أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: ثورة عرابي في مرحلتها الثانية الإثنين 08 يوليو 2024, 2:26 am | |
| (٣) ظهور الفتن كانت مدة انعقاد المجلس فترة تقدُّم ونشاط، تمتعت مصر خلالها بالهدوء والسكينة في ظل النظام الدستوري، ولم تكد تنتهي الدورة النيابية حتى اكفهر جو الصفاء الذي ساد مصر من قبل، وأخذت الأحداث تتوالى على البلاد… فكأن انفضاض المجلس كان نذيرًا بالانتكاس والرجعية… ولقد كان محتملًا لو بقي المجلس منعقدًا أن يعالج هذه الأحداث بالحكمة والروية، ولكن شاءت الأقدار والملابسات أن يضطرب الجو بعد انتهاء الدورة البرلمانية، فاحتملت وزارة البارودي وحدها تبعة معالجة الموقف، وواجهت مشكلات عدة داخلية وخارجية، وتفاقم الخلاف بينها وبين الخديو حتى أدى إلى استقالتها.
وأول الأحداث الداخلية التي انتابت البلاد بعد انفضاض مجلس النواب، هو مؤامرة لضباط الشراكسة… وهي حادثة خطيرة كان لها تأثير كبير في تطور الثورة العرابيَّة بل في مصير البلاد قاطبةً… وخلاصتها أنه في شهر أبريل سنة ١٨٨٢م، علم عرابي من طلبة باشا عصمت، قائد اللواء الأول أن بعض الضباط الشراكسة يأتمرون به، ويدبرون الأمر لقتله وقتل رؤساء الضباط الوطنيين والوزراء، وأن بعض من صدر إليهم الأمر منهم بالسفر إلى السودان كانوا قوام هذه المؤامرة، فعرض عرابي الأمر على الوزراء ثم على الخديو، فتقرر تحقيق هذه المؤامرة في مجلس حربي، وتألَّف هذا المجلس برياسة الفريق راشد باشا حسني.
فأخذ المجلس في التحقيق، وسأل من عُرفت أسماؤهم من المتآمرين… فدلوا على ثمانية عشر ضابطًا مشتركين معهم في المؤامرة، فأمر المجلس بالقبض عليهم وأخذ في استجوابهم، فدل هؤلاء أيضًا على غيرهم، فقُبض عليهم… حتى بلغ عدد المعتقَلين نحو أربعين ضابطًا، وفي مقدمتهم عثمان باشا رفقي وزير الحربية السابق وخصم عرابي اللدود، وقد سيق المقبوض عليهم إلى سكنة قصر النيل وعوملوا بالغلظة والشدة.
واختلفت الآراء في حقيقة هذه المؤامرة، فقال بعض الرواة: إنها مؤامرة حقيقية، كان القصد منها اغتيال رؤساء الحزب العسكري وفي مقدمتهم عرابي، وقال البعض الآخر: إنها مؤامرة خيالية قوامها فزع عرابي وخوفه على حياته، فصدَّق الرواية التي خلقتها أوهام المفسدين وأراد الانتقام من خصومه، وقد كان عرابي لا يفتأ تساوره الهواجس من ناحية خصومه.
وفي ٣٠ أبريل سنة ١٨٨٢م، أصدر المجلس حكمه في القضية، وهو يقضي على الأربعين ضابطًا المتهمين بالنفي المؤبد إلى أقاصي السودان، مع تجريدهم من الرتب العسكرية والامتيازات والنياشين، وأن يكونوا متفرقين في الجهات التي يُنفون إليها، ولا تكون هذه الجهات في مركز الحكمدارية «الخرطوم» ولا المديريات ولا السواحل، وصدر هذا الحكم أيضًا على اثنين من غير العسكريين مع تجريدهما من الحقوق المدنية، وأحيلت محاكمة خمسة غيرهما إلى المحاكم الأهلية، وحُكم على راتب باشا الذي عُدَّ محركًا للمؤامرة بالتجريد من الرتب العسكرية والامتيازات والنياشين وحرمانه العودة إلى مصر، وإذا عاد يقضى عليه بالنفي على النحو السابق.
رُفع الحكم إلى الخديو للتصديق عليه… فرآه بالغًا منتهى القسوة، فامتنع عن إقراره، ووقع من أجل ذلك خلاف كبير بينه وبين الوزارة، إذ أصرَّ على تعديل الحكم، وتمسكت الوزارة بإقراره، وانتهى الأمر بأن أصدر الخديو «إرادة سنية» في ٩ مايو سنة ١٨٨٢م، بتعديل الحكم إلى النفي من القُطر المصري والترخيص للمحكوم عليه بالتوجه أنى شاءوا خارج القطر مع عدم حرمانهم رتبهم ونياشينهم، وقد وقَّع الخديو هذه الإرادة بحضور السير إدوار مالت والمسيو سنكفكس قنصلي بريطانيا وفرنسا.
على أن هذا التعديل لم يحسم الخلاف بين الخديو والوزراء، فقد ذهب البارودي إلى الخديو عقب توقيعه أمر التعديل، ولامه في لهجة شديدة لنزوله على إرادة قناصل الدول، وإهماله رأي الوزراء، وطلب إليه إضافة عقوبة التجريد من الرتب العسكرية إلى أمر التعديل… فاجتمع القناصل ثانيةً لدى الخديو عقب هذه المقابلة، وانتهى الاجتماع بإصرار الخديو على «الإرادة السنية» التي أصدرها…
فهاج ذلك سخط الوزراء، واجتمعوا يوم ١٠ مايو اجتماعًا طويلًا دام ثماني ساعات انتهوا فيه إلى وجوب انعقاد مجلس النواب للنظر في هذا الخلاف —وكانت قد فُضت دورته— وبدا على اجتماعهم روح المعارضة الشديدة للخديو، فأنكروا عليه حق العفو… وصرَّح الخديوي من ناحيته أنه لا يطيق استمرار هذه الحال؛ لأنه يراد المساس بامتيازاته، ولما طال اجتماع الوزراء قلق قناصل الدول وأوجسوا خيفة من تفاقم الخلاف، وجاءوا أثناء الاجتماع، وسألوا عمَّا إذا كان ثمة خطر يتهدد حياة الرعايا الأوروبيين، فأجيبوا بألا شيء يتهددهم البتة، وأبلغهم وزير الخارجية «مصطفى باشا فهمي» أنه بإزاء استحالة الاتفاق مع الخديو… ولأن رئيس الوزارة لا يمكن أن يستقيل في هذا الظرف، فإن المجلس قرر دعوة مجلس النواب إلى الانعقاد؛ لينظر في الخلاف القائم بين الخديو والوزراء.
وكان لهذا القرار خطورته؛ لأن عرض الخلاف بين الخديو والوزارة على مجلس النواب مع إصرار الخديو على موقفه، معناه التهديد بخلعه… وهذا ما كان عرابي وصحبه يذكرونه في أحاديثهم.
ولما كانت الدعوة إلى اجتماع مجلس النواب يجب أن تصدر عن الخديو… فقد أوفد الوزراء حسين باشا الدره مللي وكيل الداخلية إلى الخديو لإبلاغه القرار، ولكن الخديو رفض عقد المجلس، فدعت الوزارة النواب إلى الاجتماع بواسطة المديرين، وهذا لا يُعد اجتماعًا قانونيًّا طبقًا لأحكام الدستور «اللائحة الأساسية».
ولقد لبَّى أكثر النواب الدعوة، فجاءوا القاهرة… وتعدَّدت اجتماعاتهم الخاصة، وكان الوزراء لا يفتئون يعقدون مجلسهم لتقرير خطتهم تجاه الخلاف المتفاقم بينهم وبين الخديو.
وفي ظهر يوم ١٢ مايو سنة ١٨٨٢م، اجتمعوا في دار البارودي ومعهم بعض رؤساء الجيش… ثم جاءهم محمد سلطان باشا رئيس مجلس النواب، يصحبه عبد السلام بك المويلحي أحد النواب البارزين، ثم جاءهم بعض النواب، وتحدَّثوا في أمر الخلاف وتعددت الاجتماعات من النواب والوزراء، وكان فريق من النواب يميل إلى حسم الخلاف بالحسنى، إذ رأوا أن استمرار الشقاق يهدد البلاد بأعظم الأخطار…
ولم يوافق النواب عامة على عقد المجلس بصفة رسمية، لعدم مشروعية الاجتماع غير العادي إلَّا بأمر من الخديو، كما تقضي بذلك المادة ٩ من الدستور… وتعدَّدت مع ذلك اجتماعاتهم غير الرسمية، ووقف النواب من أمر هذا الخلاف موقف الاستقلال والاعتدال، فلم يعتبروا أنفسهم آلات صماء في يد الحزب الغالب، ولم يذعنوا لإرادة المسيطرين على هذا الحزب، بل تدبَّروا الأمر بوحي من إرادتهم، فبرهنوا على استقلال يُحمدون عليه، وكانوا لخلفائهم مثلًا صالحًا في الاضطلاع بأعباء النيابة، وتقدير الأمانة التي في عهدتهم.
وقد سُوي الخلاف مؤقتًا بين الوزارة والخديو، ببقاء الوزارة في مركزها مع تعديل حكم المجلس العسكري طبقًا لما ارتآه الخديو.
وكان يجمُل بعرابي وصحبه أن يقبلوا هذا التعديل من بادئ الأمر بغير حاجة إلى إيجاد هذه الأزمة… وكان الأنفع للبلاد ما داموا قد قبلوا التعديل في النهاية ألَّا يثيروا من أجله حربًا بينهم وبين الخديو، في وقت كانت الأخطار تكتنف مصر فيه وتتهدد استقلالها، ولم يكن الخلاف الذي شجر بينهم وبين الخديو في هذه الحادثة مما يستوجب عقد مجلس النواب؛ لأن عقد المجلس بصفة مستعجلة، وبغير الأوضاع القانونية، معناه إعلان الثورة على الخديو، ولم يكن بقي من أوجه الخلاف بعد أن اتفقت وجهة نظر الفريقين على تعديل الحكم، سوى تجريد الضباط المحكوم عليهم من الرتب العسكرية أو عدم تجريدهم… والمجالس النيابية لا تُعقد بصفة غير عادية من أجل خلاف صغير كهذا.
ومما يُؤخذ على الزعماء أنهم خلال تلك الأزمة قد جاهروا في اجتماعاتهم برغبتهم في خلع الخديو، وتعيين الأمير حليم باشا مكانه، ولم يستمعوا إلى نصائح المعتدلين الذين حذَّروهم عواقب هذا الطيش… ولو كان على رأس الوزارة رجل أكثر حكمة وأبعد نظرًا في الأمور من البارودي، لمَا استفحل الخلاف بينها وبين الخديو إلى هذا الحد، وهذا ما دعانا إلى الاعتقاد بأن سقوط وزارة شريف باشا لم يكن من مصلحة البلاد في شيء، وأنه بداية المرحلة الثانية للثورة العرابيَّة، مرحلة الخطل والشطط.
|
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: ثورة عرابي في مرحلتها الثانية الإثنين 08 يوليو 2024, 2:27 am | |
| (٤) حضور الأسطولين الإنجليزي والفرنسي استفاضت الأنباء في غضون الخلاف بين الوزارة والخديو عن اعتزام إنجلترا وفرنسا إرسال أسطوليهما إلى الإسكندرية، وقد تحقَّقت هذه الأنباء… فقرَّرت الدولتان على أثر ما بلغهما من اشتداد الخلاف بين الخديو والوزارة، ودعوة مجلس النواب إلى الاجتماع بدون أمره، إرسال أسطوليهما إلى مصر، إذ عدتا هذه الحالة حالة ثورة تستدعي التدخل، وأفضى اللورد «جرانفيل» وزير خارجية إنجلترا بهذه الفكرة يوم ١٢ مايو سنة ١٨٨٢م، إلى المسيو «تيسو» سفير فرنسا في لندن، قائلًا إن الحاجة ماسة إلى القيام بمظاهرة بحرية في مياه الإسكندرية، وقد صادفت هذه الفكرة قبولًا من الحكومة الفرنسية، وسوغت الدولتان هذا العمل بأن الغرض منه حماية رعاياهما من الأخطار التي يُستهدفون لها، ولم يكن ثمة خطر ولا خوف من هذه الناحية، وإنما هي حجة مصطنعة ووسيلة باطلة تستر الغرض الحقيقي، وهو خلق الذرائع للتدخل المسلح في شئون مصر.
وتلك كانت المظاهرة البحرية الثانية التي قامت بها الدولتان خلال الحوادث العرابيَّة، والأولى كانت في شهر أكتوبر سنة ١٨٨١ لمناسبة حضور الوفد العثماني الأول كما تقدَّم بيانه، والثانية كانت أشد خطرًا من الأولى، إذ إنها لم تكن مظاهرة فحسب، بل كانت مقدمة لضرب الإسكندرية وللاحتلال البريطاني.
اتفقت الدولتان على أن ترسل كلٌّ منهما ست بوارج إلى المياه المصرية، وجاءت الأنباء بأن الأسطولين على أهبة الحضور، فقوبل الخبر في مصر بالقلق والانزعاج.
كانت هذه الأنباء جديرة بتحذير العرابيين والخديو عواقب الخلاف بينهما؛ لأن مجيء الأسطولين الإنجليزي والفرنسي كان نذيرًا بالتدخل المسلح في شئون مصر… ولكن لم يعتبر الفريقان بهذا النذير واستمر كلٌّ منهما يكيد للآخر، وهكذا تغلبت الشهوات الشخصية ونزوات الرءوس على مصالح الوطن العليا في أشد الساعات خطرًا.
أُعلن زوال الخلاف ظاهرًا يوم الإثنين ١٥ مايو سنة ١٨٨٢م، في الوقت الذي كانت البوارج الإنجليزية والفرنسية تتأهب لتمخر العباب قاصدة الإسكندرية.
بدأت البوارج تصل إلى مياه الإسكندرية يوم الجمعة ١٩ مايو سنة ١٨٨٢م، ففي أصيل ذلك اليوم جاءت مدرعة إنجليزية، وفي صباح السبت ٢٠ منه دخلتها سفينتان أخريان، وثلاث سفن فرنسية، وكانت السفن الإنجليزية بقيادة الأميرال السير بوشان سيمور، والفرنسية بقيادة الأميرال كونراد، ولما كان مجيئهما «بصفة ودية» فقد أُطلقت المدافع تحية لقدومهما!
وبعد ظهر يوم السبت نزل الأميرالان إلى البر مرتدين ملابسهما الرسمية، وزارا محافظ الإسكندرية، فردَّ لهما الزيارة تبعًا للتقاليد المعتادة…
وفي ٢١ مايو جاءت الإسكندرية أيضًا سفينتان حربيتان يونانيتان «تأمَّل!» وبارجة إنجليزية أخرى قادمة من مالطة، وفي يوم الإثنين جاءت بارجة إنجليزية وتوجَّهت إلى بورسعيد، وفي أوائل يونيو وصلت ثلاث بوارج إنجليزية أخرى إلى الإسكندرية، كما جاءت بارجة فرنسية وجاءت أيضًا بارجة أمريكية.
(٤-١) مطالب إنجلترا وفرنسا لم يكد يحضر الأسطولان الإنجليزي والفرنسي إلى مياه الإسكندرية، حتى أخذت الدولتان تخاطبان مصر بلغة التهديد والبلاغات الرسمية… فبدأتا بطلب استقالة وزارة البارودي وخروج عرابي من القطر المصري، وأخذ المسيو سنكفكس قنصل فرنسا العام على عاتقه أن يسعى أول الأمر إلى هذا الغرض «بطريقة ودية» فاتصل بزعماء العرابيين بواسطة سلطان باشا؛ ليحملهم على قبول هذه المطالب من غير حاجة إلى بلاغ نهائي، فعرض عليهم سلطان باشا هذه المطالب كأنها مقترحات من عنده، فرفضوا قبولها، ومن ذلك الحين فقد سلطان باشا ثقة العرابيين، وبدأ انحيازه إلى صف الخديو.
ولو أن عرابي قبِل هذه المقترحات وغادر البلاد لكان ذلك تضحية منه في سبيل مفاداتها من التدخل الأجنبي المسلح، ولتركها على الأقل في ظروف أسعد حالًا، وأهون من رحيله عنها بعد هزيمة التل الكبير.
وفي يوم الخميس ٢٥ مايو سنة ١٨٨٢م، جاءت تعليمات الحكومتين إلى قنصليهما… ومضمونها تقديم البلاغ النهائي الذي أعدتاه إلى الوزارة المصرية، وانتظار الجواب منها، وبعد ظهر ذلك اليوم قدَّم القنصلان إلى البارودي بلاغ الدولتين في شكل مذكرة «نوتة» طلبا فيها استقالة الوزارة، وإبعاد عرابي باشا عن القُطر المصري مؤقتًا مع حفظ رتبه ومرتباته ونياشينه، وإقامة عبد العال حلمي باشا وعلي فهمي باشا الديب في الأرياف، بجهات لا يخرجان منها مع حفظ رتبهما ومرتباتهما ونياشينهما.
رد الوزارة اجتمع الوزراء يوم ورود المذكرة، وقرَّروا رفض مطالب الدولتين، ويقول البارودي إنه نصح عرابي بقبولها فلم يقبل هو وإخوانه، وأيَّد هذه الرواية أحمد بك رفعت سكرتير مجلس الوزراء… إذ قال إن البارودي أفضى إليه بأنه مقتنع بقبول هذه المطالب «ولكن الجهادية لم تقتنع»، فقال له أحمد بك رفعت: «اقنعهم»، فأجابه البارودي: «لا يمكنني، فإننا متحالفون مع بعض»، وهذا يعطيك فكرة عن الحالة السياسية في ذلك الوقت العصيب، ويدلك على أن البارودي كان يأتمر بأوامر عرابي في السياسة العامة، ولو خالفت رأيه… وليس هذا ما يجب على رئيس الوزارة أن يعمله في أزمة خطيرة يرتبط بها كيان البلاد.
أمَّا الخديو فقد أعلن قبول مطالب الدولتين، فاستقالت وزارة البارودي في ٢٦ مايو سنة ١٨٨٢م، احتجاجًا على مطالب الدولتين وعلى قبول الخديو إياها، فقبِل الخديو استقالتها، وهاجت الخواطر وخاصةً بين الضباط؛ لأن قبول استقالة الوزارة معناه إقصاء عرابي باشا عن وزارة الحربية.
وبالرغم من استقالة الوزارة، فإن عرابي بقي على اتصال دائم بضباط الجيش لكي يضمن أن لا يقبل الجيش وزيرًا للحربية سواه… وهذا ظاهر من الخطاب الذي أرسله بتاريخ ٢٧ مايو سنة ١٨٨٢م، إلى أنصاره من الضباط، فقد أخبرهم فيه أنه مع استقالته من وزارة الحربية، فإنه لم يستقل من رياسة الحزب الوطني، ويطلب إليهم أن يأتمروا بأوامره وأن يحافظوا على الأمن.
ويقول عرابي في مذكراته: أنه أرسل هذه الرسالة تلغرافيًّا إلى جميع مراكز العسكرية، بعد أن قابله قناصل الدول وطلبوا إليه تأمين رعاياهم.
لم يكن من الميسور في هذه الظروف تأليف وزارة جديدة، تخالف الوزارة المستقيلة في خطتها وتنال ثقة النواب والضباط.
ففي صباح يوم السبت ٢٧ مايو سنة ١٨٨٢م؛ أي غداة استقالة الوزارة، عقد الخديو في سراي الإسماعيلية اجتماعًا كبيرًا برياسته، حضره النواب والعلماء والأعيان وأصحاب المناصب والرتب… وكان من الحاضرين شريف باشا، فكلفه الخديو تأليف وزارة جديدة، فأبى وأصرَّ على الإباء.
اجتماع خطير وفي غروب ذلك اليوم —٢٧ مايو— اجتمع النواب في دار محمد سلطان باشا رئيس مجلس النواب، ووفد عليهم كبار العلماء… فعقدوا اجتماعًا حافلًا، ثم جاءهم عرابي وهو في شدة الغضب، فأخذ يخطب فيهم متهددًا متوعدًا كل من يُناصر الخديو.
وجاء جمع من كبار الضباط، منهم عبد العال حلمي باشا وعلي فهمي باشا الديب ومحمد عبيد بك، وبصحبتهم نفر غير قليل من صغار الضباط والجند، فدخلوا مكان الاجتماع بشكل مظاهرة عسكرية، يطلبون خلع الخديو علنًا ويتهددون من يُظهر له الولاء، وقد بلغ تهور العرابيين أشد ما يكون… إذ ألقى عرابي خطبة ملأها طعنًا في الخديو وفي العائلة الخديوية، ونادى بخلعه، وختم خطبته بقوله: «من كان معنا فليقم!» فحدثت ضجة كبيرة في المكان ووقف الضباط… ولكن معظم النواب والملكيين لم يقوموا، فتهددهم الأميرالاي محمد بك عبيد بالسيف، فظلُّوا جالسين، وتبيَّن من ذلك الموقف أن النواب لا يوافقون عرابي على خلع الخديو.
ولم يكتفِ عرابي بذلك، بل هدد بمحاصرة سراي الإسماعيلية التي كان الخديو مقيمًا بها، وأمر بإحضار آلاي خليل بك كامل لهذا الغرض، وانتهى الاجتماع في هرج ومرج دون أن يظفر بضم النواب إلى صفِّه، ولما رأى هو وطلبة ويعقوب سامي أن النواب لا يوافقونهم على إعلان خلع الخديو، اكتفوا بالإلحاح في بقاء عرابي وزيرًا للحربية، فقبِل سلطان باشا أن يقوم بهذه الوساطة لدى الخديو في ذلك… وقابل سلطان باشا الخديو في ذلك اليوم بسراي الإسماعيلية، وتحدَّث معه مليًّا في شأن الخلاف وإيجاد طريقة لتسويته، ثم اجتمع بدار سلطان باشا جمع من النواب والعلماء وضباط الجيش، وانتهوا إلى الاتفاق على مقابلة الخديو، ورجائه إبقاء عرابي باشا وزيرًا للحربية، لكي لا يضطرب حبل النظام، فذهب وفد من النواب مؤلف من سلطان باشا وحسين باشا الشريعي، وسليمان باشا أباظة إلى سراي الإسماعيلية، وقابلوا الخديو وعرضوا عليه رغبتهم في بقاء عرابي «ناظرًا للجهادية»، وبعد إصراره على رفض طلبهم عاد فقبِل رجاهم، وأصدر أمرًا إلى عرابي بإعادته إلى وزارة الحربية هذا نصه:
ولو أنكم استعفيتم ضمن هيئة النظار التي استعفت، ولكن مراعاة لحفظ الراحة والأمنية، استصوبنا بقاءكم على نظارة الجهادية والبحرية، وأصدرنا أمرنا هذا لكم لتعلموه وتبادروا بإجراء ما فيه، انتظام أحوال العسكرية بالطريقة الكاملة لحفظ الأمنية العمومية على الوجه المرغوب كما هو مقتضى إرادتنا.
عاد إذن عرابي إلى تقلُّد وزارة الحربية، ورياسة الجيش والسيطرة على الحكومة، وظلَّت النفوس قلقة تترقب ما تتمخض عنه الحوادث، وبقي عرابي وصحبه نافذي الكلمة في شئون الحكومة كافة. |
|