أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه
بعد وترلو Oo12
بعد وترلو
ما أشبه حال عرابي بعد التل الكبير بحال نابليون بعد وترلو، كلاهما هرول إلى عاصمة بلاده بعد أن حلت الهزيمة بجيشه على غير انتظار، وكلاهما دعا قومه إلى مواصلة الجهاد ولكنهم خذلوه، وخلعوا طاعته في غير خوف وقد زال عنه سلطانه بزوال النصر، أو على الأصح بحلول الهزيمة، وهما موقفان تتمثل في كل منهما مأساة من مآسي التاريخ سوف تبقيان في فرنسا وفي مصر بقاء الزمن…

مضى عرابي إلى القاهرة فبلغها قبل الظهر وبصحبته علي الروبي وقصد من فوره إلى قصر النيل، وكان المجلس العرفي منعقدًا منذ الصباح ينتظر أنباء من التل الكبير، ولكنه لم يتلقَّ شيئًا فساور الأعضاءَ كثيرٌ من القلق، وكان يعقوب باشا قد تلقى وهو في مكتب التلغراف كثيرًا من الأنباء ولكنه لم يفض بشيء منها إلى أحد حتى فاجأ الحاضرين بقوله: إن عرابي باشا قادم بعد حين إلى القاهرة، فوجمت الوجوه وعرف الأعضاء ما حدث وإن لم يزد يعقوب باشا شيئًا على هذه الكلمة.

وبلغ عرابي مقر المجلس العرفي فتلقاه الأعضاء واجمين، وكان الأسف الشديد باديًا على محياه، ولبث لحظة لا يدري ماذا يقول؟ ثم أظهر المجلس على كل شيء وشكا كثيرًا من الخيانة ومن تفرق كلمة الجند وفرارهم لا يلوون على شيء وهو يدعوهم فلا يستجيبون له…

وانضم إلى المجلس العرفي بعض الأمراء والكبراء، وتشاوروا فيما يعملون؟ أيسلمون القاهرة للإنجليز أم يدافعون عنها؟…

وكان عرابي يستحثهم على الدفاع ذاكرًا لهم إنه من الوجهة الحربية لم يزل الأمل قويًّا فهناك حامية القاهرة في القلعة بمدفعيتها، وهناك حامية دمياط بقيادة عبد العال، وفي إمكانها التحرك أثناء الدفاع عن القاهرة لرفع الحصار عنها وكذلك هناك حامية كفر الدوار وفي استطاعة طلبة أن يرسل المدد المطلوب، فبالثبات والصبر يمكن معالجة الأمر، فليس طريق الإنجليز سهلًا كما ظن البعض.

ونهض الأمير إبراهيم باشا أحمد ابن عم الخديو وأهاب بالحاضرين أن يثبتوا وأن يقاوموا وقال: «إن مصر غاصة بالجند والمخازن مليئة بالمؤن والذخائر، والأسلحة ومعدات الدفاع متوفرة فالواجب علينا إذن الدفاع ما دام فينا بقية… فأجاب الجميع بالموافقة».١

وأخذ شبح اليأس يبتعد عن عرابي ونهض من فوره ليعد العدة للدفاع، وكان قد ترك في بلبيس عددًا من التلغرافات في مكتب التلغراف يستنهض بها البلاد لترسل المدد لمقاومة زحف الإنجليز، ومضى عرابي إلى العباسية ومعه بعض الفنيين لإنشاء خط استحكامات هناك للدفاع عن القاهرة…

وفي هذا الذي فعله عرابي ما يثبت الكذب الوضيع على الذين عابوا عليه فراره من التل الكبير قائلين: إنه فعل ذلك لينجو بنفسه لا ليستأنف الجهاد الذي كان ممكنًا لو أنه أراده، ومما يملأ النفس أسى وألمًا أن يعمد هؤلاء إلى إنكار الحقائق وهم يعلمونها، وأمرهم في ذلك عجيب، فإننا نفهم أن يخطئ المرء فهم حقيقة أو أن يؤولها بدافع الغرض والهوى تأويلًا يساير هواه، ولكنا لا نفهم كيف يعمد إنسان إلى قلب الوضع قلبًا تامًّا فيقول في موقف كهذا شهدت به أكثر المصادر: إن عرابي هرب لا ليقاوم ولا ليدافع عن القاهرة ولكن لينجو بنفسه فحسب!…

ولم يكن الاستيلاء على القاهرة بالأمر الهين لو وجدت من يدافع عنها، قال المسيو بيوفيس: «ولم يكن الجنرال دروري لويسير في زحفه في طريق آمنة؛ إذ لم يكن معه سوى عدة مئات من الجند، وكان أمامه مدينة آهلة بالسكان تدافع عنها حامية قوية كبيرة العدد ترابط في العباسية والقلعة وفي المعاقل التي بنيت أخيرًا فوق جبل المقطم، وأمامه ذكريات الثورات الهائلة التي سببت المتاعب والخسائر الكبيرة لنابليون وكليبر خلال الحملة الفرنسية، ولكن جُبن الرؤساء العرابيين قد أخرجه من المأزق»٢…

قال عرابي: «ثم استقر الرأي على إنشاء خط دفاعي في ضواحي المحروسة، وبناء على ذلك ذهبت إلى العباسية ومعي محمود باشا المرعشلي باشمهندس الاستحكامات ومحمود باشا رضا لواء الخيالة وحسن باشا مظهر لواء مأمور تشهيل إرسال الذخائر الحربية إلى مركز الجيش، وتقرر اتخاذ الخط الدفاعي أمام المطرية شرقي عين شمس يستند يمينه على الجبل ويمتد شمالًا إلى ترعة الإسماعيلية ثم ينعطف غربًا على الترعة المذكورة إلى النيل عند فُم رياح الترعة المذكورة بالقرب من شبرا… ثم ذهبنا جميعًا إلى مركز الطوبجية وأردنا استعراض العساكر الموجودة هناك فلم نجد إلا نحو ألف رجل من خفراء البلاد بدون ضباط ونحو ٤٠ نفرًا من السواري في مركز مساكن الخيالة مع الأميرالاي أحمد بك نير، فقال الأميرالاي المذكور: إنه يقف في وجه العدو ويقاتله برجاله الأربعين حتى يموت معهم»…

أين الجند وأين الضباط؟ هنا أدرك عرابي مرة ثانية ما فعلته الخيانة وما فعله قرار السلطان بإعلان عصيانه؛ فقد انحلت العزائم وهرب الرجال وأصبح هم كل امرئ الدفاع عن نفسه، وعاد اليأس فأحاط بعرابي من كل ناحية ووقف وحده لا يجد من يمد يد المعونة إليه…

والإنجليز زاحفون على القاهرة في غير إبطاء، ولندع عرابي يقص علينا نبأ هذه المحنة، قال: «فلما شاهدنا كل ذلك رأينا أن الأولى حقن الدماء وحفظ القاهرة من غوائل الخراب والدمار كما حدث في الإسكندرية ما دامت المقاومة لا تجدي نفعًا، وفضلنا تقديم أنفسنا فداء عن الأمة المصرية السيئة الحظ، فرجعنا إلى المجلس سالف الذكر وبلغناه بما عَنَّ لنا، ثم قلنا: حيث إن الإنجليز يحاربوننا الآن باسم الخديو لانحيازه إليهم ففي إمكانه إيقاف هذه الحرب وعدم خراب القاهرة وغيرها ويصنع بنا بعد ذلك ما هو أهله…

فلم يجد أرباب المجلس المذكور أفضل من رفع عريضة باسمنا إلى الخديو نعترف فيها بوقف الحرب ونلتمس منه الوساطة لدى الإنجليز بعدم دخولهم القاهرة؛ حفظًا عليها من الخراب بعد تقديم الطاعة له والخضوع، فحرروا العريضة وأرسلوها إليه بعد أن ذيلتها بإمضائي مع بطرس باشا غالي ورؤوف باشا وعلي باشا الروبي ويعقوب باشا سامي رئيس المجلس العسكري في قطار خاص، وكان ذلك في يوم الخميس الموافق غرة ذي القعدة سنة ١٢٩٩ / ١٤ سبتمبر سنة ١٨٨٢ فلم يجدهم ذلك نفعًا؛ فإن مساعيهم أخفقت وآمالهم خابت بأن أبى الخديو قبول العريضة وإجابة الالتماس وأمر بإلقاء يعقوب باشا سامي وعلي باشا الروبي في السجن فسجنا في الإسكندرية».

ودخل الإنجليز بلبيس والزقازيق في نفس اليوم الذي وقعت فيه معركة التل الكبير، وفي اليوم التالي ١٤ سبتمبر بلغ الجنود الإنجليز العباسية في نحو الساعة ٤ مساء… وتلقى عرابي نبأ ذلك في الساعة ٦ وكان في منزل علي باشا فهمي ولم يكن علي باشا قد شفي من جرحه بعد، فأرسل عرابي إلى قائد ثكنات العباسية يأمره بالتسليم…

ونصح جون نينيه — وكان في منزل علي باشا فهمي — لعرابي ولطلبة عصمت — وكان هذا قد جاء إلى القاهرة — ولمحمود سامي بتسليم أنفسهم أسرى حرب للجيش البريطاني؛ خوفًا عليهم مما يحل بهم على يد توفيق، واستصوب رأيه عرابي وطلبة ورفضه البارودي قائلًا: «إني ذاهب إلى منزلي فإن أرادوني فإنهم يعرفون أين يجدونني»…

وذهب عرابي إلى منزله وارتدى ملابسه العسكرية، وتقلد سيفه وتأهب ومعه طلبة للتسليم، قال يصف ذلك: «وفي عصر يوم ١٥ سبتمبر سنة ١٨٨٢م، ورد تلغراف من الجنرال لو، خيالة الإنجليز بالعباسية إلى إبراهيم بك فوزي مأمور ضبطية القاهرة بأنه يريد مقابلتي بالعباسية ومقابلة طلبة عصمت باشا، فتوجهنا إلى العباسية واجتمعنا بالجنرال المذكور، فابتدرنا بقوله: هل تقبلون أن تكونوا أسرى حرب لجلالة الملكة؟ فقلنا له: نعم، نريد ذلك حقنًا للدماء، فلو أن عندنا من القوى الحربية ما يمكننا بها إطالة زمن القتال والدفاع عن البلاد لما قبلنا ذلك، ولكنا قاتلنا حتى يقضي الله بيننا، ولكن حيث علم لنا أن الإنجليز لا مطمع لهم في الاستيلاء على بلادنا، وما كان مجيئهم إلى مصر إلا ليؤيدوا السلطة الخديوية ويسلموا البلاد إلى الخديو ثم يعودوا إلى بلادهم فنحن كففنا عن القتال ورضينا بأن نسلم سيوفنا إلى قائد الجيش الإنجليزي واثقين بعدالة الأمة الإنجليزية أن تعاملنا كأسرى حرب. وسلمنا سيوفنا، وقضينا تلك الليلة داخل غرفة من غرف قشلاق الطوبجية لا فراش فيها ولا غطاء، وكان الجنرال في غرفة أخرى مثلها.

وفي عصر يوم السبت قمنا من العباسية بكوكبة من خيالة الهنود وضابط إنجليزي إلى قشلاق عابدين فوجدناه محتلًّا بآلاي حرس ملكة الإنجليز حكمدارية الميرالاي تين من منزل شريف في أحرار الإنجليز، فقابلنا الميرالاي المذكور وقال لنا: أنتما أسيرا حرب عند جلالة ملكة الإنجليز فلا بأس عليكما… وأقمنا في غرفة مقابلة للغرفة التي هو فيها وكان، أميرًا كريم السجايا يأتي إلينا كل يوم ويعزينا على ما أصابنا ويعترف بظلم الإنجليز لنا، وأن الاستبداد لا يزال كامنًا في قلوب الإنجليز أكثر من كل الأمم… وبعد ذلك وصلت جيوش الإنجليز إلى القاهرة أفواجًا أفواجًا، وكانت نساء رجال حكام المصريين المستبدين يحيين عساكر الإنجليز عند مرورهم في الشوارع بلباسهم الأحمر وأسلحتهم السوداء على عواتقهم، بالزغاريد؛ تقربًا إليهم وشكرًا لهم على إطفاء شعلة الحرية المصرية»…

وعصف الغضب برؤوس بعض المدنيين من سكان القاهرة وثارت النخوة في نفوسهم، ولم تكن الرشوة قد فعلت بهم ما فعلته بالجيش فتجمعوا من باب الشعرية والحسينية وتهيأوا للثورة، وكادت القاهرة ترى ما رأته أيام نابليون وكليبر، ولكن محافظ المدينة بذل أقصى جهده للقضاء على الفتنة في مهدها، مبينًا للثائرين أن عملهم لا يجدي نفعًا وليس وراءه إلا سفك الدماء…

وفي نفس اليوم ١٥ سبتمبر دخل الجنرال ولسلي القاهرة وكان يصحبه سلطان باشا نائبا عن الخديو، ونزل ولسلي في سراي عابدين وقد أُعدت له بأمر الخديو.

وكان الإنجليز قد استولوا على القلعة من طريق الجبل في اليوم الذي بلغوا فيه القاهرة، وقد سلمهم مفاتيحها مغتبطًا علي خنفس منتظرًا ما وُعِد به من الذهب قبل معركة التل الكبير، ولكن الإنجليز أداروا له ظهورهم، فلم تعد بهم حاجة إليه…

واحتل الإنجليز قصر النيل، كما احتلوا القلعة، والعباسية، وهكذا أخذوا القاهرة من أطرافها، وصح حلمهم الذي ساورهم منذ عهد محمد علي…

وبعد؛ فهذه قصة تسليم عرابي، لا نرى فيها شيئًا مما افتراه المفترون من مذلة وهوان، فالقانون العسكري يقضي بأن يسلم القائد المغلوب سيفه، ولقد سلم عرابي سيفه للجنرال لو، قائلًا: إنه يفعل ذلك على الرغم منه فلو أنه استطاع مواصلة القتال ما سلَّم…

وماذا كان في وسع عرابي غير هذا، ولم يكن أمامه إلا الفرار والهرب إلى بلد آخر أو التسليم للجيش المنتصر، ولو أنه هرب ثم قبض عليه وجيء به إلى مصر، أو لم يقبض عليه وظل طريدًا شريدًا أكان ذلك يعجب خصومه؟

لست أفهم ماذا كان هؤلاء يريدون؟

هل سلم سيفه والجيش من حوله يستطيع المقاومة والدفاع؟

أم أنه فعل ذلك حين هرب الرجال فلم يجد حوله إلا ٤٠ رجلًا في خطوط الاستحكامات؟

غلب نابليون على أمره بعد أن وضع إحدى قدميه في مدريد والأخرى في موسكو، فكتب إلى الأمير الوصي على عرش إنجلترا يقول: «يا صاحب السمو الملكي، رأيت أن أختم حياتي السياسية إذ رأيتني معرضًا للخلاف الذي يفرق بني وطني شيعًا، وللعداء الذي تناصبني إياه دول أوربا الكبرى فجئت كثموسكليز لألقي بنفسي في جوار الشعب الإنجليزي، وإني أضع نفسي في حماية قوانينه وأرجو من سموكم الملكي أن تمنحوني هذه الحماية حيث إنكم أقوى أعدائي وأعظمهم مصابرة وكرمًا».٣

وصعد نابليون إلى ظهر إحدى السفن التي كانت تراقب الشاطئ فحيا ضابط هذه السفينة برفع قبعته الأمر الذي لم يكن يفعله كثيرًا من قبل تلقاء الملوك والقياصرة، فهل يُعاب على نابليون ويُتهم بالجبن والمذلة من أجل كتابه ومن أجل تسليمه نفسه على هذه الصورة؟

ولكن الذين كتبوا سيرة عرابي عقب الاحتلال من أعدائه لم يدعوا ناحية من هذه السيرة إلا شوهوها؛ لكى تبث في أذهان الجيل القادم الصورة التي وضعها الاحتلال لعرابي فجعله رجلًا جاهلًا طائشًا لم يحارب من أجل مبدأ من المبادئ وإنما كانت تحركه أطماعه الشخصية، وما زال يخبط في حماقته وجهله حتى اضطر آخر الأمر إلى أن يُسَلِّمَ سيفهُ صاغرًا إلى قائد جيش الاحتلال الإنجليزي.

وأمَّا أن يكون عرابي ضحية مبادئ سامية حارب في سبيلها حتى لم يبق في قوسه منزع، وأمَّا أن يكون أول فلاح في مصر نادى بالحرية والدستور وأول زعيم وطني وضع جهاد وطنه على أساس قومي فافتتح بذلك فصلًا جديدًا في تاريخ هذا الوطن، فذلك ما لا يطيق أن يسمعه الاحتلال أو يسمح حتى أن يهمس به…

----------------------------------------------
١  مذكرات عرابي المخطوطة ص١٨٧ ج٢.
٢  الرافعي ص٤٦٠ عن بيوفيس، الفرنسيون والإنجليز في مصر ص٢٩١.
٣  إميل لودفج: نابليون. ص٥٣٧.