الفصل التاسع: سُمَيَّة في منزل سكينة

فلنترك حسنًا قاصدًا إلى مكة مع بلال، ولنعد إلى المدينة لنرى ما كان من أمر سُمَيَّة بعد سفره، فقد تركناها عائدة إلى بيت سكينة ومعها عبد الله خادم حسن يسير في خدمتها.
فلمَّا وصلا إلى باب البيت قالت له سُمَيَّة: «قد وصلت إلى مأمني فانصرف».
وكانت قد استأنست به لأنه ثقفي مثل أبيها، فلمَّا ودَّعَهَا قالت له: «قد علمتَ يا عبد الله منزلة حسن مني فارعه وكان صادقًا في خدمته».
فقال: «إني عبدك وعبده يا مولاتي، وإني أفديكما بروحي».
فاطمأنت سُمَيَّة وأشارت إليه برأسها إشارة الوداع، فتحوَّل مُسرعًا يلتمسُ باب المدينة ليلحق بسيده.
أمَّا سُمَيَّة فإنها أقبلت على بيت سكينة حوالي العشاء، فتظاهرت بأنها كانت في بعض جوانب المنزل، وسارت إلى مجلسها، فرحَّبت بها وسألتها عن سبب تخلفها.
فقالت: «كنت مشتغلة في بعض الغرف هنا».
فقالت ليلى: «قد بحثنا عنكِ فلم نجدكِ، وأخشى أن يكون أباكِ استبطأ عودتكِ».
قالت: «ربما استبطأني، ولكنني هنا في مأمن من غضبه، ومتى استبطأني بعث في أثري».
فلمَّا سمعتها سكينة تقول ذلك أمسكت بيدها وقرَّبتها إليها حتى أقعدتها معها على الوسادة وضمَّتها وقبَّلتها وقالت لها: «أهلًا بكِ يا سُمَيَّة، إنكِ من أعز الأحباءِ».
وكانت سكينة تستلطف سُمَيَّة وتحبُّها.
فقالت سُمَيَّة: «لا حرمنا اللهُ من محبتكِ يا بنت سبط الرسول، إن إقامتك بهذه المدينة بركة وسعادة لنا جميعًا».
ثم جاء الخدم يدعون سكينة إلى المائدة، وقد مُدَّتْ الأسمطة فقُمن للعشاء.
وأمَّا سُمَيَّة فعادت إلى هواجسها واستغربت سُكُوتَ أبيها عنها إلى ذلك الحين، ثم خطر لها أنه غائب عن البيت ويحسبها فيه.
فرأت أن تستأذن في العودة إلى البيت فأذنت لها، وبعثت معها بعض الجواري ليوصلنها إليه.
ولَمَّا وصلت سُمَيَّة إلى باب البيت قرعته بطريقة يعرفها الخدم، فأسرعت جارية إلى فتحه واستقبلت سيدتها وهي تقول: «لقد أبطأتِ علينا الليلة وشغلتِ بالنا».
وكانت هذه الجارية حبشية الأصل اسمها أمَة اللهِ، تُحِبُّ سُمَيَّة كثيرًا، كما أن سُمَيَّة كانت تستأنس بها وتُكْرِمُهَا، فلمَّا أبطأ قدومها في تلك الليلة شغل بال الجارية ولم تستطع رقادًا، حتى طرقت سُمَيَّة الباب ففتحت لها، وترامت عليها وقبَّلتها ورحبت بها، فقالت لها سُمَيَّة: «ألم يأتِ أبي؟»
قالت: «جاء نحو الغروب ودخل الحجرة المعلومة وأقفل بابها، وما زال هناك ولا يدري أحَدٌ ماذا يعمل؛ لأنه أنار السراج وحمله بيده إلى الغرفة على عادته».
فدخلت سُمَيَّة غرفتها وخفّفت ثيابها لتوهم أباها إذا رآها أنها في البيت من مدة طويلة.
ولم تستغرب مُكْثَهُ في تلك الحجرة طويلًا؛ لأنه كثيرًا ما كان يفعل ذلك وأهل البيت يستغربون تكتمه ولا يعرفون ما في تلك المحفة المخزونة هناك.
ولولا خوفهم من غضبه واستبداده لتوصَّلُوا إلى فتحها ولكنهم كانوا يخافون سطوته وشدة وطأته.
ثم رأت سُمَيَّة أن تلجأ إلى فراشها قبل خروج أبيها من مخبئه مخافة أن يراها ويسألها عن سبب غيابها وربما أساءَ الظنَّ بها، فجلست على فراشها، ودَعَتْ أمَة اللهِ لتُمَشِّطَ لها شعرها قبل النوم فجثت الجارية خلفها وجعلت تُسَرِّحُ الشَّعر وتمشطه ووجه سُمَيَّة إلى باحة الدار، وكانت سُمَيَّة ترتاح إلى مُكاشفة أمَةَ اللهِ ببعض شئونها الخاصة فقالت لها: «هل شَغَلَ بالكم غيابي الليلة؟»
قالت: «نعم يا مولاتي؛ لأنكِ قلّمَا تُطيلين الغياب، ولا سيما أن عبد الله جاء للسؤال عنك».
قالت: «وأي عبد الله؟»
قالت: «الرجل الذي جاء صباح اليوم».
فَعَلِمَتْ سُمَيَّة أنه عبد الله خادم حسن، فبُغِتَتْ لعلمها أنه فارقها ليلحق بسيده على عجل فأدارت وجهها إلى الجارية وقالت لها: «متى جاء؟»
قالت: «جاء قبل وصولك بقليل».
قالت: «وهل جاء وحده؟»
قالت: «لم أرَ معه أحدًا».
ففكَّرتْ سُمَيَّة في الأمر، فوجدت أنه جاء بعد أن فارقها بساعة أو ساعتين، فتبادر إلى ذهنها أنه لم يأتِ إلا لغرض أراده حسن منها، أو لشرٍّ أصابه، فتوالت عليها الهواجس واستغرقت في التفكير، وعادت الجارية إلى تمشيطها وهي في غفلة عن كل ذلك.
وبينما سُمَيَّة غارقة في لجج الهموم لاحت منها الْتفاتة إلى باحة الدار فرأت فيها نورًا يتحرَّك وسمعت صوت بابٍ يُقفل، فعلمت أن أباها خرج من الحجرة السِّرِّيَّة.
ثم اختفى النور وسمعت تصفيقًا فعلمت أن أباها يدعو الخادم، فخافت أن يكون عازمًا على استدعائها، فتظاهرت بالميل إلى الرقاد وقالت للجارية: «لم يعد لي طاقة بالجلوس فقد أخذ مني النعاس مأخذًا عظيمًا فاتركيني، وإذا سأل عني أبي فأخبريه بأني نائمة منذ حين».
ففهمت الجارية غرضها فضحكت وقالت لها: «لا تخافي».
وتَمَدَّدَتْ سُمَيَّة في فراشها وتظاهرت بأنها استغرقت في النوم، وبعد قليل سمعت الخادم يسأل الجارية عنها، وسمعتها تذكر له أنها نائمة فانصرف.
وأصبحت في اليوم التالي وهي ما زالت في حاجة إلى النوم، فظلَّت في الفراش حتى الضُّحَى، ثم جاءتها جاريتها بماء للغسل وبطعام، فسألتها عن أبيها فقالت: «أفقتُ قبيل الصُّبح على قرع الباب، ثم علمتُ أن بعض الناس جاءوا يطلبون سيدي على عجل، فخرج وهو لم يتم لف عمامته».
فأطرقت سُمَيَّة وفكَّرَتْ في الأمر، فحدَّثتها نفسها بأن لهذه الدعوة علاقة بخطيبها.
ولَمَّا تذكَّرت سُوءَ قصد أبيها وما سمعته من قدوم عبد الله إليها أمس، تبادر إلى ذهنها أن شرًّا عظيمًا أصاب حسنًا —وذلك شأن المحب البعيد عن حبيبه؛ فإنه لا يكاد يطمئن قلبه عليه، وإذا سمع أحدًا يذكره تبادر إلى ذهنه أنه في خطر، وقد يفسر الإشارات والرموز والحوادث بما يؤكد ذلك— فكيف بسُمَيَّة وهي تعلم ما ينويه أبوها لخطيبها؟!
فلم تتناول من الطعام إلا قليلًا، ولبثت جالسة تفكر في سبب خروج أبيها وتخاف أن يكون فيه ما يسوء خطيبها.
•••
قضت سُمَيَّة أكثر النهار في قلق واضطراب، تارة تمشي في الدار، وآونة تخرج إلى البستان، وهي تتوقع أن ترى عبد الله آتيًا أو تسمع خبرًا.
ثم سمعت أذان العصر فالْتفتت إلى مصدره جهة باب البيت فرأت أباها داخلًا فخفق قلبها ولبثت تنتظر ما يبدو منه، فدنا منها وابتسم وناداها إليه فتبعته وهي ما زالت في اضطراب، ولكنها تظاهرت بارتياح حتى أقبل على غرفة الجلوس فوقف بالباب ينزع نعاله وقال: «كيف قضيتِ يومكِ أمس عند سكينة؟»
قالت وهي تتبعه إلى وسادته التي تَعَوَّدَ الجلوس عليها: «قضيته مسرورة، وعدتُ وأنت في الحجرة فنمتُ ونهضتُ في هذا الصباح، فعلمتُ أنك خرجت مبكرًا فشُغِلَ بالي».
فقطع كلامها ودعاها إلى الجلوس بجانبه وعلى وجهه ابتسامة متكلفة، فلَمَّا جلست قربها منه وضمَّها وقبَّلها فأحست ببرد شفتيه واقشعر بدنها لاحتكاك شعر لحيته بذقنها وعنقها لعظم ما كانت فيه من التهيج العصبي الناتج عن القلق، وقبَّلت يده فإذا هي أبرد من شفتيه.
وتوقَّعت أن تسمع منه شيئًا بعد هذا التملّق فإذا هو يقول لها: «أظنكِ مللتِ طول المُكثِ في هذه المدينة؟»
قالت: «إذا كنت أنت في خير وسعادة فكل حالٍ تُرضيني».
فأعجبه قولها وألقى يده على كتفها وجعل يلاعب شعرها بين أنامله ثم قال: «بُورِكَ فيكِ من ابنةٍ مُطيعةٍ، إن مثل هذا القول يجبر قلب الوالد، هذا هو البِرُّ الذي كنت أرجوه منكِ.
فالحمد لله الذي أذهب ما كان يُخامر ذهنكِ، وعدتِ إلى ما هو جدير بأمثالكِ من النزول على حكم آبائهنَّ».
فأحسَّت سُمَيَّة من هذا التعريض كأن صخرة وقعت على رأسها، وأسرع خفقان قلبها، ولو انتبه أبوها وهي مستلقية على صدره لسمع دقات قلبها ولأدرك اضطرابها، أو لعله أدرك وتجاهل خبثًا ورياءً.
ثم قال ولم يترك لها مجالًا للتفكير: «سنذهب غدًا لترويح النفس في العقيق فإنه منتزه جميل، فهل يَسُرُّكِ أن نأخذ طعامنا وشرابنا ونقضي يومنا هناك؟»
فعجبت سُمَيَّة من عناية أبيها بأمر نزهتها والترويح عنها، ولا سيما أنه كان لا يُخاطبها بالحُسنى أو يُلاطفها إلا إذا كان له مأرب من وراء ذلك.
فأصبحت لا تسمع منه مثل هذه الملاطفة إلا توقَّعت شرًّا.
ولكنها لم تكن تستطيع غير مُدَارَاتِهِ فقالت: «أشكرك يا أبي على هذه العناية».
فقطع كلامها وقال: «لا شكر على واجب، فإني أبوكِ، وسأخبر الخدم ليعدوا لنا خيامًا وطعامًا ويسيروا أمامنا إلى العقيق قبل الفجر، ثم نركب أنا وأنت عند طلوع الشَّمس ونقضي يومنا في العقيق، فقد مللنا المدينة وأسواقها ونخيلها».
قال ذلك بنغمة الأب الحنون، فلم يسع سُمَيَّة إلا مُجَارَاتِهِ، على أنها كانت أشد حاجة منه إلى النزهة، وخطر لها أنها ربما استطاعت في أثناء مرورها بالشوارع والطرق أن ترى عبد الله أو تسمع خبرًا عنه أو عن حسن، فأثنت على أبيها وقبَّلت يده، فقبَّلها ثم صفق فجاء عبد أسود كان قد فَوَّضَ إليه إدارة شئون منزله وجعله رقيبًا على أهل بيته، وكان ذلك العبد قبيح الخِلْقَةِ عظيم الشَّفة السُّفلَى أفطس الأنف يكاد الشَّررُ يتطاير من عينيه، ويندُرُ أن يبتسم فإذا فعل فإنه يُكَشِّرُ عن أنيابه.
فلمَّا وقف بين يديه قال له: «يا قنبر، إننا عازمون على الخروج في صباح الغد إلى العقيق فَأَعِدَّ ما نحتاج إليه من الخيام والأطعمة، وهيئ الهودج لسُمَيَّة، ثم اسبقنا مع الخدم عند الفجر، وسنلحق بكم بعد ذلك».
قال: «الأمر لمولاي». وخرج.
ثم نهض عرفجة ودخل الحجرة السرية، واتجهت سُمَيَّة إلى غرفتها وطلبت جاريتها أمَة اللهِ أن تتهيَّأ لمُرافقتها في صباح الغد.
•••
باتت سُمَيَّة ليلتها والأحلام المُزعجة تنتابها، وتُرِيهَا حسنًا في خطر، ورأت مناظر مخيفة أخرى، فنهضت وهي في اضطراب شديد.
فإذا أبوها قد خرج وتهيَّأ للرحيل، وجاءتها الجارية فمشطتها وألبستها ثيابها، ثم ركبت معها الهودج، وركب أبوها بغلة، وساروا وقد أمسك بخطام الجمل أحَدُ الخدم.
وجعلت سُمَيَّة تُطِلُّ من خلال السُّتُورِ على المَارَّةِ في الطرق وتتفرَّس فيهم، فاستغربت أمَة اللهِ ذلك منها لعلمها بأدبها وحشمتها، وزاد في استغرابها شدة ما لاحظت في وجهها من القلق.
فلمَّا خرجوا من باب المدينة بالغت سُمَيَّة في التطلع نحو الطريق الذي يؤدي إلى مكة لعلها ترى أثرًا أو تستطلع خبرًا، فرأت بجانب باب المدينة خيامًا ورايات وخيولًا وجمالًا، وقد تفرَّق العبيدُ بين النخيل وحول المستنقعات يجمعون العيدان للوقود، فذُهِلَتْ ولم تفهم أمر هذا المُعسكر، ولم ترَ بُدًّا من أن تسأل أباها فأخرجت رأسها من بين السُّتُور لتبحث عنه فإذا هو قد أركض بغلته نحو المعسكر، فظنَّت أنه ذهب لاستطلاع الخبر، فأمرت الغلام أن يظل في مسيره فسار حتى بعدوا عن المعسكر وسُمَيَّة تشرف على الطرق وتتطلع إلى كل جهة والقلق بادٍ في عينيها.
وفيما هي تتطلع سمعت جعجعة جمل يتألّمُ فالتفتت فرأت جمل حسن الذي ذكرنا أمره ولم تكن قد رأته إلا في أثناء مقابلتها حسنًا في المساء، ولكن صورته انطبعت في ذهنها.
فلمَّا رأته خفق قلبُها كأنها تنسَّمت منه رائحة الحبيب، فأوقفت الهودج عنده ونظرت فرجَّحت أنه جَمَلُ حسن وجعلت تفكر في الأمر، فخُيل إليها أن حسنًا قُتِلَ وقد أخذ قاتلوه رحل الجمل وخطامه وتركوه.
فلمَّا تصوَّرت ذلك تساقطت دموعها وخفق قلبها جزعًا وإشفاقًا.
وكانت أمَة اللهِ تُلاحِظُ سيدتها ولكنها لم تجرؤ على مُخاطبتها في هذا الشَّأن إلا لَمَّا رأت دموعها تتساقط، فقالت لها بصوتها الناعم الرَّخيم: «ما بالكِ يا سيدتي تبكين، لا أراكِ اللهُ سُوءًا؟»
فلمَّا سمعت سُمَيَّة سؤال الجارية أجهشت في البكاء حتى علا صوتها، فأمسكتها أمَة اللهِ وقبَّلتْ يدها وقالت لها: «بالله كُفِّي عن البُكاء وأخبريني ما سَبَبُ ذلك فلعلي أنفعكِ في شيء».
فتنهَّدت سُمَيَّة ومسحت دموعها بِكُمِّهَا، ثم الْتفتت إلى خارج الهودج فلم تجد أباها عاد، ولا رأت أحدًا يسمعها، فقصَّت على جاريتها الحديث مختصرًا، وأطلعتها على مكنون قلبها.
فشاركتها الجارية البُكاء ثم قالت لها: «إنك لم تتحققي أن هذا الجمل جملُ حسن، وهبي أنه جمله فليس معنى هذا أنه أُصيب بسُوءٍ، ولا أحسبُ هذا الجمل إلا لبعض أهل هذا المعسكر انكسر فتركوه، ومهما يكن من شيءٍ فليس هناك ما يدعو إلى الأخذ بالظنّ والتَّوَهُّمِ».
فارتاحت سُمَيَّة لهذا التعليل، ولكنها تذكَّرت عبد الله ورجوعه إلى منزلها في تلك الليلة فقالت: «ولكن ما سبب رجوع خادمه إلينا؟»
قالت الجارية: «قد يكون جاءك برسالة من حسن فلَمَّا لم يجدكِ عاد إليه بها وسافر معه، ولولا ذلك لَرَأَيْتِهِ أمس، وقد مضى يوم ونحن الآن في ضُحَى اليوم الثاني ولم نره».
فقطعت كلامها وقالت: «أتظنينه إذا عَلِمَ بِسُوءٍ أصاب حسنًا ينقل ذلك الخبر إلي؟!»
قالت: «دعي عنكِ هذه الأفكار وتوكَّلِي على الله».
وفيما هما في الحديث سمعتا وقع حوافر البغلة، فعلمتا أن أبا سُمَيَّة قد عاد، وبعد قليل وصل إلى مُحَاذَاةِ الهودج ونادى سُمَيَّة، فأطلَّتْ عليه فقال لها: «لعلي غِبْتُ عنكِ طويلًا؟»
قالت: «نعم، وقد رأينا خيامًا وجمالًا وخيولًا فلم نفهم سبب وجودها».
فأجابها وهو يحاول إصلاح الرَّسن في رأس البغلة: «إن هذا معسكر طارق بن عمرو عامل المدينة، وقد خرج برجاله وجنده قاصدًا مكة».
قالت: «ولماذا؟»
قال: «جاء بريد الحجاج بن يوسف أمس يستقدم طارقًا ورجاله مددًا له في حصار مكة، وعَمَّا قليل يسافرون».
قال ذلك وساق بغلته متظاهرًا بأنها هي التي أسرعت من تلقاء نفسها، فانقطع الحديث.
وسُرَّتْ سُمَيَّة بانقطاعه لتعود إلى التفكير في حسن لعلها تلتمسُ تعليلًا يُرِيحُ بالها.
والمَرْءُ مَيَّالٌ إلى الْتماس مثل ذلك التعليل، والناس يتفاوتون في مقدرتهم على ذلك؛ فبعضهم إذا وقع في مصيبة هان عليه تطبيق عواطفه على تلك المُصيبة فيجعل لنفسه مخرجًا من سوء عواقبها ومنهم من يزيده قلقًا ولكنه لا يلبث وإن طال قلقه أن يتوصَّلَ إلى حَلٍّ يتوكأ عليه ريثما يرى ما يأتي به القدر.
وكانت الجارية قد رفعت أستار الهودج منذ الخروج من المدينة، فظلَّتْ سُمَيَّة تسرح نظرها فيما حولها من الهضاب والبطاح وبرك الماء وغابات النخيل، وهي كأنها لا ترى شيئًا لاستغراقها في عالم الخيال، فلم تنتبه إلا على رائحة الشَّواء، فالْتفتت فإذا هي على مقربة من ثلاث خيام: اثنتين قرب الماء وواحدة منفردة بظل نخلة كبيرة.
فنظرت فرأت نفسها على غير ماء العقيق، وكانت تعرفه، فتفرَّست فيما حولها فإذا هي ما زالت على مقربة من المدينة وخيام المعسكر ظاهرة.
وتفرَّست في الخيام فأدركت أنها خيامهم، فاستغربت ذلك ولكنها لم تُعَلِّقْ عليه أهمية؛ إذ لم يكن لها رغبة في العقيق أو غيره.
وجاء الخدمُ فأناخوا الهودج بقرب الخيمة المنفردة، فنزلت سُمَيَّة وجاريتها ودخلتا الخيمة، ثم رأت سُمَيَّة أباها واقفًا مع عبده على انفراد، وكانت تكره هذا العبد كُرْهًا شديدًا لِغِلَظِ طبعه وفظاعة خِلْقَتِهِ، فاستعاذت من شرهما بالله.