، دون مطل، ولا جحود، وأداء الدائن أمانته إذا أعطى رهناً متجاوز القيمة على الدين أن يرد الرهن ولا يجحده غير مكترث بالدين؛ لأن الرهن أوفر منه، ولا ينقص شيئاً من الرهن. ولفظ الأمانة مستعمل في معنيين: معنى الصفة التي يتصف بها الأمين، ومعنى الشيء المؤمن. فيؤخذ من هذا التفسير إبطال غلق الرهن: وهو أن يصير الشيء المرهون ملكاً لرب الدين، إذا لم يدفع الدين عند الأجل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يغلق الرهن" وقد كان غلق الرهن من أعمال اهـل الجاهلية، قال زهير: وفارقتك برهن لا فكاك له . . . عند الوداع فأمسى الرهن قد غلقا ومعنى {أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} أن يقول كلا المتعاملين للآخر: لا حاجة لنا بالإشهاد ونحن يأمن بعضنا بعضاً، وذلك كي لا ينتقض المقصد الذي أشرنا إليه فيما مضى من دفع مظنة اتهام أحد المتداينين الآخر. وزيد في التحذير بقوله: {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ}، وذكر اسم الجلالة فيه مع إمكان الاستغناء بقوله: "وليتق ربه" لإدخال الروع في ضمير السامع وتربية المهابة. وقوله: {الَّذِي اؤْتُمِنَ} وقع فيه ياء هي المدة في آخر "الذي" ووقع بعده همزتان أولاهما وصلية وهي همزة الافتعال، والثانية قطعية أصلية، فقرأه الجمهور بكسر ذال الذي وبهمزة ساكنة بعد كسرة الذال؛ لأن همزة الوصل سقطت في الدرج فبقيت الهمزة على سكونها؛ إذ الداعي لقلب الهمزة الثانية مدا قد زال، وهو الهمزة الأولى، ففي هذه القراءة تصحيح للهمزة؛ إذ لا داعي للإعلال. وقرأه ورش عن نافع، وأبو عمرو، وأبو جعفر: الذيتمن بياء بعد ذال الذي، ثم فوقية مضمومة: اعتباراً بأن الهمزة الأصلية قد انقلبت واواً بعد همزة الافتعال الوصلية؛ لأن الشأن ضم همزة الوصل مجانسة لحركة تاء الافتعال عند البناء للمجهول، فلما حذفت همزة الوصل في الدرج بقيت الهمزة الثانية واواً بعد كسرة ذال "الذي" فقلت الواو ياء ففي هذه القراءة قلبان. وقرأه أبو بكر عن عاصم: الذي اوتمن بقلب الهمزة واواً تبعاً للضمة مشيراً بها إلى الهمزة. وهذا الاختلاف راجع إلى وجه الأداء فلا مخالفة فيه لرسم المصحف. {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}. وصاية ثانية للشهداء تجمع الشهادات في جميع الأحوال؛ فإنه أمر أن يكتب الشاهد بالعدل، ثم نهي عن الامتناع من الكتابة بين المتداينين، وأعقب ذلك بالنهي عن كتمان الشهادة كلها. فكان هذا النهي ـ بعمومه ـ بمنزلة التذييل لأحكام الشهادة في الدين. واعلم أن قوله تعالى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} نهي، وأن مقتضى النهي إفادة التكرار عند جمهور علماء الأصول: أي تكرار الانكفاف عن فعل المنهي في أوقات عروض فعله، ولولا إفادته التكرار لما تحققت معصية، وأن التكرار الذي يقتضيه النهي تكرار يستغرق الأزمنة التي يعرض فيها داع لفعل المنهي عنه، فلذلك كان حقاً على من تحمل شهادة بحق ألا يكتمه عند عروض إعلانه: بأن يبلغه إلى من ينتفع به، أو يقضي به، كلما ظهر الداعي إلى الاستظهار به، أو قبل ذلك إذا خشي الشاهد تلاشي ما في علمه: بغيبة أو طرو نسيان، أو عروض موت، بحسب ما يتوقع الشاهد أنه حافظ للحق الذي في علمه، على مقدار طاقته واجتهاده. وإذ قد علمت ـ آنفاً ـ أن الله أنبأنا بأن مراده إقامة الشهادة على وجهها بقوله: {وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ} [البقرة: 282]، وأنه حرض الشاهد على الحضور للإشهاد إذا طلب بقوله: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 283]. فعلم من ذلك كله الاهتمام بإظهار الشهادة إظهاراً للحق. ويؤيد هذا المعنى ويزيده بياناً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بخير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسألها" رواه مالك في "الموطأ" ورواه عنه مسلم والأربعة. فهذا وجه تفسير الآية تظاهر فيه الأثر والنظر. ولكن روي في "الصحيح" عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم" ـ قالها ثانية وشك أبو هريرة في الثالثة ـ " ثم يخلف قوم يشهدون قبل أن يستشهدوا" الحديث. وهو مسوق مساق ذم من وصفهم بأنهم يشهدون قبل أن يستشهدوا، وأن ذمهم من أجل تلك الصفة.وقد اختلف العلماء في محمله؛ قال عياض: حمله قوم على ظاهره من ذم من يشهد قبل أن تطلب منه الشهادة، والجمهور على خلافه وأن ذلك غير قادح، وحملوا ما في الحديث على ما إذا شهد كاذباً، وغلا فقد جاء في "الصحيح": "خير الشهود الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها". وأقول: روى مسلم عن عمران بن حصين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن خيركم قرني ثم الذين يلونهم ـ قالها مرتين أو ثلاثاً ـ ثم يكون من بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون" الحديث. والظاهر أن ما رواه أبو هريرة وما رواه عمران بن حصين واحد، سمعه كلاهما، واختلفت عبارتهما في حكايته فيكون لفظ عمران بن حصين مبيناً لفظ أبي هريرة أن معنى قوله: قبل أن يستشهدوا دون أن يستشهدوا، أي دون أن يستشهدهم مشهد، أي أن يحملوا شهادة أي يشهدون بما لا يعلمون، وهو الذي عناه المازري بقوله: وحملوا في الحديث ـ أي حديث أبي هريرة ـ على ما إذا شهد كاذباً. فهذا طريق للجمع بين الروايتين، وهي ترجع إلى حمل المجمل على المبين. وقال النووي: تأوله بعض العلماء بأن ذم الشهادة قبل أن يسألها الشاهد هو في الشهادة بحقوق الناس بخلاف ما فيه حق الله، قال النووي: "وهذا الجمع هو مذهب أصحابنا" وهذه طريقة ترجع إلى أعمال كل من الحديثين في باب، بتأويل كل من الحديثين على غير ظاهره؛ لئلا يلغي أحدهما. قلت: وبنى عليه الشافعية فرعاً برد الشهادة التي يؤديها الشاهد قبل أن يسألها، ذكره الغزالي في "الوجيز"، والذي نقل ابن مرزوق في "شرح مختصر خليل عن الوجيز" "الحرص على الشهادة بالمبادرة قبل الدعوى لا تقبل، وبعد الدعوى وقبل الاستشهاد وجهان فإن لم تقبل فهل يصير مجروحاً وجهان". فأما المالكية فقد اختلف في كلامهم. فالذي ذهب إليه عياض وابن مرزوق أن أداء الشاهد شهادته قبل أن يسألها مقبول لحديث "الموطأ" "خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها" ونقل الباجي عن مالك: "أن معنى الحديث أن يكون عند الشاهد شهادة لرجل لا يعلم بها، فيخبره بها، ويؤديها له عند الحاكم". فإن مالكاً ذكره في "الموطأ" ولم يذيله بما يقتضي أنه لا عمل عليه وتبع الباجي ابن مرزوق في "شرحه لمختصر خليل" وادعى أنه لا يعرف في المذهب ما يخالفه والذي ذهب إليه ابن الحاجب وخليل، وشارحو مختصريهما: أن أداء الشهادة قبل أن يطلب من الشاهد أداؤها مانع من قبولها: قال ابن الحاجب وفي الأداء يبدأ به دون طلب فيما تمحض من حق الآدمي قادحةً". وقال خليل ـ عاطفاً على موانع قبول الشهادة ـ: "أو رفع قبل الطلب في محض حق الآدمي". وكذلك ابن راشد القفصي في كتابه "الفائق في الأحكام والوثائق" ونسبه النووي في "شرحه على صحيح مسلم لمالك"، وحمله على أن المستند متحد وهو إعمال حديث أبي هريرة ولعله أخذ نسبه ذلك لمالك من كلام ابن الحاجب المتقدم. وادعى ابن مرزوق أن ابن الحاجب تبع شاس إذ قال: "فإن بادر بها من غير طلب لم يقبل" وأن ابن شاس أخذه من كلام الغزالي قال: والذي تقتضيه نصوص المذهب أنه إن رفعها قبل الطلب لم يقدح ذلك فيها بل إن لم يكن فعله مندوباً فلا أقل من أن لا ترد" واعتضد بكلام الباجي في شرح حديث: "خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها". وقد سلكوا في تعليل المسألة مسلكين: مسلك يرجع إلى الجمع بين الحديثين، وهو مسلك الشافعية، ومسلك إعمال قاعدة رد الشهادة بتهمة الحرص على العمل بشهادته وأنه ريبة. وقوله: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} زيادة في التحذير والإثم: الذنب والفجور. والقلب اسم للإدراك والانفعالات النفسية والنوايا. وأسد الاثم إلى القلب وإنما الآثم الكاتم لأن القلب ـ أي حركات العقل ـ يسبب ارتكاب الاثم: فإن كتمان الشهادة إصرار قلبي على معصية، ومثله قوله تعالى: {قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 116] وإنما سحروا الناس بواسطة مرئيات وتخيلات وقول الأعشى: كذلك فافعل ما حييت إذا شتوا . . . وأقدم إذا ما أعين الناس تفرق لأن الفرق ينشأ عن رؤية الأهوال. وقوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} تهديد، كناية عن المجازاة بمثل الصنيع؛ لأن القادر لا يحول بينه وبين المؤاخذة إلا الجهل فإذا كان عليماً أقام قسطاس الجزاء.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52879 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 271 - 286 الأربعاء 27 نوفمبر 2024, 8:17 am | |
| [284] {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. {لله}. تعليل واستدلال على مضمون جملة {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} وعلى ما تقدم آنفاً من نحو: {اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [آل عمران: 176] {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الممتحنة: 30] {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة: 234] فإذا كان ذلك تعريضاً بالوعد والوعيد، فقد جاء هذا الكلام تصريحاً واستدلالاً عليه، فجملة {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} إلى آخرها هي محط التصريح، وهي المقصود بالكلام، وهي معطوفة على جملة {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} ـ إلى ـ {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [البقرة: 283] وجملة {لله ما في السماوات وما في الأرض} هي موقع الاستدلال، وهي اعتراض بين الجملتين المتعاطفتين، أو علة لجملة {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} باعتبار إرادة الوعيد والوعد، فالمعنى: إنكم عبيده فلا يفوته عملكم والجزاء عليه. وعلى هذا الوجه تكون جملة {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} معطوفة على جملة {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} عطف جملة على جملة، والمعنى: إنكم عبيده، وهو محاسبكم، ونظيرها في المعنى قوله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك: 13-14] ولا يخالف بينهما إلا أسلوب نظم الكلام. ومعنى الاستدلال هنا: إن الناس قد علموا أن الله رب السماوات والأرض، وخالق الخلق، فإذا كان في السماوات والأرض لله، مخلوقاً له، لزم أن يكون جميع ذلك معلوماً له لأنه مكون ضمائرهم وخواطرهم وعموم علمه تعالى بأحوال مخلوقاته من تمام معنى الخالقية والربوبية؛ لأنه لو خفي عليه شيء لكان العبد في حالة اختفاء حاله عن علم الله مستقلاً عن خالقه. ومالكية الله تعالى أتم أنواع الملك على الحقيقة كسائر الصفات الثابتة لله تعالى، فهي الصفات على الحقيقة من الوجود الواجب إلى ما اقتضاه وجوب الوجود من صفات الكمال. فقوله: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} تمهيد لقوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ} الآية. وعطف قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} بالواو دون الفاء للدلالة على أن الحكم الذي تضمنه مقصود بالذات، وأن ما قبله كالتمهيد له. ويجوز أن يكون قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا} عطفاً على قوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [البقرة: 283] ويكون قوله: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} اعتراضاً بينهما. وإبداء ما في النفس: إظهاره، وهو إعلانه بالقول، فيما سبيله القول، وبالعمل فيما يترتب عليه عمل؛ وإخفاؤه بخلاف ذلك، وعطف {أَو تُخْفُوهُ} للترقي في الحساب عليه، فقد جاء على مقتضى الظاهر في عطف الأقوى على الأضعف، وفي الغرض المسوغ له الكلام في سياق الإثبات. وما في النفي يعم الخير والشر. والمحاسبة مشتقة من الحسبان وهو العدل، فمعنى يحاسبكم في أصل اللغة: يعده عليكم، إلا أنه شاع إطلاقه على لازم المعنى وهو المؤاخذة والمجازاة كما حكى الله تعالى في سورة الشعراء [113] وشاع هذا في اصطلاح الشرع، ويوضحه هنا قوله: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ}. وقد أجمل الله تعالى هنا الأحوال المغفورة وغير المغفورة: ليكون المؤمنون بين الخوف والرجاء، فلا يقصروا في اتباع الخيرات النفسية والعملية، إلا أنه أثبت غفراناً وتعذيباً بوجه الإجمال على كل مما نبديه وما نخفيه. وللعلماء في معنى هذه الآية، والجمع بينها وبين قوله صلى الله عليه وسلم: "من هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة". وقوله: "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثتها به أنفسها" وأحسن كلام فيه ما يأتلف من كلامي المازري وعياض، في شرحيهما "لصحيح مسلم": وهو ـ مع زيادة بيان ـ أن ما يخطر في النفس إن كان مجرد خاطر وتردد من غير عزم فلا خلاف في عدم المؤاخذة به، إذ لا طاقة للمكلف بصرفه عنه، وهو مورد حديث التجاوز للأمة عما حدثت به أنفسها، وإن كان قد جاش في النفس عزم، فإما أن يكون من الخواطر التي تترتب عليها أفعال بدنية أو لا، فإن كان من الخواطر التي لا تترتب عليها أفعال: مثل الإيمان، والكفر، والحسد، فلا خلاف في المؤاخذة به؛ لأن مما يدخل في طوق المكلف أن يصرفه عن نفسه، وإن كان من الخواطر التي تترتب عليها آثار في الخارج، فإن حصلت الآثار فقد خرج من أحوال الخواطر إلى الأفعال كمن يعزم على السرقة فيسرق، وإن عزم عليه ورجع عن فعله اختياراً لغير مانع منعه، فلا خلاف في عدم المؤاخذة به وهو مورد حديث: "من هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة" وإن رجع لمانع قهره على الرجوع ففي المؤاخذة به قولان. أي إن قوله تعالى: {يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} محمول على معنى يجازيكم وأنه مجمل تبينه موارد الثواب والعقاب في أدلة شرعية كثيرة، وإن من سمى ذلك نسخاً من السلف فإنما جرى على تسمية سبقت ضبط المصطلحات الأصولية فأطلق النسخ على معنى البيان وذلك كثير في عبارات المتقدمين وهذه الأحاديث، وما دلت عليه دلائل قواعد الشريعة، هي البيان لمن يشاء في قوله تعالى: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ}. وفي "صحيح البخاري" عن ابن عباس "أن هذه الآية نسخت بالآية التي بعدها" أي بقوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] كما سيأتي هنالك. وقد تبين بهذا أن المشيئة مترتبة على أحوال المبدى والمخفى، كما هو بين. وقرأ الجمهور فيغفر ويعذب بالجزم، عطفاً على يحاسبكم، وقرأه ابن عامر، وعاصم، وأبو جعفر، يعقوب: بالرفع على الاستئناف بتقدير فهو يغفر، وهما وجهان فصيحان ويجوز النصب ولم يقرأ به إلا في الشاذ. وقوله: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. تذييل لما دل على عموم العلم، بما يدل على عموم القدرة.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52879 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 271 - 286 الأربعاء 27 نوفمبر 2024, 8:18 am | |
| [285] {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}. قال الزجاج: "لما ذكر الله سبحانه وتعالى أحكاماً كثيرة وقصصاً، ختمها بقوله: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} تعظيماً لنبيه صلى الله عليه وسلم وأتباعه، وتأكيداً وفذلكةً لجميع ذلك المذكور من قبل". يعني: أن هذا انتقال من المواعظ، والإرشاد، والتشريع، وما تخلل ذلك: مما هو عون على تلك المقاصد، إلى الثناء على رسوله والمؤمنين في إيمانهم بجميع ذلك إيماناً خالصاً يتفرع عليه العمل؛ لأن الإيمان بالرسول والكتاب، يقتضي الامتثال لما جاء به من عمل. فالجملة استئناف ابتدائي وضعت في هذا الموقع لمناسبة ما تقدم، وهو انتقال مؤذن بانتهاء السورة لأنه لما انتقل من أغراض متناسبة إلى غرض آخر: هو كالحاصل والفذلكة، فقد أشعر بأنه استوفى تلك الأغراض. وورد في أسباب النزول أن قوله: {آمَنَ الرَّسُولُ} يرتبط بقوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ} [البقرة: 284] كما تقدم آنفاً. وأل في الرسول للعدل. وهو علم بالغلبة على محمد صلى الله عليه وسلم في وقت النزول قال تعالى: {وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ} [التوبة: 13] و {الْمُؤْمِنُونَ} معطوف على {الرسول}، والوقف عليه. والمؤمنون ـ هنا ـ لقب للذين استجابوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلذلك كان في جعله فاعلاً لقوله: {آمن} فائدة، مع أنه لا فائدة في قولك: قام القائمون. وقوله: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ} جمع بعد التفصيل، وكذلك شأن {كل} إذا جاءت بعد ذكر متعدد في حكم، ثم إرادة جمعه في ذلك، كقول الفضل بن عباس اللهبي، بعد أبيات: كل له نية في بغض صاحبه . . . بنعمة الله نقليكم وتقلونا وإذ كانت "كل" من الأسماء الملازمة للإضافة فإذا حذف المضاف إليه نونت تنوين عوض عن مفرد كما نبه عليه ابن مالك في "التسهيل". ولا يعكر عليه أن "كل" اسم معرب لأن التنوين قد يفيد الغرضين فهو من استعمال الشيء في معنييه فمن جوز أن يكون عطف {الْمُؤْمِنُونَ} عطف جملة وجعل {الْمُؤْمِنُونَ} مبتدأ وجعل {كل} مبتدأ ثانياً {وآمن} خبره، فقد شذ عن الذوق العربي. وقرأ الجمهور {وَكُتُبِهِ} بصيغة جميع كتاب، وقرأه حمزة، والكسائي: وكتابه، بصيغة المفرد على أن المراد القرآن أو جنس الكتاب. فيكون مساوياً لقوله: {وَكُتُبِهِ} إذ المراد الجنس، والحق أن المفرد والجمع سواء في إرادة الجنس، ألا تراهم يقولون: إن الجمع في مدخول أل الجنسية صوري، ولذلك يقال: إذا دخلت أل الجنسية على جمع أبطلت منه معنى الجمعية، فكذلك كل ما أريد به الجنس كالمضاف في هاتين القراءتين، والإضافة تأتي لما تأتي له اللام، وعن ابن عباس أنه قال، لما سئل عن هذه القراءة: "كتابه أكثر من كتبه ـ أو ـ الكتاب أكثر من الكتب" فقيل أراد أن تناول المفرد المراد به الجنس أكثر من تناول الجمع حين يراد به الجنس، لاحتمال إرادة جنس الجموع، فلا يسري الحكم لما دون عدد الجمع من أفراد الجنس، ولهذا قال صاحب "المفتاح" "استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع". والحق أن هذا لا يقصده العرب في نفي الجنس ولا في استغراقه في الإثبات. وأن كلام ابن عباس ـ إن صح نقله عنه ـ فتأويله أنه أكثر لمساواته له معنى، مع كونه أخصر لفظاً، فلعله أراد بالأكثر معنى الأرجح والأقوى. وقوله: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} قرأه الجمهور بنون المتكلم المشارك، وهو يحتمل الالتفاف: بأن يكون من مقول قول محذوف دل عليه السياق وعطف {وَقَالُوا} عليه. أو النون فيه للجلالة أي آمنوا في حال أننا أمرناهم بذلك، لأننا لا نفرق فالجملة معترضة. وقيل: هو مقول لقول محذوف دل عليه آمن؛ لأن الإيمان اعتقاد وقول. وقرأه يعقوب بالياء: على أن الضمير عائد على {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ}. والتفريق هنا أريد به التفريق في الإيمان به والتصديق: بأن يؤمن ببعض ويكفر ببعض. وقوله: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} تقدم الكلام على نظيره عند قوله تعالى: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136]. {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} عطف على {آمَنَ الرَّسُولُ} والسمع هنا كناية عن الرضا، والقبول، والامتثال، وعكسه لا يسمعون أي لا يطيعون وقال النابغة: تناذرها الراقون من سوء سمعها أي عدم امتثالها للرقيا. والمعنى: إنهم آمنوا، واطمأنوا وامتثلوا، وإنما جيء بلفظ الماضي، دون المضارع، ليدلوا على رسوخ ذلك؛ لأنهم أرادوا إنشاء القبول والرضا، وصيغ العقود ونحوها تقع بلفظ الماضي نحو بعت. وغفرانك نصب على المفعول المطلق: أي اغفر غفرانك، فهو بدل من فعله. والمصير يحتمل أن يكون حقيقة فيكون اعترافاً بالبعث، وجعل منتهياً إلى الله لأنه منتهٍ إلى يوم، أو عالم، تظهر فيه قدرة الله بالضرورة. ويحتمل أنه مجاز عن تمام الامتثال والإيمان. كأنهم كانوا قبل الإسلام آبقين، ثم صاروا إلى الله، وهذا كقوله تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات: 50]. وجعل المصير إلى الله تمثيلاً للمصير إلى أمره ونهيه: كقوله: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} [النور: 39]. وتقديم المجرور لإفادة الحصر: أي المصير إليك لا إلى غيرك، وهو قصر حقيقي قصدوا به لازم فائدته، وهو أنهم عالمون بأنهم صائرون إليه، ولا يصيرون إلى غيره ممن يعبدهم اهـل الضلال.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52879 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 271 - 286 الأربعاء 27 نوفمبر 2024, 8:18 am | |
| [286] {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}. {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ}. الأظهر أنه من كلام الله تعالى، لا من حكاية كلام الرسول والمؤمنين، فيكون اعتراضاً ين الجمل المحكية بالقول، وفائدته إظهار ثمرة الإيمان، والتسليم، والطاعة، فأعلمهم الله بأنه لم يجعل عليهم في هذا الدين التكليف بما فيه مشقة، وهو مع ذلك تبشير باستجابة دعوتهم الملقنة، أو التي ألهموها: وهي {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا} ـ إلى قوله ـ {مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} قبل أن يحكي دعواتهم تلك. ويجوز أن يكون من كلام الرسول والمؤمنين، كأنه تعليل لقولهم سمعنا وأطعنا أي علمنا تأويل قول ربنا: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ} [البقرة: 284] بأنه يدخلها المؤاخذة بما في الوسع، مما أبدى وما أخفى، وهو ما يظهر له أثر في الخارج اختياراً، أو يعقد عليه القلب، ويطمئن به، إلا أن قوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} إلخ يبعد هذا؛ إذ لا قبل لهم بإثبات ذلك. فعلى أنه من كلام الله فهو نسخ لقوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ} وهذا مروي في "صحيح مسلم" عن أبي هريرة وابن عباس1 أنه قال: لما نزلت: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِه} [البقرة: 284] ----------------------------------------------- 1 في كتاب الإيمان. ----------------------------------------------- اشتد ذلك على أصحاب رسول الله فأتوه وقالوا: لا نطيقها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قولوا: سمعنا وأطعنا وسلمنا" فألقى الله الإيمان في قلوبهم، فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا}، وإطلاق النسخ على هذا اصطلاح للمتقدمين، والمراد البيان والتخصيص لأن الذي تطمئن له النفس: أن هذه الآيات متتابعة النظم، ومع ذلك يجوز أن تكون نزلت منجمة، فحدث بين فترة نزولها ما ظنه بعض المسلمين حرجاً. والوسع في القراءة بضم الواو، في كلام العرب مثلث الواو وهو الطاقة والاستطاعة، والمراد به هنا ما يطاق ويستطاع، فهو من إطلاق المصدر وإرادة المفعول. والمستطاع هو ما اعتاد الناس قدرتهم على أن يفعلوه إن توجهت إرادتهم لفعله مع السلامة وانتفاء الموانع. وهذا دليل على عدم وقوع التكليف بما فوق الطاقة في أديان الله تعالى لعموم "نفساً" في سياق النفي، لأن الله تعالى ما شرع التكليف إلا للعمل واستقامة أحوال الخلق، فلا يكلفهم ما لا يطيقون فعله، وما ورد من ذلك فهو في سياق العقوبات، هذا حكم عام في الشرائع كلها. وامتازت شريعة الإسلام باليسر والرفق، بشهادة قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}، ولذلك كان من قواعد الفقه العامة "المشقة تجلب التيسير". وكانت المشقة مظنة الرخصة، وضبط المشاق المسقطة للعبادة مذكور في الأصول، وقد أشبعت القول فيه في كتابي المسمى "مقاصد الشريعة" وما ورد من التكاليف الشاقة فأمر نادر، في أوقات الضرورة، كتكليف الواحد من المسلمين بالثبات للعشرة من المشركين، في أول الإسلام، وقلة المسلمين. وهذه المسألة هي المعنونة في كتب الأصلين بمسألة التكليف بالمحال، والتكليف بما لا يطاق، وهي مسألة أرنت بها كتب الأشاعرة والمعتزلة، واختلفوا فيها اختلافاً شهيراً، دعا إليه التزام الفريقين للوازم أصولهم وقواعدهم فقالت الأشاعرة: يجوز على الله تكليف ما لا يطاق بناء على قاعدتهم في نفي وجوب الصلاح على الله، وأن ما يصدر منه تعالى كله عدل لأنه مالك العباد، وقاعدتهم في أنه تعالى يخلق ما يشاء، وعلى قاعدتهم في أن ثمرة التكليف لا تختص بقصد الامتثال بل قد تكون لقصد التعجيز والابتلاء وجعل الامتثال علامة على السعادة، وانتفائه علامة على الشقاوة، وترتب الاثم لأن لله تعالى إثابة العاصي، وتعذيب المطيع، فبالأولى تعذيب من يأمره بفعل مستحيل، أو متعذر، واستدلوا على ذلك بحديث تكليف المصور بنفخ الروح في الصورة وما هو بنافخ، وتكليف الكاذب في الرؤيا بالعقد بين شعيرتين وما هو بفاعل.ولا دليل فيه لأن هذا في أمور الآخرة، ولأنهما خبرا آحاد لا تثبت بمثلها أصول الدين. وقالت المعتزلة: يمتنع التكليف بما لا يطاق بناء على قاعدتهم في أنه يجب الله فعل الصلاح ونفى الظلم عنه، وقاعدتهم في أنه تعلى لا يخلق المنكرات من الأفعال، وقاعدتهم في أن ثمرة التكليف هو الامتثال وإلا لصار عبثاً وهو مستحيل على الله، وأن الله يستحيل عليه تعذيب المطيع وإثابة العاصي. واستدلوا بهذه الآية، وبالآيات الدالة على أصولها: مثل {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف: 49] {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]. {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف: 28]...الخ. والتحقيق أن الذي جر إلى الخوض في المسألة هو المناظرة في خلق أفعال العباد؛ فإن الأشعري لما نفى قدرة العبد، وقال بالكسب، وفسره بمقارنة قدرة العبد لحصول المقدور دون أن تكون قدرته مؤثرة فيه، ألزمهم المعتزلة القول بأن الله كلف العباد بما ليس في مقدورهم، وذلك تكليف بما لا يطاق، فالتزم الأشعري ذلك، وخالف إمام الحرمين والغزالي الأشعري في جواز تكليف ما لا يطاق والآية لا تنهض حجة على كلا الفريقين في حكم إمكان ذلك. ثم اختلف المجوزون: هل هو واقع، وقد حكى القرطبي الاجماع على عدم الوقوع وهو الصواب في الحكاية، وقال إمام الحرمين ـ في "البرهان" ـ: "والتكاليف كلها عند الأشعري من التكليف بما لا يطاق، لأن المأمورات كلها متعلقة بأفعال هي عند الأشعري غير مقدورة للمكلف، فهو مأمور بالصلاة وهو لا يقدر عليها، وإنما يقدره الله تعالى عند إرادة الفعل مع سلامة الأسباب والآلات" وما ألزمه إمام الحرمين الأشعري إلزام باطل؛ لأن المراد بما لا يطاق ما لا تتعلق به قدرة العبد الظاهرة، المعبر عنها بالكسب، للفرق البين بين الأحوال الظاهرة، وبين الحقائق المستورة في نفس الأمر، وكذلك لا معنى لإدخال ما علم الله عدم وقوعه، كأمر أبي جهل بالإيمان مع علم الله بأنه لا يؤمن، في مسألة التكليف بما لا يطاق، أو بالمحال؛ لأن علم الله ذلك لم يطلع عليه أحد. وأورد عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا أبا لهب إلى الإسلام وقد علم الله أنه لا يسلم لقوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} إلى قوله: {سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد: 1- 3]. فقد يقال: إنه بعد نزول هذه الآية لم يخاطب بطلب الإيمان وإنما خوطب قبل ذلك، وبذلك نسلم من أن نقول: إنه خارج من الدعوة، ومن أن نقول: إنه مخاطب بعد نزول الآية. وهذه الآية تقتضي عدم وقوع التكليف بما لا يطاق في الشريعة، بحسب المتعارف في إرادة البشر وقدرتهم، دون ما هو بحسب سر القدر، والبحث عن حقيقة القدرة الحادثة، نعم يؤخذ منها الرد على الجبرية. وقوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} حال من "نفساً" لبيان كيفية الوسع الذي كلفت به النفس: وهو أنه إن جاءت بخير كان نفعه لها وإن جاءت بشر كان ضره عليها. وهذا التقسيم حاصل من التعليق بواسطة "اللام" مرة وبواسطة "على" أخرى. وأما كسبت واكتسبت فبمعنى واحد في كلام العرب؛ لأن المطاوعة في اكتسب ليست على بابها، وإنما عبر هنا مرة بكسبت وأخرى باكتسبت تفنناً وكراهية إعادة الكلمة بعينها، كما فعل ذو الرمة في قوله: ومطعم الصيد هبال1 لبغيته . . . ألفى أباه بذاك الكسب مكتسبا وقول النابغة: فحملت برة واحتملت فجار وابتدئ أولاً بالمشهور الكثير، ثم أعيد بمطاوعة، وقد تكون، في اختيار الفعل الذي أصله دال على المطاوعة، إشارة إلى أن الشرور يأمر بها الشيطان، فتأتمر النفس وتطاوعه وذلك تبغيض من الله للناس في الذنوب. واختير الفعل الدال على اختيار النفس للحسنات، إشارة إلى أن الله يسوق إليها الناس بالفطرة، ووقع في "الكشاف" أن فعل المطاوعة لدلالته على الاعتمال، وكان الشر مشتهى للنفس، فهي تجد تحصيله فعبر عن فعلها ذلك بالاكتساب. والمراد بما اكتسبت الشرور، فمن أجل ذلك ظن بعض المفسرين أن الكسب هو اجتناء الخير، والاكتساب هو اجتناء الشر، وهو خلاف التحقيق؛ في القرآن {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} [الأنعام: 164].ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا: {ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} [يونس: 52]. ----------------------------------------------- 1 الهبال: المحتال. والمقصود أنه حذق بالصيد وارثه عن أبيه. ----------------------------------------------- وقد قيل: إن اكتسب إذا اجتمع مع كسب خُصّ بالعمل الذي تكلف فيه تكلف. لكن لم يرد التعبير باكتسبت في جانب فعل الخير. وفي هذه الآية مأخذ حسن لأبي الحسن الأشعري في تسميته استطاعة العبد كسباً واكتساباً؛ فإن الله وصف نفسه بالقدرة. ولم يصف العباد بالقدرة، ولا أسند إليهم فعل قدر وإنما أسند إليهم الكسب، وهو قول يجمع بين المتعارضات ويفي بتحقيق إضافة الأفعال إلى العباد، مع الأدب في عدم إثبات صفة القدرة للعباد، وقد قيل: إن أول من استعمل كلمة الكسب هو الحسين بن محمد النجار، رأس الفرقة النجارية من الجبرية، كان معاصراً للنظام في القرن الثالث، ولكن شاهر بها أبو الحسن الأشعري حتى قال الطلبة في وصف الأمر الخفي: "أدق من كسب الأشعري". وتعريف الكسب، عند الأشعري: هو حالة للعبد يقارنها خلق الله فعلاً متعلقاً بها. وعرفه الإمام الرازي بأنه صفة تحصل بقدرة العبد لفعله الحاصل بقدرة الله. وللكسب تعاريف أخر. وحاصل معنى الكسب، وما دعا إلى إثباته: هو أنه لما تقرر أن الله قادر على جميع الكائنات الخارجة عن اختيار العبد، وجب أن يقرر عموم قدرته على كل شيء لئلا تكون قدرة الله غير متسلطة على بعض الكائنات، إعمالاً للأدلة الدالة على أن الله على كل شيء قدير، وأنه خالق كل شيء، وليس لعموم هذه الأدلة دليل يخصصه، فوجب إعمال هذا العموم. ثم إنه لما لم يجز أن يدعى كون العبد مجبوراً على أفعاله، للفرق الضروري بين الأفعال الاضطرارية، كحركة المرتعش، والأفعال الاختيارية، كحركة الماشي والقاتل، ورعياً لحقية التكاليف الشرعية للعباد لئلا يكون التكليف عبثاً، ولحقية الوعد والوعيد لئلا يكون باطلاً، تعين أن تكون للعبد حالة تمكنه من فعل ما يريد فعله، وترك ما يريد تركه، وهي ميله إلى الفعل أو الترك، فهذه الحالة سماها الأشعري الاستطاعة، وسماها كسباً. وقال: إنها تتعلق بالفعل فإذا تعلقت به خلق الله الفعل الذي مال إليه على الصورة التي استحضرها ومال إليها. وتقديم المجرورين في الآية: لقصد الاختصاص، أي لا يلحق غيرها شيء ولا يلحقها شيء من فعل غيرها، وكأن هذا إبطال لما كانوا عليه في الجاهلية: من اعتقاد شفاعة الآلهة لهم عند الله. وتمسك بهذه الآية من رأي أن الأعمال لا تقبل النيابة في الثواب والعقاب، إلا إذا كان للفاعل أثر في عمل غيره؛ ففي الحديث: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلى من ثلاث: صدقة جارية وعلم بثه في صدور الرجال، وولد صالح يدعو له" وفي الحديث: "ما من نفس تقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ذلك لأنه أول من سنة القتل" وفي الحديث: "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة". {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}. يجوز أن يكون هذا الدعاء محكياً من قول المؤمنين: الذين قالوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة: 285]، بأن اتبعوا القبول والرضا، فتوجهوا إلى طلب الجزاء ومناجاة الله تعالى. واختيار حكاية هذا عنهم في آخر السورة تكملة للإيذان بانتهائها. ويجوز أن يكون تلقينا من جانب الله تعالى إياهم: بأن يقولوا هذا الدعاء، مثل ما لقنوا التحميد في سورة الفاتحة فيكون التقدير ـ قولوا: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا} إلى آخر السورة؛ إن الله بعد أن قرر لهم أنه لا يكلف نفساً إلى وسعها، لقنهم مناجاة بدعوات هي من آثار انتفاء التكليف بما ليس في الوسع. والمراد من الدعاء به طلب الدوام على ذلك لئلا ينسخ من جراء غضب الله كما غضب على الذين قال فيهم: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160]. والمؤاخذة مشتقة من الأخذ بمعنى العقوبة، بقوله: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [هود: 102]، والمفاعلة فيه للمبالغة أي لا تؤاخذنا بالنسيان والخطأ. والمراد ما يترتب على النسيان والخطأ من فعل أو ترك لا يرضيان الله تعالى فهذه دعوة من المؤمنين دعوها قبل أن يعلموا أن الله رفع عنهم ذلك بقوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} وقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" وفي رواية: "وضع" رواه ابن ماجة وتكلم العلماء في صحته وقد حسنه النووي، وأنكره أحمد، ومعناه صحيح في غير ما يرجع إلى الخطاب الوضع. فالمعنى رفع الله عنهم المؤاخذة فبقيت المؤاخذة بالائلاف والغرامات ولذلك جاء في هذه الدعوة "لا تؤاخذنا" أي لا تؤاخذنا بالعقاب على فعل: نسيان أو خطأ، فلا يرد إشكال الدعاء بما علم حصوله، حتى نحتاج إلى تأويل الآية بأن المراد بالنسيان والخطأ سببهما وهو التفريط والإغفال كما في "الكشاف". وقوله: {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً} الخ. . فصل بين الجملتين المتعاطفتين، بإعادة النداء، مع أنهم مستغنى عنه: لأن مخاطبة المناى مغنية عن إعادة النداء لكن قصد من إعادته إظهار التذلل. والحمل مجاز في التكليف بأمر شديد يثقل على النفس، وهو مناسب باستعارة الإصر. وأصل معنى الإصر ما يؤصر به أي يربط، وتعقد به الأشياء، ويقال له: الإصار ـ بكسر الهمزة ـ ثم استعمل مجازاً في العهد والميثاق المؤكد فيما يصعب الوفاء به، ومنه قوله في آل عمران: {قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} [آل عمران: 81] وأطلق أيضاً على ما يثقل عمله، والامتثال فيه، وبذلك فسره الزجاج والزمخشري هنا وفي قوله، في سورة الأعراف {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} [لأعراف: 157] وهو المقصود هنا، ومن ثم حسنت استعارة الحمل للتكليف، لأن الحمل يناسب الثقل فيكون قوله: {ولا تحمل} ترشيحاً مستعاراً لملائم المشبه به وعن ابن عباس: {وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً} عهداً لا نفي به، ونعذب بتركه ونقضه". وقوله: {كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} صفة لـ {إصراً} أي عهداً من الدين، كالعهد الذي كلف به من قبلنا في المشقة، مثل ما كلف به بعض الأمم الماضية من الأحكام الشاقة مثل أمر بني إسرائيل بتيه أربعين سنة، وبصفات في البقرة التي أمروا بذ بحها نادرة ونحو ذلك، وكل ذلك تأديب لهم على مخالفات، وعلى قلة اهـتبال بأوامر الله ورسوله إليهم، قال تعالى في صفة محمد صلى الله عليه وسلم: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} وقوله: {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} أي ما لا نستطيع حمله من العقوبات. والتضعيف فيه للتعدية. وقيل: هذا دعاء بمعافاتهم من التكاليف الشديدة، والذي قبله دعاء بمعافاتهم من العقوبات التي عوقبت بها الأمم. والطاقة في الأصل الإطاقة خففت بحذف الهمزة كما قالوا: جابة وإجابة وطاعة وإطاعة. والقول في هذين الدعائين كالقول في قوله: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا}. وقوله: {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا} لم يأت مع هذه الدعوات بقوله ربنا، إما لأنه تكرر ثلاث مرات، والعرب تكره تكرير اللفظ أكثر من ثلاث مرات إلا في مقام التهويل، وإما لأن تلك الدعوات المقترنة بقوله: {ربنا} فروع لهذه الدعوات الثلاث، فإذا استجيب تلك حصلت إجابة هذه الأولى؛ فإن العفو أصل لعدم المؤاخذة، والمغفرة أصل لرفع المشقة والرحمة أصل لعدم العقوبة الدنيوية والأخروية، فلما كان تعميماً بعد تخصيص، كان كأنه دعاء واحد. وقوله: {أَنْتَ مَوْلانَا} فصله لأنه كالعلة للدعوات الماضية: أي دعوناك ورجونا منك ذلك لأنك مولانا، ومن شأن المولى الرفق بالمملوك، وليكون هذا أيضاً كالمقدمة للدعوة الآتية. وقوله: {فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} جيء فيه بالفاء للتفريع عن كونه مولى، لأن شأن المولى أن ينصر مولاه، ومن هنا يظهر موقع التعجيب والتحسير في قول مرة بن عداء الفقعسي: رأيت موالي الأولي يخذلونني . . . على حدثان الدهن إذ يتقلب وفي التفريع بالفاء إيذان بتأكيد طلب إجابة الدعاء بالنصر، لأنهم جعلوه مرتباً على وصف محقق، وهو ولاية الله تعالى المؤمنين، قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 257]. وفي حديث يوم أحد لما قال أبو سفيان: "لنا العزى ولا عزى لكم" قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أجيبوه الله مولانا ولا مولى لكم". ووجه الاهتمام بهذه الدعوة أنها جامعة لخيري الدنيا والآخرة؛ لأنهم إذا نصروا على العدو، فقد طاب عيشهم وظهر دينهم، وسلموا من الفتنة، ودخل الناس فيه أفواجاً. وفي "الصحيح"، عن أبي مسعود الأنصاري البدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه" وهما من قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} الى آخر السورة. قيل: معناه كفتاة عن قيام الليل، فيكون معنى من قرأ من صلى بهما، وقيل: معناه كفتاه بركةً وتعوذاً من الشياطين، والمضار، ولعل كلا الاحتمالين مراد.
|
|
| |
| تفسير سورة البقرة من الآية 271 - 286 | |
|