لا عليك ما فاتك من الدنيا (2)
حِفْظُ الأمانة 1341
بسم الله الرحمن الرحيم
عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أربع إذا كن فيك، فلا عليك ما فاتك من الدنيا: صِدْقٌ الحديث، وحِفْظُ الأمانة، وحُسْنُ الخُلُق، وعِفَّة مَطْعَم».

قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58]..

"هذه هي تكاليف الجماعة المسلمة وهذا هو خُلقها، والأمانات تبدأ من الأمانة الكبرى..

الأمانة التي ناط الله بها فطرة الإنسان والتي أبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان..

أمانة الهداية والمعرفة والإيمان بالله عن قصد وإرادة وجهد واتجاه، ومن هذه الأمانة الكبرى تنبثق سائر الأمانات التي يأمر الله أن تؤدى.

ومن هذه الأمانات:

أمانة الشهادة لهذا الدين.. الشهادة له في النفس أولا بمجاهدة النفس حتى تكون ترجمة له.

ترجمة حية في شعورها وسلوكها حتى يرى الناس صورة الإيمان في هذه النفس فيقولوا: ما أطيب هذا الإيمان وأحسنه وأزكاه، فتكون هذه شهادة لهذا الدين في النفس يتأثر بها الآخرون، والشهادة له بدعوة الناس إليه وبيان فضله ومزيته، ثم الشهادة لهذا الدين بمحاولة إقراره في الأرض منهجا للجماعة المؤمنة ومنهجا للبشرية جميعا وهي كبرى الأمانات.

ومن هذه الأمانات أمانة التعامل مع الناس ورد أماناتهم إليهم: أمانة المعاملات والودائع المادية، وأمانة النصيحة للراعي والرعية، وأمانة القيام على الأطفال الناشئة، وأمانة المحافظة على حرمات الجماعة وأموالها وثغراتها … وسائر ما يجلوه المنهج الرباني من الواجبات والتكاليف في كل مجالات الحياة على وجه الإجمال". (1)

والأمانة تقع على الطَّاعة والعِبادة والوديعة والثقةِ والأمانِ، وقد جاء في كل منها حديث شريف:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال -صلى الله عليه وسلم-: «الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن، اللهم أرشد الأئمة، واغفر للمؤذنين» (2)..

فقوله «والمؤذن مؤتمن» أي أمين على صلاة الناس وصيامهم وإفطارهم وسحورهم، وعلى حرم الناس لإشرافه على دورهم، فعليه المحافظة على أداء هذه الأمانة.  

وعن عائشة -رضي الله عنها- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من غسل ميتا فأدى فيه الأمانة ولم يفش عليه ما يكون منه عند ذلك، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه»، قال: «ليله أقربكم منه إن كان يعلم، فإن كان لا يعلم، فمن ترون أن عنده حظا من ورع وأمانة» (3).

وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها» (4).

وعن أبي أمامة -رضي الله عنه-، قال -صلى الله عليه وسلم-: «العارية مؤداة، والمنحة مردودة، والدين مقضي، والزعيم غارم» (5).. «العارية مؤداة» أي مردودة مضمومة «والمنحة مردودة» لأنه لم يعطه عينها بل لبنها، فإذا مضت أيام اللبن ردها «والدَين مقضي» إلى صاحبه، أي صفته اللازمة هي القضاء «والزعيم» أي الكفيل يعني الضمين «غارم» ما ضمنه بمطالبة المضمون له سواء كان عن ميت ترك وفاء أم لا عند الشافعي ومالك خلافاً لأبي حنيفة، لأنه قول عام على تأسيس القواعد فحمل على عمومه فإن كانت الكفالة بالبدن فلا غرم عند الشافعي ومالك إلا أن مالكاً غرمه إذا لم يحضره والشافعي لا، والغرم أداء الشيء.

قال الطيبي: ومن وجب عليه حق لغيره فإما أن يكون على سبيل الأداء بما يتصل فهو العارية، أو بدون ما يتصل به فالمنحة، أو على القضاء من غير عينه فالدين، أو على الغرامة بالالتزام فالكفالة. (6)

ومن الأمانة ائتمان المرأة على فرجها وتصديقها متى ادعت انقضاء عدتها في مدة يمكن في مثلها أن تنقضي العدة، فعن أبي بن كعب -رضي الله عنه- قال: "من الأمانة ائتمان المرأة على فرجها". (7)

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال -صلى الله عليه وسلم-: «أدّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك» (8).. (أدّ) وجوباً من الأداء. قال الراغب: وهو دفع ما يحق دفعه وتأديته (الأمانة) هي كل حق لزمك أداؤه وحفظه، قال القرطبي: "والأمانة تشمل أعداداً كثيرة لكن أمهاتها الوديعة واللقطة والرهن والعارية: قال القاضي: "وحفظ الأمانة أثر كمال الإيمان، فإذا نقص الإيمان نقصت الأمانة في الناس، وإذا زاد زادت".

(إلى من ائتمنك) عليها، وهذا لا مفهوم له، بل غالبي والخيانة التفريط في الأمانة.

قال الحراني: "والائتمان: طلب الأمانة، وهو إيداع الشيء لحفظه حتى يعاد إلى المؤتمن"، ولما كانت النفوس نزّاعة إلى الخيانة، رواغة عند مضايق الأمانة، وربما تأولت جوازها مع من لم يلتزمها أعقبه بقوله (ولا تخن من خانك) أي لا تعامله بمعاملته، ولا تقابل خيانته بخيانتك فتكون مثله.

قال ابن العربي: "وهذه مسألة متكررة على ألسنة الفقهاء، ولهم فيها أقوال: الأول: لا تخن من خانك مطلقاً، الثاني: خن من خانك. قاله الشافعي، الثالث: إن كان مما ائتمنك عليه من خانك فلا تخنه، وإن كان ليس في يدك فخذ حقك منه. قاله مالك. الرابع: إن كان من جنس حقك فخذه، وإلا فلا. قاله أبو حنيفة.. والصحيح منها جواز الاعتداء بأن تأخذ مثل مالك من جنسه أو غير جنسه إذا عدلت لأن ما للحاكم فعله إذا قدرت تفعله إذا اضطررت" (9)

وعن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-: «اضمنوا لي ستا من أنفسكم أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا ائتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم» (10)

الأمانة خلق النبيين والصديقين:
فعن عائشة -رضي الله عنه- في هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: "وأمر -تعني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليا -رضي الله عنه- أن يتخلف عنه بمكة حتى يودي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الودائع التي كانت عنده للناس" (11).

وعن عبد الله بن عباس-رضي الله عنهما- قال: أخبرني أبو سفيان، أن هرقل قال له: سألتك ماذا يأمركم؟ فزعمت أنه أمركم بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة. قال: وهذه صفة نبي (12)

وعن الحسن أن أبا بكر الصديق-رضي الله عنه- خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "إن أكيس الكيس التقوى، وأحمق الحمق الفجور، ألا وإن الصدق عندي الأمانة، والكذب الخيانة". (13)

وقال عمر بن عبد العزيز لجلسائه: "من صحبني منكم فليصحبني بخمس خصال: يدلني من العدل إلى ما لا أهتدي له، ويكون لي على الخير عونا، ويبلغني حاجة من لا يستطيع إبلاغها، ولا يغتاب عندي أحدا، ويؤدي الأمانة التي حملها مني ومن الناس. فإذا كان كذلك فحيهلا به، وإلا فهو في حرج من صحبتي والدخول علي" (14).

وعن مليح بن وكيع قال: سمعت أبي يقول: كان والله أبو حنيفة عظيم الأمانة، وكان الله في قلبه جليلا كبيرا عظيما، وكان يؤثر رضاء ربه على كل شيء، ولو أخذته السيوف في الله لأحتمل، رحمه الله ورضي عنه رضا الأبرار، فلقد كان منهم" (15)

وعن الفضيل بن عياض قال: "أصل الإيمان عندنا وفرعه وداخله وخارجه بعد الشهادة بالتوحيد وبعد الشهادة للنبي -صلى الله عليه وسلم- بالبلاغ وبعد أداء الفرائض: صدق الحديث، وحفظ الأمانة، وترك الخيانة، ووفاء بالعهد، وصلة الرحم، والنصيحة لجميع المسلمين".

قال معاذ: قلت: يا أبا علي، من رأيك تقوله أو سمعته؟ قال: لا، بل سمعناه، وتعلمناه من أصحابنا، ولو لم أجده عن أهل الثقة والفضل لم أتكلم به". (16)

وقال سفيان بن عيينة: "من لم يكن له رأس مال، فليتخذ الأمانة رأس ماله" (17)

وعن ميمون بن مهران، قال: "جاء رجل إلى سلمان، فقال" أوصني. قال: لا تكلم. قال: لا يستطيع من عاش في الناس أن لا يتكلم. قال: فإن تكلمت فتكلم بحق، أو اسكت. قال: زدني. قال: لا تغضب. قال: إنه ليغشاني مالا أملكه. قال: فإن غضبت، فأمسك لسانك ويدك. قال: زدني. قال: لا تلابس الناس. قال: لا يستطيع من عاش في الناس أن لا يلابسهم. قال: فإن لابستهم فأصدق الحديث وأد الأمانة". (18)

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27]

قال القاسمي: "ويدخل في خيانة الله: تعطيل فرائضه ومجاوزة حدوده، وفي خيانة رسوله: رفض سنته وإفشاء سره للمشركين، وفي خيانة أماناتهم: الغلول في المغانم أي السرقة منها، وخيانة كل ما يؤتمن عليه الناس من مال أو أهل أو سر". (19)

والأمانات عامة هي: الأعمال التي ائتمن الله عليها العباد، وسميت أمانة لأنها يؤمن معها من منع الحق، مأخوذ من الأمن، وعن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-: «أول ما يرفع من الناس الأمانة، وآخر ما يبقى من دينهم الصلاة، ورب مصل لا خلاق له عند الله تعالى» (20).

قال ابن العربي: "والأمانة معنى يحصل في القلب، فيأمن بنوره المرء من الردى في الآخرة والدنيا، وأصله الإيمان" (وآخر ما يبقى من دينهم الصلاة) كلما ضعف الإيمان بحب الدنيا ونقص والشهوات وذهبت هيبة سلطانه من القلوب اضمحلت الأمانة، وإذا ضعفت الأمانة وخانت الرعية فيها فأخرت الصلاة عن أوقاتها وقصر في إكمالها، أدى ذلك إلى ارتفاع أصلها. (21)

وقال سلمان الفارسي -رضي الله عنه-: "إن الله تعالى إذا أراد بعبد شرا أو هلكة نزع منه الحياء، فلم تلقه إلا مقيتا ممقتا، فإذا كان مقيتا ممقتا نزعت منه الرحمة، فلم تلقه إلا فظا غليظا، فإذا كان كذلك نزعت منه الأمانة، فلم تلقه إلا خائنا مخونا، فإذا كان كذلك نزعت ربقة الإسلام من عنقه، فكان لعينا ملعنا". (22)

وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال -صلى الله عليه وسلم-: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» (23)

وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "لا يعجبنكم من الرجل طنطنته، ولكنه مَنْ أدَّى الأمانة، وكَفَّ عن أعراض الناس فهو الرجل".

وقال الحارث المحاسبي: "ثلاثة أشياء عزيزة أو معدومة: حسن الوجه مع الصيانة، وحسن الخلق مع الديانة، وحسن الإخاء مع الأمانة". (24)

وقال أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "البيت الذي يكون فيه خيانة لا يكون فيه البركة" (25)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في ظلال القرآن ـ سيد قطب ـ دار الشروق ص 689
(2) رواه الترمذي (صحيح) انظر حديث رقم: 2787 في صحيح الجامع السيوطي / الألباني
(3) رواه أحمد - باقي مسند الأنصار برقم 23735  
(4) رواه مسلم ـ كتاب النكاح برقم  2598
(5) رواه أحمد والترمذي  (صحيح) انظر حديث رقم: 4116 في صحيح الجامع
(6) فيض القدير ـ المناوي 2/ 534  
(7) سنن البيهقي ج5 ص   258  
(8) رواه الترمذي (صحيح) انظر حديث رقم: 240 في صحيح الجامع
(9) فيض القدير ـ المناوي بتصرف يسير 2/768   
(10) رواه أحمد وابن حبان (حسن) انظر حديث رقم: 1018 في صحيح الجامع
(11) سنن البيهقي ج6 ص288
 (12) البخاري ـ كتاب الشهادات برقم 2484
(13) سنن البيهقي الكبرى ج: 6 ص: 353  
(14) حلية الأولياء ج: 5 ص: 336   
(15) تاريخ بغداد ج: 13 ص: 358
(16) شعب الإيمان ج: 4 ص: 321  
(17)شعب الإيمان ج: 4 ص: 327
(18)صفوة الصفوة ج: 1 ص: 549    
(19) محاسن التأويل ـ القاسمي ج7 ص 38  
(20) رواه الحكيم الترمذي (حسن) انظر حديث رقم: 2575 في صحيح الجامع
(21) فيض القدير 2/156     
(22) حلية الأولياء ج: 1 ص: 204
(23) متفق عليه (صحيح) انظر حديث رقم:  889 في صحيح الجامع   
(24) جامع العلوم والحكم ج: 1 ص: 181
(25) شعب الإيمان ج: 4 ص: 327
 ===============