محمد صلى الله عليه وسلم الرسول القدوة
بقلم فضيلة الإمام الأكبر الشيخ: جاد الحق علي جاد الحق
شيخ الأزهر الأسبق
محمد صلى الله عليه وسلم الرسول القدوة 1359
في ذكرى مولد رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم نستذكر قول الله في شأنه في القرآن:﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾ [الأحزاب: 45، 46].

﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: 128].

﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 64].

﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [آل عمران: 31].

﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107].

﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4].

في ذكرى مولد الرسول نذكر بكتاب الله الذي أنزل عليه والذي قال الله في شأنه: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾ [الإسراء: 9].

في ذكرى مولد الرسول ينبغي أن نقتدي به في خلقه, وفي إيمانه وعبادته وفي حبه لله وللمؤمنين؛ امتثالًا لقول ربنا: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: 21]، ينبغي أن نقتدي برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سياسة الدين وسياسة الدنيا.

كيف واجه الصعاب, وتغلب عليها, وكيف صابر وثابر حتى بَلَّغَ رسالته, فتحول قومه من فرقة وتعصب وتفاخر بالأموال والأولاد إلى أمة واحدة تنتسب إلى الإسلام، وتؤمن به, وتقيم أوامره, وتجتنب ما نهى الله عنه, فأقام دولة وأحيا أمة في زمن قصير -ثلاثة وعشرين عامًا- لم ييأس ولم يبتئس بما وُوجِهَت به دعوته من نفور قومه بل وإيذائهم وحربهم إياه, وإنما فكر وقدر لكل أمر عدته وعتاده,

كان حكيمًا في دعوته, حليمًا في إرشاده وهدايته، يعتمد على الإقناع في الردع عن المعاصي, وكان الزجر عنها الوسيلة الأخيرة عند الإصرار عليها.

جاءه أحد شباب المسلمين يستأذنه في الزنا فبماذا أجابه؟ هل سبه وشتمه، أو صفعه وقذفه؟ لا، لم يكن هذا خلقه ولا طريقه، وإنما كانت خطته تلك التي وضعها الله في قوله: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل: 125]، لقد دعا الشاب إلى الجلوس بجواره؛ ليحميه من ثورة مَنْ حوله ممن استمعوا إلى قوله، ثم حاوره: أترضى الزنا لأمك؟ فقال الشاب: لا، فقال الرسول: وكذلك الناس لا يرضونه لأمهاتهم، أترضاه لأختك؟ فقال: لا، فقال الرسول: وكذلك الناس لا يرضونه لأخواتهم.

وما زال الرسول يعرض عليه قرابته من النساء ويقول له: أترضى لهن الزنا؟ وهو يقول: لا حتى أقنعه بأن ما طلبه إثم كبير في حق المجتمع، وكما لا يرضاه لنساء أسرته فإن أحدًا من الناس لا يرضاه كذلك لنسائه، وانصرف الشاب تائبًا عما نوى راغبًا في العفة مؤمنًا بأن عِرْض الناس عرضه.

في ذكرى مولد الرسول -صلى الله عليه وسلم- نذكر كيف عالج وواجه عسر المال, وضيق الحال وارتفاع الأسعار, هل كانت المواجهة بمزيد من السرف والإسراف والإنفاق والإتلاف والاستدانة؟ لا, إنه -صلى الله عليه وسلم- واجه العسر بتدبير موارده, وبالوقوف عند المقدور عليه, دون المزيد مما في أيدي الناس، فقال: «حَسْبُ ابْنِ آدَمَ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صَلْبَهُ» متّبعًا ما أوصى به القرآن:

﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا﴾ ]الإسراء: 29]، ﴿وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾ [الإسراء: 26، 27].

نذكر في ميلاد الرسول -صلى الله عليه وسلم- كيف كان حريصًا على العلم والتعليم, حيث جعله تبعة ومسؤولية, ولم يجعل العلم من الكماليات, فأوجب على العالم أن ينشر علمه وأن ييسره لغيره فقال صلى الله عليه وسلم: «وَيْلٌ لِلْعَالِمِ مِنَ الْجَاهِلِ حَيْثُ لَمْ يُعَلِّمْهُ»، فلولا أن السعي بالعلم إلى مستحقيه من الواجبات ما كان الويل للعالم أن ترك التعليم، فالمؤاخذة إنما تكون على ترك الواجب لا على إهمال التطوع.

ومن هنا كانت تبعة تربية الأولاد في كل جوانب الحياة تقع أولا على الآباء، ذلك قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «حَقُّ الْوَلَدِ عَلَى الْوَالِدِ أَنْ يُعَلِّمَهُ الْكِتَابَةَ وَالسِّبَاحَةَ وَالرِّمَايَةَ، وَأَلَّا يَرْزُقَهُ إِلَّا طَيِّبًا» رواه البيهقي عن أبي رافع، وقوله: «أَلْزِمُوا أَوْلَادَكُمْ وَأَحْسِنُوا أَدَبَهُمْ» رواه ابن ماجه عن ابن عباس.

فبذل الجهد للتربية قصدًا إلى إشباع الجوانب النفسية لدى الأولاد ونمائها حتى يشبوا على المودة وحسن المعاشرة والقدوة الحسنة في التعامل؛ أمر محمود بل مفروض, وأولى من الانصراف عن هذه المهمة إلى جمع المال والممتلكات وتكديسها تركة زائلة إذا لم يحسن الأولاد استثمارها والانتفاع بها؛ ذلك توجيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قوله: «مَا نَحَل -أَعْطَى- وَالِدٌ وَلَدًا أَفْضَلَ مِنْ أَدَبٍ حَسَنٍ» رواه الترمذي والحاكم.

وهذا هو الرسول -صلى الله عليه وسلم- يعلم ابن زوجته أم سلمة، وقد كان في حجره وربيبًا له حين جلس يؤاكله: «يَا غُلَامُ، سَمِّ اللَّهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ» البخاري ومسلم وابن ماجه وأحمد. هكذا كان معلمًا للسلوك والآداب في كل شيء...

وليست تبعة تربية الأولاد مقصورة على الآباء, فقد أوضح الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذه التبعة, بل التبعات بوجه عام في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ, وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ, وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» رواه البخاري عن ابن عمر والطبراني عن أنس بن مالك وغيرهما.

لا بد أن نعي هذه التبعات وأن نحملها عمليًّا, وإلا فالنُّذُر التي أَطَلَّت علينا خطيرة, تهدد مجتمعنا بالتحلل والانحلال وموات الروابط الأسرية التي عُنِيَ الإسلام بتوثيقها وحث على الاستمساك بها.

لا بد أن يحمل كلٌّ التبعة في موقعه: الآباء, والأمهات, والمدرسة, والأطباء، ورجال الدعوة والمهندسون, كل الناس.

إن تقويم الفرد المسلم وتأكيد انتمائه للإسلام إيمانًا وعملًا, وترسيخ القدوة برسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر حتم؛ حتى تستقيم للأمة الحياة، ويتأتى هذا بالاهتمام بالتربية الدينية وتقويم السلوك والممارسة, واعتبار ذلك واجبًا في الأسرة, وفي المدرسة, وفي الشارع, ولا ننسى الحرص على إعداد المعلم على السلوك والقدوة الحسنة مؤمنًا بواجباته, حريصًا على أدائها.

في ذكرى مولد الرسول: نذكر أن من آداب الإسلام الحرص على ألا تشيع الفاحشة، كل الفواحش: فاحشة القول, فاحشة الفعل, فاحشة النقل, كل ما كان به التأثر وفيه التأثير على المجتمع، كل ما كان مؤذيًا للشعور أو مدارسة للجريمة، أليس هذا هو مقتضى قول الله سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النور: 19]؟!

أليس هذا وعيدًا لأولئك الذين يشيعون وينشرون ما يقع من جرائم خلقية وغيرها بإذاعة تفاصيلها ونشرها على الملأ، وما دروا أنهم يفتتحون بذلك مدارس للجريمة وطرق ارتكابها؟!

في ذكرى مولد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنصح وسائل الإعلام وعلى الأخص الصحف والمجلات التي يتداولها ويتناولها كل الناس من له حصانة وحماية ذاتية ومن ينساق وراء ما يقرأ - أن يكفوا عن نشر الحوادث والجرائم الخلقية والجنائية بتفصيلاتها وإجراءات ارتكابها ووسائلها وأن يستبدلوا بها موضوعات إرشادية للأفراد والمجتمع تنقذ الجميع من التردي في المهالك والإضرار بأنفسهم ومجتمعاتهم فوق عصيانهم لربهم وجحودهم نعمه التي لا تُعَدّ ولا تُحْصَى.

إنها نصيحة يفرضها قول صاحب الذكرى -صلى الله عليه وسلم-: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ، قُلْنَا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قاَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» رواه البخاري ومسلم عن تميم الداري.

نعم: إن من يقرأ الصحف والمجلات في هذه الأيام الأخيرة, وتتبعها لتفصيلات بعض الحوادث ومتابعتها لها قد يستقر في نفسه أن المجتمع المصري قد انفكت أواصره وانعدم فيه الوفاء والإخلاص, وماتت في أفراده وأسره تعاليم الإسلام، وانفلت من كل الآداب والقيم, وذلك أمر يُشِيع اليأس في نفوس المصلحين والمربين, ويشجع على التسيب والانفلات من القيم.

أكرر النصح لوسائل الإعلام أن تُعْنَى بنشر وإذاعة أخبار المصلحين والمجدين والناجحين في أعمالهم من طلاب وتجار وعلماء في كل فروع العلم والعمل؛ لتكون القدوة فيهم حسنة ونافعة للناس جميعًا في الدين والدنيا, وحفزًا لغيرهم على الالتزام بالفضائل.

إن حصائد الأقلام كحصائد الألسنة مؤاخذ عليها من الله ومن الناس، ولا بد وقفة مع النفس نصحح بها مسار حياتنا بكل شجاعة وإقدام, وألا نسيء إلى الحرية بالفهم الخاطئ أو نظن أنها الإثارة وإنكار الإحسان وطمس القدوة الحسنة في المجتمع.

إن صاحب الذكرى -صلى الله عليه وسلم- قال: «.. وَإِيَّاكُمْ وَالْفُحْشَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَاحِشَ وَالْمُتَفَحِّشَ» أحمد والحميدي وابن عساكر وابن حبان والحاكم.

ثم لنسمع قول الله: ﴿لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ﴾ [النساء: 148]؛ ذلك لأن إظهار الفاحش من القول أو الفعل فاحشة أخرى، ومن أجل هذا قال صاحب الذكرى -صلى الله عليه وسلم-: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلا الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلا، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولَ: يَا فُلانُ، عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، فَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَليْهُ» البخاري ومسلم وغيرهما.

ويبين الرسول -صلى الله عليه وسلم- ضرر إظهار الخطيئة والإعلان عنها في قوله: «الْخَطِيئَة إِذَا خَفِيَتْ لَمْ تَضُرَّ إِلَّا بِصَاحِبِهَا، وَإِنْ ظَهَرَتْ -فَلَمْ تُغَيَّرْ- ضَرَّتِ الْعَامَّةَ» الديلمي عن أبي هريرة.

في ذكرى مولد الرسول -صلى الله عليه وسلم- ينبغي أن تأخذ أنفسنا بسنته في أمور الدين والدنيا, فيقتدي به الحاكم في مسؤولياته, والعامل في عمله أيًّا كان نوعه، فلقد كان يتفقد أحوال الناس, ويعيش واقعهم, ينصح المخطئ، ويشجع المحسن, ويدعو إلى العمل الديني والدنيوي إخلاصًا لله وقيامًا للواجب, وينزل إلى الأسواق, فيرشد الناس إلى الأمانة وينهاهم عن الخداع والغش في المعاملات.

ها هو -صلى الله عليه وسلم- يمر بالسوق فيجد كومة من الطعام فيضع يده في داخلها فتخرج عليها بلل من ماء, فيقول: «مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟! فَيَرَدُّ التَّاجِرُ: أَصَابَهُ الْمَطَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ, فَيَقُولُ الرَّسُولُ نَاصِحًا مُوَجِّهًا: فَهَلَّا جَعَلْتَ ذَلِكَ ظَاهِرًا يَرَاهُ النَّاسُ، مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» مسلم وأحمد والطبراني عن ابن عباس.

وها هو يسير بين نفر من أصحابه, فيرون رجلًا له نشاطه وقوته وإقباله على عمله, فأبدوا إعجابهم به وقالوا: لو كان جلد هذا وقوته في سبيل الله فقال الرسول: «إِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى لِرِزْقِ وَلَدِهِ صِغَارًا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ يَعُفُّهَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى رِيَاءً وَمُفَاخَرَةً فَهُوَ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ» في الصحيح.

ألا يدلنا هذا القول الكريم على أن العمل عباده؟! العمل الطيب المباح الذي يكسب به العامل رزقًا طيبًا ينفع به نفسه ويرفع شأن أمته.

في ذكرى ميلاد الرسول -صلى الله عليه وسلم- نذكر أنه كان يعلم الناس أن يسألوا عن المفيد في حياتهم ودينهم، فها هو رجل يسأله متى الساعة "يوم القيامة"، فيقول له: «مَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا» البخاري.

جواب يوجه إلى العمل وإلى إحسانه لينال مثوبة ربه, ويصرف عن الاسترسال في التساؤل عن أمر استأثر الله بعلمه, فلا محل لإضاعة الوقت والجهد في البحث عنه.

ولقد أثر عن الإمام مالك قوله: "طلب العلم حسن جميل, ولكن انظر إلى الذي يلزمك من حين تصبح إلى حين تمسي فالزمه".

في ذكرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نذكر أنه حذر من علم لا ينفع ومن كَسْب حرام, فقد ثبت أنه استعاذ من علم لا ينفع, وها نحن في هذا العصر قد استبحنا الكثير من الحرمات بإطلاق أسماء واستعمال أساليب حتى وقعنا في نطاق قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَذْهَبُ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامُ حَتَّى تَشْرَبَ فِيهَا طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ وَيُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا» ابن ماجه عن أبي أمامة، وقوله: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَبْقَى فِيهِ أَحَدٌ إِلَّا أَكَلَ الرِّبَا, فَمَنْ لَمْ يَأْكُلْهُ أَصَابَهُ مِنْ غُبَارِهِ» أبو داود وابن ماجه وابن عدي في الكامل.

ها نحن قد استبحنا الخمر وغيرها مما حرم الله, فجاءت المحن والأمراض، بل وجاءت موجات من مسميات لسموم تسربت إلى بلاد المسلمين لتهلك النسل، وتشيع الخلل والانحلال, وتقعد عن العمل داعية إلى الكسل والتراخي, وتبعث على الإجرام ونشر الجريمة, وها نحن نكافحها بالندوات والخطب دون أن نأخذ أنفسنا باستئصال الأصل وتجريم أم الخبائث والمنكرات (الخمر) ونترك الحانات والبارات مفتحة الأبواب ليل نهار, وهكذا نوقد النار ثم نحاول إخمادها، فتلهبها الريح العاتية التي لا تُبْقِي ولا تذر, وقد قيل قديمًا: الوقاية خير من العلاج.

في ذكرى مولد الرسول -صلى الله عليه وسلم- ينبغي أن نستمع إلى قوله: «لِكُلِّ شَيْءٍ دِعَامَةٌ, وَدِعَامَةُ الْمُؤْمِنِ عَقْلُهُ, فَبِقَدْرِ عَقْلِهِ تَكُونُ عُبَادَته، أَمَا سَمِعْتُمْ قَوْلَ الْفُجَّارِ فِي النَّارِ: ﴿لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾»، وحين سأله أحد أصحابه: كيف يزداد عقلًا, ويزداد من ربه قربًا؟ قال: «اجْتَنِبْ مَحَارِمَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَدِّ فَرَائِضَهُ سُبْحَانَهُ تَكُنْ عَاقِلًا, وَاعْمَلْ بِالصَّالِحَاتِ مِنَ الْأَعْمَالِ تَزْدَدْ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا رِفْعَةً وَكَرَامَةً وَتَنَلْ فِي آجِلِ الْعُقْبَى بِهَا مِنْ رَبِّكَ عَزَّ وَجَلَّ الْقُرْبَ وَالْعِزَّ» إتحاف السادة المتقين.

في ذكرى مولد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجب أن تأخذ أمة الإسلام في نفسها بكتاب الله وسنة رسوله؛ فقد قال: «تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي» رواه الإمام مالك وغيره، وألا تأخذ ببعض الكتاب وتعرض عن بعض، فإن هذه الأمة لا تصلح إلا بما صلح بها أولها: القرآن والسنة.

فاستمسكوا بالذي هو خير لتكونوا في المكان والمكانة اللائقة بكم وبدينكم بين أمم الأرض, ولا تكونوا عالة على غيركم في علم وعمل, وجدُّوا واجتهدوا, واصبروا وصابروا وثابروا، واعتصموا بحبل الله جميعًا لعلكم تفلحون.

في ذكرى مولد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أهنئ الأمة الإسلامية، وأهنئ أصحاب الجلالة والفخامة والسمو ملوك ورؤساء وأمراء المسلمين، وأذكر بأن الله سائل كل راع عما استرعاه حفظ أم ضيع، وليكن رسول الله القدوة في الحكم والحكمة وجمع الكلمة والمؤاخاة بين المؤمنين، وأتلو قول الله: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ [الحج: 41].