أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: رد: الصورة الثانية: الزمكان المنحني الأربعاء 26 يونيو 2024, 12:59 am | |
| ولأول مرة استخدمت المصطلحات الرياضية للهندسة التفاضلية في علم الفيزياء، وقد كانت الهندسة التفاضلية أو حساب الممتدات Tensor Calculus التي تهتم بحسابات الأسطح المنحنية يومًا ما فرعًا رياضيًّا «عديم الفائدة» وليس له أي قيمة فيزيائية، لكنه صار فجأة اللغة التي يتحدث بها الكون.
في معظم الكتب التي تتناول سيرة أينشتاين تعرض النظرية النسبية العامة في صورتها النهائية التي صارت عليها العام ١٩١٥م، كما لو كان أينشتاين قد اكتشفها دفعة واحدة بطريقة سحرية دون أن يجرب ويخطئ، لكن خلال العقد الماضي حُلِّلت بعض مفكرات أينشتاين التي عثر عليها، ومن خلال هذا التحليل تم التوصل إلى بعض الحلقات المفقودة بين عامي ١٩١٢م، و١٩١٥م، وصار من الممكن تتبع مراحل التطور التي مرت بها تلك النظرية، أحيانًا شهرًا بشهر، والتي تعتبر واحدة من أعظم النظريات في تاريخ البشر.
كان أينشتاين يهدف تحديدًا إلى تعميم فكرة المتغير المشارك للورنتز حتى يتسنى للمعادلات الفيزيائية أن تبقى على صورتها داخل إطار تحويلات لورنتز، أي أن يعمم هذه الفكرة على جميع التسارعات والتحويلات الممكنة وليس فقط على التسارعات والتحويلات القصورية، بعبارة أخرى نقول إنه كان يريد الخروج بمعادلات تظل بصيغة واحدة مهما كان المعيار المرجعي الذي تقاس مقارنة به سواء كان متسارعًا أو يتحرك بسرعة ثابتة، وكل معيار مرجعي يحتاج نظامًا إحداثيًّا لقياس الأبعاد الثلاثة للزمان والمكان.
وكان مطلب أينشتاين هو إيجاد نظرية تظل على ثباتها في أي إحداثيات زمانية أو مكانية مستخدمة لتقدير المعيار المطلق، ولقد قاده هذا إلى مبدأ المتغير المشارك الشهير الذي ينص على أن «المعادلات الفيزيائية يجب أن تكون متغيرات مشاركة بشكل عام».
(أي أنها تظل على ذات صيغتها في ظل أي تغير عشوائي للإحداثيات).
للتوضيح تخيل أنك رميت شبكة صيد على سطح مائدة، تمثل شبكة الصيد نظام الإحداثيات العشوائي، ويمثل سطح المائدة شيئًا يظل ثابتًا مهما تغير وضع شبكة الصيد؛ فمهما عوجنا الشبكة أو جعدناها فسيظل سطح المائدة كما هو.
وعلى هذا بدأ أينشتاين العام ١٩١٢م، في دراسة نظريات رايمان الهندسية بعد أن أدرك أنها الأصلح للتعبير عن الجاذبية باحثًا عن المتغيرات المشاركة ومسترشدًا بقانونها.
المدهش أنه لم يجد إلا اثنين من المتغيرات المشاركة فقط وهما كتلة المكان المنحني وانحناء المكان نفسه (الذي يسمى ﺑ «انحناء ريتشي» Ricci curvature)، ولقد كان لهذا أعظم الفائدة بأن حُدِّدت القواعد الممكنة التي لا يمكن استخدام غيرها في إقامة نظرية الجاذبية، ولهذا فقد استطاع أينشتاين أن يصوغ النظرية الصحيحة العام ١٩١٢م، بعد أشهر قليلة من دراسة مؤلفات رايمان التي تعتمد على «انحناء ريتشي».
لكنه لسبب ما تخلى عن هذه النظرية وأخذ يطارد فكرة أخرى غير صحيحة، أمَّا عن السبب في هذا فقد ظل لوقت طويل لغزًا محيرًا للمؤرخين ولم يحل إلا حديثًا بعدما عُثِرَ على الدفاتر المفقودة، في ذلك العام، بعدما بنى أينشتاين الهيكل الأساسي لنظرية الجاذبية اعتمادًا على انحناء ريتشي، وقع في خطأ كبير؛ فقد ظن أن هذه النظرية تناقض المبدأ المعروف ﺑ «مبدأ ماخ»،٨ وهذا المبدأ يقول في إحدى فرضياته إن وجود المادة والطاقة في الكون هو فقط ما يحدد مجال الجاذبية الذي يحيط بهما، أي أننا إذا حددنا أشكالًا معينة للكواكب والنجوم فسوف نستطيع أن نحدد مجالات الجاذبية المحيطة بها، بالضبط كما هو الأمر حين تلقي حصاة في بركة، فكلما كبر حجم الحصاة كبر حجم دوائر الماء التي تنتج عن هذا، لذا إذا استطعنا تحديد حجم الحصاة بالضبط فسنستطيع تحديد حجم الدوائر المائية، وبالمثل إذا استطعنا تحديد كتلة الشمس فسنجد السبيل الوحيد لتحديد مجال الجاذبية المحيط بها.
وكان هذا هو الخطأ الذي وقع فيه أينشتاين فقد اعتقد أن نظريته التي تعتمد على انحناء ريتشي تخالف مبدأ ماخ حينما تقول إن وجود المادة والطاقة ليس هو السبيل الوحيد لتحديد مجال الجاذبية المحيط بهما، لذا فقد حاول مع صديقه جروسمان أن يضعا نظرية ذات أهداف أكثر تواضعًا، نظرية توجد فيها المتغيرات المشاركة في حالة التدوير فقط (لا في حالات التسارع بشكل عام).
وبعد أن تخلى عن مبدأ المتغير المشارك فقد دليله الذي كان يهتدي به وقضى ثلاث سنوات يعتريه فيها الإحباط تائهًا وراء نظرية أينشتاين-جروسمان التي لم تكن مفيدة أو حتى منطقية، بل إنها فشلت في تطبيق معادلات نيوتن على المجالات الصغرى للجاذبية، لكن أينشتاين أصر على تجاهل غريزته الفيزيائية التي كانت تعتبر الأفضل في العالم كله.
وبينما كان أينشتاين يتلمس طريقه إلى المعادلات النهائية كان يركز على ثلاث تجارب أساسية قادرة على إثبات أفكاره المتعلقة بالمكان المنحني والجاذبية، وهي: انحناء ضوء النجوم خلال الكسوف الشمسي، والانزياح الأحمر، وحضيض عطارد.
عام ١٩١١م، وحتى قبل أن يبدأ في عمله على المكان المنحني كان أينشتاين يأمل في أن يتم إرسال بعثة علمية إلى سيبيريا خلال الكسوف الشمسي المنتظر في الحادي والعشرين من أغسطس من العام ١٩١٤م، لدراسة انحناء ضوء النجوم الذي سيحدث بفعل الشمس.
أبدى الفلكي إرفين فنلاي فرويندليخ Erwin Finlay Freundlich استعداده للقيام بهذه المهمة وكان أينشتاين واثقًا من صحة عمله حتى إنه في البداية عرض تمويل الحملة على نفقته الخاصة حيث قال: «إذا فشلت الحملة فسوف أدفع تكلفتها من مدخراتي القليلة أو على الأقل سأدفع ٢٠٠٠ مارك مبدئيًّا».٩
لكن بعد ذلك وافق أحد رجال الصناعة الأثرياء على تمويل هذه البعثة العلمية؛ ذهب فرويندليخ ومساعده إلى سيبيريا قبل موعد الكسوف بشهر، لكن أعلنت ألمانيا الحرب على روسيا، فما كان من الروس إلا أن قبضوا على العالمين وأخذوهما أسرى وصادروا معداتهما.
(لعل هذا كان من حسن حظ أينشتاين، لأن تلك التجربة لو أجريت لما اتفقت نتائجها بالطبع مع القيم التي توقعها في نظريته الخاطئة وهو ما كان سيظهره فاشلًا).
بعدها حسب أينشتاين تأثير الجاذبية على تردد شعاع الضوء، وفكر أنه إذا أُطْلِقَ صاروخ من الأرض إلى الفضاء الخارجي فسوف تعمل الجاذبية الأرضية كشبكة عازلة تشد الصاروخ مرة أخرى إلى الأرض، ومن ثم سيفقد الصاروخ الطاقة وهو يكافح لمقاومة الجاذبية، وبالمثل عندما ينبعث الضوء من الشمس فلا بد أن تعمل الجاذبية أيضًا كشبكة عازلة تشده إلى الوراء وتفقده طاقته، غير أن الضوء لن تقل سرعته جراء هذا بل سينخفض تردد موجاته أثناء كفاحه ضد الجاذبية، ولهذا فإن الضوء الذي يخرج من الشمس أصفر يكتسب حمرة مع انخفاض تردده وخروجه من نطاق الجاذبية، غير أن الانزياح الأحمر الذي تسببه الجاذبية هو تأثير في غاية الصغر، وكان أينشتاين واثقًا من أنه سوف يكون قابلًا للدراسة المعملية في وقت قريب جدًّا (لكن لم يتأتَ هذا إلا بعد أربعة عقود كاملة).
وأخيرًا عكف أينشتاين على حل معضلة قديمة جدًّا تمثلت في سبب تذبذب مدار كوكب عطارد وانحرافه شيئًا ما عن قوانين نيوتن؛ عادة ما تدور الكواكب حول الشمس في مسار ثابت يتخذ شكل قطع ناقص إلا من بعض اضطرابات في هذا المسار تتسبب فيها جاذبية الكواكب المجاورة التي تنتج عنها مسارات على شكل بتلات زهرة الربيع، لكن إذا طرحنا نسبة التداخل الذي تسببه جاذبية الكواكب الأخرى فسنجد أن مدار كوكب عطارد بالذات ينحرف بنسبة معينة عن قوانين نيوتن، يسمى هذا الانحراف بالحضيض الشمسي وكان أول من لاحظه الفلكي أربان ليفيريير Urbain Leverrier العام ١٨٥٩م، وحسب هذا الانحراف مقدرًا إياه ﺑ ٤٣٫٥ ثانية من الانحناء تحدث كل قرن ولا يمكن تفسيره من خلال قوانين نيوتن.
(ولم يكن وجود مثل تلك التناقضات في قوانين نيوتن للحركة أمرًا جديدًا؛ ففي مطلع القرن التاسع عشر فوجئ الفلكيون باكتشاف انحرافات مماثلة في مدار كوكب أورانوس ووجدوا أنفسهم أمام خيارين لا ثالث لهما؛ فإما أن يتخلوا عن قوانين نيوتن للحركة، وإما أن يفترضوا وجود كوكب آخر يجذب مدار أورانوس، لكن الفيزيائيين تنفسوا الصعداء حينما اكتشف كوكب جديد يسمى نبتون بالضبط في المكان الذي تحدده قوانين نيوتن).
غير أن عطارد ظل هو اللغز المحير الذي لم يحل، ولأن الفلكيين لم يريدوا أن ينبذوا قوانين نيوتن فقد افترضوا أن هناك كوكبًا يدور في مدار عطارد حول الشمس ويسمى «فولكان»، لكن البحث المتكرر في الليالي عن هذا الكوكب لم يسفر عن أي دليل مادي يؤكد وجوده.
أما أينشتاين فقد كان مستعدًّا لقبول أكثر الحلول راديكالية وهو أن قوانين نيوتن نفسها غير صحيحة، وفي نوفمبر/تشرين الثاني من العام ١٩١٥م، وبعدما أضاع ثلاث سنين في نظرية أينشتاين-جروسمان عاد مرة أخرى إلى نظرية انحناء ريتشي التي كان قد نبذها العام ١٩١٢م، وأدرك الخطأ الذي وقع فيه.
(كان أينشتاين قد تخلى عن نظرية انحناء ريتشي لأنها كانت تقول بأن جزءًا واحدًا من المادة قادر على توليد أكثر من مجال للجاذبية وهو ما يعارض مبدأ ماخ، لكنه بعد أن أدرك مفهوم المتغير المشارك العام توصل إلى أن مجالات الجاذبية هذه متساوية رياضيًّا وينتج عنها ذات النتيجة الفيزيائية.
ومن هذه الحقيقة وجد أينشتاين فائدة كبيرة للمتغير المشارك العام فهو لم يحصر فقط عدد النظريات الممكنة للجاذبية بل قدم أيضًا نتائج فيزيائية مختلفة عن جميع النتائج السابقة المتماثلة).١٠
وكي يستطيع الوصول إلى مبتغاه عزل أينشتاين نفسه عن العالم الخارجي مبتعدًا عن جميع المشتتات، ودخل في حالة من التركيز هي على الأرجح الأعظم في مسيرته المهنية، وأخذ يجهد نفسه بلا رحمة كي يستطيع التوصل إلى المعادلة الأخيرة ويحل لغز الحضيض الشمسي لعطارد.
تظهر دفاتره التي عثر عليها حديثًا أنه كان يفترض حلًّا ما ثم يستميت في محاولة التوفيق بينه وبين نظرية نيوتن القديمة المتعلقة بمحدودية مجالات الجاذبية.
وغني عن الذكر أن هذه كانت مهمة شاقة للغاية لأن معادلاته كانت عشر معادلات بخلاف المعادلة الوحيدة التي خرج بها نيوتن، وكلما فشل حلٌّ من حلوله جرب حلًّا آخر ليرى هل سيتوافق مع معادلة نيوتن، غير أن تلك المهمة التي هي كمهام أبطال الأساطير انتهت أخيرًا في نوفمبر/تشرين الثاني من العام ١٩١٥م، بعد أن استنزفت قواه تمامًا، وبعد حسابات معقدة ومتعبة وجد من خلال نظرية ١٩١٢م، الأولى أن الانحراف في مدار عطارد يقدر ﺑ ٤٢٫٩ ثانية من الانحناء لكل مائة العام في إطار حدود تجريبية مقبولة.
فرح أينشتاين بتلك النتائج فرحة كبيرة ممزوجة بدهشة عارمة؛ فقد كان ذلك أول دليل تجريبي على صحة نظريته وقد قال عن هذا: «في بعض الأيام التي أعقبت هذا الاكتشاف لم أكن أستطيع تمالك نفسي من الحماس فقد تحقق أجرأ حلم حلمت به».١١
ويقصد بهذا الحلم الذي راوده طيلة حياته بأن يجد معادلات نسبية للجاذبية.
لكن أكثر ما أثار حماسة أينشتاين هو أنه استطاع الخروج بنتائج مادية وتجريبية حاسمة من خلال مبدأ فيزيائي ورياضي مجرد، وهو مبدأ المتغير المشارك العام وقال عن هذا: «تخيل سعادتي عندما وجدت أن ما توقعته من مبدأ المتغير المشارك العام قد استطاع أن يفسر ظاهرة الحضيض الشمسي لعطارد».١٢
ومن ثم استطاع من خلال النظرية الجديدة أن يحسب انحناء ضوء النجوم الذي تسببه الشمس.
وبعد أن أضيف مفهوم المكان المنحني إلى نظريته صارت الإجابة النهائية هي ١٫٧ ثانية لكل انحناء أي ضعف القيمة الأولى (التي هي نحو ١ / ٢٠٠٠ من الدرجة).
رأى أينشتاين أن نظريته على قدر من البساطة والتماسك والقوة بحيث لن يستطيع أي فيزيائي أن يقاوم جمالها، حيث قال: «يصعب على أي أحد يحسن فهمها ألا يأسره سحرها، فهي نظرية لا تقارن في جمالها بأي نظرية أخرى».١٣
ولقد كان مبدأ المتغير المشارك العام قويًّا جدًّا حتى إن المعادلة النهائية التي خرج بها، وهي المعادلة التي تصف بنية الكون نفسها، لا يبلغ طولها حين كتابتها إلا بوصة واحدة.
(وإلى اليوم لا يزال الفيزيائيون يتعجبون من قدرة معادلة بهذا القصر على وصف خلق الكون وتطوره، وقد شبه الفيزيائي فيكتور فايسكوف Victor Weisskopf أولئك الفيزيائيين المتعجبين بالفلاح الذي رأى جرارًا زراعيًّا لأول مرة فأخذ يتفحصه من جميع النواحي ثم سأل مندهشًا: «ولكن أين حصانه؟»).
ولم يفسد هذا الانتصار الذي حققه أينشتاين سوى خلاف بسيط حدث بينه وبين ديفيد هيلبرت David Hilbert، الذي كان يعتقد البعض أنه أفضل رياضيي العالم، حول أيهما صاحب الفضل الأكبر في النظرية، ويعود هذا الخلاف إلى أن أينشتاين حين كان في المرحلة الأخيرة من وضع النظرية شرحها لهيلبرت في عدة محاضرات طول كل منها ساعتان ألقاها عليه في جوتنجن، وكان ما دفع أينشتاين لهذا أنه لا يزال يفتقر إلى المعرفة بنظرية رياضية معينة (وهي متطابقات بيانكيه Bianchi identities) وهذا الأمر منعه من أن يستنبط معادلاته من صيغة بسيطة تسمى «الفعل» Action.
لكن ما حدث أن هيلبرت أكمل بعدها الخطوة التي كانت تنقص أينشتاين في الحسابات ثم نشر النتيجة النهائية بنفسه سابقًا أينشتاين بستة أيام.
لم يعجب هذا أينشتاين وظن أن هيلبرت يحاول سرقة النظرية النسبية العامة منه وينسبها لنفسه، لكن هذا الخلاف انتهى بعد ذلك وعادت العلاقة طبيعية بين العالمين، غير أن أينشتاين تعلم الدرس ولم يعد يطلع الآخرين على نتائج أبحاثه.
(واليوم صار ذلك الفعل الذي قاد إلى النسبية العامة يسمى ﺑ «فعل أينشتاين-هيلبرت».
من المرجح أن هيلبرت أحس أن عليه أن يكمل آخر وأصغر جزء في النظرية لأنه كان يرى أن: «الفيزياء أهم من أن تترك للفيزيائيين» لأن الفيزيائيين غالبًا ما يكونون غير مؤهلين رياضيًّا لسبر أغوار الطبيعة، وهو الرأي الذي اعتنقه الكثير من علماء الرياضيات الآخرين مثل فيلكس كلاين Felix Klein الذي كان لا ينفك يقول ساخطًا إن أينشتاين لا يمتلك أي خلفية رياضية بل هو واقع تحت تأثير بعض الأفكار المندفعة الغريبة التي تختلط فيها الفلسفة بالفيزياء.
ولعل هذا كان الفارق الأساسي بين علماء الرياضيات وعلماء الفيزياء، وهو كذلك السبب وراء فشل أهل الرياضيات المتكرر في استنباط قوانين فيزيائية جديدة، فعلماء الرياضيات لا يتعاملون إلا مع مجالات صغيرة محدودة ومعزولة على نفسها، أما الفيزيائيون فيتعاملون مع مجموعة قليلة من المبادئ الفيزيائية التي تحتاج أنظمة رياضية كثيرة لحلها، ومع أن الرياضيات هي لغة الطبيعة فإن القوى التي تسيطر على هذه الطبيعة هي قوانين فيزيائية على غرار النظرية النسبية ونظرية الكم).
ولم تكد أخبار نظرية أينشتاين الجديدة تنتشر حتى غطى عليها اندلاع الحرب العالمية الأولى؛ فبعد أن اغتيل ولي عهد الإمبراطورية النمساوية المجرية انجرت الإمبراطوريات البريطانية والنمساوية المجرية والروسية والبروسية إلى صراع كارثي دامٍ اعتبر الأفظع في عصره وأودى بحياة عشرات الملايين من الجنود الشباب.
وبين عشية وضحاها تحول أساتذة الجامعات الألمانية الموقرين إلى قوميين متعطشين للدماء، واجتاحت حمى الحرب معظم أساتذة جامعة برلين حتى إنهم كرسوا كل أعمالهم للمجهود الحربي، بل إن ثلاثة وتسعين من أبرز أساتذة الجامعة وقعوا على بيان شهير لمساندة القيصر أسموه «بيان العالم المتحضر» داعين فيه الشعب للتجمع تحت راية القيصر، لأنه يجب على الألمان أن يهزموا «قطعان الروس وحلفاءهم المغول والزنوج الذين انفلتوا من عقالهم على الجنس الأبيض»١٤ على حد ما جاء في البيان، وبرر البيان أيضًا الاجتياح الألماني لبلجيكا وأعلن بكل فخر أن «الجيش الألماني والشعب الألماني قد صارا الآن كيانًا واحدًا يجمع سبعين مليون ألماني معًا دون أي تميز بينهم على أساس التعليم أو الطبقة الاجتماعية أو الانتماء السياسي».١٥
وكان من بين الموقعين على هذا البيان راعي أينشتاين الأساسي ماكس بلانك ومعه عدد من أبرز الشخصيات العلمية مثل فيلكس كلاين وفيلهلم رونتجن Wilhelm Roentgen (مكتشف أشعة إكس)، وفالتر نيرنست Walther Nernst وفيلهلم أوستفالد.
لكن أينشتاين المعروف بحبه للسلام رفض أن يوقع على هذا البيان، بل تضامن مع جورج نيكولاي Georg Nicolai الطبيب الخاص لإلسا الذي كان من النشطاء البارزين في مجال مناهضة الحروب حين أعد بيانًا مضادًّا، وطلب من مائة عالم أن يوقعوا عليه كي يخرجوا البلاد من حالة هستيريا الحرب التي تملكتها، لكن لم يستجب له سوى أربعة علماء كان أينشتاين واحدًا منهم.
لم يصدق أينشتاين ما يحدث وكتب قائلًا بحزن: «لم أكن أصدق أن الدول الأوربية يمكن أن تكون بهذه الحماقة، في مثل هذه المواقف فقط يدرك المرء إلى أي فصيل حيواني منحط ينتمي».١٦
وعام ١٩١٦م، تزلزلت حياة أينشتاين مرة أخرى لكن هذه المرة بفعل خبر صادم جاءه عن صديقه فريدريش أدلر القريب إلى نفسه، والرجل ذو النزعة المثالية، وهو نفسه العالم الفيزيائي الذي تخلى عن منصب أستاذ في جامعة زيوريخ لأجل أينشتاين، كان الخبر أن أدلر اغتال الكونت كارل فون ستروخ Karl von Strügkh رئيس وزراء النمسا داخل مطعم مزدحم بفيينا وهو يصرخ قائلًا: «فليسقط الطغيان، نريد السلام».
ارتاعت البلاد كلها لهذا الخبر، ولم يصدقوا أن ابن مؤسس الحركة الاشتراكية الديمقراطية في النمسا ارتكب جريمة شنيعة كهذه في حق الأمة.
وعلى الفور أودع أدلر السجن منتظرًا حكمًا محتملًا بالإعدام، وخلال الوقت الذي قضاه ينتظر محاكمته وجد سلواه في الفيزياء التي هي حبه القديم وكتب مقالًا طويلًا ينتقد فيه نظرية أينشتاين النسبية، بل إنه في خضم الاضطراب الذي أحدثه باغتياله رئيس الوزراء وما لحقه من تبعات كان ذهنه مشغولًا تمامًا بفكرة خطأ كبير اكتشفه في النسبية.
في ذلك الوقت كان فيكتور، والد فريدريش أدلر، يحاول مستميتًا أن يدافع عن ابنه بأي وسيلة كانت فلم يجد أمامه إلا أن ادعى إصابته بخلل عقلي متوارث في عائلته، وللتدليل على هذا قال فيكتور إن ابنه بلغ من الجنون مبلغًا جعله يحاول تفنيد نسبية أينشتاين التي آمن الجميع بها، وعرض أينشتاين بدوره أن يمثل أمام المحكمة بصفته شاهدًا على شخص أدلر لكن المحكمة لم تستدعه.
صدر الحكم الأولي من المحكمة يقضي بإعدام أدلر شنقًا لكنه بعد ذلك خفف إلى السجن مدى الحياة بعد التماسات تقدم بها أينشتاين وآخرون معه.
(والمفارقة أنه العام ١٩١٨م، وبعد سقوط الحكومة عقب الحرب العالمية الأولى أُطلق سراح أدلر وانتخب عضوًا في مجلس الأمة النمساوي ليصير واحدًا من أبرز رموز الحركة العمالية).
أدت الآثار النفسية للحرب ومعها المجهود الذهني الذي بذله أينشتاين في وضع النظرية النسبية العامة إلى إضعاف صحته التي كانت من الأساس غير مستقرة،١٧ إلى أن سقط العام ١٩١٧م، مريضًا يعاني آلامًا أوشك جسده معها على الانهيار، وبلغ الضعف منه أنه لم يكن قادرًا على الخروج من شقته ونقص وزنه ٥٦ رطلًا في شهرين فقط، حتى إنه ظن أنه يحتضر من السرطان، لكن الأطباء شخصوا حالته واكتشفوا أنه يعاني قرحة في المعدة، فنصحوه بالراحة التامة وتغيير نظامه الغذائي.
وخلال تلك الفترة لم تفارقه إلسا للحظة وظلت تمرضه وتعنى بغذائه حتى استرد عافيته كاملة، وكان من جراء هذا أن زاد أينشتاين قربًا منها ومن بناتها وخاصة بعدما انتقل للسكن في الشقة المجاورة لشقتهم.
وأخيرًا تم الزواج بينهما في يونيو حزيران من العام ١٩١٩م، وبعدها صارت إلسا مسئولة عن تحويله من أستاذ عازب غير عابئ بمظهره إلى زوج أنيق اجتماعي، وربما كان هذا التحول بمنزلة إعداد له للتطور القادم الذي سيطرأ على حياته، والذي من خلاله سيلعب دورًا محوريًّا على مسرح الأحداث العالمية. ============================== المصدر: Hindawi Foundation «مؤسسة هنداوي» مؤسسة غير هادفة للربح، تهدف إلى نشر المعرفة والثقافة، وغرس حب القراءة بين المتحدثين باللغة العربية. جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي :copyright: ٢٠٢٤م. ============================== |
|