ضمائر الإرادة في سورة الكهف
أرشيف إسلام أون لاين
 ضمائر الإرادة في سورة الكهف Ocia2165
وردت ضمائر الإرادة في قصة موسى والعبد الصالح الشهير بـ (الخضر) -عليهما السلام- في سورة الكهف مختلفة في المواضع الثلاثة في قوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا * وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا * وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًاِ} (الآيات 79 ـ 82).

ففي خرق السفينة قال: (فأردت)

وقال في قتل الغلام: (فأردنا)

بينما قال في إقامة الجدار: (فأراد ربك).

والسر في ذلك أن العبد الصالح الذي آتاه الله رحمة من عنده وعَلّمَهُ من لدنه عِلْمًا تَأدَّبَ في حديثه مع نبي الله موسى -عليهما السلام- عن موسى وعن الله تعالى، فنسب تعييب السفينة إلى نفسه دون أن ينسبه إلى موسى.

ثم نسب إرادة تبديل الغلام الكافر بآخر خير منه إلى نفسه وإلى موسى -عليه السلام-؛ لأن هذا التبديل محبوبٌ إلى سيدنا موسى عليه السلام أيضاً.

بينما نسب بُلُوغُ الغلامين اليتيمين واستخراجهما كنزهما إلى الله تعالى لأنه خيرٌ محضٌ مستقبليٌ غَلَبَ على ظنِّهِ أنه لن يحضره، بخلاف استبدال الغلام فقد حضر وباشر قتله، وأضاف الرَّبَ إلى ضمير موسى تشريفاً له عليه السلام.

فالسِّرُّ كُلُّهُ هو تأدُّبِ هذا العبد مع نبي الله، ومع الله تعالى في الخطاب.

قال الإمام القرطبي في تفسيره:
إن قال قائل:
كيف أضاف الخضرُ قصة استخراج كنز الغلامين لله تعالى، وقال في خرق السفينة: فأردتُ أن أعيبها فأضاف العيب إلى نفسه؟

قيل له:
إنما أسند الإرادة في الجدار إلى الله تعالى لأنها في أمر مُستأنف في زمن طويل، غيب من الغيوب، فحسن إفراد هذا الموضع بذكر الله تعالى، وإن كان الخضر قد أراد ذلك فالذي أعلمه الله تعالى أن يريده.

وقيل:
لَمَّا كان ذلك خيراً كله أضافه إلى الله تعالى، وأضاف عَيْبَ السفينة إلى نفسه رعاية للأدب، لأنها لفظة عَيْبٍ، فتأدَّب بأن لم يسند الإرادة فيها إلا إلى نفسه، كما تَأدَّبَ إبراهيم عليه السلام في قوله: وإذا مرضتُ فهو يشفين فأسند الفعل قبل وبعد إلى الله تعالى، وأسند إلى نفسه المرض، إذ هو معنى نقص ومصيبة، فلا يُضاف إليه سبحانه وتعالى من الألفاظ إلا ما يُستحسَنُ منها دون ما يُستقبح.

وهذا كما قال تعالى:
بيدك الخير واقتصر عليه فلم ينسب الشر إليه، وإن كان بيده الخير والشر والضر والنفع، إذ هو على كل شيء قدير، وهو بكل شيء خبير.     

ولا اعتراض بما حكاه عليه السلام عن ربه عز وجل أنه يقول يوم القيامة:
”يا ابن آدم مرضت فلم تعدني واستطعمتك فلم تطعمني واستسقيتك فلم تسقني..” فإن ذلك تَنَزُّلٌ في الخطاب، وتلطفٌ في العِتَابِ، مُقتضاه التعريف بفضل ذي الجلال، وبمقادير ثواب هذه الأعمال.    
والله تعالى أعلم.     

ولله تعالى أن يُطلق على نفسه ما يشاءُ، ولا نُطلقُ نحنُ إلا ما أذِنَ لنا فيه من الأوصاف الجميلة، والأفعال الشريفة.     

جَلَّ وتعالى عن النقائص والآفات عُلُواً كبيراً.

وقال في الغلام:
فأردنا، فكأنه أضاف القتل إلى نفسه، والتبديل إلى الله تعالى.

د. السيد مبروك صقر
المدرس بجامعة الأزهر