الركون إلى الدنيا

فِيْمَ الرُّكُونُ إلى دَارِ حَقِيْقَتُهَا
        كالطَّيْفِ في سِنَةٍ وَالظِّلِّ مِنْ مُزّنِ

دَارِ الغُرور وَمَأْوَى كَلِّ مُرْزيَةٍ
        وَمَعْدِنِ البُؤس وَاللَّواءِ وَالمِحَنِ

الزُّورُ ظاهِرُهَا وَالغَدرُ حَاضِرُها
        وَالمُوْتُ آخِرُها وَالكَوْنُ في الشَّطَنِ

تُبيدُ مَا جَمَعَتْ تُهِيْنُ مَنْ رَفَعْتَ
        تَضرُّ مَنْ نَفَعَتْ في سَالِفِ الزَّمَنِ

النَّفْسُ تَعْشِقُهَا وَالعَيْنُ تَرْمُقَها
        لِكَوْنِ ظاهِرهَا في صُوْرَةِ الحَسَنِ

سَحَّارَةٌ تُحْكِمُ التَّخْيِيْلَ حتى يُرَى
        كَأَنَّهُ الحَقُّ إذْ كانَتْ مِنْ الفِتَنِ

إِنَّ الإِلهَ بَرَاهَا كَيْ يُمَيْز بِهَا
        بَيْنَ الفَريقينِ أَهْلَ الحُمْقِ وَالفِطَنِ

فَذُو الحَماقَةِ مَنْ قد ظَلَّ يَجْمَعُها
        يُعَانِيَ السَّعْيَ مِنْ شَامٍ إلى يَمَنِ

مُشَمِّرًا يَرُكَبُ الأخْطَارَ مُجْتَهِدًا
        لأَجْلِهَا يَسْتَلِيْنُ المَرْكَبَ الخَشِنِ

وَذُو الحِجَا يَقْلِهَا زُهْدًا زَيَنْبُذُهَا
        وَرَاءَه نَبْذَةَ الأقْذَارِ في الدِّمَنِ

يَرْميْ بِقَلْبٍ بَصِيْرٍ في مَصَائِرِهَا
        فَلاَ يُصَادِفُ غَيْرَ الهَمِّ وَالحَزَنِ

يَجُولُ بالفِكْرِ في تَذْكَارِ مَنْ صَرَعَتْ
        مِنْ مُؤْثِريْهَا بِسَعْيٍِ القَلْبِِ وَالبَدَنِ

مِمَّنْ أَشَادَ مبَانِيْهَا وَأَحْكَمَهَا
        لِيَسْتَجِنَّ مِنْ الأَقْدَارِ بالجُنَنِ

نَالُوا مَكَارِمَهَا أَحْيَوا مَعَالِمَهَا
        سَلُّوا صَوَارِمَهَا لِلْبَغْيِ وَالظِّغَنِ

رَقَوْا مَنَابِرَهَا قادُوا عَسَاكِرَهَا
        بِقُوَّدٍ وَابْتَنَوا الأمْصَارَ وَالمُدُنِ

وَعَبَّدُوا النَّاسَ حَتَّى أَصْبَحُوا ذُلُلاً
        لأَمْرِهِمْ بَيْنَ مَغْلُوبٍ وَمُمْتَهَنِ

وَجَمَّعُوا المَالَ وَاسْتصْفَوا نَفَائِسَهُ
        لِمُتْعَةِ النَّفْس في مُسْتَقْبَلِ الزَّمَنِ

حَتَّى إِذَا امْتَلَئُوا بِشْرًا بِمَا ظَفِرُوا
        وَمُكَّنُوا مِنْ عُلاهَا أَبْلَغَ المِكَنِ

نَادَاهُمُوا هَادِمُ اللذَّاتِ فاقتَحَمُوا
        سُبْلَ المَمَاتِ فأضْحَوا عِبْرَةَ الفِطَنِ

تِلْكَ القُبُورُ وَقَدْ صَارُوا بِهَا رِمَمًا
        بَعْدَ الضَّخَامَةِ في الأَجْسَامِ وَالسِّمَنِ

بَعْدَ التَّشَهِّي وَأَكْلِ الطَّيِّبَاتِ غَدَا
        يَأْكلْهُم الدُّودُ تَحْتَ التُرْبِ وَاللَّبِنِ

تَغَيَّرتْ مِنْهُمُ الألْوَانُ وَانْمَحَقَتْ
        مَحَاسِنُ الوَجْهِ وَالعَيْنَيْنِ وَالوُجَنِ

خَلَتْ مَسَاكِنَهُم عَنْهُم وَأَسْلَمَهُم
        مَنْ كَانَ يَنْصُرُهُمْ في السِّرِّ وَالعَلَنِ

وَعَافَهُم كُلُّ مَنْ قَدْ كانَ يَأْلَفُهم
        مِنَ الأَقارِبِ وَالأَهْلِيْنَ وَالخِدَنِ

مَا كَانَ حَظُّهُمُ مِنْ عَرْضِ مَا اكتَسَبُوا
        غَيْرَ الحَنُوطِ وغيرَ القُطْنِ وَالكفَنِ

تِلكَ القُصُورُ وَتْلكَ الدُّورُ خَاوِيَةٌ
        يَصِيْحُ فِيْهَا غُرَابُ البَيْنِ بالوَهَنِ

فَلَوْ مَرَرْتَ بِهَا وَالبُومُ يَنْدُبُها
        في ظُلْمَةِ الليْلِ لم تَلْتَذَّ بالوَسَنِ

وَلاَ تَجَمَّلْتَ بالأَرْياشِ مُفْتَخِرًا
        وَلا افْتَتَنْتَ بِحُبّ الأَهْلِ وَالسَّكَنِ

وَلاَ تَلَذَّذْتَ بالمَطعُومِ مُنْهَمِكًا
        وَلاَ سَعَيْت لِدُنيَاً سَعَيَ مُفْتَتَنِ

وَلاَ اعْتَبَرْتَ إِذَا شَاهَدْتَ مُعْتَبَرًا
        تَرَاهُ بالعَينِ أو تَسْمَعْهُ بالأُذُنِ

إِنَّ المَواعِظَ لا تُغْنِي أَسِيْرَ هَوَى
        مُقْفَّلَ القَلْبِ في حَيْدٍ عَنْ السُّنَنِ

مُسْتَكْبِرًا يَبْطُرُ الحَقَّ الصَّرِيْحَ إِذَا
        يُلْقَى إِليْهِ لِفَرْطِ الجَهْلِ وَالشَّنَنِ

يُمَنِّيُ النَّفْسَ أَمْرًا لَيْسَ يُدْرِكُهُ
        إِنَّ الأمَانِيَّ مِقْطَاعٌ عَنْ المِنَنِ

يَكْفِي اللَّبِيْبَ كِتَابُ اللهِ مَوْعِظَةً
        كَمَا أَتَى في حَدِيْثِ السَّيِّدِ الحَسَن

مُحَمَّدٍ خَيْرِ خَلْقِ اللهِ قُدْوَتِنا
        مُطَهَّرِ الحَبْبِ عَنْ عَيْبٍ وَعَنْ دَرَنِ

عَلَيْهِ مَنَّا صَلاًةُ اللهِ دَائِمَةً
        مَا سَارَتْ الرِّيْحُ بالأَمْطَارِ والسُّفُنِ

وَالآلِ وَالصَّحْبِ مَا غَنَّتْ مُطَوَّقَةٌ
        وَمَا بَكَتْ عَيْنُ مُشْتَاقِ إِلَى وَطَنِ

انْتَهَى