حالته ﷺ في الضروريات 1346
حالته ﷺ في الضروريات

وأمَّا ما تدعو ضرورة الحياة إليه مِمَّا فصَّلناه فعلى ثلاثة أضرب: ضرب الفضل في قلته، وضرب الفضل في كثرته، وضرب تختلف الأحوال فيه.

 فأمَّا ما التمدح والكمال بقلته اتفاقاً، وعلى كل حال، عادة وشريعة، كالغذاء والنوم، ولم تزل العرب والحكماء تتمادح بقلتهما، وتذم بكثرتهما، لأن كثرة الأكل والشرب دليل على النهم والحرص والشره، وغلبة الشهوة مسبب لمضار الدنيا والآخرة، جالب لأدواء الجسد وخُثار النفس، وامتلاء الدماغ، وقلته دليل على القناعة، وملك النفس، وقمع الشهوة مسبب للصحة، وصفاء الخاطر، وحدة الذهن، كما أن كثرة النوم دليل على الفسولة والضعف، وعدم الذكاء والفطنة، مسبب للكسل، وعادة العجز، وتضييع العمر في غير نفع، وقساوة القلب وغفلته وموته.

والشاهد على هذا ما يعلم ضرورة، ويوجد مشاهدة، وينقل متواترا من كلام الأمم المتقدمة، والحكماء السالفين، وأشعار العرب وأخبارها، وصحيح الحديث، وآثار من سلف وخلف، مما لا يحتاج إلى الاستشهاد عليه وإنما تركنا ذكره هنا اختصاراً واقتصاراً على اشتهار العلم به.

وكان النبي ﷺ قد أخذ من هذين الفنين بالأقل.

هذا ما لا يدفع من سيرته، وهو الذي أمر به، وحض عليه، لاسيما بارتباط أحدهما بالآخر.

حدثنا أبو علي الصدفي الحافظ بقراءتي عليه، حدثنا أبو الفضل الأصبهاني، قال: حدثنا أبو نعيم الحافظ، حدثنا سليمان بن أحمد، قال: حدثنا أبو بكر بن سهل، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني معاوية بن صالح أن يحيى بن جابر حدثه عن المقدام بن معد يكرب أن رسول الله ﷺ قال: «ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه، حسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه».

ولأن كثرة النوم من كثرة الأكل والشرب.

قال سفيان الثوري: بقلة الطعام يملك سهر الليل.

وقال بعض السلف: لا تأكلوا كثيراً فتشربوا كثيراً، فترقدوا كثيراً، فتخسروا كثيراً.

وقد روي عنه ﷺ أنه كان أحَبُّ الطعام إليه ما كان على ضفف، أي كثرة الأيدي.

 وعن عائشة (رضي الله عنها): لم يمتلئ جوف النبي ﷺ شبعًا قط، وأنه كان في أهله لا يسألهم طعامًا ولا يتشهَّاهُ، إن أطعموه أكل، وما أطعموه قبل، وما سقوه شرب.

ولا يعترض على هذا بحديث بريرة، وقوله: «ألم أر البرمة فيها لحم؟» إذ لعل سبب سؤاله ظنه ﷺ اعتقاده أنه لا يحل له، فأراد بيان سنته، إذ رآهم لم يقدموه إليه، مع علمه أنهم لا يستأثرون عليه به، فصدق عليهم ظنه، وبَيَّنَ لهم ما جهلوه من أمره بقوله: «هو لها صدقة ولنا هدية».

وفي حكمة لقمان: يابني، إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة، وخرست الحكمة، وقعدت الأعضاء عن العبادة.

وقال سحنون: لا يصلح العلم لمن يأكل حتى يشبع.

وفي صحيح الحديث قوله ﷺ: «أمَّا أنا فلا آكل مُتكئاً».

والاتكاء: هو التمكن للأكل، والتقعد في الجلوس له كالمتربع، وشبهه من تمكن الجلسات التي يعتمد فيها الجالس على ما تحته، والجالس على هذه الهيئة يستدعي الأكل ويستكثر منه.

والنبي ﷺ إنما كان جلوسه للأكل جلوس المستوفز مقعياً، ويقول: «إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد».

وليس معنى الحديث في الاتكاء الميل على شق عند المحققين.

وكذلك نومه ﷺ كان قليلاً، شهدت بذلك الآثار الصحيحة، ومع ذلك فقد قال ﷺ: «إن عيني تنامان ولا ينام قلبي».

وكان نومه على جانبه الأيمن استظهاراً على قلة النوم، لأنه على الجانب الأيسر أهنأ، لهدوء القلب وما يتعلق به من الأعضاء الباطنية حينئذ، لميلها إلى الجانب الأيسر، فيستدعي ذلك الاستثقال فيه والطول.

وإذا نام النائم على الأيمن تعلق القلب وقلق، فأسرع الإفاقة ولم يغمره الاستغراق.

من كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى
للعلامة القاضي عياض

الرابط:
https://www.azhar.eg/ProphetMohamed/ArtMID/6111/ArticleID/10497/