| الإسلام بين العلم والمدنية | |
|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| |
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الإسلام بين العلم والمدنية الجمعة 14 يونيو 2024, 3:10 pm | |
| الإسلام بين العلم والمدنية الإسلام والمسلمون الإنسان عالم صناعي (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)
خلق اللهُ الإنسانَ عالماً صناعياً، ويَسَّرَ له سبيل العمل لنفسه، وهداه للإبداع والاختراع، وقدَّر له الرزق من صُنع يديه، بل جعله ركن وجوده ودعامة بقائه، فهو على جميع أحواله من ضيق وسِعَةٍ، وخشونة ورفاهية، وبيد وحضارة صنيعة أعماله، وأقواته من معالجة الأرض بالزراعة، أو قيامه على الماشية، وسرابيله وما يقيه الحر والبرد والوجى من عمل يديه نسجاً أو خصفاً، وأكتانه ومساكنه ليست إلا مظاهر تقديره وتفكيره، وجميع ما يتغنمه فيه من دواعي ترفه ونعيمه، إنما هي صور أعماله ومجالي أفكاره، ولو نفض يديه من العمل لنفسه ساعة من الزمان، وبسط كفيه للطبيعة، ليستجديها نفساً من حياة لشحَّت به عليه بل دفعته إلى هاوية العدم، وهو في صنعه وإبداعه محتاج إلى أستاذٍ يُثقّفه وهادٍ يُرشده، فكما يعمل لتوفير لوازم معيشته وحاجات حياته يعمل كيف يعمل وليقتدر أن يعمل، فصنعته أيضاً من صُنعه، فهو في جميع شئونه الحيوية عالم صناعي كأنه منفصل عن الطبيعة بعيد من آثارها، حاجته إليها كحاجة العامل لآلة العمل، هذا هو الإنسان في مأكله ومشربه وملبسه ومسكنه.
دعه في هذه الحالة وخذ طريقاً من النظر إلى أحواله النفسية، من الإدراك والتعقل والإخلاص والملكات والانفعالات الروحية، تجده فيها أيضاً عالماً صناعياً، شجاعته وجبنته، جزعه وصبره، كرمه وبخله، شهامته ونذالته، قسوته ولينه، عفته وشرهه، وما يشابهها من الكمالات والنقائص جميعا تابع لِمَا يُصادفه في تربيته الأولى وما يودع في نفسه من أحوال الذين نشأ فيهم وتربَّى بينهم مرامي أفكاره ومناهج تعقله ومذاهب ميله ومطامح رغباته ونزوعه إلى الأسرار الإلهية، أو ركونه إلى البحث في الخوض الطبيعية وعنايته باكتشافه الحقيقة في كل شيء، أو وقوفه عند بادئ الرأي فيه وكل ما يرتبط بالحركات الفكرية إنما هي ودائع اختزنها لديه الآباء والأمهات والأقوام والعشائر والمخالطون، أمَّا هواء المولد والمربى ونوع المزاج وشلل الدماغ وتركيب البدن وسائر الغواشي الطبيعية فلا أثر لها في الأعراض النفسية والصفات الروحانية، إلا ما يكون في الاستعداد والقابلية، على ضعف في ذلك الأثر، فإن التربية وما ينطبع في النفس من أحوال المعاشرين وأفكار المثقفين تذهب به وكأن لم يكن أودع في الطبع، نعم إن أفكارا تتجدد، ومعقولات من أخرى تتولد، وصفات تسمو، وهمما تعلو، حتى يفوق اللاحقون فيها السابقين ويظن أن هذا من تصرف الطبيعة لا من آثار الاكتساب، ولكن الحق فيه أنه ثمرة ما غرس ونتيجة ما كسب فهو مصنوع يتبع مصنوعا، فالإنسان في عقله وصفات روحه عالم صناعي.
هذا مما لا يرتاب فيه العقلاء، ولكن هل تذكر، مع هذا، إن الأعمال البدنية، إنما تصدر عن الملكات والعزائم الروحية، وإن الروح هي السلطان القاهر على البدن؟ أظنك لا تحتاج فيه إلى تذكير لأنه مما لا يغرب عن الأذهان، إنما قبل الدخول على موضوعنا أقول كلمة حق في الدين، ولا أظن منكراً يجحدها.
إن الدين وضع إلهي ومعلمه والداعي إليه البشر، تتلقاه العقول عن المبشرين والمنذرين فهو منسوب لِمَنْ لم يختصهم الله بالوحي، ومنقول عنهم بالبلاغ والدراسة والتعليم والتلقين وهو عند جميع الأمم أول ما يمتزج بالقلوب ويرسخ في الأفئدة وتصطبغ النفوس بعقائده وما يتبعها من الملكات والعادات وتتمرَّن الأبدان على ما نشأ عنه من الأعمال عظيمها وحقيرها، فله السلطة على الأفكار وما يطاوعها من العزائم والإرادات، فهو سلطان الروح ومرشدها إلى ما تدبر به بدنها، وكأنما الإنسان في نشأته لوح صقيل وأول ما يخط فيه رسم الدين، ثم ينبعث إلى سائر الأعمال بدعوته وإرشاده وما يطرأ على النفوس من غيره فإنما هو نادر شاذ حتى الصفات، بل تبقى طبعته فيه كأثر الجرح في البشرة بعد الاندمال.
وبعد فموضوع الديانة المسيحية والديانة الإسلامية بحث طويل الذيل، وإنما نأتي به على إجمال ينبئك عن تفصيل.
الديانة المسيحية إن الديانة المسيحية بُنيت على المُسالمة والمُياسرة في كل شيء، وجاءت برفع القصاص وإطراح الملك والسلطة ونبذ الدنيا وبهرجها، ووعظت بوجوب الخضوع لكل سلطان يحكم المتدينين بها، وترك أموال السلاطين للسلاطين، والابتعاد عن المنازعات الشخصية والجنسية بل والدينية، ومن وصايا الإنجيل: «مَنْ ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر».
ومن أخباره أن الملوك إنما ولايتهم على الأجساد، وهي فانية، والولاية الحقيقية الباقية على الأرواح وهي لله وحده.
فمَنْ يقف على مباني هذه الديانة ويلاحظ ما قلنا من أن الدين صاحب الشوكة العظمى على الأفكار مع ملاحظة أن لكل خيال أثرا في الإرادة يتبعه حركة في البدن على حسبه، يعجب كل العجب من أطوار الآخذين بهذا الدين السلمي المنتسبين في عقائدهم إليه، فهم يتسابقون في المفاخرة والمباهاة بزينة هذه الحياة ورفه العيش فيها، ولا يقفون عند حد في استيفاء لذاتها، ويسارعون في افتتاح الممالك والتغلب على الأقطار الشائعة ويخترعون كل يوم فنا جديدا من فنون الحرب، ويبدعون في اختراع الآلات الحربية القاتلة، ويستعملها بعضهم في بعض، ويصولون بها على غيرهم، ويبالغون في ترتيب الجيوش وتدبير سوقها في ميادين القتال، ويصرفون عقولهم في أحكام نظامها، حتى وصلوا غاية صار بها الفن العسكري من أوسع الفنون وأصعبها، وإن أصول دينهم صارفة لعقولهم عن العناية بحفظ أملاكهم فضلا عن الالتفات إلى طلب غيرها.
الديانة الإسلامية أمَّا الديانة الإسلامية فقد وضع أساسها على طلب الغلبة والشوكة والافتتاح والعدة ورفض كل قانون يخالف شريعتها ونبذ كل سلطة لا يكون القائم بها صاحب الولاية على تنفيذ أحكامها.
فالناظر في أصول هذه الديانة ومن يقرأ سورة من كتابها المنزل، يحكم حكما لا ريبة فيه بأن المعتقدين بها لابد أن يكونوا أول ملة حربية في العالم، وأن يسبقوا جميع الملل إلى اختراع الآلات القاتلة وإتقان العلوم العسكرية والتبحر فيما يلزمها من الفنون كالطبيعة والكيمياء وجر الأثقال والهندسة وغيرها.
ومن تأمَّل في آية: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ)، أيقن أن من صبغ بهذا الدين فقد صبغ بحب الغلبة وطلب كل وسيلة إلى ما يسهل له سبيلها والسعي إليها بقدر الطاقة البشرية فضلا عن الاعتصام بالمنعة والامتناع من تغلب غيره عليه، ومن لاحظ أن الشرع الإسلامي حرم المراهنة إلا في السباقة والرماية انكشف مقدار رغبة الشارع في معرفة الفنون العسكرية والتمرن عليها، ولكن مع كل ذلك تأخذه الدهشة من أحوال المتمسكين بهذا الدين لهذه الأوقات إذ يراهم يتهاونون بالقوة ويتساهلون في طلب لوازمها وليست لهم عناية بالبراعة في فنون القتال، ولا في اختراع الآلات.
حتى فاقتهم الأمم سواهم فيما كان أول واجب عليهم، واضطروا لتقليدها فيما يحتاجون إليه من تلك الفنون والآلات، وسقط كثير منهم تحت سلطة مخالفيهم واستكانوا لها ورضخوا لأحكامها١ ومن وازن بين الديانتين حار فكره كيف اخترع مدفع الكروب والمتراليوز وغيرهما بأيدي أبناء الديانة الأولى قبل الثانية؟ وكيف وجدت بندقية مرتين في ديار الأولين قبل وجودها عند الآخرين؟ وكيف أحكمت الحصون ودرعت البواخر وأخذت مغالق البحار بسواعد أهل السلامة والسلم دون أهل الغلبة والحرب؟
لم لا يحار الحكيم وإن كان نطاسيا، لم لا يقف الخبير البصير دون استكناه الحقيقة؟ هل القرون الخالية والأحقاب الماضية لم تكن كافية لرسوخ الديانتين في نفوس المستمسكين بعراهما؟
هل نبذ كل دينه؟ هل نبذ أهل كل دين عقائد دينهم من أجيال بعيدة؟ هل اقتصر النصارى في دينهم على الأخذ بشريعة موسى واقتفاء سيرة يوشع بن نون؟ هل تخللت بعض آيات الإنجيل من حيث يدرى ولا يدرى بين الخطب والمواعظ التي تُتلى على منابر المسلمين، أو ألقي شيء منها في أماني معلميهم وناشري شريعتهم عندما يتربعون في محافل دروسهم؟ هل تبدلت سنة الله في الملتين؟ هل تحول مجرى الطبيعة فيهما؟ هل استبدت الأبدان فيهما على الأرواح أو وجد للأرواح دبير سوى الفكر والخيال أو انفلتت الأفكار من سلطة الدين، أو تغاضت النفوس عن الانتعاش بنقشته، وهو أول حاكم عليها وأقوى مؤثر فيها؟ هل تتخلف العلل عن معلولاتها؟ هل تنقطع النسب بين الأسباب ومسبباتها؟ ماذا عساه أن يرشد العقول إلى كشف المساتير وحل المعميات؟ أينسب هذا إلى اختلاف الأجناس —وكثير من أبناء الملتين يرجعون إلى أصول واحدة ويتقاربو نفي الأنساب الدانية— أينسب هذا إلى اختلاف الأقطار، وكثير من القبيلين يتشابهون في طبائع البلدان ويتجاورون في مواقع الأمكنة؟ ألم يصدر من المسلمين وهم في شبيبة دينهم أعمال بهرت الأبصار وأدهشت الألباب؟ ألم يكن منهم مثل فارس والعرب والترك الذين دوخوا الممالك واستولوا على كرسي السيادة فيها.
كان للمسلمين في الحروب الصليبية آلات نارية٢ أشباه المدافع فزع لها المسيحيون وغابوا عن معرفة أسبابها… ذكر ملكام سرجم (إنكليزي) في تاريخ الفرس أن محمودا الغزنوي٣ كان يحارب وثنيي الهند بالمدافع، وكانت هي السبب في انهزامهم بين يديه سنة (٤٠٠) من الهجرة، وما كان المسيحيون لذلك العهد يعرفون شيئاً منها.
فأي عون من الدهر أخذ بأيدي الملة المسيحية فقدمها إلى ما لم يكن في قواعد دينها؟ وأية صدمة من صدماته دفعت في صدور المسلمين فأخزتهم عن تعاطي الوسائل لما هو أول مفروض في دينهم.
مقام للحيرة وموضع للعجب، ويظن أن لابد لهذا التخالف من سبب، نعم وتفصيله يطول ولكن نجمل على ما شرطنا: إن الدين المسيحي إنما امتد ظله وعمَّت دعوته في الممالك الأوروبية من أبناء الرومانيين، وهم على عقائد وآداب وملكات وعادات ورثوها عن أديانهم السابقة وعلومهم وشرائعهم الأولى، وجاء الدين المسيحي إليهم مُسالماً لعوائدهم ومذاهب عقولهم، وداخلهم من طرق الإقناع ومسارقة الخواطر لا من مطارق البأس والقوة فكان كالطراز على مطارفهم، ولم يسلبهم ما ورثوه عن أسلافهم، ومع هذا فإن صحف الإنجيل الداعية للسلامة والسلم لم تكن كسابق العهد مما يتناوله الكافة من الناس، بل كانت مذخورة عند الرؤساء الروحانيين، ثم إن الأحبار الرومانيين٤ لما أقاموا أنفسهم في منصب التشريع وسنّوا محاربة الصليب ودعوا إليها دعوة الدين التحمت آثارها في النفوس بالعقائد الدينية وجرت منها مجرى الأصول، ولحقها على الأثر تزعزع عقائد المسيحية في أوربا، وافترقوا شيعاً وذهبوا مذاهب تنازع الدين في سلطته، وعاد وميض ما أودعه أجدادهم في جراثيم وجودهم ضراما، وتوسعوا في فنون كثيرة، وانفسح لهم مجال الفكر فيها، وكانت براعتهم في الفن العسكري واختراع آلات الحرب والدفاع مساوقة لبراعتهم في سائر الفنون.
أمَّا المسلمون فبعد أن نالوا في نشأة دينهم ما نالوا، وأخذوا عن كل كمال حربي حظاً، وضربوا في كل فخار عسكري بسهم، بل تقدموا سائر الملل في فنون المقارعة وعلوم النزال والمكافحة، ظهر فيهم أقوام بلباس الدين وأبدعوا فيه، وخلطوا بأصوله ما ليس منها، فانتشرت بينهم قواعد الجبر، وضربت في الأذهان حتى اخترقتها، وامتزجت بالنفوس حتى أمسكت بعنانها عن الأعمال، هذا إلى ما أدخله الزنادقة فيما بين القرن الثالث والرابع وما أحدثه السفسطائيون الذين أنكروا مظاهر الوجود وعدوها خيالات تبدو للنظر ولا تثبتها الحقائق، وما وضعه كذبة النقل من الأحاديث، ينسبونها إلى صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم ويثبتونها في الكتب، وفيها السُّمَّ القاتل لروح الغيرة، وأن ما يلصق منها بالعقول يوجب ضعفا في الهمم وفتورا في العزائم، وتحقيق أهل الحق وقيامهم ببيان الصحيح والباطل من كل ذلك لم يرفع تأثيره عن العامة، خصوصا بعد حصول النقص في التعليم والتقصير في إرشاد الكافة إلى أصول دينهم الحقة، ومبانيه الثابتة التي دعا إليها النبي وأصحابه، فلم تكن دراسة الدين على طريقها القويم إلا منحصرة في دوائر مخصوصة، وبين فئة ضعيفة.
لعل هذا هو العلة في وقوفهم، بل الموجب لتقهقرهم، وهو الذي نعاني من عنائه اليوم مما نسأل الله السلامة منه.
إلا أن هذه العوارض التي غشيت الدين وصرفت قلوب المسلمين عن رعايته، وإن كان حجابها كثيفا، لكن بينها وبين الاعتقادات الصحيحة التي لم يحرموها بالمرة تدافع دائم وتغالب لا ينقطع، والمنازعة بين الحق والباطل كالمدافعة بين المرض وقوة المزاج، وحيث إن الدين الحق هو أول صبغة صبغ الله بها نفوسهم ولا يزال وميض برقه يلوح في أفئدتهم بين تلك الغيوم العارضة فلابد يوما أن يسطع ضياؤها وينقشع سحاب الأغيان، ومادام القرآن يتلى بين المسلمين وهو كتابهم المنزل، وإمامهم الحق، وهو القائم عليهم يأمرهم بحماية حوزتهم، والدفاع عن ولايتهم، ومغالبة المعتدين، وطلب المنعة من كل سبيل، ولا يعين لها وجها، ولا يخصص لها طريقا، فإننا لا نرتاب في عودتهم إلى مثل نشأتهم ونهوضهم إلى مقاضاة الزمان ما سلب منهم، فيتقدمون على من سواهم في فنون الملاحمة والمنازلة والمصاولة حفظا لحقوقهم وضنا بأنفسهم عن الذل وملتهم عن الضياع وإلى الله تصير الأمور. ================================== ١ هذا وصف دقيق صحيح لما كانت عليه حالة العرب جميعا في عصر الأستاذ الإمام محمد عبده، ولكن الآية قد تبدلت في عهد الثورة الحاضر الذي عنيت فيه الجمهورية العربية المتحدة خاصة، والأمة العربية عامة باتباع الآية الكريمة: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ إلى جانب النهوض بالتصنيع، ومن أهم وأعظم مظاهره مصانع الأسلحة والذخيرة. ولكن الدعوة إلى التسليح مازالت قائمة في كل وقت لهذا الجيل، وللأجيال القادمة، ولكل أمة عربية وإسلامية في الشرق والغرب. ٢ الآلات النارية، هي التي عرفت أيام العرب باسم «النار الإغريقية» ولا يعرف بالضبط من هم مخترعوها، وهي أقرب ما تكون مما عرف أيام الحرب العالمية الثانية باسم «سلة مولوتوف» غير أن الفرق بينهما أن الأولى كانت تحمل مواد ملتهبة وتقذف بما يشبه المقلاع على العدو، فتشتعل النيران حيث تقع، أمَّا سلة مولوتوف فتحمل عدة قنابل تنفجر في عدة مواضع بدلا من موضع واحد. ٣ السلطان محمد الغزنوي من أشهر رجال التاريخ، وكان مسلماً متدينا، فتح غزنة «أفغانستان» ودخل الهند غازياً، وأدخل فيها الدين الإسلامي. ٤ لقد عارض الأباطرة الرومان قيام الدين المسيحي في بداية الأمر لأنهم كانوا يعتقدون أن في هذا إنقاصاً من سلطتهم الزمنية فضلاً عن الدينية. -------------------------------------------------------- |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الإسلام بين العلم والمدنية الجمعة 14 يونيو 2024, 3:13 pm | |
| المسألة الإسلامية بين هانوتو والإمام كتب مسيو هانوتو وزير خارجية فرنسا في جريدة «الجرنال» الباريسية مقالاً عن الإسلام والمسألة الإسلامية نشر في جريدة المُؤَيَّد، فَرَدَّ عليه الأستاذ الإمام بمقال بليغ أفحمه في كل ما جاء به.
مقال مسيو هانوتو وزير خارجية فرنسا أصبحنا اليوم إزاء الإسلام والمسألة الإسلامية. اخترق المسلمون أبناء آسيا شمال القارة الأفريقية بسرعة لا تجارى حاملين في حقائبهم بعض بقايا تمدن البيزنطيين «يونان الشرق» ثم تراموا بها على أوربا، ولكنهم وجدوا في نهاية انبعاثهم هذا مدنية يرجع أصلها إلى آسيا بل أقرب في الوصلة إلى المدنية البيزنطية مما حملوه معهم ألا وهي المدنية الآرية المسيحية، ولذلك اضطروا إلى الوقوف عند الحد الذي إليه وصلوا، وأكرهوا على الرجوع إلى أفريقية حيث ثبتت أقدامهم أحقابا متعاقبة، ولكن كان لا يزال الهلال ينتهي طرفاه من جهة مدينة (القسطنطينية) ومن جهة أخرى ببلدة (فاس) في المغرب الأقصى معانقا بذلك الغرب كله.
في تلك البقعة الأفريقية التي أصبحت مقر ملك الإسلام جاءت الدولة الفرنسية لمباغتته.
جاء القديس (لويس)١ الذي ينتمي إلى إسبانيا بوالدته ليضرم نيران القتال في مصر وتونس، وتلاه لويس الرابع عشر في تهديده بالأيالات الأفريقية الإسلامية، وعاود هذا الخاطر (نابليون الأول) فلم يوفق إلى تحقيقه الفرنسيون إلا في القرن التاسع عشر حيث أخنوا على دولة الإسلام التي كانت لا تني في متابعة الغارات على القارات الأوربية، فأصبحت في أيديهم منذ ٧٠ عاماً (١٨٣٠م)، وكذلك القطر التونسي منذ عشرين عاماً (١٩١٢م).
قد وصلت طلائع قوانا الآن إلى أصقاع من الصحراء تنتهي إليها كثبانها الرملية، فعظم اندهاش الباقين من خصومنا وتزايد ذهولهم لأنهم بعد اندفاعهم شيئاً فشيئاً في الفيافي وبطن الخبوت، وظنهم أنهم صاروا في أمنع موئل، شعروا بأنفسهم وقد حلق عليهم الأوربيون من جميع الجهات وكانت القبائل الواردة إليهم من (السنغال) أخبرتهم بأن الأوربيين امتلكوها وتقدموا منهم إلى (باقل) (وباماكوا) (وسيجوسيكورو) وتوغلوا في جهات أخرى حتى وصلوا إلى (النيجر) وبحيرة (شاد) وأن مدينة (تمبكتو) المقدسة قد سقطت في أيديهم منذ أعوام، وأكد لهم هذه الأخبار أيضاً رسلهم الذين يخترقون أفريقية الوسطى ويجوبون نواحيها بما ذكروه لهم من أن جهات (صانعا) و(تجاوندره) قد وطأتها أقدام الحاملين للعلم المثلث الألوان الذين يصعدون الأنهار لتنظيم البلاد وترقية شئونها، وإن وابوراتهم في (الأصل بابور على التحريف الشائع عند الأمم الشرقية من تسمية البواخر النهرية أو البحرية بالبابورات بدلا من البواخر) تشق عباب نهري (الكونغو) و(الشاري)٢ وتنعكس على سطحها صورة الدخان الأسود المسترسل خلفهما، عندئذ كان يطرق الأذان صوت اليائسين وقد جلسوا أمام دورهم واضعين رؤوسهم بين أفخاذهم لكثرة الغمّ والكدر، وهم يدعون الله ويكررون قولهم عن (فرنسا) يشبهونها بسرادق كبير إذا حاول الإنسان قلعه فلا يزال له السمو عليه، ويختمون كلامهم بقولهم (قد كان هذا قدراً مقدوراً).
إذن فقد صارت (فرنسا) بكل مكان في صلة مع الإسلام بل صارت في صدر الإسلام وكبده حيث فتحت أراضيه وأخضعت لسطوتها شعوبه، وقامت تجاهه مقام رؤسائه الأولين، وهي تدبر اليوم شئونه، وتجبي ضرائبه، وتحشد شبانه لخدمة الجندية، وتتخذ منهم عساكر يذبون عنها في مواقف الطعان ومواطن القتال.
تلك المملكة الفسيحة الأرجاء التي أنشأتها في باطن القارة الأفريقية هي الوارث لما أبقته الدول السابقة والأمم البائدة من (قرطاجيين) (ورومانيين) و(عرب) من آثار المدنية التي كانت القارة الأفريقية منبتا لثمارها اليانعة.
خطر الإسلام إن شعباً جمهوري المبادئ يبلغ عدد أبنائه أربعين مليونا، لا مرشد له إلا نفسه، لا عائلات ملوكية فيه تتنازعه الحكم، ولا رؤساء يتناولون الرئاسة بطريق الوراثة، هو الذي تقلّد زمام إدارة شعب آخر لا يلبث أن ينمو حتى يساوي ضعف عدده وهو ذلك الشعب المنتشر في الأرجاء الفسيحة والأصقاع المجهولة، والمتبع لتقاليد وعادات غير التي نعنو لها ونحترمها، هو الشعب الإسلامي السامي الأصل الذي يحمل إليه الشعب الآري المسيحي الجمهوري الآن ملح وروح المدنية، نعم إن ظروف وشروط هذه المعضلة نادرة، ولكن ليس على الشعب الغالب أن يحاول جهده لمعرفتها والاطلاع عليها.
ليس الإسلام فينا فقط بل هو خارج عنا أيضاً قريب منا في (مراكش) تلك البلاد الخفية الأسرار التي يشبه وجودها الحاضر مقدور الأبد في الغموض والاشتباه —قريب منا في (طرابلس الغرب) التي تتم بها المواصلات الأخيرة بين مركز الإسلام في البحر الأبيض المتوسط، وبين الطوائف الإسلامية في باطن القارة الأفريقية— قريب منا في (مصر) حيث تصادمت (الدولة البريطانية) فصادمتها إياها في الأقطار الهندية وهو موجود وشائع في (آسيا) حيث لا يزال قائما في (بيت المقدس) وناشرا أعلامه على مهد الإنسانية، وبحسب أنصاره وأشياعه في قارات الأرض القديمة بالملايين، وقد انبعثت شعبة منه في بلاد (الصين) فانتشر فيها انتشارا هائلا حتى ذهب البعض إلى القول بأن العشرين مليونا المسلمين الموجودين في الصين لا يلبثون أن يصيروا مائة مليون فيقوم الدعاء لله مقام الدعاء (لساكياموني)، وليس هذا بالأمر الغريب فإنه لا يوجد مكان على سطح المعمورة إلا واجتاز الإسلام فيه حدوده منتشراً في الآفاق، فهو الدين الوحيد الذي أمكن انتحال الناس زمراً وأفواجاً، وهو الدين الوحيد الذي تفوق شدة الميل إلى التدين به كل ميل إلى اعتناق دين سواه، ففي البقاع الأفريقية ترى المرابطين وقد أفرغوا على أبدانهم الحلل البيضاء يحملون إلى الوثنيين من العبيد العارية أجسامهم من كل شعار، قواعد الحياة ومبادئ السلوك في هذه الدنيا، كما أن أمثالهم في القارة الآسيوية ينشرون بين الشعوب الصفر الألوان قواعد الدين الإسلامي، ثم هو، أي هذا الدين، قائم الدعائم ثابت الأركان في أوربا عينها، أعني في الآستانة العليا حيث عجزت الشعوب المسيحية عن استئصال جرثومته من هذا الركن المنيع، الذي يحكم منه على البحار الشرقية، ويفصل الدول العربية بعضها عن بعض شطرين.
في باحات قصر يلدز ترى العلماء والدراويش وقد تدثروا بثياب الصوف، وتعمموا بالعمائم الكبيرة، جالسين على الأرائك بجانب سفراء الدول.
هم هناك يمثلون في الخاطر أشخاص ألف ليلة وليلة لا يتحركون من مقاعدهم، ينبسون بكلمات تطابق تحريك أيديهم حبات السبح، منتظرين مجيء دورهم في المقابلات لعرض طلب أو توجيه لوم.
وكل المسلمين ممن يقيمون في (الآستانة) أو في (مراكش)، في أرجاء أسيا أو أصقاع أفريقية، من بدو كانوا أو حضر، واقفين في أماكنهم أو سارين مع القوافل، يركعون مع الراكعين إذا حانت الصلاة، يتوضئون أو يتيممون بالتراب، مولين وجوههم جميعاً شطر الكعبة، وسواء منهم الذين يلبسون الثياب الواسعة، أو يتزيون بالسترة الإسلامبولية، والذين يلبسون الطربوش أو العمائم على رءوسهم، والذين يضعون السيف واليطقان في نطاقهم، أو يتلقون العلوم في مدرسة برلين الجامعة، أو يدرسون علوم السياسة في باريس، فإنهم يولون وجوههم شطر جهة واحدة، هي الأرض المقدسة، هي الأرض التي تكتنفها الصحراء، هي الأرض التي عاش فيها محمد، هي الأرض التي تتضمن جسمه المبارك، في قبر لا يجسر أحد على الوصول إليه إلا مغطى الوجه حياء وهيبة، هي الأرض التي جاء منها الآباء ويعود إليها الأبناء بحركة مستمرة، هي الحج الأبدي إلى بيت الله الحرام، وجميع المسلمين عن بكرة أبيهم يرنون بطرفهم إلى هذا المكان المقدس، ويمدون إليه أعناقهم ولا يجدون لذة في الحياة إلا بأمل العودة إليه، ومن مات منهم ولم يكن أدى فريضة الحج مات على أسف وحسرة.
وخلاصة القول إن جميع المسلمين على سطح المعمورة تجمعهم رابطة واحدة، بها يدبرون أعمالهم ويوجهون أفكارهم إلى الوجهة التي يبتغونها، وهذه الرابطة تشبه السبب المتين الذي تتصل به أشياء تتحرك بحركته وتسكن بسكونه، بل هي القطب الذي تنتهي إليه قوة المغناطيسية.
ومتى اقتربوا من الكعبة —من البيت الحرام— من بئر زمزم الذي ينبع منه الماء المقدس —من الحجر الأسود المحاط بإطار من فضة— من الركن الذي يقولون عنه إنه سُرَّة العالم، وحققوا بأنفسهم أمنيتهم العزيزة التي استحثتهم على مبارحة بلادهم في أقصى مدى من العالم للفوز بجوار الخالق في بيته الحرام — اشتعلت جذوة الحمية الدينية في أفئدتهم، فتهافتوا على أداء الصلاة صفوفاً وتقدمهم الإمام مستفتحاً العبادة بقوله: «باسم الله» فيعم السكون والسكوت، وينشران أجنحتهما على عشرات الألوف من المصلين في تلك الصفوف، ويملأ الخشوع قلوبهم، ثم يقولون بصوت واحد «الله أكبر» ثم تعلوا جباههم بعد ذلك قائلين: «الله أكبر» بصوت خاشع يمثل معنى العبادة.
ولا تظنوا أن هذا الإسلام الخارجي الذي تجمعه جامعة فكر واحد غريب عن إسلامنا ولا علاقة له به، لأنه وإن كانت البلاد التي تحكمها شعوب مسيحية ليست في الحقيقة بدار سلام وإنما هي «دار حرب»٣ فإنها لا تزال عزيزة وموقرة في قلب كل مسلم صحيح الإيمان.
والغضب لا يزال يحوم حول قلوبهم كما تحوم الأسد حول قفص حبست فيه صغارها، وربما كانت قضبان هذا القفص ليست متقاربة ولا بدرجة من المتانة تمنعها عن الدخول إليهم من بينها.
ترى في قرانا وبلداننا درويشاً فقيراً شاحب اللون مدثراً بأرديته البيضاء المقلمة بخطوط سوداء يلهج لسانه بذكر الله والصلاة على نبيه، لا يلويه عن ذلك شيء — هذا الدرويش الذي ينتقل من خيمة إلى خيمة، ومن قرية إلى قرية، راوياً حوادث الأقطاب والأولياء من مشايخ الإسلام، إنما يبذر في القلوب حيثما حَلَّ وأينما توجَّه بذور الحقد والضغينة علينا.
إن العالم الإسلامي منقسم إلى طوائف وطرائق لا عداد لها، ينخرط في سلكها الألوف من رعايانا المسلمين ولكن ليس لها في الغالب مراكز ولا زوايا بالأرض الداخلة في دائرة نفوذنا، وغاية الأمر أن العاملين في هذه الطوائف والمذاهب الكثيرة يخترقون بلا انقطاع ولا توانٍ مستعمراتنا الأفريقية، فيستقبلهم أهلوها بالترحاب، ويحسنون وفادتهم، ويكرمون مثواهم، حتى أن الفقير منهم لا يرى في إكرامهم له أقل من أن ينحر له شاة، هذا عدا ما يجمعه له من صدقات ذوي البر والإحسان، أو من المرتبات المالية السنوية التي يبلغ ما يدفعه أهالي الجزائر وحدهم منها ثمانية ملايين من الفرنكات كل عام، وهذا مما يستوجب العجب والدهشة لأن مقدار ما نجبيه من الضرائب كل سنة من أهالي الجزائر لا يتجاوز ضعف هذا المبلغ.
ومن بين تلك الطرائق والطوائف ما يخلد أعضاؤه إلى السكون، وربما كانت علاقتهم مع رجال حكومتنا في الجزائر وتونس على أحسن ما يرام.
وما ذلك إلا لأن الرابطة التي تربط بعضهم ببعض قد اعتراها الوهن، ولأن الفوضى التي أصابت الإسلام الأفريقي قد أخذت نصيبها منهم، ولكن توجد طوائف غيرها بلغت شدة العصبية منها مبلغا عظيما، لأنها مؤسسة على مبدأ كفاح غير المؤمنين، وعلى كراهة المدنية الحاضرة، وقد أسس الشيخ السنوسي في جهة ليست بعيدة عن الأصقاع التي تلي أملاكنا في الجزائر مذهبا خطيرا له أشياع وأنصار، ومقر هذا الشيخ بلدة جغبوب الواقعة على مسيرة يومين من الواحة التي كان قائما بها هيكل الإله آمون٤ وقد هاجر أولاده إلى (كوفرة).
ومن مذهبهم التشديد في رعاية القواعد الدينية وقد لبثوا زمنا لا يرتبطون بعلاقة ما مع الدولة العلية بسبب ما بينها وبين الدول المسيحية من العلاقات، ولكن يظهر أن أخلاقهم الشديدة قد تلطفت فتقربوا أخيرا من الدولة العلية.
غير أن هذا لم يمنعهم من طرح حبائل الدسائس التي أوقفت رجال بعثاتنا عن كل عمل مفيد لصالحها في أفريقية الجنوبية، ولم يكن الأمر مقصورا على وسط القارة الأفريقية، فإنه توجد بالآستانة نفسها وبالشام وبلاد العرب ومراكش عصابة خفية ومؤامرة سرية تحيط بنا أطرافها وتضغط علينا من قرب ويخشى أنها تفترسنا إذا أغمضنا الطرف.
كنا نرى من زمن حديث رعايانا الوطنيين في الجزائر ينقادون لأوامر سرية، تناقلوها بالأفواه، وكانت تقضي عليهم بتأليف الزمر والأفواج منهم لمهاجرة أوطانهم، والذهاب إلى آسيا الصغرى حيث الأمن المرجو.
يؤخذ مما تقدم أن جراثيم الخطر لا تزال موجودة في ثنيات الفتوح، وطي أفكار المقهورين الذين أتعبتهم النكبات التي حاقت بهم، ولكن لم تثبط هممهم.
نعم ليس لمقاومتهم رؤساء يديرون هذه المقاومة، ولكن رابطة الإخاء الجامعة لأفراد العالم الإسلامي بأسره كافلة بالرئاسة، ففي مسألة علائقنا مع الإسلام تجد المسألة الإسلامية والمسألة الدينية والمسائل الداخلية والخارجية شديدة الاتصال والارتباط بعضها ببعض، وهذا يجعل حلها صعبا ومتعذرا كما سنبينه.
المسائل الأساسية في كل دين هي التي ترتبط بالقدر والمغفرة والحساب، وهي كلمات ثلاث مصبوغة بصبغة دينية، تلقي في النفس الاعتقاد بوعورة الملك في تفهمها، مع أنها من الأمور التي ينبغي الوقوف عليها والعلم بها مهما صعب منالها وتعذر مرامها.
إن الدين هو الوسيلة التي تمهد للإنسان طريق الوصول إلى الحضرة الإلهية أو هو بعبارة أخرى الواسطة في وقوف المخلوق بين يدي الخالق.
إذا تقرر ذلك، فهل الخالق بقدرته المطلقة يودع في نفس المخلوق استعداداً للعمل بمقتضى إرادته السرمدية بحيث لا يحيد عما تأمره به هذه الإرادة، أم للإنسان متى تم خلقه إرادة خاصة يعمل بحسبها واختيار مستقل لا يستمد من اختيار أسمى منه؟ وهل للإنسان الذي خلقه الله وسواه إرادة مطلقة من نفسه وتصرف مطلق في ذاته، أم ترجع جميع أعماله من خير وشر إلى القدرة الربانية القابضة على زمام الكون والمسببة لوجوده فيه؟
في دائرة هذا البحث تنحصر الخلافات الدينية والفلسفية التي لم يوفق دين من الأديان ولا مذهب فلسفي إلى حسمها بكيفية يقتنع بها الإدراك ويرضاها العقل، مع أن البحث فيها لإصابة هذا الغرض السامي لم يكن بالأمر الحديث، إذ طالما بحث فيها فلاسفة الأقدمين فلم يجدوا لها حلا، وكان حظهم منهم كحظ فلاسفة وعلماء المتأخرين.
وغاية ما عرف منذ الأعصر السالفة إلى الآن أنه وجد مذهبان تشاطرا فيما بينهما العقائد البشرية من تلك الوجهة المهمة، فالأول منهما يقول بتناهي الربوبية في العظمة والعلو، وجعل الإنسان في حضيض الضعف ودرك الوهن.
ويذهب الثاني إلى رفع مرتبة الإنسان وتخويله حق القربى من الذات الإلهية بما فطر عليه من إيمان وإرادة، وبما أتاه من أعمال صالحات وحسنات.
والنتيجة الطبيعية للاعتقاد بمذهب الفريق الأول هي تحريض الإنسان على إغفال شئون نفسه، وبث القنوط في فؤاده، وتثبيط همته، وإيهان عزيمته بينا تسوقه نتيجة الاعتقاد بمذهب الفريق الثاني إلى ميدان الجلاد والعمل، وتلقي به في غمرات التنافس الحيوي، ومن الأمثال على الفريقين البوذية الذين يدينون بدين يقضي عليهم بالتجرد، إذ من قواعده أن الإنسان والكون يفنيان في الذات الإلهية٥ وقدماء اليونان الذين يدينون بدين من قواعده تشبيه الإله بالإنسان في أوصافه المادية، يقضي عليهم هذا الدين بالعمل والحياة لاعتقادهم بأن الإنسان أو «البطل» يمكنه أن يعتبر في عداد الآلهة بحسناته وخيراته.
وقد ظهرت على أطلال العالم القديم بعد خمسمائة عام من انقضائه ديانتان، إحداهما ربانية والثانية بشرية تمثلانه في ذَيْنك المذهبين المتناقضين ولكن بتلطيف في التناقض.
أمَّا الأولى فهي الديانة المسيحية الوارثة بلا واسطة آثار الآريين والمقطوعة الصلات بالمرة مع مذهب السامية، وإن كانت مشتقة منه وغصنا من دوحته، ومن خصائص هذه الديانة ترقية شأن الإنسان بتقريبه من الحضرة الإلهية، على حين أن الديانة الثانية وهي الإسلام المشوبة بتأثير مذهب السامية تحط بالإنسان إلى أسفل الدرك، وترفع الإله عنه في علاء لا نهاية له.
هذان الميلان المختلفان يظهران ظهورا واضحا في الاعتقاد الأساسي لكلتا الديانتين، وهو أصل الألوهية، أمَّا المذهب المسيحي فيذهب في هذا الأصل إلى الثالث أي أن الإله الأب أوجد الابن واتصل الاثنان بصلة هي روح القدس، وعليه فيكون يسوع المسيح إلها وبشرا — هذا الثالوث السري المشتقة أصوله من ضرورة وجود إله بشري يمحو ذنب الجنس البشري ويفديه من الخطيئة التي اقترفها، إن شعبا جمهوري المبادئ يبلغ عدد أبنائه أربعين مليونا، يرفضه المسلم الذي يعتقد بوحدانية الرب، ويتمسك بهذا الاعتقاد تمسكا شديدا حيث يقول: «لا إله إلا الله».
غير أن إدراك المسيحيين من هذا القبيل هو أخف وأعلى وأجلب للثقة، إذ هو يحملهم على إتيان الأعمال التي تقربهم إلى الله حيث الوسائط بينهم وبين ذاته الجليلة موصولة في حين أن المسلمين تجعلهم ديانتهم كمن يهوي في الفضاء بحسب ناموس لا يتحول ولا يتبدل، ولا حيلة فيه سوى متابعة الصلوات والدعوات والاستغاثة بالله الذي هو مستودع الآمال ولفظة الإسلام معناها «الاستسلام المطلق لإرادة الله».
ترى الديانتين أو بعبارة أخرى المدنيتين المسيحية والإسلامية إحداهما بإزاء الأخرى، وتتصل الاثنتان بعضهما ببعض من حيث المنشأ العام لهما، إذ هما مشتقتان من الأصول اليونانية السامية ومنها استمدتا جانبا من العقائد والمذاهب والآداب فهما إذن متداخلتان في بعضهما من وجوه عدة، ولكن مسافة الخلف بينهما شاسعة في الحقيقة من حيث البحث في القدرة الإلهية والحرية البشرية. |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الإسلام بين العلم والمدنية الجمعة 14 يونيو 2024, 3:14 pm | |
| رأيان في الإسلام وقد كانت هذه المناقضات وتلك الأشباه تفرع الطريقين المختلفين اللذين أتبعناهما فيما يربطنا من العلائق بالإسلام والمسلمين.
قصر فريق منا بحثه وحكمه على ما شاهده من المناقضات والخلافات بين الدينين المسيحي والإسلامي فرأى في الإسلام العدو الألد والخصم الأشد.
قال المسيو كيمون في كتابه (باثولوجيا الإسلام): «إن الديانة المحمدية جذام نشأ بين الناس وأخذ يفتك بهم فتكا ذريعا بل هي مرض مريع وشلل عام وجنون ذهولي يبعث الإنسان على الخمول والكسل ولا يوقظه منهما إلا ليسفك الدماء ويدمن على معاقرة الخمور ويجمح في القبائح، وما قبر محمد في مكة إلا عمود كهربائي يبث الجنون في رءوس المسلمين ويلجئهم إلى الإتيان بمظاهر الهستيريا (الصرع) العامة والذهول العقلي وتكرار لفظة الله إلى ما لا نهاية، والتعود على عادات تنقلب إلى طباع أصلية، ككراهة لحم الخنزير والنبيذ والموسيقى والجنون الروحاني والليمانيا أو الماليخوليا وترتيب ما يستنبط من أفكار القسوة والفجور في اللذات… إلخ... إلخ».
أمثال هذا الكاتب يعتقدون أن المسلمين وحوش ضارية وحيوانات مفترسة (كالفهد والضبع كما يقول المسيو كيمون) وأن الواجب إبادة خمسهم (كما يقول أيضاً) والحكم على الباقين بالأشغال الشاقة، وتدمير الكعبة، ووضع ضريح محمد في متحف اللوفر (وهذا أيضاً قوله)… وهو حل بسيط وفيه مصلحة للجنس البشري… أليس كذلك؟ ولكن قد برح عن خاطر الكاتب أنه يوجد نحو ١٣٠ مليون مسلم وأن من الجائز أن يهب هؤلاء «المجانين» للدفاع عن أنفسهم والذود عن بيضة دينهم.
ويذهب غير أصحاب هذا الرأي إلى أن الإسلام دين ومدنية يتصلان مع ديننا ومدنيتنا بعروة الإخاء والتصاحب، وتطرف البعض منهم فاعتبروا الإسلام أرقى مبدأ وأسمى كعبا من الدين المسيحي.
قال المسيو لوازون (القس ياسنت سابقا) معترفاً ومقراً أن الإسلام هو الدين المسيحي محسّناً ومحوّراً، ونصح للفرنسيين الذين يلتمسون دينهم المفقود أن يستعينوا بالإسلام للعثور على ضالتهم المنشودة ويذهب قوم غير الذين سبقت الإشارة إليهم إلى وجوب احترام الإسلام وتبجيله، مستندين في ذلك على ما دَوَّنَهُ أحَدُ مؤرخي الكنيسة الذي صار فيما بعد كردينالاً حيث قال: «إن الإسلام قنطرة للأمم الأفريقية ينتقلون بواسطتها من ضفة الوثنية إلى ضفة المسيحية، فليس الواجب والحالة هذه مقصوراً على معاملة الإسلام بالتساهل والتسامح، بل لابد من رعايته وتعضيده بأن نسعى في توسيع نطاقه، وترتيب الأرزاق على المساجد والمدارس، وجعله رائداً لمدنية فرنسا وآلة تستعين به على فتوح البلاد».
هذان هما الرأيان السائدان بما بينهما من درجات الاعتدال والتلطف والمسالمة، ولكنهما وإن افترقا، متصل بعضهما ببعض وموجودان في حيز واحد.
وقد لوحظ كثيراً أن كل فرد من أفراد موظفينا أو وكلائنا أو أبنائنا المستعمرين قد حار بين المبدأين، وسلك الخطة التي رسمها لنفسه تجاه المسلمين طبقا لميوله نحو قطب من القطبين المتناقضين اللذين يوجد بأحدهما المتطرفون وبالآخر المتعصبون، ولا وسط بينهما.
وتلك الميول المتعاكسة التي برزت من مكان الاعتقاد إلى مجالي الفعل والتنفيذ، هي التي أحدثت التناقض في أعمالنا الاجتماعية والسياسية والإدارية، وأدت إلى الشكوك والريب، ونقض ما أبرم، ما نقض، إلى غير ذلك مما جرت عليه حكومتنا ولا سيما في البلاد الأفريقية من عدم السير على وتيرة واحدة.
هذا الخلل ينمو شيئاً فشيئاً ويتضاعف خطره كل يوم، إذا فكر الإنسان في أنه لا يصيب بسوئه بلاد الجزائر مع سكانها الوطنيين الذين يبلغ عددهم أربعة ملايين أو خمسة فقط، بل يسري على نصف قارة بأكملها عديدة السكان، وسيزداد ويتضاعف عددها بامتداد رواق الأمان على الأهالي وإبطال التجارة في الرقيق. المسألة خطيرة
فالمسألة إذن خطيرة جدا ولابد من الاعتماد على أمر واحد في حلها، إذ لا يكفي للوصول إلى هذا الحل تنميق عبارات وتسطير كلمات، ولذلك خيرت أن أعرضها على محك الرأي العام، مبينا أحكم الوسائل وأكثرها انطباقا على العقل والصواب، للوصول إلى نتيجة فعلية، وموردا شيئاً واحدا هو من ألزم الأشياء لموضوع تلك المسألة وأشدها ارتباطا به.
قد سبق لي وقتما تم تشكيل مملكتنا الأفريقية تشكيلاً تاماً، أن سألت —ولا زلت أكرر هذا السؤال— الحكومة أن تبحث بحثاً علنياً في علاقاتنا مع الإسلام والمسلمين، بمعرفة أناس خبيرين وعلماء عارفين، ليتجلّى هذا البحث عن الخطة التي يتحتم على الجميع اتباعها من حاكم منا ومحكوم عليه.
إن الراغب في الاستعمار من أبناء بلادنا يصل إلى الجزائر أو تونس أو السنغال، فيجد نفسه في اتصال مع العربي، أو بعبارة أعم من المسلم، إذ منه يشتري الأرض التي يريد استنباتها، ومنه يطلب اليد العاملة ومعه يدبر شئونه المعيشية، فبالرغم عن هذا الاتصال وعن هذا الجوار والتلاصق تراهما يجهل أحدهما الآخر، وتنفرج مسافة هذا الجهل وتكون عواقبه أكثر خطرا، إذا كانت العلاقة بين الأهالي وبين الموظف أو الحاكم أو القاضي أو الضابط أو غيرهم، ممن هو منوط بالفصل في خصوماتهم، والقيام على شئونهم، وتنفيذ قوانيننا بينهم، وما أسوأ مغبة ذلك الجهل إذا كانت العلاقة بينهم ووزارة مستعمراتنا أو رجال حكومتنا المركزية التي يديرها أحد عشر وزير، ربما لا يوجد من بينهم سوى واحد أو اثنين أنعما النظر في خريطة الأنحاء الواسعة والأصقاع القصية التي عهد إليهم أمر إدارتها وتنظيمها.
مع أن الواجب متى رضينا باحتمال هذه المسئولية على عواتقنا، ونلنا هذه السلطة أن نطيل البحث ونمعن النظر في طرق استخدام هذه السلطة وأن نسأل الخبيرين والعارفين، ونستفيد ممن شاهدوا واختبروا ونستمد من معلوماتهم ما نستعين به على تحرير متن سياسي وجيز يتضمن أصول ومبادئ علاقاتنا مع العالم الإسلامي.
إن فريقاً كبيراً من العلماء النظريين والعمليين من موظفين وضباط وأساتذة ومهندسين ومزارعين ومستعمرين قد كانوا ولا يزالون على اتصال بالمسلم، وجعلوا أحوال معيشته وطرق أعماله موضوع بحثهم ودراستهم.
ولكن المسلمين أنفسهم قد ينبئوننا بما نجهله من بقية أخبارهم، فهم إذا سئلوا أجابوا، وإذا أجابوا أفاضوا، وقد كثرت الأبحاث في كل موضوع، حتى في الموضوعات الصريحة الواضحة ولم يفكر أحد في الأمر الذي نحن بصدده، وهو من أكثرها غموضا والتباسا، فلماذا لا نستعين بالوسيلة التي تفيض علينا أنوار الحقيقة، ونطرح من هذه الأنوار شعاعا على من يريدون اتباع الصراط المستقيم، حتى إذا ما تم التحقيق والبحث حررنا بما ينبعث عنهما من الحقائق رسالة تذاع على الألسنة، وتتداولها أيدي الموظفين والمستعمرين، وتنشر بين الطلاب في المدارس فتنمحي بها آثار الأضاليل والترهات الكثيرة، وتزول العقبات القائمة، وتقال الأقدام من العثرات، وتكون تلك الرسالة بمثابة قانون ثابت لفرنسا الاستعمارية يجري على نهجها كل عامل، فيعم نفعه وتجتنى ثماره، وربما كان سببا في أن نعيش مدة نصف جيل على أساس اختيار الفرنسيين المستعمرين الذين انتشروا في عرض البلاد وطولها لا رابطة بينهم ولا صلة، يواصلون الصباح بالمساء في الندم والحسرة من عواقب هفوة أو زلة سقطوا فيها.
وكانت كلمة واحدة كافية لإقالتهم من عثرتهم وإصلاح هفوتهم.
ولست أظن أحداً يرتاب في نتائج ذلك التحقيق.
وإنما قبل ختام هذا الفصل أورد بعض اعتبارات أخالها ضرورية للوصول إلى الغاية المقصودة من أقوم طرقها.
أشرتُ سابقاً إلى الصلة الأكيدة بين السياسة والدين في العالم الإسلامي، والمسلمون في الأحوال الراهنة شاعرون شعورا قويا بإيمانهم العام، غير أن إدراكهم من حيث الجامعة السياسية، وما كان يسميه القدماء بالرابطة المدنية أو الوطنية، إذ ينحصر الوطن عندهم في الإسلام، فلا يجوز أن يتولاها إلا من كان من عقيدتهم.
ولم تدخل رءوسهم حتى الآن فكرة سوى هذه التي تمكنت من أفئدتهم، وأخذت من قلوبهم أمتن مأخذ، فكان ذلك سببا في حدوث سوء التفاهم بين الحاكمين والمحكومين في البلاد الإسلامية الخاضعة لحكومات مسيحية.
على أنه بالرغم من ذلك قد حصل انقلاب عظيم في بلد من هذه البلاد فصلت فيه السلطة الدينية عن السلطة السياسية بدون جلبة ولا ضوضاء، نريد به القطر التونسي الذي وضعت عليه الحماية التي مؤداها احترام النظام السابق على الفتح بصيانة القوانين والعادات من المساس، والمحافظة على مركز الباي، وقد بالغنا في ذلك بحيث تمكنا بواسطة ما أدخلناه من التعديلات الطفيفة شيئاً فشيئا، وأجريناه من المراقبة على شئون الأمور الإدارية والسياسية من التدخل في شئون البلاد، والقبض على أزمتها بدون شعور من أهلها.
تم هذا الانقلاب بسرعة ولين فلم يتألم منه الأهلون ولم تنخدش له إحساساتهم، إذ لبثت المساجد مغلقة في أوجه المسيحيين، والأملاك الموقوفة محبوسة على السبل التي خصصت لها، وتركت أزمة الأحكام بأيدي القواد والقضاة، ولم يغير شيء من القوانين الأهلية إلا برضا وتصديق من الأهالي، وربما كان يطلب منهم، وقام بأعمال هذا التغيير والتبديل وهذا النسخ والتحويل عدد قليل من الموظفين أكثرهم من التونسيين.
وجملة القول إن انقلاباً عظيماً حدث بدون أن يجر وراءه ألماً أو توجعاً أو شكوى، بحيث وطدت الآن دعائم السلطة المدنية من غير أن يلحق بالدين مساس، وتسرَّبت الأفكار الأوربية بين السكان بدون أن يتألم منها الإيمان المحمدي، واقترنت السلطة الفرنسية بالسلطة الوطنية اقترانا لم تغشه سحابة كدر.
إذن يوجد الآن بلد من بلاد الإسلام قد ارتخى بل انفصم الحبل بينه وبين البلاد الإسلامية الأخرى الشديدة الاتصال بعضها ببعض.
إذن توجد أرض تنفلت شيئاً فشيئاً من مكة ومن الماضي الآسيوي.
أرض نشأت فيها نشأة جديدة، أنبتت في قضائها وإدارتها وعاداتها وأخلاقها، أرض يصح أن تتخذ مثالا يقاس عليه، ألا وهي البلاد التونسية.
كانت هذه البلاد ميدان التنافس والجلاد إذ حكمت فيها قرطاجة ورومية وبيزنطية والعرب و«سان لويس» و«شارلكان» فأصبحت الآن مهبط المسالمة ومعهد التصالح والوئام، ففيها الديانتان بل المدنيتان متلاصقتان بل متداخلتان، حتى تأكدت نقط بينهما وانحسرت فرجة الخلاف وارتفعت الأحقاد من الصدور رغبة من الفريقين في التمتع بمزايا الأراضي الخصبة والسماء الصافية الأديم التي ينزل منها على القلوب برد وسلام يلطفانها ولعل الأطلال العديدة والشاهدة على ما تعاقب في الأقطار التونسية من المدنيات القديمة، تندثر تماما ولم ينمح أثرها كي تهتز لاستقبالنا ويوصل بعضها ببعض ما انقطع من حلقات الدهر الماضي.
إن مسجد القيروان٦ الجامع شيدت عقوده على الأعمدة القديمة، وبنيت كنيسة الكردينال لافيجري الكاتدرائية تجاه أكمة (بيرسا) التي عبدت فيها تانيت.
وخلاصة القول إن مزيجاً من التاريخ يركب في هذه الأرض تحت رعاية فرنسا وإنسانيتها، ومن المحتمل أن تنبعث تلك الآثار من قبور الماضي فتعيش في خلال الجيل الذي نطرق الآن أبوابه.
مقال هانوتو الثاني من المسلم أنه يتعذر عليّ الرد في هذه الجريدة على جميع الرسائل التي ترد إلي بشأن ما أنشره فيها من الفصول والمقالات، ولذا أشكر جميع الذين راسلوني شكراً جزيلاً، وأرجوهم أن يعتقدوا ويثقوا بأن ما أشاروا به عليّ وأبانوه لي محفوظ في مخيلتي.
ولا يبرح عن ذاكرتي، وإنني أجد في تبادل الأفكار على هذا المثال خير معوان وأحسن مشجع، وبالرغم مما يخالجني من الميل إلى عدم قصر البحث في نوع خاص من الموضوعات، أرى ألا مندوحة لي من العود إلى بعض المناقشات التي أثار عجاجها الفصلان اللذان نشرتهما حديثا في مسألة الإسلام، والحق يقال إنني أصبحت بسببهما كما يقال: بين نارين، فالمسيحيون أنحوا علي بالتعنيف واللوم، قائلين: إنني تظاهرت بالميل للإسلام، واتخذني المسلمون خصماً لدوداً لدينهم، وهو ما يثبط همة الإنسان عن إتباع خطة المسالمة والتوفيق، لو لم يعرف من قديم الزمان أن الذين يتصدون إلى بيان الحقائق بالتصور والتعقل إنما يشبهون سندان الحداد تتلاقى عليه ضربات المطرقتين.
ويجب قبل الدخول في الموضوع أن أشير إلى طريقة من الجدل: كان الجهل بلغتنا، وهو في نظري أكثر تأثيراً من سوء القصد، سبباً في اتباع بعض الجرائد الإسلامية لها وسيرها على سننها، فإن جريدة «المؤيد» التي تظهر في مصر القاهرة قد نشرت ترجمة أو بالأحرى خلاصة فاسدة من الفصلين اللذين كتبتهما على الإسلام، ولعل القراء يذكرون أنني أوردت فيهما آراء كيمون التي أبداها في كتابه (باثولوجيا الإسلام) وأن إيرادي لها كان على سبيل الحكاية والنقل، إذ أشرت إلى خطر شدتها، وأبنت العواقب الضارة التي يفضي إليها الجدال السياسي في الخواطر السريعة التأثر والانفعال، ولكيلا يختلط على الذهن شيء من أقوال كيمون التي أوردتها، وضعت في آخر كل عبارة من عباراته كلمتي (أنا أنقل) محصورتين بين قوسين دفعا للالتباس ومنعا للشك.
بالرغم من هذه الاحتياطات نسبت إليّ تلك الأفكار التي عمدت إلى دحضها وإظهار فسادها حتى أن أحد٧ كبار أئمة الدين الإسلامي كلف نفسه مئونة الإجابة في جريدة المؤيد على أفكار ليست أفكاري، بل هي نقيض ما ذهبت إلى تعضيده واستحسانه في بحثي، ولذلك أرى أن ذلك الإمام العظيم صار في بحثه أشبه بمن يدفع باباً مفتوحاً من ذاته سواء قرأ ما سطرته في الأصل الفرنسي أم وقف عليه من الترجمة.
إمَّا أنه لم يفهم مُرادي وإمَّا أن الترجمة كانت فاسدة لم تتوافر فيها شروط الأمانة، لذلك أناشده بذمته الطاهرة أن يوقف من يأتمرون بأمره ويصيخون لأقواله على حقيقة فكرتي التي كشفت النقاب عنها في آخر مقالتي، وكلها احترام واعتدال ومسالمة وتوفيق، على إحدى الجرائد العربية التي تنشر بمصر، ولها شهرة فائقة في جميع العالم الإسلامي ألا وهي جريدة «الأهرام» قد أتت بتلك الملاحظات أحسن مما أستطيع إيرادها به، فإن محررها (المسيو تقلا) الكاتب الشهير الذي يدير في آن واحد جريدة «البيراميد الفرنسية» قد اقتفى أثر ملاحظات الإمام فرد عليها نقطة نقطة ولم يبق لي بعد مناقشته التي روعيت فيها أساليب اللطف والحذق مجال للكلام، أو شيء كثير من القول أضمّه إلى قوله، على أنني أستنتج من هذا الحادث عبرة تزداد قوتها في نظري كلما تقدمت في طريق العمر، وحبوت نحو الشيخوخة، وهي أن منشأ المشاكل والصعوبات التي تقوم بين الناس هو سوء التفاهم والخطأ في معرفتهم مقاصد بعضهم بعضاً، إذ كثيراً ما كان الغلط الناشئ من سوء تلاوة كلمة أو القصور عن إدراك معنى جملة، أو فهم مغزى رأي من مرامي حيلة من حيل المناظرة، سبباً في جر ما لا يحصى من المصائب بل سبباً في انشقاق قوم كانت تجمعهم لحمة الاتحاد ورابطة الجوار، وكانوا إلى الالتئام والاتفاق أقرب منهم إلى الخلف والانشقاق.
ولو أمكن محو ما تراكم شيئاً فشيئاً حول ما يقع بشأنه سوء التفاهم من العواقب الضارة والشدائد التي لا فائدة منها، وتيسر العودة إلى النقطة الأولى التي كانت مبدأ النزاع وسبب الاختلاف، لانْدَهَشَ الإنسان من السهولة في تذليل الصعاب، وتمهيد المشاكل التي جعلت الفارق عظيما ومسافة الخلف بعيدة.
ولقد قيل إن العالم ميدان يتنازع فيه بنو الإنسان، وهو قدر مقدور لولاه لتعذر على الفهم أن يدرك كيف تكون مقدمات أمثال تلك النتائج البالغة في الرداءة والسوء مبلغا عظيما حتى لقد تمر على الإنسان لحظات يسائل فيها نفسه، عما إذا كان في الإمكان إصلاح ما انثلم من حوادث التاريخ باجتهاد الناس في فهم مقاصد بعضهم بعضا.
ومن الأمور التي لا يزال خاطري منصرفاً إليها أن المسائل المشكلة، ولو كانت من أهم المسائل وأخطرها تتضمن في ذاتها الحل الملائم لها والمطابق للإنصاف والسلام، وكنت ولازلت على اعتقاد وطيد في المباحثات المتعلقة بمصلحة من المصالح وفكرة من الأفكار، بأنه متى كان الطرفان على جانب من طهارة الذمة وحسن النية، وجعلا غايتهما القصوى المسالمة والاتفاق، واتخذا لذلك وسائل الحكمة والتدبر، وصدق اجتهادهما في التجرد عن الأهواء، فإنهما يصلان إلى نقطة تتفق فيها مقاصدهما وتتطابق رغائبهما.
وقد اعتقدت دائماً أن للسياسة على الخصوص مهمة في هذا المعنى ينحصر فيها شرفها، وترجع إليها كرامتها، ليس بما تعلقه الشعوب من الشكر والاعتراف بالجميل فقط، بل بحسن العمل العقلي الذي يقوم به السياسيون بدون لغط ولا ضوضاء في سكون مكاتبهم، أمَّا الاعتماد على القوة والركون إلى العنف الذي هو أخص ما يلتجئ إليه القوي فهو من أخريات الوسائل وأحطها، وهو حيلة من لا حيلة له.
ويظن الناس في الغالب أن الواجب التفرقة بين الاتفاق والمجاهرة بالشقاق، وهو خطأ بين وغلط، إذ بين السلم والحرب ميدان فسيح يمكن للسياسة أن تجول فيه جولتها، وكما انطبقت هذه الطريقة على السياسة تنطبق أيضاً على المناقشات الفلسفية والدينية، إذ للأفكار والعقائد سياسة مرجعها التسامح والاحتمال، وليس التسامح من مخترعات هذا العصر، بل نقيضه من مخترعاته، لأننا إذا نظرنا في أصول المشاكل البشرية الكبرى يكون اندهاشنا من التشابه بين الآراء التي تعذر التوفيق بعد فيما بينها، أعظم من الانفراج المستحكم بينها.
وخلاصة القول إن معيشة بني الإنسان مع بعضهم بعضاً بسلام ميسورة لمن يريدون ذلك ويقصدونه برغبتهم وحسن إرادتهم.
وقد حدا بي هذا البحث إلى نوع آخر من الانتقاد صوبه نحوي بعض المسلمين، وليس المقصود به السياسة في هذه المرة بل المقصود به الفلسفة والعلوم الدينية.
وقد انتهت إلي رسالتان غريبتان في هذا الباب، إحداهما من رجل مشهور الاسم في فرنسا وهو (أحمد رضا) مدير جريدة «مشورت» الذي جمع ملحوظاته في رسالة سماها (التسامح الإسلامي) وقصد بها الرد على الكتاب الغربيين الذين يتهمون العالم الإسلامي بالتعصب الديني، واستشهد في خاتمتها بكلمات قالها الكردينال «لافيجري» وهي: (أجاهر علانية بأنني أعتبر إثارة خواطر الشعوب الإسلامية بعدم التدبر في دعوتهم إلى الدين المسيحي إثما من الآثام وضرباً من ضروب الجنون)، وإنه ليفيض بي الكلام على الوصف الذي وصف به صاحب الرسالة تسامح المسلمين، ولكني على ثقة من أن تبادل الشكوى أو الشتم لا يحدو بنا إلى الغاية السلمية التي نقصدها، وإن الاجتهاد في فهم بعضنا مقاصد بعض أولى وأحسن من الصياح والعويل لمنع الناس في الاتفاق والوئام.
وقد وردت إلى رسالة ثانية من أحد عظماء المسلمين وهو حضرة أحمد أفندي مدحت أكبر كتاب الترك في الوقت الحاضر، وإني آسف شديد الأسف من عدم إمكاني نشر مضمونها بأكملها في هذا المقام لطولها وغموض مباحثها، ولا ريب في أن القراء الفرنسيين كان يسرهم أن يتلذذوا بتلاوة إنشاء شرقي مكتوبة بلغة فرنسية صحيحة، غير أن في المباحث الدينية، ولو كانت متعلقة بالإسلام، شيئاً من الاكفهرار والتجهم.
على أن هذا لا يمنعني من إيراد شذرة قصيرة يبين فيها الكاتب مبدأ الدين الإسلامي، وها هي: «فيما يتعلق بالإيمان والضمير كل مسلم رقيب نفسه، فهو لا يقدم لأحد سوى الخالق جل وعلا حسابه عن أقواله وأعماله، ولم ير النبي محمد عليه الصلاة والسلام ولم تسمح له فرصة رأى منها لنفسه حقا أو سلطة مما يخوله لأنفسهم رجال الأكليروس (الدين) في الديانة المسيحية، بل لم يفرقه فارق عن بقية العالمين أمام عدالة الحق سبحانه وتعالى وهو ما يؤخذ منه أنه لو سأل أحدهم ما هو الإسلام، لأجاب المسلمون على اختلاف مذاهبهم بأنه العمل بما قرره القرآن الشريف —فالديانة القرآنية لا تهوي بالإنسان بإقصاء الإله عنه في نهاية الفضاء— إذ جاء في القرآن الشريف وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، هذا الدين فرق بين الإنسان من وجهتيه الأدبية والمادية، فحدد أحواله فيهما بكيفية موافقة للإدراك البشري».
ثم استنبط الكاتب من هذا الفرق دفاعاً عن الدين الإسلامي يراه أرقى وأحسن ما يدفع عنه به، وأخذ يعتب علي لكوني اختصرت البحث في المسألة الفلسفية ذريعة إلى قصر الكلام على المسألة السياسية.
وإنني أعترف بأنني انصرفت أثناء سياحتي في الجزائر وتونس إلى الوجهة التاريخية السياسية أكثر منها إلى غيرها، وإذا كان القارئ لا يمل حديثي فإنني أورد هنا بإيجاز كيفية الأسباب التي حملتني على هذه السياحة وقصر مباحثي مؤقتا على أعظم مشكلة قامت منذ قرون بين الديانتين المسيحية والإسلامية.
لَمَّا كنت أقرر مباحثي في تاريخ الكردينال ريشليو، وصلت إلى النقطة التي أفضت به الظروف إلى اتخاذ طريقة من الطرق المختلفة التي حومت حوله، واستلفتت أنظاره، ففي أواخر عام ١٦٢٢م، وأوائل عام ١٦٢٣م، أي في إبان استلامه زمام الأحكام، ظهرت المسألة البروتستانتية، وسوف أورد كيفية حله لها، ولكن ما يعرفه القليل هو أنه عرض عليه الحكم في المسألة المحمدية، أو بعبارة أهل ذلك الوقت في المسألة الصليبية.٨
وكان يوجد في فرنسا وقتئذ جم غفير من الناس يجاهرون بضرورة استئناف الحروب الدينية التي اشتهرت بها القرون الوسطى، واسترسل في هذا الموضوع كثيرون من أخص أصدقاء الكردينال ريشليو الذين أخذوا بناصره في خطاه الأولى، ووالوه بنصائحهم وسطوتهم، ومنهم الدوق دي نيفير، والأب جوزيف صديق ريشليو الحميم ومشيره الخاص الذي انطوى معهم في أفكارهم قلبا وقالبا، حتى لقد بدئ في ذلك الحين بتجهيز الحرب الصليبية، ويمكن القول بأن حزب الملكة ماري دي متديسي الذي أجلس ريشليو على منصة الأحكام، وكان يسمى بحزب الكاثوليكيين حزب من الصليبيين.
فما كان من الكردينال ريشليو إلا أن قطع كل صلة من أصدقائه رافضاً أن يكون آلة بأيديهم، بل كان منه أن جذب الأب جوزيف إلى ناحيته ثم ولى وجهه عن الإسلام فحارب —كما هو مشهور— الأسرة النمساوية.
والحَقُّ يُقَالُ إن الكردينال كان من أقل الناس تعصباً، فإنه قبل أن يأتي بما عمل به، بنى عمله على أسباب تأمل فيها طويلاً واستنجد وقارن، وإن هذه الأسباب هي التي كنت أروم الوقوف عليها لإظهارها.
وقد تابعت البحث والتنقيب على هذا المثال في إسبانيا وأفريقية إلى حيث تلك البقعة التي تم بها الاقتران بين العالمين الشرقي والغربي، أريد بها تونس، هذا هو السبب الذي استحثني مع أسباب أخرى على النقلة إلى تلك الأصقاع باحثا ومفكرا.
شاهدت فيها أطلاق قرطاجنة أي أطلالها في عهد هانيبال٩ والقديس أوغسطين١٠ وفي عهد سان لويس وشارلكان، فتجلى لي وأنا واقف على تلك الطلول أن الأرض التي كانت ميدان النزال والجلاد يمكن أن تكون أيضاً مهبط السكينة والسلام.
أمَّا الأسباب التي حملت ريشليو على العدول عن الحروب الصليبية فلسوف أبينها في يوم ما.
ولكنني بالبحث في الماضي والمشاهدة العيانية في الحاضر قد توصلت إلى البحث عن مبادئ الاتفاق والوئام في عين المكان الذي اشتهر بأسباب الشحناء والبغضاء، بحثت عن أصول هذه الأسباب فأشرت إلى السلم الناشئ من الحماية ونوهت بذكر أمر مهم وهو معيشة فريقين من الناس، كان لا يظن أنهما يجتمعان في وئام واتفاق، باحترام كل منهما معتقدات الآخر.
لَمَّا لاحظت هذه الأمور، كنت أود مداراة العواطف، والاقتصار على عبارات التسامح والمسالمة، والاكتفاء بالكلام على الحياة الفعلية، ولكن يظهر أن هذا صعب المرام، إذ الجميع لم يفهموا مرادي ولم يقفوا تمام الوقوف على مقصدي، ومهما يكن من الأمر فإن من الأمور المهمة قيام الأفكار في البلاد المسيحية والإسلامية قياما إذا تحركت فيه بالحركة الطبيعية المبنية على حسن النية وطهارة الضمير، كانت نتيجتها التقريب والتوفيق لا الإبعاد والتفريق.
هذا ما كتبه هانوتو وليس فيه رد لشيء مما خطأه به الأستاذ الإمام من المسائل الدينية والتاريخية ولكنه تنسم من الكلام أن الترجمة تشعر بأنه مستحسن لما نقله عن كيمون وما هو بمستحسنه وهذا صحيح. ============================================= ١ القديس لويس هو لويس التاسع ملك فرنسا المتدين، وهو قائد الحملة الصليبية التاسعة التي هزمت في المنصورة عام ١٢٥٠. وأسر هذا القديس نفسه في دار ابن لقمان. ٢ نهر شاري هو الذي يصب في بحيرة شاد في وسط غرب أفريقيا. ٣ كان عند المسلمين داران: دار السلام ودار الحرب، ويقصدون بالأخيرة مناطق سكنى العدو المتربص على حدود الإسلام. أمَّا مدن الحدود فتسمى بالثغور. ٤ لعله يقصد به واحة سيوة. ومن المعروف أن معبد الإله آمون كان يقع في هذه الواحة. ولا يغيب عن البال أن الإسكندر الأكبر المقدوني قد زار هذه الواحة، ودخل حرم هذا المعبد فيها حيث أخذ من إله آمون تفويضا بحكم العالم. وقد ذكر هذا المؤرخ و. تارن في كتابه بعنوان «الإسكندر الأكبر Alexander The Great». ٥ معنى كلمة «بوذا» هي كشف نقاب الجهل عن وجه هذا العالم. وكان هدف المعلم بوذا الذي عرف بهذا الاسم هو خلاص النفس من متاعب الحياة وآلامها. فقد جاء في نص قديم ينسب إليه —إلى بوذا— ويوضح حقيقة الرسالة التي كافح من أجلها ما يلي: «لما كان المحيط الكبير ليس إلا مذاقا واحدا هو الملح الأجاج، كذلك الحال مع هذه العقيدة ليس لها إلا مذاق واحد هو مذاق الخلاص والتحرر». ٦ القيروان مدينة تونسية شهيرة بمسجدها. أنشأها عقبة بن نافع عام ٦٧٠م، فصارت عاصمة أفريقيا. وقد بلغت أوج عزها على أيام الملوك الأغالبة في القرن التاسع الميلادي. وكانت داراً للصناعة ومحطا للقوافل وسوقا للتجارة. ٧ يشير إلى الشيخ محمد عبده. وسيأتي رده في الفصل القادم. ٨ ليس عجيباً أن يدافع الوزير هانوتو الفرنسي عن الوزير الفرنسي ريشليو. والحقيقة التي تبدو واضحة من تاريخ ريشليو أنه كان رجلاً شديد الدهاء، عظيم الذكاء، وأن تنحيه عن الاشتراك في الحروب الصليبية، وعدم الاستجابة لرغبة الذين أشاروا عليه بذلك، لم يكن ذلك منه إلا بدوافع أخرى غير عدم الرغبة الشخصية، فقد كان أول كل شيء يريد أن يوطد مكانته، ويُرسي قواعد حكمه على أسس قوية. وكان ريشليو يحارب مختلف التيارات السياسية في بلاده، ويقف بالمرصاد لمؤامرات خصومه، فلم يكن من حُسن الرأي بتاتاً أن يرسل إلى خارج بلاده جيشاً هو في أمس الحاجة إليه داخل البلاد. وكان من ناحية أخرى لا يرى ثمرة لمثل هذه الحروب المشتركة، مما يمكن أن يعود على فرنسا بفوائد يستطيع أن يواجه بها خصومه الكثيرين، ويفخر بها عليهم. فلم يكن تنحيه عن الحروب الصليبية نزعة استقلالية كما يقول هانوتو، ولكنها دواعي السياسة الداخلية هي التي أرغمته على هذا الموقف. ٩ هانيبال قائد إفريقي من قرطاجنة دوخ الرومان والدولة الرومانية في عزّ مجدها وسطوتها، وقد هاجم روما براً من ناحية إسبانيا ثم عبر جبال البرانس إلى فرنسا ثم عبر جبال الألب إلى حوض اليو في إيطاليا، وبعدئذ اتجه جنوباً إلى أن هزمته روما في موقعة ترازمين عام ٢٠٢ قبل الميلاد. ولقد تعقبت روما القرطاجيين من بعده إلى أن انتهى الأمر بتدميرهم قرطاجة (في مكان تونس الحالية) تدميراً تامَّاً عام ١٤٦ ق.م. ١٠ القديس سانت أوغسطين كان رجلاً متديناً راعته غزوات الجرمان الوثنيين المروعة على مدينة روما المسيحية فكتب كتابه المشهور «مدينة الله» صور فيه اختلاجاته وعقيدته، وأهاب بالمسيحيين إنقاذ مدينتهم وديانتهم. ----------------------------------------------------------------------------------- |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الإسلام بين العلم والمدنية الجمعة 14 يونيو 2024, 3:14 pm | |
| حديث مع هانوتو لصاحب جريدة الأهرام في يوليو سنة ١٩٠٠م، — الذي نشر فيه هانوتو رَدَّهُ السابق على الأستاذ الإمام سافر الأستاذ بشارة تقلا والتقى به في باريس، فجرى بينهما حديث عن هذا الموضوع نشر في عدد الأهرام يوم ١٦ من هذا الشهر.
وقد قدَّمَهُ صاحب الأهرام بما يلي: رأيت وأنا في باريس أن أقابل المسيو هانوتو وأقف منه على حقيقة الأحوال بوجه عام، وعلى الغاية التي قصدها ويقصدها من كتاباته الأخيرة عن الشرقيين والمسلمين بوجه خاص، ولَمَّا كان هذا الموضوع من أهم المباحث لدينا مع رجل مثل هانوتو الكاتب البعيد الصيت والسياسي الواقف على أحوال أوربا والشرق، وكنا نعتقد، كما قالت الأهرام مراراً وتكراراً، أن تقدم الشرق يكون بتقدم الأمَّة الإسلامية، توخيت أن أنشر أقواله وآراءه، فاستأذنته بذلك فأذن لي.
قال: أنتم تعرفون من تاريخ أوربا أن أممها ما تقدمت عِلْماً ومدنية واختراعاً إلا يوم تقيَّدت السلطة المدنية، وعرف الشعب والحكام فروضهم المتبادلة، وأنا لم أكتب إلا إلى أبناء وطني الفرنسيين، ولم أستشهد بكيمون، وهو يوناني الجنس، إلا لأفند أقواله التي لم ينفرد بها، فإن كثيرين من الكتاب الألمانيين والفرنسيين والإنكليز وغيرهم حذوا حذوه، وقالوا قوله، وخلاصة كتاباتهم أن تقدم المسلمين مستحيل، ونجاحهم بعيد، لأن الإسلام معتقدهم يحول دون ذلك، وحجة هؤلاء واحدة، وهي أنه كلما تقدَّمت أوربا تأخر الشرق، لأن الواقف يتأخر بقدر ما يسير الماشي، وإن كل حكومة انفصلت عن الشرق سارت على منهاج أوربا علماً ومدنية نجحت، مع أن الدولة العثمانية وأفغانستان ومراكش والعجم لا تزال على ما كانت عليه في السنين الغابرة، وإنما ذكرت من هؤلاء الكتاب كيمون وحده ليعرف المسلمون ما يقال عنهم، ولأفند مزاعم هذا الرجل وغيره من الكتاب الذين على رأيه لاعتقادي أن الإسلام لا يحول دون الإصلاح والمدنية، واستشهدت على صحة معتقدي هذا بتونس، فذكرتها مثالاً أؤيد به أقوالي وسياستي هذه هي روح كتابتي السابقة وإنها ستكون روح اللاحقة.
والذي دعاني إلى ذلك ما كان من هؤلاء الكتاب الذين لا يخرجون مغزى كتاباتهم عن إعادة الكرات الصليبية كما كان في الأعصر الخالية، وما دفعهم في الأيام الأخيرة إلى ذلك إلا الحوادث الأرضية وغيرها،١ ولما كنت قد وقفت نفسي لدراسة حياة ريشليو السياسي الشهير، وسرت في أكثر أعمالي وكتاباتي على منهاجه، وعرفت أن هذا الرجل مع أنه كاثوليكي وكردينال من أعمال الكنيسة الرومانية رفض على عهد وزارته تلك السياسة العوجاء، سياسة الصليبيين، وحال دونها بدهائه المعروف، مع أنه كان القابض على سياسة فرنسا وأوربا معا، فإذا كان هذا السياسي الكاثوليكي قد امتنع عن تأييد سياسة أقرب المقربين إليه في تلك الأعصر، أي السياسة الصليبية، فهل مثل هذه السياسة يجوز اليوم إنفاذها، لا لعمري، فلهذا عارضت بالأمس، ولهذا أعارض اليوم، ولحسن الحظ أن الرأي العام إذا قال بوجوب مساعدة الضعيف ضد الظالم، فهو لا يريد حربا تشب نارها اعتداء، ولا سيما الحرب الدينية، فهي عدوة المدنية بل هي أفظع الأعمال.
على أن معارضتي لأمثال هؤلاء الكتاب، أي نقضي لأقوالهم، لا يمنعني عن أن أقول لكم الحقيقة، لأنه يستحيل على أن أقول إن شرقكم سائر على منهاج حكومات أوربا في العدل والحرية والمدنية، كما أنه يستحيل على أن أقول إن حالتكم الحاضرة ضمان لمستقبلكم السياسي، فاعلم أن أوربا حاربت السلطة الدينية مدة ثلاثة قرون لا عن عدم اعتقاد، بل لتفصلها عن السلطة المدنية، فإن المتحاربين كانوا من معتقد واحد، ولكن أراد أفراد أممها أولا ولفيف شعوبها ثانيا أن تكون الكلمة الأولى للسلطة المدنية في أحوال الحكومات وشئون الشعب، وأن يكون للمعتقد حق الأدبيات الدينية بأن يعطى ما لقيصر لقيصر وما لله لله.
واعلم أن الذي أيَّدَ هذه السياسة أيضاً في بلادنا فرنسا هو أعظم تلامذة روما وأحد أقطاب الكنيسة الكاثوليكية أي الكردينال ريشليو، فهو الذي قال بفصل السلطتين، ولم تنسه واجباته الكنسية الدينية معرفة الحقيقة، وهو بهذه السياسة خدم السلطتين أشرف خدمة، إذ أيد السلام بينهما فتأيّدت سطوة الحكومات وتقدمت شعوب أوربا تقدما عجيبا، واعتزت السلطة الدينية أيضاً وعاشت السلطتان بوفاق وسلام.
وهذا ما نريد تأييده نحن الفرنسيين في مستعمراتنا بأن يكون الأمر المطلق للسلطة الحاكمة، مع احترام عقائد الشعوب التي تحت حكمنا وسلطتنا، وهو ما سرنا عليه في الجزائر وتونس وغيرهما من المستعمرات الفرنسية.
وإني لا أكلمك كمسيحي بل كمؤرخ أو كاتب حر الضمير، لا شأن لغيره في معتقده الخاص، ولكنني أحترم أدبيات كل دين ومعتقده، وأقدر تلك الأدبيات حق قدرها، ولكن الماديات غير الأدبيات، والأولى من شئون عالمنا هذا الذي نعيش فيه ونحيا به، وكل أمة لم تتقدم في ماديتها لابد أن تموت، إذ لا حياة بلا مادة، وإلهكم أنتم أيها الشرقيون إله أوربا وإله أمريكا، إذ أن إله الجميع واحد، ولا يمكن أن يكون أكثر انعطافا على الأوربي منه على الأمريكي، فالشرقي، بل إن الشرقيين عموما، أكثر تمسكا بعقائدهم من الغربيين، وقد علمنا أن أوربا فاقت شرقكم بمراحل، ونرى اليوم أمريكا تزاحم أوربا، وكثيرا ما فاقتها في اختراعاتها وفنونها، ولم يكن ذلك لأن الله سبحانه وتعالى أميل إلى الأمريكي منه إلى الأوروبي أو الشرقي، ولكن لأن الأخير مستميت والأول حي، هذا يشتغل مجتهدا، وكلما زادت أرباحه زاد نشاطا وإقداما، وذاك يقضي حياته بين القنوط واليأس مستسلما، ولهذا تقدم الأوربي وتأخر الشرقي وضيق أوربا بأهلها دفعها إلى الاستعمار في كل صوب، فصادف أبناؤها أرضا واسعة وشعوبا لا حراك بها، فقبضوا على الأعمال السياسية والاقتصادية فيها.
وهنا استسمحت حضرة المسيو هانوتو وقلت له: إذا كنت تحب مصلحة المسلمين، وتعتقد أنهم راضون في تونس، فهل تعتقد ذلك في أهل الجزائر، ولماذا لا تسأل الحكومة الفرنسية أن ترى في أحوال هؤلاء؟
فقال: أمَّا التونسيون فلا خلاف في أنهم مسرورون بحالتهم، ونحن قد دخلنا بلادهم وهي قاع صفصف فوق شملها أفراد حكمها، وأمَّا نحن فقد تركنا للسكان حقوقهم المذهبية، فاحترمنا جوامعهم وعقائدهم وأحوالهم الشخصية، ولم نسألهم إلا أمرا واحدا أي احترام سلطتنا السياسية، فأدركوا هذه الحقيقة وعملوا بها، ولهذا كان النجاح عظيما في مدة قريبة، وأنت تعلم أن مذهبي في الاستعمار وضع الحماية كما هو في تونس لأضم المستعمرة إلى فرنسا، كما فعلنا في مدغشقر بالرغم من معارضتي ذلك، وقد رضيت به منقادا لأوامر أكثرية دار الندوة، ولا أنكر أنه يجب تعديل بعض قوانين الجزائر، وقد شرعنا في ذلك، وسأكتب كثيرا في هذا الموضوع، لأني ذهبت بنفسي إلى تلك البلاد، ودرست أحوالها، وأملي ألا يمضي زمن حتى ترى ذلك الإصلاح الذي طلبه غيري وشرعت حكومتنا في إنفاذه.
قلت: إني أعرف ما سردته لي عن تاريخ السلطتين الدينية والسياسية في أوربا وعن أحوال شعوب القطرين، (تونس والجزائر) ولكن ذلك مستحيل في الشرق ولا سيما في الحكومة الإسلامية، والذين يقولون به من الأجانب ليسوا إلا خصوماً للمسلمين، لاعتقاد هؤلاء أن في فصل السلطتين ضعفاً ترومه أوربا لتنال بغيتها منهم.
قال هانوتو: أنا لا أسأل الشرق ذلك فهو حر يفعل ما يشاء، ولكن أعتقد أن أوربا لم تتقدم إلا بعد تعيين حقوق السلطتين، وجعل الكلمة الأولى للسلطة الحاكمة، كما أني أعتقد أن جمع السلطتين في شخص واحد لم يمنع أن تخسروا في الحروب الماضية، وأعتقد أيضاً أن صاحب السلطتين ولا سيما في بلاد كالشرق يستطيع أن يجري إصلاحات لا يقدر غيره عليها، ويعلم المسلمون أن جمع السلطتين في شخص واحد لم يمنع فرنسا من الاستيلاء على الجزائر وتونس، وإنكلترا من التهام الهند، وروسيا من أخذ تركستان وغيرها إلى حدود أفغانستان، كما أنه لم يمنع استلال مراكش وبلاد فارس، والمملكتان إسلاميتان، فإذن كان يستحيل توحيد سلطتهما الدينية، وإذا كان الإسلام كما قلتم ويقول كتابكم إنه لا يحول دون التقدم العصري فما بالكم متأخرون ونحن متقدمون؟ وبماذا تردون على أولئك الكتاب الذين لا يعتقدون اعتقادكم؟ فإذا قلتم إن أوربا تحول دون الإصلاحات، إذن، فلم تأخرتم واليابان تقدمت؟ وهي لم تشتغل إلا ربع قرن حتى وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم، فأصبحت أوربا تقدرها قدرها في جميع مسائل الشرق الأقصى.
وإذا قال لكم أولئك الكتاب إننا مقتنعون بأن أوربا وشعوب تركيا حالت دون إصلاح الولايات الواقعة في أوربا والقريبة من أوربا كسوريا مثلا سألتكم، هل مسلمو بغداد وما بين النهرين وحلب راضون عن أحوالهم؟ أيظن رجالكم وكتابكم أننا نحن وكتابنا جاهلون أحوالهم هنالك حيث لا أوربي ولا غيره يحول دون تعميم العدالة وحفظ حقوق المتقاضين؟
وأنا أعرف أن أمثال هذه الحقائق يجرحكم ذكرها، ولكن قد حان لكم ألا يعميكم غرضكم عن الحقيقة ولو أنها خارجة من فم أجنبي، مادام كتابكم لا يقولونها فقط بل يكذبونها، كأني بهم يساعدون الظالمين من حكامكم على ما يأتونه من المغارم والمظالم، فكان ذنبهم نحو وطنهم أعظم من ذنب الحكام الظالمين.
وإني أقول لك هذا بعد الذي قرأته في جرائدكم ردا على ما كتبته، فقد عدوني خصما لهم، ونسوا خدماتي لهم وأنا في منصة الوزارة الخارجية في أيام المسألة الأرمنية، فإذا كان هذا رأيهم في صديق خدمهم، فماذا يكون حكمهم على خصم جهر بعدواتهم؟ ولكن فليعلم هؤلاء أنه إذا حدثت أمثال تلك الحوادث في المستقبل فيستحيل على وزير أوربي أن يقبل مثل تلك السياسة.
ولا أقول هذا من باب العداء، بل لما نراه من تعديل أوربا على وجه عام مبادئ سياستها الخارجية مع الشعوب الشرقية، فإن الدول ستكون واحدة في المستقبل كما ترى الآن في مسألة الصين.
فقلت للمسيو هانوتو: وما شأنكم والشرق وأممه فكلاهما راض عن حاله، ومفضل لها على كل سلطة أجنبية أو أوربية، والذي ينفر الشرقي هو ظلم أوربا في سياستها هذه، وعتبنا على فرنسا أكثر من غيرها لأنها عودتنا حماية الضعيف من القويّ.
فقال الوزير بعبارة صريحة: إن هذه الأقوال خيالية لا تنطبق على حالة أوربا في هذا الزمان، فهي بعد أن كانت لا تهتم بغير قادتها، قد اندفعت إلى الاستعمار، ولا تقف عند دعوى العدالة وغيرها، واعلم أن فرنسا مضطرة، مادامت لا تقدر على منع الدول الثانية عن توسيع نطاقها الاستعماري والتجاري إلى الاقتداء بالدول المذكورة.
وإني أرى كتابكم وأفراد أمتكم يجهرون في غالب الأحيان بأفكار صبيانية فيستعبدون للألماني لنكاية الإنكليزي، وينتصرون للفرنسي على الألماني، ولكن أمَا حان لهم أن يعلموا أن الأوربيين مهما اختلفت أجناسهم ومذاهبهم من السهل اتفاقهم على الشرقيين؟ لأن هؤلاء لا يعملون عمل العامل البصير باستخدام مصلحة هذه الدولة أو أغراض تلك الأمة لإصلاح شئونهم بل لمعارضة دولة ثانية، وهي سياسة قديمة العهد لا تعتد بها أوربا اليوم.
وأنت تعلم أن ألمانيا أكثر الدول في أوربا استقراراً، وأبعدها عن الاستعمار، وهي التي اقترحت تجديد مناطق النفوذ في الصين، وهي التي سألت امتياز إنشاء «سكة حديد» بغداد، مما يدلكم على أن أوربا لا تسعى إلا إلى مصلحتها السياسية.
ثم قال لي: أنت تقول لي إن الساسة المسلمين لا يعتقدون بإخلاص سياسة أوربا كلها أو بعضها، ولهذا يخافون من مصافاة هذه الدولة خوفهم من معاداة تلك لا سيما وأن أكثر الدول تطمع في أملاكهم، وحضرتك أكدت ذلك في كلامك الآن عن سياسة أوربا.
والمسلمون يعتقدون أيضاً أن مصلحة أوربا المسيحية تخالف مصلحتهم الإسلامية، ولذلك لا يأمنون على أنفسهم من سياسة الدول المسيحية، وقد أدى بهم فقدان هذه الثقة إلى ألا يأتمنوا مسيحيا عثمانيا ولو أخلص لهم الخدمة وصدق معهم، وهم يؤيدون سياستهم هذه لما رأوه من تدخل أوربا في أعمالهم، ومن أفعال الموظفين غير المسلمين في المناصب السياسية العثمانية سواء أكان في بلاد الدولة أم في سفارتها، وأنت تقول لي إن في ذلك بعض المغالاة ولكنهم يعذرون.
فهذا الذي تقوله لي اليوم قد سمعته منك من قبل وقاله لي بعض العثمانيين في الآستانة وباريس.
ولكن تفنيده أمر سهل وإليك البرهان: لا يسعك والساسة المسلمين أن تنكروا أن بعض دول أوربا قد اتفقت مع الدولة العثمانية على دول ثانية مسيحية في أوربا، فإن هذا حصل قولاً وفعلاً في حرب القرم، فنحن وإنكلترا لم نبخل بالمال والرجال لمساعدة دولتكم العثمانية، ونحن وروسيا وألمانيا منعنا بعض دول أوربا عن نيل أغراضها في المسألة الأرمنية، بالرغم من هياج الرأي العام الأوربي وتصريح بعض الدول بمعارضتكم، وتلك أمور حديثة العهد يعرفها رجالكم كما نعرفها نحن.
وإذا راجعنا حوادث التاريخ القديمة تبين لنا أيضاً أن فرنسا وبولونيا وغيرهما حالفت الدولة العثمانية ضد دولة ثانية مسيحية، مما يدل على أن ضالة أوربا مصلحتها الاقتصادية والسياسية، ولا دخل للاعتقاد البتة في أعمالها، ولعمرك هل منع ألمانيا كونها مسيحية أن تحارب أوستريا وفرنسا المسيحيتين؟ وألم تحارب إيطاليا أوستريا؟ وهل منع فرنسا مذهبها الكاثوليكي من أن تحالف روسيا ومذهبها أرثوذكسي؟ وهكذا قل عن التحالف الثلاثي بين البروتستانتي الألماني والكاثوليكي النمسوي والإيطالي، وهذه الترنسفال دينها كدين إنكلترا وأهلها من أقرب العناصر إلى الجنس السكسون، وقد حاربها الإنكليز وغرضهم سلب استقلالهم.
كل هذه شواهد قديمة العهد وحديثة تفند زعم حضرتك ومزاعم ساسة الشرق.
وإني أتساهل معك وأقول، إن بعض دول أوربا يريد لكم سوءاً، وإن هذا ولد فيكم عدم الثقة بنا نحن الأوربيين، ولكن إذا كان قد استحال على دول الشرق، وهي في أوج مجدها وشامخ عزها، أن تتحد وتوحد كلمتها، فهل يسهل ذلك عليها اليوم؟ وإذا كان المسلمون يعدون سياسة أوربا عداء لمصلحة الإسلام، لأن أوربا مسيحية، وهو زعم باطل، فهل كان ما ينادون به من وجوب الاتحاد الإسلامي وجمع كلمة المسلمين مما يخيف أوربا، ويمنعها عن إنفاذ ما يتهمها به المسلمون؟ وكيف يمكن ذلك الاتحاد المزعوم؟ أترضى به أوستريا ولها البوسنة والهرسك وهي طامعة في غيرهما؟ أم تقبله فرنسا مع أملاكها الأفريقية الواسعة؟ أم تؤيده إنكلترا وعدد رعاياها المسلمين عظيم؟ أم تعضده روسيا؟ أليس ذلك خرقا في الرأي من الذي ينادون بهذه السياسة؟ كأني بهم هم الذين يريدون إنفاذ ما يطلبه كيمون وغيره من كتاب أوربا، وقد كان أولى لمثل أولئك الكتّاب أن يكتبوا كتابات أدبية بلغات الكتبة الأوربيين لتفنيد أقوالهم ولاستمالة الرأي العام الأوربي إليهم.
أمَّا ما كان يجب عمله على رجالكم سواء كان الذين عركتهم حوادث السنين الغابرة أو الذين درسوا في أوربا وتعلموا بعض علومها ووقفوا على قليل من مبادئها وسياستها فهو أن يهتموا بنشر العلوم العصرية في بلادهم، وأن يعملوا في الخارج على إزالة سوء التفاهم الواقع بين الشرق والغرب، بأن يتخذوا إقدام أوربا واجتهاد أبنائها مثالا يسيرون عليه، وأنموذجا يعملون بموجبه، أي كما فعل اليابانيون في السنين الأخيرة.
وأنت تعلم أن الذي نبَّه اليابان هو خوفها من أوربا، وهي التي لم تتعز عن ضعفها باحتقار الأوربي وذمه والمباهاة بمجد الآباء، ولم يقل ياباني بتحقير الأجنبي، لأنه عنصر غريب، أو لأنه مسيحي ودينه بعيد بمراحل عن دين أهل اليابان بل قال رجال هذه المملكة بوجوب محاربة أوربا، ولكن بسلاح أوربا، أي بأن تتشبه بها في العلم والمدنية والإقدام، ولهذا فازت في مطالبها، وحالت دون فتوحات الأوربي الاقتصادية أولا فالسياسية ثانيا… ولو أتى رجال الشرق القريب هذا المأتى منذ حرب القرم لما شكا مسلم من أوربا، ولما شكا كاتب أوربي من حال الشرق وأهله، بل لو فعلوا وحدث انقلاب عظيم في السياسة الأوربية سواء كان في أوربا أو في الشرقين الأقصى والأقرب لكان دون شك حظ دولتكم العثمانية أضعاف حظوظ أعظم دولة أوربية.
وأراني في هذا الشرح قد بلغت ما قصدته من تفنيد ما يزعمه رجالكم الذين إذا رجعوا إلى نفوسكم عرفوا هذه الحقائق كما نعرفها نحن، وقد كان يجب عليهم أن يجهروا بها خدمة لأمتهم ولوطنهم لا أن يتجاهلوها ويكذبوها.
وتقول لي إن النهضة العلمية بدأت في مصر، وإن بعض الأفراد أنشئوا المدارس، وإن الجناب السلطاني قد اهتم كثيرا بتوسيع نطاق المعارف في البلاد العثمانية، وإن أصحاب النشأة الجديدة أدركوا قصور الحكام، وتأخر البلاد، فقاموا يجاهرون بوجوب الإصلاح وتعميم العدالة، والأمل وطيد بالنجاح.
ولكن الطفرة محال وهذا أمر يسرني ويشرح صدري لأني أرغب رغبة خالصة في نجاح شرقكم، ولكن يجب أن تعلم أن العبرة ليست فقط في إقامة المدرسة بل في وضع «البروجرامات» المدرسية، كما أن العلم وحده لا يكفي وقد يضر إذا لم يمزج بالتهذيب، فإني لا أجهل أن كثيرين من أبناء الشرق درسوا في أوربا، وقد يربو عددهم على عدد اليابانيين الذين درسوا في أوربا أيضاً.
ولكننا رأينا في اليابان نتيجة لم نرها حتى الآن عندكم، ولعلنا نراها يوماً لأني أعتقد أن رجال النشأة الجديدة ينجحون نجاحاً كاملاً إذا كان غرضهم خدمة الوطن منزهة عن كل غاية شخصية أو مذهبية، لأن الواحد قد يجمع أكثر من عنصر ومعتقد، ولكن الاعتقاد وحده لا يجمع إلا عنصرا واحدا، وأنت تعلم أن الفرنسي يشمل الكاثوليكي والبروتستانتي والمسلم واليهودي والوثني وغيرهم من رعايا فرنسا، ولكن الكاثوليكي الفرنسي والأرثوذكسي الفرنسي لا يشمل كل فرنسي.
لهذا كانت السلطة المدنية أهم وأشد من الرابطة الدينية، وهي التي كانت قاعدة أوربا الأولى في سياستها وبها تقدمت وتمدنت ونجحت، وإلى هنا قد أجبتك على جميع ما أردت أن تعرفه مني عن رأيي في الشرق. ================================================ ١ اختلفت الآراء وتضاربت في تقرير دوافع الحروب الصليبية فقال البعض إنها حروب دينية بحتة، وقال آخرون إنها حروب استعمارية. والواقع الذي يستطيع كل من تتبع تاريخ هذه الحروب أن يلمسه ويدركه، هو أن هذه الحروب كانت دوافعها دينية واستعمارية. ------------------------------------------------------------------------------------- |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الإسلام بين العلم والمدنية الجمعة 14 يونيو 2024, 3:15 pm | |
| رد الأستاذ الإمام ١ قرأت الساعة مقال مسيو هانوتو المترجم في جريدة المؤيد نقلاً عن جريدة «الجورنال» الباريسية تتميماً لبحثه السابق.
بحثه السابق وشيء من تتمته إنما هو دافق من غيرته على شئون دولته، يريد أن يدعو قومه إلى التبصر في وضع قاعدة ممالكهم، وذلك لا يتم على مذهبه إلا بالبحث في طبيعة الأمر الذي صار به المسلمون غير مسيحيين، وبه يفضل المسلمون سلطة إسلامية على سلطة فرنسية.
فإن أمكن تلقيح ما عليه المسلمون لمعاملة المسلمين الذين يدخلون تحت ولايتهم، أو يجاورونهم في الولاء الفرنسي، وسهل الجمع بين ما وقر في نفوسهم وبين الخضوع الأعمى لسلطان فرنسا، وطاب الجوار في قلوب الملة الإسلامية لعقيدة الإسلام والطاعة لكل أمر يصدر من آخر فرنسي في طبقته، صح للدولة الفرنسية أن تمن على المسلمين بالبقاء في الأرض وإلا وجب عليها أن تحمل عليهم فتبيدهم من البسيطة أو تجليهم إلى قارة أخرى.
ولهذا جره البحث إلى النظر في أصول دين المسلمين، والمضاهاة بينه وبين الدين المسيحي، بل بينه وبين أديان كثيرة أشار إليها في كلامه، ثم الحكم في تفضيل أحد الدينين على الآخر بآثار كل منهما في نفوس معتقديه.
أمَّا غايته من البحث وتناوله بيده يحرك به نيران العداوة في قلوب الفرنسيين ليثير عزائمهم إلى حرب المسلمين وليكون مسيو هانوتو للأمة الفرنسية اليوم مثل ذلك الراهب الذي أثار تلك الحروب المعروفة.١ فذلك أمر نكل فائدته إليه وإلى علمه بمكان دولته من القوة، ومنزلة تمدنه من المرحمة والإنسانية، ونلفت إليه ذكاء بعض شبابنا من المسلمين الذين يعرفون اللغة الفرنسية ويتجملون بآداب الأمة الفرنسية ويطربون إذا ذكرت المدنية الفرنسية.
ولو لم يتعرض مسيو هانوتو إلى الطعن في أصل من أصول الدين ما حركت قلمي لذكر اسمه وكان حظي من النظر في مقاله هو العظة والاعتبار —حظ الناظر في أحوال الأمم وأعمال رجالها— حظ المؤرخ الذي يقرأ ليفهم، ويفهم ليعلم ويحكم، ولا يهمه أخطأ القائل أو أصاب.
أمَّا ما جاء في التحكك بأصول الدين فهو الذي أغمزه بما أكتب اليوم.
يرى الناظر في كلام مسيو هانوتو لأول وهلة أنه مقلد في التاريخ كما هو مقلد في العقائد، وأنه جمع خليطاً من الصور وحشرها إلى ذهنه، ثم هو سلّط عليها قلمه ينثرها كما يشاء القدر ليدهش بها مَنْ لا يعرف الإسلام من الفرنسيين وهو جمهورهم.
أكثر من ذكر التمدن الآري والتمدن السامي والتفريق بينهما، وأن أحدهما قهر الآخر وأن التمدن الآري هو الذي ظفر بقرينه التمدن السامي وما يشبه ذلك.
إن مهد التمدن الآري ومنبت غراسه (الهند) لا يزال إلى اليوم على الوثنية التي يحبها مسيو هانوتو في أغلب أنحائه، ولكن أهله هم الذين قضوا على الآخذين بعقائدهم أن ينقسموا إلى أقسام لا يمكن الخلط بينها بل يدوم تباينها مادامت الأرض أرضا.
ومن طبقاتهم من قُضي عليه بالانحطاط في العقل والخلق والصناعة لا يباح له أن يرتقي إلى طبقة ما فوقه إلى انقضاء العالم، وهو الجمهور الأغلب منهم، وفيهم من حكم عليه بالنجاسة حتى لا يباح لأهل طبقة أخرى أن تمسه.
والاعتقاد بفناء العالم، وإنه لا يليق بالإنسان أن يهتم بشئون العيش هو مبنى عقائدهم.
فهل جاء هذا للآخذين بدين البراهمة من التمدن السامي، وهو لم يعرفهم إلا في آخر الزمان.
ولم يخالط إلا قلوب القليل منهم، كما لا يخفى على من له إلمام بجغرافية البلاد الهندية.
ثم هل يظن مسيو هانوتو أن التمدن الذي وصل إليه الأوربيون حمل إلى أوربا مع المهاجرين الأولين الذين رحلوا من البلاد الشرقية الآرية إلى الأقطار الغربية؟
ألم يخطر بباله تلك العظائم التي انتفخ بها بطن التاريخ وما كانت عليه أوربا الآرية من الهمجية، وإن العلم والمدنية لم ينبعها من معينها، وإنما جاءها هذا بمخالطة الأمم السامية كما يعلمه المطلع على تاريخ اليونان الأقدمين وهم أساتذة الأوربيين الآخرين كما يزعم مسيو هانوتو؟
ما هذا التمدن الآري الذي كانت عليه أوربا عندما انتقص أطرافها المسلمون؟
هل كانت تلك المدنية هي التسافك في الدماء، وإشهار الحرب بين الدين والعلم، وبين عبادة الله والاعتراف بالعمل؟ نعم! هذا هو الذي كان معروفا عند الغربيين وقتما ظهر الإسلام.
ماذا حمل الإسلام إلى أوربا، وما هي ذي المدنية التي زحف عليهم بها فردوها؟ زحف عليهم بما استفاد من صنائع الفرس وسكان آسيا من الآريين، زحف عليهم بعلوم أهل فارس والمصريين والرومانيين واليونانيين، نظف جميع ذلك ونقاه من الأدران والأوساخ التي تراكمت عليه بأيدي الرؤساء في سائر الأمم الغربية لذلك التاريخ وذهب به أبلج ناصعا يبهر أعين أولئك الغافلين المتسكعين الذين كانوا في ظلمات الجهالة لا يدرون أين يذهبون.
إني أكيل لمسيو هانوتو إجمالا بإجمال، والتفصيل لا يجهله قومه، وكثير من منصفيهم لم يستطع إلا الاعتراف به.
إن أول شرارة ألهبت نفوس الغربيين فطارت بها إلى المدنية الحاضرة كانت من تلك الشعلة الموقدة التي كان يسطع ضوءها من بلاد الأندلس على ما جاورها، وعمل رجال الدين المسيحي على إطفائها مدة قرون فما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
واليوم يرعى أهل أوربا ما نبت في أرضهم بعدما سقيت بدماء أسلافهم المسفوكة بأيدي أهل دينهم في سبيل مطاردة العلم والحرية وطوالع المدنية الحاضرة.
يحار القارئ لكلام مسيو هانوتو في معنى المدنية السامية التي جاء بها الإسلام وتصادم بها مع المدنية الآرية.
ولعل عنايته بالألفاظ التاريخية مع قصوره عن النفوذ إلى حقائق ما أودعته هو الذي قصر به عن النجاح في أعماله في السياسة الخارجية بين أمة مثل الأمة الفرنسية التي تنقاد بذكائها إلى الأذكياء.
والعارف بطباع الأمم لا يعسر عليه أن يقودها إلى ما يضمن لها الفوز على جيرانها، وإنما العسر كل العسر أن يوجد ذلك العارف اليوم.
إن الناظر في التاريخ تحمر عيناه من مناظر الدماء المتجسدة على جليد الأزمان، ذلك مما سفكه أهل ذلك الدين المتحد بالمدنية الآرية ليقاوموا دعاة تلك المدنية السامية ويخمدوا نارها.
إن صح الحكم على الأديان، بما يشاهد في أحوال أهلها وقت الحكم، جاز لنا أن نحكم بألا علاقة بين الدين المسيحي والمدنية الحاضرة، فإن الإنجيل بين أيدينا نقرؤه ونفهمه ولا يغيب عنا شيء من دقائق معناه، يأمر الإنجيل أهله بالانسلاخ عن الدنيا والزهادة فيها، ويوجب عليهم إذا سلبهم السالب قميصا أن يعطوه الرداء أيضا، وإذا ضربهم الضارب على خدهم الأيمن أن يديروا له خدهم الأيسر، وأن يفنوا بكليتهم في الأب، ويقضي عليهم أن دخول الجمل في سم الخياط أيسر من دخول الغني ملكوت السماوات، وما شابه ذلك من الوصايا الملكوتية التي تليق برسول إلهي رباني يدعو الناس الانقطاع عن هذا العالم الفاني ليليقوا بالانتظام في أهل ذلك العالم الباقي.
هل خطر ببال مسيو هانوتو أن يجعل ما لله لله وما لقيصر لقيصر كما أوصى الإنجيل، وهل رأى مثالا لذلك في المدنية الآرية التي تآخت مع الدين المسيحي؟ العيان يدلنا على أن شيئاً من ذلك لم يكن.
فإن هذه المدنية إنما هي مدنية الملك والسلطان، مدنية الذهب والفضة، مدنية الفخفخة والبهرج، مدنية الختل والنفاق، وحاكمها الأعلى هو الجنيه عند قوم والليرة عند قوم آخرين، ولا دخل للإنجيل في شيء من ذلك.
أوصى المسيح بأن يترك ما لقيصر لقيصر حتى لا يشغب المسيحيون على ملوكهم من غير دينهم فانقلبت الحال بهم، وأصبحوا لا يحتملون أن يروا لهم رعايا من غير دينهم فضلاً عن ملوك.
نعم يوجد قوم الآن يقيمون أوامر الإنجيل وهم جماعة من الأمريكان تركوا بلادهم وخرجوا من ديارهم وأموالهم وجاءوا إلى القدس الشريف ينتظرون نزول المسيح ليستقبلوه لأول هبوطه على المنارة المشهورة، وليكونوا أول من يقبل قدميه ويديه.
وهم من طهارة القلب وسلامة النفس ونزاهتها عن الطمع بحيث انقطعوا عن كل عمل سوى النظر في الكتب المقدسة.
فإن كانت هذه هي المدنية الآرية التي صارعها الدين الإسلامي فأنا أول من يسلم لحججه ويقتنع بأدلته.
من الساميين الفينيقيون وهم أساتذة القوم في الصناعة والتجارة بل والقراءة والكتابة، ومنهم الآراميون وقد كانت لهم مدنية لا تنكر أيام الرومانيين، وما كان الغربيون لينكروا فضلهم في ذلك.
ومبادئ الصناعة والعمل عند جميع الأقوام المرتقية في سلم الإنسانية واحدة، وإنما يختلف قوم عن قوم بما تحدثه في نفوسهم ضرورات المعيشة، وما تجلبه عليهم عاصفات الحوادث، وما تطبعه فيهم طبائع الأقاليم ولازالت الأمم يأخذ بعضها من بعض في المدنية، لا فرق عندهم بين آري وسامي متى مست الحاجة إلى تناول عمل أو مادة أو ضرب من ضروب العرفان لدفع ضرورة من ضرورات الحياة، أو استكمال شأن من شئونها.
وقد أخذ الغرب الآري عن الشرق السامي أكثر مما يأخذه الآن الشرق المضمحل عن الغرب المستقل، فلم يبق من معنى للمدنيّة يريده حضرة الكاتب إلا الدين وقد ظهر في كلامه أن الدين السامي يراد منه التوحيد والدين الآري يعني به ما يقابله.
وإني أقرر لهذا الوزير الشهير حقيقة بدهية يعرفها صبيان المكاتب وهي أن دين التوحيد ليس دينا ساميا بل هو دين عبراني فقط عرف به إبراهيم عليه السلام وبنوه ومنهم عيسى من جهة أمه وأصحابه وأنصاره الأولون.
أمَّا بقية الساميين من عرب وفينيقيين وآراميين وغيرهم من الأمم المذكورة في الكتاب المقدس وهو يعرفها، فقد كانوا وثنيين مشهورين مشبهين ولم يخالفوا في ذلك بني عمهم أو أعداءهم الآريين، وقد خاض الكاتب في تفضيل التشبيه والتجسيم على التوحيد، وذكر لذلك عللا وأسبابا أدته إليها سعة إطلاعه في الفلسفة وأحوال الاجتماع الإنساني، وسنأتي على الكلام فيها.
وقبل إلقاء القلم أذكر الذين يتفانون في إجلال مثل هذا الوزير كما يتفانى المسلم في الله على رأيه إني إن صغرت شأن هانوتو في معارفه التاريخية فذلك لأنه صغير فيها حقيقة، وكثير من قومه يعرف ذلك منه ولأنه لا أمير في العلم إلا العلم والسلام. ٢ تحرش مسيو هانوتو بمسألتين من أمهات مسائل الدين، القدر والتوحيد أو التنزيه، وبعد أن خلط في بيان وجه الإشكال في المسألة الأولى واختلاف الناس فيها قديما، وأنهم انقسموا إلى فريقين: قائل بأن العبد مسير بقدرة الله لا عمل لإرادته في فعله، وذاهب إلى أن خالقه وهبه اختيارا يتصرف به فله ما كسب وعليه ما اكتسب، قال إن الرأي الأول يحط الإنسان إلى حضيض الضعف، والثاني يرفعه إلى ذروة القوة، ثم وصل الأول بمذهب البوذيين القائلين بفناء الموجودات في الوجود الأزلي، والثاني بمذهب اليونانيين القدماء الذين يدينون بتشبيه الإله بالإنسان في أوصافه المادية، وأن الأول قعد بأهله والثاني ارتفع بمعتقديه إلى مراتب الكمالات الإنسانية!! وهو خلط وخبط لم يعهد لهما مثيل.
ثم انصب على الديانتين المسيحية والإسلامية وقال إنهما تمثلان ذاك المذهبين، أي مذهبي الناس في القدر، وأن الأولى ربانية ورثت ما ترك الآريون، والثانية بشرية أخذت ما ترك الساميون، وأن الأولى ترقى بالإنسان إلى المقام الإلهي، والأخرى تنزل به إلى أسفل درك حيواني، ويظهر ميل كل من الدينين ظهورا بينا في الأصل الذي بُني عليه كل منهما، فأصل الأول هو إيجاد الإله الأب للإله الابن حتى كان إلها بشرا، واتصال الإلهين بروح القدس.
وأصل الثانية تنزيه الإله عن البشرية وتقديسه إلى حد تنقطع فيه النسبة بينه وبين الإنسان، ثم رجع بعد هذا إلى الخلط بين الدينين وردهما إلى أصول واحدة وعقد التشابه بينهما إلى آخر ما أطال به على غير جدوى.
هل عهد بين الكتّاب وأهل النظر تشويش في الفكر وخلل في المقال يشبه ما جاء به هذا الكاتب؟ أدع الحكم في ذلك لمن له أدنى إلمام بمذاهب الأمم وآرائهم.
لم يختص الكلام في القدر بملة من الملل مشبهين أو منزهين، ولا دخل للتشبيه والتنزيه في شيء من ذلك بل كان منشأ الكلام في ذلك الاعتقاد بإحاطة علم الله بكل شيء وشمول قدرته لكل ممكن.
وقد عظم الخلاف في المسألة بين المسيحيين أنفسهم وهم مشبهة في رأي مسيو هانوتو، وبدأ النزاع بينهم قبل الإسلام واستمر إلى هذه الأيام.
ولعل هانوتو اطلع على مذهب التوميين —أتباع القديس توما٢— أو الدومينيكيين وهم جبرية وأشياع (لويولا) وهم قدرية واختيارية، ولكل من المذهبين شيعة بين أهل الملة المسيحية.
وليس هذا بمذهب سامي كما يزعم، بل لم تنبت أصوله ولم تتشعب فروعه إلا بين الآريين.
ثم انتقلت عداوة إلى غيرهم.
هل سمعت بيهودي استلقى على قفاه وترك العمل اتكالا على القدر؟ هل سمعت بأحد من الفينيقيين (وقد وصلوا بزوارقهم ذات المجاديف إلى جزائر بريطانيا) إنه كان ينام ويتلذذ بالأحلام اعتمادا على ما يسوقه إليه الغيب؟ لكن سمعنا بذلك في الأديار وبين الرهبان وعرفنا أخبار ذلك الجيش العرمرم من المتكلين الذين كانوا يعيشون عالة على الناس حتى ضجت منهم أوربا في زمن من الأزمان وطلبت الخلاص منهم بالصارم والبتار.
وقد اشتهر مذهب أهل البخت والاتفاق بين اليونانيين ولم يخف أمره على صغار المتعلمين لمبادئ الفلسفة — ذلك المذهب الذي يبتدئون كتب الفلسفة بإبطاله وهو مذهب القائلين إن الأشياء توجد بالاتفاق أو بالمصادفة ولا يحتاج الممكن في وجوده إلى سبب.
أليس هذا أدخل في باب الجبرية من إسناد كل أمر إلى خالق الكون؟ وهل يرتفع هذا المذهب بمعتقده الآري إلى منازل الرفعة ومكانات الشرف.
جاء القرآن الشريف، وهو الكتاب المنزل بالإسلام، يعيب على أهل الجبر رأيهم، وينكر عليهم قولهم لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ — بقوله: (كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ) وأثبت الكسب والاختيار في نحو أربع وستين آية.
وما جاء به مما يتوهم الناظر فيه ما يخالف ذلك فإنما جاء في تقرير السُّنن الإلهية العامة المعروفة بنواميس الكون كما في آية ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة إلخ ونحوها.
والعاقل يرى الفرق الجلي بين مسألة اختيار العبد في أفعاله وبين أثر القدرة الإلهية في أخلاق الأمم أو في تغريز الغرائز مثلاً.
فاختيار العبد في أفعاله مما يقر به الوجدان ولا ينكره إلا من جهل نفسه، لكن ما عليه الأمم من الاختلاف في الطبائع والغرائز والسجايا ليس لأحد من خلق الله فيه اختيار بل خلقه كخلق السماوات والأرض وما بينهما.
وجاء النبي صلى الله عليه وسلم في عمله وقوله بما يؤيد ذلك، فكان العامل الذي لا يكل، والدائب الذي لا يمل، والساهر الذي لا ينام، والجاد الذي لم يبلغ شأوه أحد من الأنام، هل نقل عنه أنه اتكأ يوما على وسادته واكتفى بالتسليم للقدر في إتمام دعوته قائلا: الذي كفل لي النصر يكفيني التعب، وضمان الله لإعلاء كلمة دينه تغنيني عن النصب؟ كلا بل لم تكن تزيده الوعود الصادقة إلا نشاطا، ولا تجد العصمة الإلهية من نفسه إلا حزماً واحتياطاً.
جاء أصحابه على أثره وتبعهم من جاء بعده من السلف الأولين وكانوا أكمل الناس إيمانا بإحاطة علم الله وشمول قدرته وأعرف الناس بقدر ما آتاهم الله من قوّتي العقل والاختيار وكانوا أسوةً في السعي ومثلا في الدأب والكسب حتى كان من آثارهم في نشر الإسلام ما يتألم منه اليوم هانوتو وأمثاله.
هذه هي العقيدة السامية أو الدعوة المحمدية أو المدنية الإسلامية ارتقت بأربابها وهم من أهل البداوة في قاصية من الأرض لم يتلمظوا بشيء من نعيم الحضر، ولم يتذوقوا طعم العلم والصنعة، حتى بلغت بهم ما بلغت واستوت بهم على عروش العزة والسلطان، ثم بلغوا بها من رقة الوجدان وصفاء العقل مبلغا مكنهم من التلطف بالأمم حتى وقفوا على ما كان خفيا لديها، وكشفوا ما كان مستورا عندها، واستخرجوا من كنوز معارفها ما ظهر فضله على الأوربيين بعد عدة قرون من البعثة النبوية.
ولكن وا أسفاه نتأت رءوس بين المسلمين، كأنها رءوس الشياطين، واحتملت غشاء من قمش الآريين، وقذفت به في الأرض الطاهرة فتدنس به أديمها، وانتشر قذره، وعظم ضرره.
جاء الموالي من عجم الفرس والرومان ولبسوا لباس الإسلام وحملوا إليه ما كان عندهم من شقاق ونفاق وأحدثوا في الدين بدعة الجدل في العقائد، وخالفوا الله ورسوله في النهي عن الخوض في القدر، وخدعوا المسلمين ببهرج القول وزور الكلام، حتى كان ما كان من تفرقهم شيعا والله يقول لنبيه: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ).
وجد بين المسلمين طائفة تعرف بالجبرية ولكنها كانت ضعيفة ضئيلة يقذفها الحق، ويطردها العقل، وينبذها الدين، حتى انقرضت بعد ظهورها بقليل ولم تبق بينهم بقاء التوميين بين النصارى.
وغلب على المسلمين مذهب التوسط بين الجبر والاختيار،٣ وهو مذهب الجد والعمل وصدق الإيمان، وأخذه عن المسلمين في أخريات الأيام أهل النظر من النصرانية مثل «بوسويه» ومن مال ميله وتبعهم الجمهور الأعظم منهم.
ولكن لا أنكر أن الزمان تجهم للمسلمين كما كان قد تنكر لغيرهم، وابتلاهم بمن فسد من المتصوفة من عدة قرون، فبثوا فيهم أوهاما لا نسبة بينها وبين أصول دينهم فلصقت بأذهانهم لا على أنها عقائد ولكنها وساوس قد تملك الجاهل وتربك العاقل إذا لم يغلبها بعوامل الدين الصحيح، فنشأ الكسل بين المسلمين، يفشو الجهل بأصول دينهم، وعاون على ذلك ميل الأعلياء منهم إلى توريطهم فيما هم فيه كما هو شأنهم في كل أمة.
وهذا الضرب من المتصوفة أيضاً من حسنات الآريين، فإنه جاءنا من الفرس والهنود بما بقي فيهم من عقائدهم الأولى.
ما أضل هانوتو وأمثاله من قصار النظر إلا أولئك الدراويش الخبثاء أو البله الذين يغشون أطراف الجزائر وتونس ولا يخلو منهم اليوم قطر من أقطار الإسلام ممن اتخذ دينه متجرا يكسب به الحطام، وجعل من ذكر الله آلة لسلب الأموال من الطّغام.
أمَّا لو رجع المسلمون إلى الحقيقة من دينهم لأدوا فرضهم، واستنبتوا أرضهم، واستغزروا من الثروة، وأعدوا لفرنسا ما استطاعوا من قوة، واعتمدوا في نجاح أعمالهم على معونة القدر، وأيقنوا في صولتهم علما أن ليس من الموت مفر، ثم صال صائلهم على مكان العزة منها، ونال ما ينال القوي من الضعيف، والعزيز من الذليل، ولانقلب جنونهم لدى هانوتو عقلا، وتحول هذيانهم حكمة وعلماً.
هذا ما يتعلق برأيه الضئيل في مسألة القدر عند المسلمين.
والآن آتي على آخر القول لكسر شرة هانوتو في تهجمه على الإسلام، وما نعني بالكلام فيه هو التوحيد والتنزيه وخصمه التشبيه والتجسيد (الاعتقاد بتجسد الألوهية) ونبدأ بالكلام في الثاني ونختم بالحديث عن الأول.
إن كان مسيو هانوتو قرأ شيئاً في أحوال الأمم ونشأة العقائد، وعقله يعلم أن الوثنية وتوهم السلطان الإلهي ظاهران في بعض الموجودات المادية كانت عقيدة الواقفين على أبواب الإنسانية لم يدخلوها ولم يتوسطوا منازلها وكانت لاتزال دليلا على انحطاط عقول أهلها مع تفاوت في درجات ذلك الانحطاط تبتدئ من وثنيي أفريقيا وتنتهي إلى بوذيي الصين وبرهمن الهند.
كلما ارتقى الإنسان في العلم، ولطف وجدانه بالفهم، ونفذ عقله في أسرار الكون، تمزقت دون روحه حجب المادة، وانجلى له الوجود الأعلى على تفاوت ذلك في درجات الظهور والانجلاء، ينتهي إلى الاعتقاد بوجود واحد واجب يستحيل عليه أن يلبس لباس المادة على النحو الذي يفطنه مسيو هانوتو وأمثاله لأن ما لا حد له محال أن تحيط بوجوده الحدود.
وقد كان هذا شأن اليونانيين الذين يفتخر هانوتو بمدنيتهم، نشئوا وثنيين ولا زالت الوثنية ترق وترث بارتقائهم في العلوم، وبحث فلاسفتهم في طبائع الكائنات حتى انتهوا وهم في ذرى مدنيتهم إلى التوحيد وتنزيه واجب الوجود عن مخالطة المادة.
وقف فيثاغورس على عتبة التقديس وجاء بعده سقراط وأفلاطون وأرسطو مجاهدين في كشف الغمة عن عيون شعوبهم باذلين الوسع في محو ما غشي نفوسهم من ظلمات الوثنية الأولى، ومن قرأ جمهورية أفلاطون التي نقلت إلى العربية أيام المأمون تحت اسم (المدينة الفاضلة) علم كيف كان يقارع أفلاطون ما بقي من آثار الوثنية من الآراء السخيفة والعادات الرديئة التي كانت تحول بين الأمة اليونانية وما ينبغي لها من الفضائل التي كان يطمع الفيلسوف أن تكون عليها.
وبعد أن أوصلهم العلم إلى التوحيد لم يرتد بهم التنزيه إلى الجهل، بل بقيت شمس مدنيتهم تشرق في العالم قرونا متعددة وكانت أشد بهاء وأبهر سطوعا.
كذلك قدماء المصريين لم يقف بهم العلم دون التوحيد، غير أن رؤساء دينهم لم ينشروا تلك العقيدة بين عامتهم واستبقوا صور العبادات الأولى وألبسوا التنزيه ثوب التشبيه استئثارا منهم بشرف العقيدة على من دونهم.
فترى ضعف العقل وقلة العلم ونقص الإدراك تقف بصاحبها عند الوسائط، وقوة العقل ونفوذ البصيرة، وسعة العلم تصعد بأهلها إلى مشهد الوجود الأعلى وتشرق بهم من هناك على العالم بأسره، فيرون عظيمه وحقيره سواء في النسبة إلى تلك القدرة الشاملة والعظمة الغالبة — الفاضل والمفضول والفروع والأصول وما ظهر للأبصار وما نفذت إليه العقول، كل ذلك يستمد وجوده من مشرق الوجود على مراتب قدرتها الحكيمة، وتمت بها النعمة فأي مقام أعلى من مقام صاحب هذه العقيدة حيث قام شاهدا على الكون بجملته ما فصل منه في فهمه، وما أجمل في كليّات علمه، يحكم عليه بأمر مربوب لرب واحد هو رب العالمين، وألا سلطان لشيء من هذا جميعه على نفسه لا في الإيجاد ولا في الإمداد، بل هو وحده يمكنه بما سن له الشرع الإلهي أن يصل بنفسه إلى تلك الحضرة وأن يستمد منها المعونة في كل شئونه.
ينقسم أهل التشبيه إلى قسمين: أحدهما من يعتقد الألوهية في بعض الموجودات المشهودة ويقف عندما يعتقد منها، والآخر يعتقد بأن باري الكون يظهر في بعضها.
أمَّا الأولون فهم الذين ضعف الإدراك فيهم عن الإحاطة بحقائق الأكوان، فإذا ظهرت عليهم آثار قوة من القوى أو سلطة حيوان من الحيوانات ظنوا ما ظهر المنفرد بالقدرة عليهم، وأنهم إليه يرجعون في جميع أمورهم، فهؤلاء يسلطون على أنفسهم ما شاءوا وشاء لهم الجهل من جماد وحيوان وإنسان، ولا يزالون حيارى في شئون حياتهم حيرتهم بين معبوداتهم ثم هم يقيسون معبوداتهم بأنفسهم لأنها ليست بأبعد منهم في النوع أو الجنس ويقدرون لها رغائب وشهوات تفوق رغائبهم وشهواتهم، يسارعون في إرضائها بما يعن لهم وكما تشرعه لهم أهواؤهم.
ومن ذلك كانت ترتكب القبائح في هياكل الآلهة وتنتهك حرمات الفضائل في محاربها وتُفترس الذبائح الإنسانية بين يدي التماثيل الحجرية، وأي درك ينحط إليه الإنسان أنزل من هذا، وأمر ذلك معروف في التاريخ ولا تزال مشاهده إلى اليوم معروفة.
أمَّا الآخرون فهم أرقى درجة من أولئك في الإدراك ولكن ماذا أصابهم ويصيبهم من ذلك الاعتقاد؟ كانوا إذا فاقهم إنسان في عقل أو شجاعة أو صدر منه ما لا يألفون من الأعمال أو ظهر بما لا يعرفون من الأحوال ظنوه مظهرا للوجود الإلهي فدانوا لسلطانه، واستكانوا لقهره، وأخذوا أنفسهم بالخضوع لإرادته فسلبهم كل ما كانوا يملكونه من عقل وإرادة وعزم، وحق عليهم الصغار ماداموا على تلك العقيدة.
وقد سهل هذا الوهم على كثير من أهل الدهاء أن ينزلوا من الناس منازل الآلهة طمعا في استعبادهم، وكم قاست الأمم من الرزايا التي جلبتها عليهم هذه العقائد الضالة.
ويقرب من هؤلاء قسم ثالث ليس بخير من القسمين الآخرين وهم المعتقدون بالوسائط.
ما قدروا الله حق قدره فقاسوه على الكبراء وأهل السمو منهم فظنوا أنه في ملكوته، كملك في جبروته، يصطفي لنفسه مدبرين من خلقه، ويستصنع عمالا للتصرف في شئون عباده، فإذا امتاز أحدهم بما يعتقدونه زلفى إلى الله، أو صدر منه ما يظنونه دليلا على أنه من المقربين إليه رفعوه إلى تلك المنزلة — منزلة الاصطفاء للتصرف في الكون، فاتخذوه شفيعا لديه يلجئون إليه في مهمات أعمالهم ويستجدون منه المعونة بما له من الدالة على ربه، وإذا سئلوا عما يفعلون وما به يدينون، قالوا: «ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى».
ماذا أصاب هؤلاء من شر ما اعتقدوا؟ استعبدوا للسادن والكاهن والزعماء ووارثيهم واستسلموا لهم في جميع شئونهم، فكانت علومهم من أوهامهم، وأفهامهم واقفة عند خيالاتهم، ينكرون الأوليات من المعلومات، إذا توهموا أنها تخالف تلك الموهومات التي تلقوها من زعمائهم.
ثم كانوا يتركون وسائل العمل اتكالا على ما يستمدونه منهم، ولا يزال التاريخ يشهد على ما قاسته الإنسانية من بلايا هذه العقائد، والعيان يؤيده في كثير من الأمم في الشرق والغرب إلى اليوم.
هذه مفاسد الوثنية وما جاورها، لا ينكرها مطلع على مبادئ العلوم الصحيحة بل يعرفها كثيرون من العامة الذين لم ينشئوا في جوها الفاسد.
أمَّا زعم هانوتو أن وثنية اليونانيين كانت ترتقي بالأفراد في سلم الفضائل طبعا في نيل مرتبة الألوهية فهو زعم لم يقل به من المسيحيين سواء فيما أعلم.
ولم يقل أحد من اليونانيين أنفسهم أنهم كانوا يسعون في كسب الفضائل من طريق التوصل إلى مقام الألوهية، ولا إن الألوهية البشرية تركت فيهم أثرا صالحا بل لم تورثهم إلا تلك الرذائل التي قام سقراط وأفلاطون لمحاربتها، أمَّا السعي إلى الفضائل فكان للتقرب لأربابها كما هو معلوم.
أمَّا حكمه على المسيحية بأنها من ناحية الديانة اليونانية فذلك أدع الكلام فيه إلى المسيحيين أنفسهم، ولكني أقول إن المسيحية بذلت وسعها في بداية أمرها لتطهير الأرض من الوثنية التي كان الناس عليها في عهدها، وجاهدت من تلوث بعقائدها من اليهود والرومانيين، وانبث رجالها بين الوثنيين يدعونهم إلى الإله الواحد، وكان التنزيه قوام دعوتهم كما يعلمه المدقق في فهم كلامهم، ولم تظهر آثار التشبيه فيها إلا بعد قرون من نشأتها، وتاريخ الإمبراطور قسطنطين٤ معروف عند أهل التاريخ وغيرهم ولا حاجة إلى تفصيل ما كان منه.
ثم لما امتد الغلو في التشبيه، ظهرت المظالم، وعظمت المغارم، واختفى العلم، وخسئ العقل، وتهدمت أركان النظام، واستشرى الفساد في الأمم النصرانية، حتى ظهر الإصلاح وقضى على ما سبقه، واستقامت أوربا في طريقها المعروفة اليوم، وقد أشرنا إلى شيء من أسباب ذلك.
لم نسمع أن أحدا من المسيحيين يعبد الله لينال رتبة المسيح فيكون إلهاً بشراً كما يؤخذ من عبارته.
ولم نر أثرا لأحدهم يدل على أنه عقل عقيدة التثليث على هذا النحو الذي ذكره.
ولكنهم يصرحون بأنها عقيدة لا مجال للعقل فيها، فلا مكنة له في أن يحتذيها.
وقد قامت طوائف منهم في أزمان مختلفة تصرح بأن هناك فرقا بين ما لا يصل إليه العقل وما يناقض حكم العقل، وذهبت إلى أن المسيح لم يكن إلا نبيا مختارا بعثه الله لخلاص البشر من سلطان الشيطان وحملوا الابن على المصطفى (المختار) والأب على الرب الرحيم.
وأعرف أن بعض طوائف البروتستانت اليوم، وإن كانت قليلة العدد، تذهب إلى تأويل الكلمة بالعلم وروح القدس بالحياة، وقد لاقيت بعضهم في بعض أسفاري وأكد لي أن لهم شيعة تدين بذلك.
وهل كانت المسيحية في سالف الأزمان تجاهد من حولها من الوثنيين لتخرجهم من وثنية إلى وثنية؟ نعوذ بالله من هذا الخبط الصادر من محب غير عالم.
إني أرفع أدبا من أن أطعن في عقائد المسيحية في جريدة، وقد أمرت أن أجادل بالتي هي أحسن، ولكني أرجع إلى الكلام في الآثار التي عني هانوتو باتخاذها دليلاً.
جاء الإسلام يدعو العالم بأسره إلى التوحيد، وصرح بأن دين التنزيه هو دين الله من لدن آدم ونوح وإبراهيم إلى موسى.
ثم هو دين الأنبياء بعد موسى ودين خاتم رسل إسرائيل عيسى عليه السلام، ولم ينكر أن في اليهود وفي المسيحيين خصوصا أهل تنزيه، وذكر أن منهم من مال إلى التشبيه ودعاه إلى الرجعة إلى أصل دينه حتى يقوم بالعبادة لله وحده ويعتق من سلطة الرؤساء والزعماء الذين اغتصبوا عقله وملكوا هواه وهمه….
هَبَّتْ الوثنية واليهودية والنصرانية لمناوأة الإسلام وكانت أكثر عددا وأوفر عدة وأعظم قوة وأشد بأسا، فلم يكن إلا قليل من الزمن ثم ظهر الحق ونفذ شعاعه إلى القلوب، فدخل الناس فيه أفواجا من كل ملة، فأعتقت الهمم، وأفلتت العزائم من أسرها، وأخذ كل يطلب من الكمال ما يُعدّه له استعداده الممنوح له من واجب الوجود، وأخذ المعتقدون بالتوحيد والتنزيه يشرفون من شرفات الإيمان على أسرار الوجود، ومزقوا تلك الحجب والأوهام، واتصلوا بمنابع العلم من الفكر والنظر والدين.
ولم يكد أهل الملة يستريحون من الشغب الذي هبت ريحه بينهم حتى سطعت أنوار العلم فيهم، ولم يبق باب من أبوابه إلا دخلوه، ولا مرتقى من مراقيه إلا علوه، ولم يبق متروك من مخلفات اليونان والفرس والرومان إلا استخرجوه من زوايا النسيان وجلوا صدأه وأبرزوه للأنظار.
هذا أثر الإسلام وهو دين التنزيه، ولم يكد ينتهي القرن الثاني من ظهوره حتى جال المسلمون في علوم السماوات والأرض وصححوا الأغاليط، ونقحوا القواعد، وحرروا الأصول.
وفي مفتتح القرن الثالث أقاموا المراصد، ومسحوا الأرض وأتوا في ذلك بما هو معهود لأهل العلم في ديارنا وديار مسيو هانوتو.
إني أكتفي فيما يقابل هذا بقول جماعة من أهل النظر في الأمم الغربية اليوم: أقامت النصرانية في الأرض ستة عشر قرنا ولم تأت بفلكي واحد، وأخذ المسلمون يبحثون في هذه العلوم بعد وفاة نبيهم ببضع سنين، ومع هذا لا يعد ذلك طعنا في أصول الديانة المسيحية وإنما هو طعن في تصرف القائمين عليها والمحرفين لها عما جاءت له.
يظن هانوتو أن الإسلام قطع الصلة بين العبد وربه ولكنه واهم في ذلك فإن الإسلام أفضى بالعبد إلى ربه وجعل له الحق أن يقوم بين يديه وحده بلا واسطة تبيعه رضاءه —قضى الإسلام بألا يكون للكون إلا قاهر واحد يدين له بالعبودية كل مخلوق، وحظر على الناس مقامين لا يمكن الرقي إليهما— مقام الألوهية التي تفرد بها، ومقام النبوة التي اختص بمنحها من شاء ثم أغلق بابها، وما عدا ذلك من مراتب الكمال فهو بين يدي الإنسان، ويناله استعداده، لا يحول دونه حجاب إلا ما كان من تقصيره في عمله أو قصوره في نظره.
إذا اعتقدت بقصور فضل الله عنك وقفت نفسك حيث وضعتها، ولن تستطيع إلى التقدم سبيلاً.
هكذا يرفع الإسلام الصحيح نفس صاحبه، وهذا هو معنى الإسلام والاستسلام الذي أخطأ في فهمه مسيو هانوتو، فهل بقي الإنسان مع المعنى من الإسلام في درك من الحيوانية وفي هجرة عن التوسل بالأسباب إلى مسبباتها في كسب الفضائل والكمالات؟
يجب على الباحث في الإسلام أن يطلبه في كتابه، كما يجب عليه أن يطلب آثاره، والإسلام إسلام والمسلمون مسلمون.
من أين المسلمون وكيف دخل عليهم في عقائدهم التشبيه، وفي عوائدهم التمويه، وممن تعلموا الاحتراس، وعمن أخذوا الضراء بالشهوات؟ أنا أعلم ذلك وأهل العلم يعلمون والله من ورائهم محيط.
اتبع المسلمون سنن من قبلهم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى سقطوا في مساقطهم، وطارحوهم الأوهام حتى انجروا إلى مطارحهم، وباءوا بما كان لهم وما عليهم.
حدثت في الدين بدع أكلت الفضائل، وحصدت العقائل، وترامت بالناس إلى حيث يصب عليهم ما استفرغه (كيمون).
أمَّا لو رجع المسلمون إلى كتابهم، واسترجعوا باتباعه ما فقدوه من آدابهم، لسلمت نفوسهم من العيب، وطلبوا من أسباب السعادة ما هداهم الله إليه في تنزيله وعلى لسان نبيه، ومهده لهم سلفهم وخطه لهم أهل الصلاح منهم، واستجمعت لهم القوة، ودبت فيهم روح الفتوة، وكان ما يلقاه هانوتو وكيمون من دين صحيح، شرا عليهما مما يخشون من دين شوهته البدع.
يرى كيمون أن يُخلي وجه الأرض من الإسلام والمسلمين، ويستحسن رأيه هانوتو، لولا ما يقف في طريق ذلك من كثرة عدد المسلمين، وبِئْسَ مَا اختارا لسياسة بلادهما أن يظهرا ضغنهما ويعلنا خطل رأيهما وضعف حلمهما.
ألا فليعلما وليعلم كل من يخدع نفسه بمثل حلمهما أن الإسلام إن طالت به غيبة، فله أوبة، وإن صدعته النوائب فله نوبة.
وقد يقول فيه المنصفون اليوم من الإنكليز مثل إسحاق تيلر وهو قس شهير ورئيس في كنيسة: «إنه يمتد في أفريقيا ومعه تسير الفضائل حيث سار فالكرم والعفاف والنجدة من آثاره، والشجاعة والإقدام من أنصاره».
ويأسف أشد الأسف من أن السكر والفحش والقمار انتشرت بين السكان بانتشار دعوة المبشرين بينهم، وقال «إنه يختار إسلاما لا سكر فيه على مسيحية فيها سكر».
ثم هو لا يزال ينتشر في الصين وغيره من أطراف آسيا، وسترشده الحوادث إلى طريق الرجوع إلى طهارته، وتنثني به الملمات إلى ما كان عليه لأول نشأته، وتدرك عند ذلك الأمم منه خير ما ترجو إن شاء الله.
لو أسلمت الأمة الفرنسية بأسرها وفي مقدمتها مسيو هانوتو وكانت معاملتها لغير الفرنسيين على ما نعهده في الجزائر ومدغشقر، هل ترجو من سكان مستعمراتها أن يميلوا إليها وألا ينتهزوا الفرص للثورة عليها؟ كلا، فما ظنك بالمسلمين وهم يسمعون قصف هذا الرعد ولا يرون من المتغلبين عليهم إلا الجد في إهلاكهم والدأب في إخفائهم.
إن العدل ورعاية الحقوق واحترام المعتقدات بعد معرفة أصولها هي التي تخفف على المغلوب سلطة الغالب وتدنو به منه وتهون عليه الرضاء عنه، ولكن هانوتو وأترابه من ساسة الفرنسيين لا يعرفون شيئاً من هذه الأركان الثلاثة ولا يزالون يهرفون بما لا يعرفون حتى يصلوا إلى ما كانوا يحسبون فلينتظروا إنا معهم من المنتظرين. ========================================== ١ يقصد بذلك الحروب الصليبية. ولعله يقصد البابا الفرنسي آربان الثاني. ٢ القديس توما الأكويني راهب دومينيكاني عاش في الفترة من ١٢٢٥ إلى ١٢٧٤م. وهو الذي قال بأن الفلسفة لا تتعارض وتعاليم الدين المسيحي. وقد كان الأكويني حجة في اللاهوت والفلسفة. وجدير بالذكر أنه اطلع على آراء ابن سينا، والإمام الغزالي، وابن رشد عن طريق الترجمات اللاتينية. ومن مؤلفاته العديدة: «الخلاصة اللاهوتية» و«الخلاصة ضد الأمم» و«مدينة الله». ٣ اشتد النزاع بين طائفتي القدرية والمعتزلة أيام الخليفة المأمون العباسي وذلك في بداية القرن الثالث الهجري (القرن التاسع الميلادي). لقد قاوم أحمد بن حنبل (٧٨٠–٨٥٥م) طائفة المعتزلة التي كان على رأسها الوزير أحمد بن أبي دؤاد، فسجنه الخليفة المأمون، وأفرج عنه الخليفة المتوكل العباسي. ولقد اتصف ابن حنبل بشدة تمسكه بالتقاليد القديمة وكتابه يسمى «المسند» وهو يشتمل على ثلاثين ألف حديث. ٤ الإمبراطور قسطنطين إمبراطور الرومان منذ عام ٣٠٦م، أول من اعترف بالدين المسيحي كدين قائم مثل باقي الديانات الوثنية وغير الوثنية. ويقال إن سبب ذلك الاعتراف أنه وهو يشق طريقه من غرب أوربا إلى العرش الإمبراطوري، ليقضي على منافسه على العرش الإمبراطوري واسمه ماكسنتيوس، شاهد علامة الصليب في السماء ومكتوب عليها هذه الجملة: «بهذه العلامة ستنتصر» لذلك أصدر «مرسوم ميلان» عام ٣١٣م باعترافه بهذه الديانة. ولقد نقل عاصمة الإمبراطورية، من روما إلى بيزنطة لتكون عاصمة مسيحية خالصة. وقد أطلق عليها القسطنطينية نسبة إليه. ---------------------------------------------------------------------- |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الإسلام بين العلم والمدنية الجمعة 14 يونيو 2024, 3:18 pm | |
| هانوتو والإسلام رد الإمام الثاني على هانوتو وفيه بحث الجامعة الإسلامية ألقت إِلِيَّ المصادفة نسختين من إحدى الجرائد المشهورة في القطر المصري جاء بها حديث بين صاحب الجريدة ومسيو هانوتو صاحب الفصول المعروفة في الإسلام.
ولم أشك في أن كثيراً مما جاء في هذا الحديث صادر عن رأي مسيو هانوتو، لأنه لا يصدر إلا عن عارف مثله بأحوال أوربا وكثير من أحوال الشرق، ولهذا رأيت أن حرمانه من حظ النظر فيه، وتركه يمر بلا مناقشة معه في بعض ما تضمنه يعد ظلماً وجوراً عليه، خصوصاً ونسبة القول إليه مما يدع في أذهان الناس أثراً لا يحسن السكوت عنه.
وقد جاء في كلامه ما يدل على أنه قد أصيب بشيء من سوء الفهم في أحوال المسلمين، وما انبعثت إليه نفوسهم اليوم.
وسوء الفهم منشأ الشقاق والخصام بين أهل المقصد الواحد كما ذكر حضرته في مقال له سابق.
فلا يليق بذي غيرةٍ على الحق ألا يوفيه من الاعتبار ما يستحق، وأرجو أن يترجم ما أكتبه في جريدة المؤيد الفرنسية وأن يرسل إلى مسيو هانوتو ليقف على ما غاب عنه من مقاصدنا وأفكارنا.
إن كان المسلمون اليوم ينتفعون بشيء ويعتبرون بمثال، لم يكن أنفع لهم من الاعتبار بما جاء في كلام مسيو هانوتو، فقد أرشدهم إلى عيوب فيهم لا يسعهم إنكارها، وهداهم إلى مقاصد لطلاب الاستعمار في ديارهم قد شهدوا بالعيان آثارها، وصرح لهم بأن الاعتماد على العدالة في معاملة الدول ضرب من الخيال، وعقد الآمال بإنصاف الأمم تلمس للمحال، وما على المهتم بحماية ذماره، وطالب الطهر من عاره، إلا أن يدركهم ويعمل عملهم، ليبلغ من الحول حولهم، فيفوقهم في القوة أو يكون مثلهم، فيتعارض في المنافع معهم معارضة المالك مع المالك، لا أن يتسلى بالأعاليل، ويلهو بالأضاليل، ويقنع بالأماني، ويكتفي من العمل بالصوت الجهوري واللفظ الطلي، وهو من روح قائله خلي، حتى إذا دهموه وهو في غفلته وأخذوه في نومه أو يقظته، بسط يده يلتمس الرحمة منهم، ويرقب أن يفيض عليه سيب العدل عنهم، فهذا عمل الجاهل الأحمق، وهو بالذلة والاستعباد أحق.
وهي نصيحة يجب على المسلم قبولها من أجنبي منه، وكان يجب عليه من قبل أن يقبلها من أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فقد قال لخالد بن الوليد حين أرسله لحرب اليمامة: «حاربهم بمثل ما يحاربونك به: السيف بالسيف والرمح بالرمح».
ولا يخفى أن كل نزاع فهو حرب، وكل منافسة فيما هو عماد الحياة فهي جلاد، وكل عمل يأتيه أحد المتنافسين للظفر بمنافسه فهو جهاد، وكل وسيلة تظفره بطلبته فهي سلاح، وكل تجاذب أو تدافع بينهما فهو كفاح، وكل منفعة حفظها أو استخلصها منه فهي غنيمة، وكل انخذال عن حق أو تفويت لمصلحة فهو هزيمة.
فالظافر في ميدان المنافسة من كان رأيه أسد، وقوته أشد، وسلاحه أحد، فإذا قربت القوتان من التكافؤ أمكن بمصالح المتنافسين أن تتفق، وسهل على كل منهما أن يرتفق، وإلا استحال الاتفاق، واستبد القوي بالارتفاق، بل صعب على الضعيف أن ينال حق البقاء، سنة الله في عالم الأحياء.
وقد فصل مسيو هانوتو ما أجمله بعض أساتذتنا في قوله (العدل تكافؤ القوى).
صرح مسيو هانوتو بأن أوربا بعد أن كانت لا تشتغل إلا بما يجري فيها، اندفعت إلى الاستعمار ولا يردها عنه إلا قوة الأمم التي تأبى الاستعمار فيها.
وضرب المثل باليابان فإنها بما ارتقت في المدنية، وما أصلحت من شئونها الداخلية، وأعدت لوقاية ممالكها، وحماية مسالكها، قد آذنت أوربا بقوتها، وحملتها على الإقرار بمكانتها، فحمت بلادها ومصالحها من صولتها، وأمكنها ببرهان القوة أن تؤلف بين منافعها ومنافع الأوربيين، وهو قول حق، وكان على المسلم أن يعرفه من قرون، وله في كتابه المنزل خير هاد وأرشد مرشد، وكان يكفيه منه آية: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة)، فقد دعته الآية الكريمة إلى الإعداد، وطالبته أن يبلغ منه حد المستطاع، ولا حد لما تستطيعه أمَّة إذا صرفت قواها العقلية والجسدية فيما هيئت له، وأطلقت له القوة، وهي كل ما يقوى به خصم على خصم، ويقتدر به على حماية نفسه وحوزته من اعتداء معتد، أو يستطيع به استخلاص حق من يد مغتصب، وخير القوى ما حفظ به الحق، وعظمت به المنفعة، ووقف لهيبته كل من المتنافسين عند جده، حتى يستقر السلام بينهم، وتشمل الطمأنينة نفوسهم.
وقد تألفت قوى الأمم الأوربية من عناصر هي العلم والأدب والتجارة والصناعة والعدل والدين والسلاح، وذكرت الدين في جملة عناصر القوة لأن مسيو هانوتو لا ينكر أن أوربا تعتمد على الدين في سياسة الاستعمار، وأن المرسلين والجمعيات الدينية من أهم الوسائل لديها في إعداد الشعوب إلى قبول سلطانها عند سنوح الفرص لسوقه إليها، وتهيئة نفوس الأمم لاحتمال ما ينقض به ذلك السلطان متى أظلهم، وفي فتح المغالق التي لا يستطيع السلاح وحده أن يفتحها، وتمهيد السبل التي لا يمكن لساعد الجندي وحده أن يمهدها.
وهو من الأمور المسلمة التي لا يجادل فيها عارف مثل هانوتو، فلا حاجة للإطالة في بيانه غير أني أذكر قصة كنت شاهدتها لا بأس بذكرها في هذا المقام: تعلّم أحد أبناء لبنان من بلاد سوريا في بعض مدارس الجمعيات الدينية الفرنسية في تلك البلاد، وأخذ عن أساتذته كثيراً من آدابهم، وطالع عدداً من مؤلفات كتابهم، وامتلأ قلبه بحب فرنسا، واستقر في ذهنه أنها منبع نور العلم والحرية، وأنها محررة العالم أجمع من رق الاستبداد، ثم انتقل لكتب بعض الفلاسفة الفرنسيين ومؤلفات بعض السياسيين، فعظم عنده الاعتقاد بأن هذه الأمة الجليلة إنما يهمها في سياستها أن تنشر المعارف في العالم لتهذيب العقول، وتكميل النفوس، لتربيتها على أصول العقل وحرية الفكر، ورأى أن من الزلفى عند الحكومة الفرنسية أن يذهب إلى باريس ويسألها المعونة على إنشاء مدارس في جبل لبنان، يُبنى التعليم فيها على تلك الأصول السابقة، فذهب إلى باريس سنة ١٨٨٤م، واتصل بأحد أذكياء السوريين الذين طاب لهم المقام في البلاد الفرنسية وطلب منه أن يكون وسيلته في نيل ما يرغبه من معونة الحكومة، فسعى الذكي سعيه، ثم عاد إلى صاحبه وقال إن ما تخيلته ضرب من الوسواس وإن الحكومة الفرنسية وإن كانت تطرد الجزويت من بلادها، وتنازع الكنيسة في سلطتها، لكن سياستها في الخارج دينية محضة، ويمكن أن تعرف ذلك من حمايتها للجزويت وإعانتها لهم بالمال والقوة في بلادك.
فإن كنت تريد إنشاء مدارس دينية في بلاد لبنان كان أملك في المساعدة قريباً، وإلا فارجع واشتغل بما يصلح شأنك الخاص بك.
فرجع الشاب بالخيبة بعد ما أقام مدة صرف فيها ما كان عنده من النقود، ولم يجد مَنْ يُساعده على الرجوع إلى بلده إلا من رحمه من أصدقائنا إذ ذاك، وكان لي حظ في مساعدته.
كما كنت شاهداً الحدث الذي رويته.
فإن لم يسع المسلم بعزم ثابت في تحصيل هذه العناصر التي سبق ذكرها، أو تقوية ما ضعف عنده منها وهو مسلم، كان مخالفاً لكتابه ولقول الصديق رضي الله عنه، ومستحقاً للوم مسيو هانوتو، ولم تتفق له مصلحة مع مصالح الأوربيين إلى يوم القيامة.
بقي عليّ الكلام مع هذا الوزير في أمرين: الأول فيما فهمه من شأن المسلمين في هذه الأيام، وما يسمونه دعوة إلى توحيد كلمة المسلمين قاطبة، وجمع السلطة الدينية والسياسية في شخص واحد.
والأمر الثاني سوء ظن أكثر المسلمين بالسياسة الأوربية، بل بالمسيحيين أجمع، حتى وصل فقد الثقة بهم إلى ألا يأتمنوا مسيحياً عثمانياً في عمل من أعماله، وإن أخلص لهم الخدمة كما سمعه من صاحب هذه الجريدة الناشرة الحديث، وغيره.
شأن المسلمين اليوم وظهور دعوة فيهم إلى توحيد كلمة المسلمين وجمع السلطة الدينية والسياسية في شخص واحد في جميع البلاد الإسلامية.
أؤكد لمسيو هانوتو أن هذه الدعوة لم يوجد لها أثر إلى اليوم في بلد من بلاد المسلمين ولو خطا خطوة إلى معرفة أحوالهم على ما هي عليه، لما خطر بباله أن يشير إلى هذه الدعوة فضلاً عن أن يبني عليها حكماً، وإن ما علق بالأوهام منها فإنما منشؤه سوء فهم بعض مسيحي الشرق ثم انعكاس ذلك في أذهان سياسي الغرب، وقد يكون لسوء نية بعضهم مدخل في تعظيم ما توهم فيها.
وإني أعرض الحقيقة كما هي لا يغشاها ستار من تمويه ولا غطاء من تلبيس، وأرجو أن يكون في هذا البيان ما يقنع مسيو هانوتو بحسن مقاصد المسلمين اليوم في كلامهم عن الدين وما يرد أمثال صاحب الجريدة التي نشرت حديثه إلى رشدهم حتى يتقوا الله في أنفسهم وأهل بلادهم، ولا يتخذ بعضهم من المسلم حرباً ولا من السكون شغباً.
لا أنكر أن طائفاً من الدين طاف في هذه السنين الأخيرة بعقول بعض المسلمين في أقطار مختلفة من الأرض، وإن نسمة من نفس الرحمة مَرَّتْ بأنفس قليل من أهل الفضل فيهم فحرَّكت ساكنهم، وأثارت هممهم إلى النظر فيما كان عليه أهل هذا الدين، وفيما صاروا إليه، وإن منهم من يتكلم بما يرى إذا وجد سبيلاً إلى الكلام، ومنهم من ينشر رأيه في كتاب أو جريدة إذا تهيأت له الوسائل لذلك.
ثم يوجد مقلدون لهؤلاء يقولون ما لا يعلمون، ويهرفون بما لا يعرفون ولا كلام لنا في هذر المقلدين، وإنما كلامنا فيما يرمي إليه غرض أولئك الناظرين.
ظهر الإسلام لا روحياً مجرداً، ولا جسدانياً جامداً، بل إنسانياً وسطاً بين ذلك، آخذاً من كلا القبيلين بنصيب، فتوفر له من ملاءمة الفطرة البشرية ما لم يتوفر لغيره، ولذلك سمى نفسه دين الفطرة، وعرف له ذلك خصومه اليوم وعدوه المدرسة الأولى التي يرقى فيها البرابرة على سلم المدنية، ثم لم يكن من أصوله «أن يدع ما لقيصر لقيصر» بل كان من شأنه أن يحاسب قيصر على ماله ويأخذ على يده في عمله.
جاء هذا الدين على الوجه الذي ذكرنا فهدى ضالا، وألان قاسيا، وهذب خشنا، وعلم جاهلا، ونبه خاملا، وأثار إلى العمل كسلا، وأقدر عليه وكلا، وأصلح من الخلق فاسدا، وروج من الفضيلة كاسدا، ثم جمع متفرقا، ورأب متصدعا، وأصلح مختلا، ومحا ظلما، وأقام عدلا، وجدد شرعا، ومكن للأمم التي دخلت فيه نظاما امتازت به عن سواها ممن لم يدخل فيه، فكان الدين بذلك عند أهله كمالا للشخص، وألفة في البيت، ونظاما للملك.
وظهرت به آثار النعمة عليهم في جميع شئونهم، ولم يفت العلم حظ من عنايته.
بل كان قائده في جميع وجوه سيره، فإن شاء قائل أن يقول إن الدين لم يعلمهم التجارة ولا الصناعة ولا تفصيل سياسة الملك ولا طرق المعيشة في البيت لم يسعه أن ينكر أنه أوجب عليهم السعي إلى ما يقيمون به حياتهم الشخصية والاجتماعية، وأوجب عليهم أن يحسنوا فيه، وأباح لهم الملك، وفرض عليهم أن يحسنوا الملكة، وما ظنك بدين يقول خليفته الثاني وهو من المدينة من بلاد العرب «لو أن سخلة بوادي الفرات أخذها الذئب لسئل عنها عمر» ويقول الخليفة الرابع «أقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم في خشونة العيش؟ أي خشونته» يريد بذلك أن يساوي المساكين في العيش ليكون قدوة الأغنياء في الإحسان وأسوة الفقراء في حسن الصبر.
هكذا كان الإسلام مهماز للمسلمين يحثهم إلى جلائل الأعمال، ومصباحاً لبصائرهم يسترشدون به في استغراق الأحوال وتقويم الأفكار، وعاطفاً يعطف قلوبهم على الأمم بالعفو والمرحمة وحسن المعاملة، حتى رضيتهم الأرض سادة لها وقادة لسكانها، وكان من أمرهم وأمره ما هو معلوم.
أفبعد هذا يعجب عاقل إذا رأى المسلم يرضى ما رضيه هذا المرشد الحكيم ويمقت ما مقته؟ أيدهشه أن يرى المسلم يهزأ بكل ما لم يعتقده سائغاً في دينه، وإن كان فيه ملك الأرض أو ملكوت السماوات، بعد ما شهد المسلم من أثر نعمة الله عليه في هذا الدين ما شهد؟ لا عجب في ذلك فإنه نتيجة ضرورية، ينساق إليها الأمر بنفسه بحكم سنة الله في خلقه.
واأسفا!! لم يبق للمسلم من الدين إلا هذه الثقة فيه، أمَّا الدين نفسه فقد انقلب في عقل المسلم وضعه، وتغيَّر في مداركه طبعه، وتبدلت في فهمه حقيقته، وانطمست في نظره طريقته، وحق فيه قول عليّ كرم الله وجهه «إن هؤلاء القوم قد لبسوا الدين كما يلبس الفرو مقلوباً».
لا أبحث اليوم في الأسباب التي وصلت بالدين في نفس المسلم إلى ما ذكرت، ولكن أقول ولا أخشى منكرا لما أقول: قد دخل على المسلم في دينه ما ليس منه، وتسرب في عقائده من حيث لا يشعر ما لا يتصل بأصلها بل ما يهدم قواعدها ويأتي على أساسها.
عرضت البدع في العقائد والأعمال، وحلت محل الاعتقاد الصحيح، وأخذت مكان الشرع القويم، وظهرت آثارها في أعماله، وعم شؤمها جميع أحواله.
إن صح لفظ الحديث (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة) أو لم يصح، فالقرآن يؤيد معناه، وعمل الأولين من المسلمين يحقق صحة ما حواه، فالرجل والمرأة سواء في الخطاب التكليفي، وكانا سواء في علم ما يجب عليهما من فرائض الإسلام، وخصال الإيمان، وفي طلب العلم ما يلزم لصلاح معادهما ومعاشهما، وبما تحسن به المعاملة مع من يتصل بهما قرب أو بعد على تفصيل معروف في كتاب الله وسنة رسوله وعمل الصالحين من بعده حتى لم يبق باب من أبواب العلم إلا دخل منه بقدر الاستطاعة وما يسمح الزمان.
ضَلَّ المسلم بعد ذلك في معنى العلم، فظن الرجل أن غاية ما يفرضه الدين منه معرفة فرائض الوضوء والصلاة والصوم في صورة أدائها، أمَّا ما يتعلق بسر الإخلاص فيها ووسيلة قبولها عند الله فذلك مما لا يخطر له ببال إلا القليل النادر، أمَّا آداب الدين وتهذيب الروح واستكمال الخصال الجليلة مما جعله الإسلام غاية العبادات وثمرة الأعمال الصالحات فهو مع أنه أهم علوم الدين مما لا تتوجه إليه عزيمته، ولا تنصرف نحوه إرادة، اللهم إلا من أشخاص قلائل منثورين في أطراف الأرض لا ترقى بهم أمة، ولا تسمو بهم كلمة، أمَّا من ينقطعون لطلب العلوم ليحصلوا جملة منها فقد انقسموا إلى فريقين:
الأول: من يظن أنه وارث علوم الدين والقائم بحفظها، وقد قل أفراده في معظم البلاد الإسلامية، ولم يبق منه إلا رسوم لا يكاد يدركها نظر الناظر، والمشتغلون منهم في بعض البلاد كمصر والآستانة فإنما حظ الذكي منهم وقليل ما هو أن ينظر في كتب مخصوصة عينها له الزمان وضعف العرفان، ويفهمها بمعنى أن يثق بأن هذا اللفظ دال على ذاك المعنى، ومتى تم له ذلك فقد استكمل العلم سواء سلم له عقله ودينه وأدبه بعد ذلك أم لم يسلم، فكان مثلهم مثل من ورث سلاحا، فكان همه أن ينظر إليه ويملأ عينيه منه، ولا يمد يده إليه يستعمله أو يزيل الصدأ عنه، فلا يلبث أن يأكله الصدأ ويفسده الخبث.
ويزعمون أن الدين يصد عما وراء ما عرفوا من العلوم النافعة، ومن رأي هؤلاء ألا شأن لهم مع العامة، ولا يجبل عليهم أن يأمروا بمعروف ولا أن ينهوا عن منكر، وقد ارتكبوا لذلك خطأ في فهم دينهم لا يساويه في سوء عاقبته خطأ، وللكثير منهم بل الأغلب من سوء الفهم في الدين ما لا حاجة إلى عده، ولا يخفى أن ما يحصله هذا الفريق في العلم لا يظهر له أدنى أثر في صلاح الأمة كما هو مشهود.
والفريق الثاني: من يهيئه أولياؤه لنيل منصب من مناصب الحكومة عال أو سافل، وأفراد هذا الفريق، إن كثروا أو قلوا، يحصلون مبادئ العلوم المعروفة بالعلوم العصرية، ثم يحصل كل واحد ما به ينال المنصب الذي يعده له والده، على أن ما يحصل إما لفظ يُحفظ أو خيال يُخزن، والمدار على الوصول إلى ورقة الشهادة، ومن هؤلاء من يذهبون إلى أوربا لاستكمال التربية فيها ولا غاية لهم سوى هذه الغاية، فمن أصاب منهم بعد ذلك وظيفة قنع بها، وحصر همه على العمل فيها، ومن لم يجد وقف على الأبواب ينتظرها، فإذا مل الانتظار أو تقضّى زمن العمل وجدته في مقهى أو ملهى يسرف في أوقاته ويفسد في أدواته، والصالحون منهم، وقليل ما هم، لا يهمهم شأن العامة شقيت أو سعدت، هلكت أو قامت، فأي أثر لما تعلمه هؤلاء يظهر في الأمة، وأستثني منهم شواذا في كل بلد على ضعفهم يرجى أن ينمو عددهم وتجني الأمم ثمار أعمالهم.
وهذا شأن الرجال مع العلم.
أمَّا النساء فقد ضرب بينهن وبين العلم بما يجب عليهن في دينهم أو دنياهن بستار لا يدرى متى يرفع، ولا يخطر بالبال أن يعلمن عقيدة أو يؤدين فريضة سوى الصوم، وما يحافظن عليه من الفقه فإنما هو بحكم العادة، وحارس الحياء، وقليل جدا من موروث الاعتقاد بالحلال والحرام، وحشو أذهانهم بالخرافات، وملاك أحاديثهن الترهات، اللهم إلا قليلا منهن لا يستغرق الدقيقة عدهن، وكل من الرجال والنساء يعد نفسه مسلما يعده الجنة ويمنيه السعادة.
أخطأ المسلم في فهم معنى التوكل والقدر فمال إلى الكسل، وقعد عن العمل، ووكل الأمر إلى الحوادث تصرفه حيثما تهب ريحها، ويظن أنه بذلك يرضي ربه ويوافي رغائب دينه.
أخطأ المسلم في فهم ما ورد في دينه من أن المسلمين خير الأمم، وأن العزة والقوة مقرونتان بدينهم أبد الدهر، فظن أن الخير ملازم لعنوان المسلم، وأن رفعة الشأن تابعة للفظه وإن لم يتحقق شيء من معناه، فإن أصابته مصيبة أو حلت به رزية تسلى بالقضاء، وانتظر ما يأتي به الغيب، بدون أن يتخذ وسيلة لدفع الطارئ، أو ينهض إلى عمل لتلافي ما عرض من خلل، أو مدافعة الحادث الجلل، مخالفاً في ذلك كتاب الله وسنة نبيه.
أخطأ المسلم في فهم معنى الطاعة لأولي الأمر والانقياد لأوامرهم، فألقى مقاليده إلى الحاكم ووكل إليه التصرف في شئونه ثم أدبر عنه حتى ظن أن الحكومة يمكنها القيام بشئونه جميعاً من إدارة وسياسة بدون أن يكون لها من عون سوى الضريبة التي تفرضها عليه، ومن رأى حزن الآباء إذا طلب أبناؤهم لأداء الخدمة العسكرية، وما يبذلونه من السعي في تخليصهم منها حكم بأن ما يعقله أكثر المسلمين من معنى الحكومة لا يمكن انطباقه على شيء من أوليات العقل، وعرف أن ثقتهم بالحاكم قد بلغت إلى حد التأليه، من حيث ظنوه قادراً على كل شيء بدون عون من أحد، وانقلبت تلك الثقة إلى الإدبار والتخلي عنه، من حيث إنهم تركوه وشأنه، لا يساعدونه في حادث، ولا يعينونه في أمر مهم، اللهم إلا إذا أرغموا على ذلك، ومن ذا الذي يحسن عملا إذا لُجئ إليه بالرغم منه.
ومن هنا انصرف المسلم عن النظر في الأمور العامة جملة، وضعف شعوره بحسنها وقبيحها، اللهم إلا ما يمس شخصه منها.
أمَّا الحُكَّام، وقد كانوا أقدر الناس على انتشال الأمة مما سقطت فيه، فأصابهم من الجهل بما فرض عليهم في أداء وظائفهم ما أصاب الجمهور الأعظم من العامة ولم يفهموا من معنى الحكم إلا تسخير الأبدان لأهوائهم، وإذلال النفوس لخشونة سلطانهم، وابتزاز الأموال لإنفاقها في إرضاء شهواتهم، لا يرعون في ذلك عدلا، ولا يستشيرون كتابا، ولا يتبعون سنة، حتى أفسدوا أخلاق الكافة بما حملوها على النفاق والكذب والغش والاقتداء بهم في الظلم وما يتبع ذلك من الخصال التي ما فشت في أمة إلا حل بها العذاب.
هذا كله إلى ما حدث من بدع أخرى من مذاهب شتى في العقائد، وطرق متخالفة في السلوك، وآراء متناقضة في الشرائع، وتقليد أعمى في جميع ذلك، فتفرقت المشارب، وتوزعت المنازع، وعظم سلطان الهوى على أرباب النزعات المختلفة، كل يجذب إلى نفسه، لا ينظر إلى حق، ولا يفزع من باطل، وإنما همه أن يظفر بخصمه، وذلك الخصم هو ما يدعوه أخا له في الإسلام في معرض التشدق بالكلام.
وزد على ذلك أكبر بدعة عرضت على نفوس المسلمين في اعتقادهم وهي بدعة اليأس من أنفسهم ودينهم، وظنهم أن فساد العامة لا دواء له، وأن ما نزل بهم من الضر لا كاشف له، وإنه لا يمر عليهم يوم إلا والثاني شر منه.
مرض سرى في نفوسهم، وعلة تمكنت من قلوبهم، لتركهم المقطوع به من كتاب ربهم وسنة نبيهم، وتعلقهم بما لم يصح من الأخبار أو خطئهم في فهم ما صح منها، وتلك علة من أشد العلل فتكا بالأرواح والعقول، وكفى في شناعتها قوله جل شأنه: إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.
تبع هذه البدع جميعها وأخرى يطول ذكرها هزال في الهمم، وضعضعة في العزائم، وفساد في الأعمال، يبتدئ من البيت، وينتهي إلى الأمة، ويمر في كل طبقة، ويجول في كل دائرة، خصوصا من دوائر الحكومات، وما يُرمى به المسلمون من التعصب الديني الأعمى، فإنما عرض على أقوام في بعض البلاد الإسلامية، تبعا لهذه البدع الضالة، على أنني لا أسلم أنهم بلغوا فيه أدنى درجاته في الأمم المسيحية شرقية كانت أو غربية والتاريخ شاهد لا يكذب.
هذا ما أصاب المسلمين في عقولهم وعزائمهم وأعمالهم بسبب ابتداعهم في دينهم وخطئهم في فهم أصوله، وجهلهم بأدنى أبوابه وفصوله، ولهذا سلط الله عليهم من يسلبهم نعمة لم يقوموا بشكرها، وينزل بهم من عقوبة الكفران ما لا قبل لهم بدفعه إلا إذا تداركهم الله بلطفه، وقد ابتلاهم بمن يلصق بدينهم كل عيب، ويقرنه إذا ذكره بما يتبرأ منه، ويعده حجابا بين الأمم والمدنية، بل يعده منبع شقائهم وسبب فنائهم.
تنبه لذلك أفراد من عقلاء المسلمين في أواسط القرن الماضي من سني الهجرة في أقطار مختلفة من بلاد فارس والهند وبلاد العرب ثم في مصر، وكل منهم بحث في الداء، وقدر له الدواء بحسب فهمه على تقارب بينهم، ولعلهم يلتقون يوما عند الغاية إن شاء الله.
مقصد الجميع ينحصر في استعمال ثقة المسلم بدينه في تقويم شئونه، ويمكن أن يقال إنَّ الغرض الذي يرمي إليه جميعهم إنما هو تصحيح الاعتقاد، وإزالة ما طرأ عليه من الخطأ في فهم نصوص الدين، حتى إذا سلمت العقائد من البدع، تبعتها سلامة الأعمال من الخلل والاضطراب، واستقامت أحوال الأفراد، واستضاءت بصائرهم بالعلوم الحقيقية دينية ودنيوية، وتهذبت أخلاقهم بالملكات السليمة، وسرى الصلاح منهم إلى الأمة، فإذا سمعت داعيا يدعو إلى العلم بالدين فهذا مقصده، أو مناديا يحث على التربية الدينية فهذا غرضه، أو صائحا ينكر ما عليه المسلمون من المفاسد فتلك غايته، وهذه سبيل لمزيد الإصلاح في المسلمين لا مندوحة عنها، فإن إتيانهم من طرق الأدب والحكمة العارية عن صبغة الدين، يحوجه إلى إنشاء بناء جديد ليس عنده من مواده شيء، ولا يسهل عليه أن يجد من عماله أحدا وإذا كان الدين كافلا بتهذيب الأخلاق وصلاح الأعمال، وحمل النفوس على طلب السعادة من أبوابها، ولأهله من الثقة به ما بيناه وهو حاضر لديهم، والعناء في إرجاعهم إليه أخف من إحداث ما لا إلمام لهم به، فلم العدول عنه إلى غيره؟
لم يخطر ببال أحد ممن يدعون إلى الرجعة إلى الدين، سواء في مصر أو غيرها، أن يثير فتنة على الأوربيين أو غيرهم من الأمم المجاورة للمسلمين، غير أن بعض المسيحيين إذا سمع قولاً في الدين أعرض عن فهمه، وأنشأ لنفسه غولا من خياله، يخاف منه ويخشى غائلته يسميه باسم الدين، وبعضهم يظن أنه لو انتبه المسلمون إلى شئونهم، ورجعوا إلى الأخذ بالصحيح من دينهم لاعتصموا بجامعتهم واستعانوا على تقويم أمورهم بأنفسهم، واستغنوا عمن أدخلوه في أعمالهم من غيرهم، فيحرم الكثير من المسيحيين تلك المنافع التي نالوها بغفلتهم، وهو سوء ظن من الزاعم بنفسه، فإنه بظنه هذا يعتقد أنه غاش مغرر، وسالب متلصص، وسوء ظن بالمسلمين أيضا، فإن أهل الوطن الواحد لا يستغني بعضهم عن بعض، مهما ارتقت معارفهم وعظم اقتدارهم على الأعمال، وغاية الأمر أن ما كان ينال اليوم بدون حق، يصبح وهو لا ينال إلا بحق، والأجنبي الذي كان ينفق الواحد ويربح المائة، يرجع إلى الاعتدال في الكسب، ويحتاج إلى شيء من التعب في استيراد الربح، وقد كان المسيحيون عاملين في الدول الإسلامية وهي في عنفوان قوتها، والأجانب يطلبون الكسب في أرجائها وهي في أرفع مقام من عزتها.
نعم يعرض في طريق الدعوة إلى الدين على هذا الوجه أن يلتمس مسلم بمصر معونة من مسلم آخر بسورية أو بالهند أو بالعجم أو بأفغانستان أو بغير هذه الأقطار، لأن مرض الجميع واحد، وهو البدعة في الدين، فإذا نجح الدواء في موضع، كان السليم أسوة للمريض في موضع آخر، أمَّا السعي في توحيد كلمة المسلمين وهم كما هم، فلم يمر بعقل أحد منهم، ولو دعا إليه داع لكان أجدر به أن يرسل إلى مستشفى المجانين.
يكتب بعض أرباب الأقلام من المسلمين في حكمة الحج ويقول: إنه صلة بين المسلمين في جميع أقطار الأرض ومن أفضل الوسائل للتعاون بينهم، فعليهم أن يستفيدوا منه، وهو كلام حق، لكن لا ينبغي أن يفهم على غير وجهه، فإن الغرض منه أن يذكر المسلمون ما بينهم من جامعة الدين، حتى يستعين بعضهم ببعض على إصلاح ما فسد من عقائدهم أو أضلّ من أعمالهم، وفي مدافعة ما ينزل بهم من قحط أو ألم أو بلاء، وهو أمر معهود عند جميع الأمم التي تدين بدين واحد خصوصا عند الأوربيين.
يكثر المسلمون اليوم من ذكر الدولة العثمانية والسلطان عبد الحميد ويعلقون آمالهم بهمته وكثير منهم يدعو إلى عقد الولاء له وهذا الأمر لا ينبغي أن يدهش أحداً فإن هذه الدولة هي أكبر دول الإسلام اليوم، وسلطانها أفخم سلاطينهم، ومنه يرتجي إنقاذ ما بين يديه من المسلمين مما حل بهم، وهو أقدر الناس على إصلاح شئونهم، وعلى مساعدة الداعين إلى تمحيص العقائد، وتهذيب الأخلاق، بالرجوع إلى أصول الدين الطاهرة النقية، فأي شيء في هذا يزعج أوربا حتى تتحد على هضم حقوق المسلمين إذا حدثت حوادث مثل الماضية كما يقول مسيو هانوتو؟
بقي الكلام على جمع السلطة الدينية والسياسية في شخص واحد يقول فيه مسيو هانوتو إن أوربا لم تتقدم إلا بعد أن فصلت السلطة الدينية عن السلطة المدنية، وهو كلام صحيح، ولكنه لم يدر ما معنى جمع السلطتين في شخص عند المسلمين.
لم يعرف المسلمون في عصر من الأعصر تلك السلطة الدينية التي كانت للبابا على الأمم المسيحية، عندما كان يعزل الملوك ويحرم الأمراء ويقرر الضرائب على الممالك، ويصنع لها القوانين الإلهية، وقد قررت الشريعة الإسلامية حقوقاً للحاكم الأعلى وهو الخليفة أو السلطان ليست للقاضي صاحب السلطة الدينية، وإنما السلطان مدبر البلاد بالسياسة الداخلية والمدافع عنها بالحرب أو السياسة الخارجية، وأهل الدين قائمون بوظائفهم وليس له عليهم إلا التولية والعزل، ولا لهم عليه إلا تنفيذ الأحكام بعد الحكم، ورفع المظالم إن أمكن، وهذه الدولة العثمانية قد وضعت في بلادها قوانين مدنية، وشرعت نظاما لطريقة الحكم، وعدد الحاكمين ومللهم، وسمحت بأن يكون في محاكمها أعضاء من المسيحيين وغيرهم من الملل التي تحت رعايتها، وكذلك حكومة مصر أنشئت فيها محاكم مختلطة ومحاكم أهلية بأمر الحاكم السياسي، وشأن هذه المحاكم وقوانينها معلوم ولا دخل لشيء من ذلك في الدين، فالسلطة المدنية هي صاحبة الكلمة الأولى كما يطلب مسيو هانوتو ولكن مع ذلك لم يظهر نفعها في صلاح حال المسلمين بل كان الأمر معكوسا، فإن أمراءنا السابقين لو اعتبروا أنفسهم أمراء الدين لما استطاعوا المجاهرة بمخالفته في ارتكاب المظالم والمغالاة في وضع المغارم والمبالغة في التبذير الذي جر الويل على بلاد المسلمين وأعدمها أعز شيء كان لديها وهو الاستقلال.
إن فرنسا تسمّي نفسها حامية الكاثوليك في الشرق، وملكة إنجلترا تلقب بملكة البروتستانت، وإمبراطور روسيا ملك ورئيس كنيسة معاً، فلم يسمح للسلطان عبد الحميد أن يلقب بخليفة المسلمين أو أمير المؤمنين؟
لا أظن أن مسيو هانوتو يسيء الظن بدعوة دينية على الوجه الذي بَيَّنَّاهُ، وأظنه يكون عوناً للمسلمين على تعضيدها في البلاد الإسلامية الفرنسية إذا وجد فيها من يقوم بها، وأنا أضمن له بعد ذلك أن تتفق مصالح المسلمين مع مصالح الفرنسيين، فإن المسلمين إذا تهذبت أخلاقهم بالدين، سابقوا الأوربيين في اكتساب العلوم وتحصيل المعارف ولحقوا بهم في التمدن، وعند ذلك يسهل الاتفاق معهم إن شاء الله.
سوء ظن المسلمين بسياسة أوربا كلها، وعدم ثقة سياسييهم بدولة من الدول، واعتقاد المسلمين بأن مصلحة أوربا المسيحية تخالف مصلحتهم الإسلامية، وعدم اطمئنانهم إلى سياسة الدولة المسيحية، حتى أدى بهم فقدان الثقة بالمسيحيين إلى حد ألا يأتمنوا مسيحيا عثمانيا ولو أخلص لهم الخدمة وصدق معهم — سمع بذلك كله مسيو هانوتو من صاحب الأهرام، ومن بعض العثمانيين في الآستانة وباريس، ثم أخذ يبرهن على أن سياسة أوربا اقتصادية ملكية، لا دينية لاهوتية.
لا أدري من هم المسلمون الذين وصفهم مسيو هانوتو، ومن أبلغه أخبارهم: أهم الهنود وهم في حكم دولة أجنبية، ولا نزال نرى في خطبهم وجرائدهم ما يدل على طاعتهم لحاكمهم، وتعليقهم الآمال بعدلهم، والتماسهم الحق من طرقهم؟
هل هم مسلمو روسيا، وثقتهم بحكومتهم أو ثقة حكومتهم بهم لا تخفى على أحد، حتى أن الدولة الروسية تفضلهم على المسيحيين من غير المذهب الأرثوذكسي؟
هل هم الأفغانيون وإخلاص أميرهم في مصافاة الإنكليز أشهر من أن يذكر، ولا ينفي إخلاصه حرصه على بلاده، ومحافظته على مصلحتها؟
هل هم الفرس واستنامتهم إلى السياسة الروسية لا يجهلها أحد؟
هل هم التونسيون، وقد أثنى عليهم مسيو هانوتو بما هم أهله، وثبت له ارتياحهم إلى السلطة الفرنسية لمجرد أنها أطلقت لهم الحرية في دينهم؟
لعله لم يقصد إلا العثمانيين كما يدل عليه بقية كلامه وكما يفيده قوله إنهم لا يأتمنون مسيحياً عثمانياً، والعثمانيون منهم المصريون ومنهم غيرهم، فأمّا المصريون فلا شيء عندهم يدل على عدم الثقة بالأوربيين وبالمسيحيين العثمانيين، فإنهم يشاركون في العمل مواطنيهم من الأقباط في جميع مصالح الحكومة، ما عدا المحاكم الشرعية الخاصة بالمسلمين، وهم معهم على غاية الوفاق خصوصا أهل الإخلاص وسلامة النية منهم، ولكل من الفريقين أصدقاء وأحبة من الفريق الآخر، ثم شأنهم هو ذلك الشأن مع سائر الطوائف المسيحية، إلا من ظهر منهم بالتعصب البارد للدين وآذاهم في دينهم أو في منافعهم الخاصة بهم لا لشيء سوى التعصب الأعمى، ولا تطلب على ذلك شاهدا أقرب من صاحب الجريدة الذي يحادثه مسيو هانوتو، فإنه بعد أن كان على المسلمين أثناء الحرب الروسية العثمانية، وبعد أن أتى ما أتى عقب الحوادث العرابية، شهد له المسلمون بأنه صديقهم والساعي في خيرهم، كما افتخر بذلك مرارا في جريدته، وإن كانت له هنات معروفة فأين فقد هذه الثقة بالعثمانيين المسيحيين في مصر؟ هل طرد أحد من خدمة الحكومة لأنه مسيحي عثماني؟ هل حرم أحد حق المحاماة أو إنشاء الجرائد أو المطابع أو إقامة المصانع أو تأسيس البيوت التجارية لأنه مسيحي عثماني؟ فليأت صاحبنا بشاهد واحد!
أمَّا حالهم مع الأوربيين فإنا نراهم إذا أحسوا بعدل من إنكليزي ذكروه، أو وصل إليهم معروف من أي عامل أوربي شكروه، بل أزيدك على هذا أن المستغيث منهم بالحكومة يطلب منها أن يتولى تحقيق مظلمته إنكليزي، كما شوهد ذلك كثيرا في شكاياتهم، وليس بقليل من يعرض شكواه على جناب اللورد كرومر وهو ليس بحاكم رسمي، فأي دليل على الثقة أكبر من هذا؟
ليس بقليل في مصر من يثق بالفرنسيين ومن له بينهم أصدقاء يركن إليهم ويعتد بولائهم، ومسيو هانوتو وصاحب الجريدة يعرفان ذلك.
كثيراً ما أغرى الأوربيون من فرنسيين وأمريكيين من أرباب المدارس في مصر شباناً من المسلمين بالمروق من دينهم والدخول في الديانة المسيحية، وفروا ببعضهم من القطر المصري إلى البلاد الأجنبية، وأحرقوا أكباد آبائهم، ومع ذلك لا نزال نرى المسلمين يرسلون أولادهم إلى مدارس، وناظر المعارف عندنا وزير مسلم وأولاده يتربون في مدارس الجزويت، وكثير من أبناء الأعيان في مدارس الفرير فأي ائتمان هذا الائتمان؟
زادت ثقة المصريين من المسلمين بالأوربيين خصوصاً في المعاملات حتى أساء أولئك الأوربيون استعمالها، وانتهزوا فرصتها، وسلبوا كثيراً من أهل الثروة ما كان بأيديهم، ومع ذلك فهم لا يزالون يأمنونهم، ويغالون في الاستنامة إليهم، ويقلدونهم فيما يخالف دينهم وعوائدهم، فماذا يطلب من الثقة فوق هذا؟
هل يشكو عقلاء المسلمين في مصر من شيء مثلما يشكون من الثقة العمياء بالأجنبي، من غير تمييز فيما هو عليه من إخلاص أو غش، من صدق أو كذب، من أمانة أو خيانة، من قناعة أو طمع، حتى آل الأمر بالناس إلى ما آلوا إليه من خسارة المال وسوء الحال! فهل هذا هو فقد الثقة بالأوربيين والعثمانيين المسيحيين الذي يعنيه حضرة صاحب الأهرام وجناب مسيو هانوتو؟!
وأمَّا العثمانيون من غير المصريين فإذا ارتقينا إلى الدولة وسلطانها أيده الله، وجدنا أن نظام الدولة قاض باستخدام المسيحيين في إدارتها ومحاكمها في كل بلد فيه مسيحيون، والمأمورون من المسيحيين ينالون من النياشين والرتب ما يناله المسلمون على نسبة عددهم أو فوق ذلك، وكثير من المسيحيين نالوا من الامتيازات والمنافع في الدولة ما لم ينله مسلم، وسفارات الدولة ومناصبها العالية لا تخلو من المسيحيين.
إقبال السلطان على رؤساء الطوائف المسيحية وإنعامه عليهم بوسامات الشرف، واختصاصه لبعضهم بشرف المثول في حضرته، والإحسان إليه برقيق المخاطبة لا ينقطع ذكره من الجرائد، وصاحب الجريدة التي نقلت الحديث أمثل شاهد على مثل ذلك فقد جاهر زمنا ليس بالقصير بما لا ترضى الدولة بمثله ولا بأقل منه من مسلم، ثم سهل عليه وهو مسيحي أن يكون موضع ثقة للجناب السلطاني حتى أدناه منه وقبله في مجلسه، وسمع منه أمير المؤمنين تلك النصيحة المفيدة التي نشرها في جريدته من نحو شهرين، إثْرَ هبوبه لنصرة مسيو هانوتو، ثم والى عليه إحسانه بالرتب والنياشين وغيرها، فما هي الثقة إن كان هذا فقدانها؟
أمَّا سياسة الدولة الخارجية فالفرنسيون يشكون من مصافاة لسلطان وثقته بدولة ألمانيا وهي دولة مسيحية، ولا أظنهم يشكون من ثقة أخرى بدولة إسلامية، وكانت للدولة ثقة لا تتزعزع بالسياسة الإنكليزية، ثم حدثت حوادث أهمها نشأ من ضعف سياسة مسيو غلادستون، فأعقبها اضطراب في تلك الثقة مدة من الزمان بحكم الضرورة، إنا نراها اليوم تتراجع، وفي رجال الدولة من لهم ثقة بصداقة روسيا، ويودون لو مالت إليها سياسة الدولة وهم مسلمون.
والذي أحب أن يعرفه مسيو هانوتو أن سياسة الدولة العثمانية مع الدول الأوربية ليست بسياسة دينية، ولم تكن قط دينية من يوم نشأتها إلى اليوم، وإنما كانت في سابق الأيام دولة فتح وغلبة، وفي أخرياتها دولة سياسية ومدافعة، ولا دخل للدين في شيء من معاملاتها مع الأمم الأوربية.
إمبراطور ألمانيا جاء إلى سورية للاحتفال بفتح كنيسة فبالغ السلطان في الاحتفال به إلى الحد الذي اشتهر وبهر.
يجيء الأمراء المسيحيون من الأوربيين إلى الآستانة فيلاقون من الاحتفال ما لا يلاقونه في بلاد مسيحية، وينفق في تعظيم شأنهم من المال ما المسلمون في حاجة إليه.
أليس ذلك لمجاملتهم واكتساب مودتهم، وهل بعد المودة إلا الثقة بصاحب المودة؟ كان يمكن للسلطان أن يكتفي بالرسميات ولا يزيد عليها، ولكن عهد في معاملته ما يفوق الرسمي بدرجات، فإن سلمنا أن سياسة أوربا ليست دينية من جميع وجوهها فسياسة الدولة العثمانية مع أوربا هي كذلك، ومسلموها تبع لها.
فإن قال قائل: إن حوادث الأرمن لم تزل في ذاكرة أهل الوقت، وينسبون وقائعها إلى التعصب الديني، بل يقولون إن أسبابها مظالم جر إليها ذلك التعصب، أمكن أن يجاب بأن العداوة مع طائفة مخصوصة لا تدل على فقد الثقة بكل مسيحي منها ومن غيرها، ومع ذلك فإن كثيرا من الأرمن في خدمة الدولة إلى اليوم، وهم بذلك موضع ثقتها، وهذا وذاك يدل على الريب فيما يزعمون من أن منشأ تلك الوقائع التعصب الديني، فإن المسيحيين وسواهم في الممالك العثمانية أنعم حالاً من المسلمين كما شاهدناه بأنفسنا، ولو أنصف الأوربيون لأمكنهم فهم أسباب هذا الاضطراب الذي يظهر زمنا بعد زمن في تلك الأقطار، ولسهل عليهم أن يعرفوا أن منبعه في أوربا لا في آسيا.
لا أغالي حين أقول إن المسيحيين في الممالك العثمانية متمتعون بنوع من الحرية في التعليم والتربية وسائر وجوه الخير ما يتمنى المسلمون أن يساووهم فيه، فهل هذا عنوان سوء الظن بالمسيحيين وعدم الثقة بهم؟ لا يليق بكاتب مثل صاحب الأهرام أن يروي عن المسلمين كافة مثل ما رواه، فإن ذلك مما يحزن المسلمين والمسيحيين جميعا، وإني أعتقد أنه عند الكلام على المسلمين لم يكن في ذهنه إلا بعض أشخاص لم تعجبه آراؤهم فيه، فاستحضر في صورهم جميع المسلمين وسياسييهم.
ليعلم مسيو هانوتو أن جميع ما يقال له أو يكتبه بعض العثمانيين لا حقيقة له إلا في ذهن القائل أو الكاتب، فلا ينبغي أن يعول على مثله في أحكامه، وعليه أن يحقق الأمر بنفسه إن كان يهمه أن يتكلم فيه.
وأمَّا أن المسلمين أخذوا عليه فيما كتب عن الإسلام مع أنه خدمهم، وقوله «فكيف بحالهم مع من لم يخدمهم»، فنبين له الوجه فيه ليزول عنه ما سبق إلى فهمه، ولو اقتصر على الكلام في السياسة، وبحث في علاقة المسلمين مع حكومته ولم يتناول الدين نفسه في أصلين من أهم أصوله، لما أخذ عليه أحد إلا من ينتقد رأيه من جهة ما هو صحيح أو غير صحيح، ولكنه لم يكتف بذلك وطعن في عقيدة التوحيد، وبين رداءة أثرها في المسلمين، واستل سلاحه على عقيدة القدر، وبين سوء ما جرت إليه فيهم، وهو بذلك يثبت أن المسلمين لا يزالون منحطين ما داموا مسلمين، وهو ما لا يرضاه أحد منهم.
لو مال على المسلمين فيما هم عليه اليوم وفي انحرافهم عن أصول دينهم، واكتفى بتعنيفهم على إهمالهم لشئونهم، وغفلتهم عن مصلحتهم، كما جاء في حديثه الذي نحن بصدده، لما وجد من المسلمين إلا معتبرا بقوله متعظاً بنصيحته والسلام. |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الإسلام بين العلم والمدنية الجمعة 14 يونيو 2024, 3:18 pm | |
| أصول الإسلام الإسلام وأصوله للإسلام في الحقيقة دعوتان: دعوة إلى الاعتقاد بوجود الله وتوحيده، ودعوة إلى التصديق برسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
فأمَّا الدعوة الأولى فلم يعول فيها إلا على تنبيه العقل البشري وتوجيهه إلى النظر في الكون واستعمال القياس الصحيح والرجوع إلى ما حواه الكون من النظام والترتيب، وتعاقد الأسباب والمسببات ليصل بذلك إلى أن للكون صانعا واجب الوجود عالما حكيما قادرا، وأن ذلك الصانع واحد لوحدة النظام في الأكوان، وأطلق للعقل البشري أن يجري في سبيله الذي سنته له الفطرة بدون تقييد فنبهه إلى خلق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار، وتحريك الرياح على وجه يتيسر للبشر أن يستعملها في تسخير الفلك لمنافعه، وإرسال تلك الرياح لتثير السحاب، فينزل من السحاب ماء فتحيا به الأرض بعد موتها وتنبت ما شاء الله من النبات والشجر، مما فيه رزق الحي وحفاظ حياته — كل ذلك من آيات الله عليه أن يتدبر فيها ليصل إلى معرفته.
ثم قد يزيده تنبيهاً بذكر أصل للكون يمكن الوصول إلى شيء منه بالبحث في عوالمه، فبذكر ما كان عليه الأمر في أول خلق السماوات والأرض كما جاء في آية: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ) ونحوها من الآيات.
وهو إطلاق لعنان العقل ليجري شوطه الذي قدر له في طريق الوصول إلى ما كانت عليه الأكوان، وقد يزيد التنبيه تأثيرا في إيقاف العقل ما يؤيد ذلك من السنة، كما جاء في خبر من سأل النبي صلى الله عليه وسلم وآله: أين كان ربنا قبل السماوات والأرض؟ فأجابه عليه السلام: (كان في عماء تحته هواء)١ والعماء عندهم السحاب، فنرى القرآن في مثل هذه المسألة الكبرى لا يقيد العقل بكتاب، ولا يقف به عند باب، ولا يطالبه فيه بحساب، فليقرأ القارئ القرآن مما يغنيني عن سرد الآيات الداعية إلى النظر في آيات الكون: (أَوَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِن شَيْءٍ)، (وَآيَةٌ لَّهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ)، (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ)، وأمثال ذلك، فلو أردت سرد جميعها لأتيت بأكثر من ثلث القرآن بل من نصفه في مقالي هذا.
يذكر القرآن إجمالاً من آثار الله في الأكوان تحريكاً للعبرة، وتذكيراً بالنعمة، وحفزاً للفكرة، لا تقريراً لقواعد الطبيعة، ولا إلزاماً باعتقاد خاص في الخليقة، وهو في الاستدلال على التوحيد لم يفارق هذا السبيل، انظر كيف يقرع بالدليل (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا)، (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ).
فالإسلام في هذه الدعوة والمطالبة بالإيمان بالله ووحدانيته لا يعتمد على شيء سوى الدليل العقلي، والفكر الإنساني الذي يجري على نظامه الفطري (وهو ما نسميه بالنظام الطبيعي) فلا يدهشك بخارق للعادة، ولا يغشي بصرك بأطوار غير معتادة، ولا يخرس لسانك بقارعة سماوية، ولا يقطع حركة فكرك بصيحة إلهية، وقد اتفق المسلمون —إلا قليلاً ممن لا يعتد برأيه فيهم— على أن الاعتقاد بالله مقدم على الاعتقاد بالنبوات وأنه لا يمكن الإيمان بالرسل إلا بعد الإيمان بالله، فلا يصح أن يؤخذ الإيمان بالله من كلام الرسل ولا من الكتب المنزلة فإنه لا يعقل أن تؤمن بكتاب أنزله الله إلا إذا صدقت قبل ذلك بوجود الله وبأنه يجوز أن ينزل كتابا ويرسل رسولاً.
وقالوا كذلك: إن أول واجب يلزم المكلف أن يأتي به هو النظر والفكر لتحصيل الاعتقاد بالله لينتقل منه إلى تحصيل الإيمان بالرسل وما أنزل عليهم من الكتاب والحكمة.
وأمَّا الدعوة الثانية: فهي التي يحتج فيها الإسلام بخارق العادة وما أدراك ما هو خارق العادة الذي يعتمد عليه الإسلام، في دعوته إلى التصديق برسالة النبي عليه السلام؟ هذا الخارق للعادة هو الذي تواتر خبره، ولم ينقطع أثره، هذا هو الدليل وحده وما عداه مما ورد في الأخبار سواء صح سنده أو اشتهر أو ضعف أو وهى، فليس مما يوجب القطع عند المسلمين، فإذا أورد في مقام الاستدلال فهو على سبيل تقوية العقد لمن حصل أصله، وفضل من التأكيد لمن سلمه من أهله.
ذلك الخارق المتواتر المعول عليه في الاستدلال لتحصيل اليقين هو القرآن وحده.
والدليل على أنه معجزة خارقة للعادة تدل على أن موحيه هو الله وحده وليس من اختراع البشر — هو أنه جاء على لسان أمي لم يتعلم الكتاب ولم يمارس العلوم، وقد نزل على وتيرة واحدة، هاديا للضال مقوما للمعوج، كافلا بنظام عام لحياة من يهتدي به من الأمم منقذا لهم من خسران كانوا فيه، وهلاك كانوا أشرفوا عليه وهو مع ذلك من بلاغة الأسلوب على ما لم يرتق إليه كلام سواه، حتى لقد دعا الفصحاء والبلغاء أن يعارضوه بشيء من مثله فعجزوا ولجئوا إلى المجالدة بالسيوف وسفك الدماء واضطهاد المؤمنين به إلى أن ألجئوهم إلى الدفاع عن حقهم وكان من أمرهم ما كان من انتصار الحق على الباطل وظهور شمس الإسلام تمد عالمها بأضوائها، وتنشر أنوارها في أجوائها.
وهذا الخارق قد دعي الناس إلى النظر فيه بعقولهم، وطولبوا بأن يأتوا في نظرهم على آخر ما تنتهي إليه قوتهم فإن وجدوا طريقا لإبطال إعجازه أو كونه لا يصلح دليلا على المدعى فعليهم أن يأتوا به قال تعالى: (وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ)، وقال: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا)، وقال غير ذلك مما هو مطالبة بمقاومة الحجة، ولم يطالبهم بمجرد التسليم على رغم من العقل.
معجزة القرآن جامعة من القول والعلم، وكل منهما مما يتناوله العقل بالفهم، فهي معجزة عرضت على العقل وعرفته القاضي فيها، وأطلقت له حق النظر في أحنائها، ونشر ما انطوى في أثنائها، وله منها حظه الذي لا ينتقص.
فهي معجزة أعجزت كل طوق أن يأتي بمثلها، ولكنها دعت كل قدرة أن تتناول ما تشاء منها، أمَّا معجزة موت حي بلا سبب معروف للموت، أو حياة ميت، أو إخراج شيطان من جسم، أو شفاء علة من بدن، فهي مما ينقطع عنده العقل ويجمد لديه الفهم، وإنما يأتي بها الله على يد رسله لإسكات أقوام غلبهم الوهم، ولم يضئ عقولهم نور العلم، وهكذا يقيم الله بقدرته من الآيات للأمم على حسب الاستعدادات.
ثم إن الإسلام لم يتخذ من خوارق العادات دليلا على أن الحق لغير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولم ترد فيه كلمة واحدة تشير إلى أن الداعين إليه يمكنهم أن يغيروا شيئاً من سنة الله في الخليقة، ولا حاجة على بيان ذلك فهو أشهر من أن يحتاج إلى تعريف.
الأصل الأول للإسلام النظر العقلي لتحصيل الإيمان: فأول أساس وضع عليه الإسلام هو النظر العقلي، والنظر عنده هو وسيلة الإيمان الصحيح فقد أقامك منه على سبيل الحجة وقاضاك إلى العقل، ومن قاضاك إلى حاكم فقد أذعن إلى سلطته، فكيف يمكنه بعد ذلك أن يجور أو يثور عليه؟
بلغ هذا الأصل بالمسلمين أن قال قائلون من أهل السنة: إن الذي يستقصي جهده في الوصول إلى الحق ثم لم يصل إليه ومات طالبا غير واقف عند الظن فهو ناج.
فأية سعة لا ينظر إليها الحرج أكمل من هذه السعة؟
الأصل الثاني تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض: أسرع إليك بذكر أصل يتبع هذا الأصل المتقدم قبل أن أنتقل إلى غيره: اتفق أهل الملة الإسلامية إلا قليلا ممن لا ينظر إليه على أنه إذا تعارض العقل والنقل أخذ بما دل عليه العقل، وبقي في النقل طريقان: طريق التسليم بصحة المنقول مع الاعتراف بالعجز عن فهمه، وتفويض الأمر إلى الله في علمه، وطريق تأويل النقل مع المحافظة على قوانين اللغة حتى يتفق معناه مع ما أثبته العقل.
وبهذا الأصل الذي قام على الكتاب وصحيح السنة وعمل النبي صلى الله عليه وسلم مهدت بين يدي العقل كل سبيل، وأزيلت من سبيله جميع العقبات، واتسع له المجال إلى غير حد، فماذا عساه أن يبلغ نظر الفيلسوف حتى يذهب إلى ما هو أبعد من هذا؟ وأي فضاء يسع أهل النظر وطلاب العلوم إن لم يسعهم هذا الفضاء؟ إن لم يكن في هذا متسع لهم فلا وسعتهم أرض بجبالها ووهادها ولا سماء بأجرامها وأبعادها.
الأصل الثالث البعد عن التكفير: هلا ذهبت من هذين الأصلين على ما اشتهر بين المسلمين وعرف من قواعد أحكام دينهم وهو إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مائة وجه ويحتمل الإيمان من وجه واحد حمل على الإيمان، ولا يجوز حمله على الكفر، فهل رأيت تسامحا على أقوال الفلاسفة والحكماء أوسع من هذا؟ وهل يليق بالحكيم أن يكون من الحمق بحيث يقول قولا لا يحتمل الإيمان من وجه واحد من مائة وجه؟ إذا بلغ به الحمق هذا المبلغ كان الأجدر به أن يذوق حكم محكمة التفتيش البابوية ويؤخذ بيديه ورجليه فيلقي في النار.
الأصل الرابع الاعتبار بسنن الله في الخلق: يتبع ذلك الأصل الأول في الاعتبار —وهو ألا يعول بعد الأنبياء في الدعوة إلى الحق على غير الدليل، وألا ينظر إلى العجائب والغرائب وخوارق العادات— أصل آخر وضع لتقويم ملكات الأنفس القائمة على طريق الإسلام وإصلاح أعمالها في معاشها ومعادها — ذلك هو أصل العبرة بسنة الله فيمن مضى ومن حضر من البشر وفي آثار سيرهم فيهم.
فمما جاء في الكتاب العزيز مقرراً لهذا الأصل: (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ، سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا ۖ وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا، فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ ۚ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلًا، أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ...) إلخ.
في هذا يُصَرِّحُ الكتاب أن لله في الأمم والأكوان سُنَناً لا تتبدل والسنن الطرائق الثابتة التي تجري عليها الشئون وعلى حسبها تكون الآثار، وهي التي تسمى شرائع أو نواميس، ويعبر عنها قوم بالقوانين.
ما لنا ولاختلاف العبارات؟ الذي ينادي به الكتاب أن نظام الجمعية البشرية وما يحدث فيها هو نظام واحد لا يتغير ولا يتبدل، وعلى من يطلب السعادة في هذا الاجتماع أن ينظر في أصول هذا النظام حتى يرد إليها أعماله ويبني عليها سيرته وما يأخذ به نفسه.
فإن غفل عن ذلك غافل فلا ينتظرن إلا الشقاء، وإن ارتفع إلى الصالحين نسبه، أو اتصل بالمقربين سببه.
فمهما بحث الناظر وفكر، وكشف وقرر، وأتى لنا بأحكام تلك السنن، فهو يجري مع طبيعة الدين، وطبيعة الدين لا تتجافى عنه، ولا تنفر منه، فلم لا يعظم تسامحها معه؟
جاء الإسلام لمحو الوثنية عربية كانت أو يونانية أو رومانية، أو غيرها، في أي لباس وجدت، وفي أية صورة ظهرت، وتحت أي اسم عرفت، ولكن كتابه عربي والعربية لغة أولئك الوثنيين أعدائه الأقربين، وفهم معناه موقوف على معرفة أوضاع اللسان ولا تعرف أوضاعه حتى تعرف مواضع استعمال كلماته وأساليبه، ولن يكون ذلك إلا بحفظ ما نطق به العرب من منظوم ومنثور، وفيه من آدابهم وعاداتهم واعتقاداتهم ما يعيد عند الناظر في كلامهم صورة كاملة من جاهليتهم، وما فيها من الوثنية وأطوارها. هكذا صنع المسلمون الأولون — ركبوا الأسفار، وأنفقوا الأعمار، وبذلوا الدرهم والدينار، في جمع كلام العرب وحفظه وتدوينه وتفسيره، توسلا بذلك إلى فهم كتابهم المنزل فكانوا يعدون ذلك ضربا من ضروب العبادة، يرجون من الله فيه حسن المثوبة، فكان من طبيعة الدين ألا يحتقر العلم الذي ولد هو فيه.
بل قد يكون من الدين علم ما ليس منه٢ متى حسنت النية في تناوله وهذا باب من التسامح لا يقدر سعته إلا أهل العلم به وأمَّا المسيحيون الأولون فقد هجروا لسان المسيح عليه السلام سريانيا كان أو عبرانيا (أو آراميا) وكتبوا الأناجيل باللغة اليونانية ولم يكتب بالعبرية إلا إنجيل متى، فيما يقال.
ألا ترى أن اسم الإنجيل نفسه يوناني؟ كل ذلك كراهة لليهود الذين كان ينطق المسيح بلسانهم ويعظهم بلغتهم وتحرجاً من النظر في دواوين آدابهم، وما توارثوا من عاداتهم.
الأصل الخامس قلب السلطة الدينية: أصل من أصول الإسلام انتقل إليه —وما أجله من أصل— قلب السلطة الدينية والإتيان عليها من أساسها.
هدم الإسلام بناء تلك السلطة ومحا أثرها حتى لم يبق لها عند الجمهور من أهله اسم ولا رسم.
لم يدع الإسلام لأحد بعد الله ورسوله سلطاناً على عقيدة أحد ولا سيطرة على إيمانه على أن الرسول عليه السلام كان مبلغاً ومذكراً لا مهيمناً ولا مسيطراً، قال الله تعالى: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ)، ولم يجعل لأحد من أهله أن يحل ولا أن يربط لا في الأرض ولا في السماء.
بل الإيمان يعتق المؤمن من كل رقيب عليه فيما بينه وبين الله سوى الله وحده، ويرفع عنه كل رق إلا العبودية لله وحده، وليس لمسلم —مهما علا كعبه في الإسلام— على آخر —مهما انحطت منزلته فيه— إلا حق النصيحة والإرشاد.
قال تعالى في وصف المفلحين: (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وقال: وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
وقال: (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ).
فالمسلمون يتناصحون ثم هم يقيمون أمة تدعو إلى الخير —وهم المراقبون عليها— يردونها إلى السبيل السوي إذا انحرفت عنه.
وتلك الأمة ليس لها عليهم إلا الدعوة والتذكير والإنذار والتحذير، ولا يجوز لها ولا لأحد من الناس أن يتتبع عورة أحد.
ولا يسوغ لقوي ولا لضعيف أن يتجسس على عقيدة أحد وليس يجب على مسلم أن يأخذ عقيدته أو يتلقى أصول ما يعمل به عن أحد إلا عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
لكل مسلم أن يفهم عن الله من كتاب الله وعن رسوله من كلام رسوله، بدون توسيط أحد من سلف ولا خلف وإنما يجب عليه قبل ذلك أن يحصل من وسائله ما يؤهله للفهم، كقواعد اللغة العربية وآدابها وأساليبها وأحوال العرب خاصة في زمان البعثة وما كان الناس عليه زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وما وقع من الحوادث وقت نزول الوحي، وشيء من الناسخ والمنسوخ من الآثار.
فإن لم تسمح له حاله بالوصول إلى ما يعده لفهم الصواب من السنة والكتاب فليس عليه إلا أن يسأل العارفين بهما وله بل عليه أن يطالب المجيب بالدليل على ما يجيب به سواء كان السؤال في أمر الاعتقاد أو في حكم عمل من الأعمال.
فليس في الإسلام ما يسمى عند قوم بالسلطة الدينية بوجه من الوجوه.
السلطان في الإسلام لكن الإسلام دين وشرع، فقد وضع حدوداً، ورسم حقوقاً، وليس كل معتقد في ظاهر أمره بحكم يجري عليه في عمله، فقد يغلب الهوى، وتتحكم الشهوة، فيغمط الحق، ويتعدَّى المُعتدي الحد، فلا تكمل الحكمة من تشريع الأحكام إلا إذا وجدت قوة لإقامة الحدود وتنفيذ حكم القاضي بالحق.
وصون نظام الجماعة، وتلك القوة لا يجوز أن تكون فوضى في عدد كثير فلابد أن تكون في واحد وهو السلطان أو الخليفة.
الخليفة عند المسلمين ليس بالمعصوم، ولا هو مهبط الوحي ولا من حقه الاستئثار بتفسير الكتاب والسنة.
نعم شرط فيه أن يكون مجتهدا أي أن يكون من العلم باللغة العربية وما معها —مما تقدَّم ذكره— بحيث يتيسر له أن يفهم من الكتاب والسنة ما يحتاج إليه من الأحكام، حتى يتمكن بنفسه من التمييز بين الحق والباطل، والصحيح والفاسد، ويسهل عليه إقامة العدل الذي يطالبه به الدين والأمة معا.
هو —على هذا— لا يخصه الدين في فهم الكتاب والعلم بالأحكام بمزية، ولا يرتفع به إلى منزلة، بل هو وسائر طلاب الفهم سواء، إنما يتفاضلون بصفاء العقل، وكثرة الإصابة في الحكم٣ ثم هو مطاع مادام على المحجّة ونهج الكتاب والسنة والمسلمون له بالمرصاد، فإذا انحرف عن النهج أقاموه عليه وإذا اعوج قوموه بالنصيحة والأعذار إليه٤ (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)٥ فإذا فارق الكتاب والسنة في عمله وجب عليهم أن يستبدلوا به غيره ما لم يكن في استبداله مفسدة تفوق المصلحة فيه.٦
فالأمة أو نائب الأمة هو الذي ينصبه، والأمة هي صاحبة الحق في السيطرة عليه وهي التي تخلعه متى رأت ذلك من مصلحتها فهو حاكم مدني من جميع الوجوه.
ولا يجوز لصحيح النظر أن يخلط الخليفة عند المسلمين بما يسميه الإفرنج (ثيوقراطي) أي سلطان إلهي فإن ذلك عندهم هو الذي ينفرد بتلقي الشريعة عن الله وله حق الأثرة بالتشريع وله في رقاب الناس حق الطاعة، لا بالبيعة، وما تقتضيه من العدل وحماية الحوزة بل بمقتضى الإيمان فليس للمؤمن مادام مؤمنا أن يخالفه، وإن اعتقد أنه عدو لدين الله، وشهدت عيناه من أعماله ما لا ينطبق على ما يعرفه من شرائعه، لأن عمل صاحب السلطان الديني وقوله في أي مظهر هما دين وشرع، وهكذا كانت سلطة الكنيسة في القرون الوسطى، ولا تزال الكنيسة تدعي الحق في هذه السلطة كما سبقت الإشارة إليه.
كان من أعمال التمدن الحديث الفصل بين السلطة الدينية والسلطة المدنية فترك للكنيسة حق السيطرة على الاعتقاد والأعمال فيما هو من معاملة العبد لربه، تشرع وتنسخ ما تشاء وتراقب وتحاسب كما تشاء، وتحرم وتعطي كما تريد، وخول السلطة المدنية حق التشريع في معاملات الناس بعضهم لبعض، وحق السيطرة على ما يحفظ نظام اجتماعهم، في معاشهم لا في معادهم، وعدوا هذا الفصل منبعا للخير الأعم عندهم.
ثم هم يهمون فيما يرمون به الإسلام من أنه يحتم قرن السلطتين في شخص واحد، ويظنون أن معنى ذلك في رأي المسلم أن السلطان هو مقرر الدين، وهو واضع أحكامه وهو منفذها، والإيمان آلة في يده يتصرف بها في القلوب بالإخضاع وفي العقول بالإقناع، وما العقل والوجدان عنده الإمتاع، ويبنون على ذلك أن المسلم مستعبد لسلطانه بدينه وقد عهدوا أن سلطان الدين عندهم كان يحارب العلم، ويحمي حقيقة الجهل، فلا يتيسر للدين الإسلامي أن يأخذ بالتسامح مع العلم مادام من أصوله أن إقامة السلطان واجبة بمقتضى الدين وقد تبين لك أن هذا كله خطأ محض وبعيد عن فهم معنى ذلك الأصل من أصول الإسلام.
وعلمت أن ليس في الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة، والدعوة إلى الخير والتنفير عن الشر، وهي سلطة خولها الله لأدنى المسلمين يقرع بها أنف أعلاهم، كما خولها لأعلاهم يتناول بها من أدناهم، ومن هنا تعلم «الجامعة» أن مسألة السلطان في دين الإسلام ليست مما يضيق به صدره، وتحرج به نفسه عن احتمال العلم، وقد تقدم ما يشير إلى ما صنع الخلفاء العباسيون والأمويون الأندلسيون من صنائع المعروف مع العلم والعلماء، وربما أتينا على شيء آخر منه فيما بعد.
يقولون: إن لم يكن للخليفة ذلك السلطان الديني أفلا يكون للقاضي أو للمفتي أو شيخ الإسلام؟ أو قول: إن الإسلام لم يجعل لهؤلاء أدنى سلطة على العقائد وتقرير الأحكام، وكل سلطة تناولها واحد من هؤلاء فهي سلطة مدنية قررها الشرع الإسلامي، ولا يسوغ لواحد منهم أن يدعي حق السيطرة على إيمان أحد أو عبادته لربه، أو ينازعه في طريق نظره. الأصل السادس
حماية الدعوة لمنع الفتنة: قالوا إن الدين الإسلامي دين جهادي شرع فيه القتال ولم يكن شرع في الدين المسيحي، ففي طبيعة الدين روح الشدة على من يخالفه، وليس فيها ذلك الصبر والاحتمال اللذان تقضي بهما شريعة المسالمة، وهي الشريعة التي وردت في كثير من الوصايا المسيحية «من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الآخر، من سخرك ميلا فسر معه ميلين» (متى ٥: ٣٩، ٤٠) ونحو ذلك، حتى لقد طلبت فيها محبة العدو وهي مما لا يدخل تحت الاختيار بل ولا محبة الصديق، وإنما الاختيار العدل بين الأعداء والأولياء، لكن في ملكوت الله كل شيء مستطاع ولا شيء فيه بمستحيل.
قلنا: لكن انظروا هل دفع الشر بالشر عند القدرة عليه وعند عدم التمكن من سواه خاص بالدين الإسلامي أو هو في طبيعة كل قادر يعذر إلى خصمه؟ ليس القتل في طبيعة الإسلام بل في طبيعته العفو والمسامحة: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ولكن القتال فيه لرد اعتداء المعتدين على الحق وأهله إلى أن يأمن شرهم، ويضمن السلامة من غوائلهم، ولم يكن ذلك للإكراه على الدين ولا الانتقام من مخالفيه، ولهذا لا تسمع في تاريخ الفتوح الإسلامية ما تسمعه في الحروب المسيحية، عندما اقتدر أصحاب «شريعة المسالمة» على محاربة غيرهم من قتل الشيوخ والنساء والأطفال.٧
لم تقع حرب إسلامية بقصد الإبادة كما وقع كثير من الحروب بهذا القصد بأيدي المسيحيين، وإنما كان الصبر والمسالمة دينا عندما كانت القدرة والقوة تعوزان الدين، وغاية ما يقال إن العناية الإلهية منحت الإسلام في الزمن القصير من القوة على مدافعة أعدائه ما لم تمنحه لغيره في الزمن الطويل، فتيسر له في شبيبته ما لم يتيسر لغيره إلا في كهولته أو شيخوخته. =============================== ١ رواه ابن جرير الطبري والطبراني وأبو الشيخ في العظمة عن أبي رزين السائل (رضي الله عنه) والحديث من المتشابهات ولكنه يوافق ما يقوله علماء الكون في التكوين ثم استوى إلى السماء وهي دخان. ٢ أي قد يعد الإسلام من الدين الذي يتقرب به إلى الله — الاشتغال بعلم غير ديني بنية صالحة كنفع الناس به. ٣ من شواهد ذلك ارتفاع قدر العلماء على الخلفاء الذين قصروا عنهم في الفهم والعلم، ألم يأتك نبأ الإمام مالك مع الخليفة هارون الرشيد رحمهما الله؟ وكيف أنزل الإمام الخليفة عن المنصة وأقعده مع العامة عند إلقاء الدرس، لأنه في رتبة المستفيد. ٤ من شواهد ذلك قول الخليفة أبي بكر رضي الله عنه في خطبته: «وإن زغت فقوموني». ٥ حديث رواه البخاري ومسلم وغيرهما. ٦ مثال ذلك أن يكون له عصبية أقوى من الأمة يخشى أن يبيدها بها، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح. ٧ لعل ما يحدث اليوم في الجزائر من الفرنسيين وفي كينيا من الإنجليز خير شاهد على ذاك. -------------------------------------------------------------------- |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الإسلام بين العلم والمدنية الجمعة 14 يونيو 2024, 3:19 pm | |
| في الحرب والسلم الإسلام الحربي كان يكتفي من الفتح بإدخال الأرض المفتوحة تحت سلطانه ثم يترك الناس وما كانوا عليه من الدين، يؤدون ما يجب عليهم في اعتقادهم كما شاء ذلك الاعتقاد، وإنما يكلفهم بجزية يدفعونها لتكون عونا على صيانتهم والمحافظة على أمنهم في ديارهم، وهم في عقائدهم ومعابدهم وعاداتهم بعد ذلك أحرار لا يضايقون في عمل، ولا يضامون في معاملة.
وكان خلفاء المسلمين يوصون قوادهم باحترام العباد الذين انقطعوا عن العامة في الصوامع والأديار لمجرد العبادة، كما كانوا يوصونهم باحترام دماء النساء والأطفال، وكل من لم يعن على القتال.
جاءت السنة المتواترة بالنهي عن إيذاء أهل الذمة وبتقرير ما لهم من الحقوق على المسلمين (لهم ما لنا وعليهم ما علينا) و(من آذى ذميا فليس منا).١ واستمر العمل على ذلك ما استمرت قوة الإسلام ولست أبالي إذا انحرف بعض المسلمين عن هذه الأحكام، عندما بدأ الضعف في الإسلام، —وضيق الصدر من طبع الضعيف— فذلك مما لا يلصق بطبيعته، ويخلط بطينته.
المسيحية السلمية كانت ترى لها حق القيام على كل دين يدخل تحت سلطانها تراقب أعمال أهله وتخصهم دون الناس بضروب من المعاملة لا يحتملها الصبر مهما عظم.
حتى إذا تمت لها القدرة على طردهم، بعد العجز عن إخراجهم من دينهم وتعميدهم، أجلتهم عن ديارهم، وغسلت الديار من آثارهم، كما حصل ويحصل في كل أرض استولت عليها أمة مسيحية استيلاء حقيقيا، لا يمنع غير المسيحي من تعدي المسيحي إلا كثرة العدد، أو شدة العضد، كما شهد التاريخ، وكما يشهد كاتبوه.
ذلك كله لأنه ما جاء ليلقي سلاما بل سيفا، ولأنه جاء ليفرق بين البنت وأمها والابن وأبيه٢ والإسلام يقول كتابه في شأن الوالدين المشركين: وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ فهو في اشتداده على المهدّدين لأمته لا يقضي بالفرقة بين أب وابن ولا بين أم وبنت، بل يأمر الأولاد المؤمنين أن يصحبوا الوالدين المشركين بالمعروف في الدنيا مع محافظتهم على دينهم.
فأنت ترى الإسلام من جهة يكتفي من الأمم والطوائف التي يغلب على أرضها بشيء من المال أقل مما كانوا يؤدونه من قبل تغلبه عليهم، وبأن يعيشوا في هدوء لا يعكرون معه صفو الدولة ولا يخلون بنظام السلطة العامة، ثم يرخي لهم بعد ذلك عنان الاختيار في شئونهم الخاصة بهم، ولا رقيب عليهم فيها إلا ضمائرهم.
ومن جهة أخرى ينهى أفراد المؤمنين عن مقاطعة ذوي قرباهم من المشركين، ويطالبهم بحسن معاملتهم ففي طبيعته أن يكل أمر الناس في سرائرهم إلى ربهم، وفي طبيعته أن يجير من لا يعتقد عقيدته، ويحمي من لا يتبع سنته، وإن كان في عمى من الجهالة، وخبل من الضلالة.
أفَتَرى أنه يصعب عليه بعد ذلك أن يحتمل العلم والعلماء، ويضيق به حلمه عن صنع الجميل بالفضل والفضلاء، ممن ينفق عمره في تقرير حقيقة، أو كشف غامض أو تبين طريقة؟ كلا ثم كلا، فمن بحث ونقب، وسبر ونقر، أو شق الأرض أو ارتقى إلى السماء، فهو في أمن من أن يعرض الإسلام له في شيء من عمله، إلا أن يحدث شغبا، أو يفسد أدبا، فعند ذلك تمتد يد الملك لرد كيد الكائد، وإصلاح الفاسد بسماح من الدين.
الأصل السابع: مودة المخالفين في العقيدة المصاهرة: أباح الإسلام للمسلم أن يتزوج الكتابية، نصرانية كانت أو يهودية، وجعل من حقوق الزوجة الكتابية على زوجها المسلم أن تتمتع بالبقاء على عقيدتها، والقيام بفروض عبادتها، والذهاب إلى كنيستها أو بيعتها، وهي منه بمنزلة البعض من الكل، وألزم له من الظل، وصاحبته في العز والذل، والترحال والحل، بهجة قلبه، وريحانة نفسه، وأميرة بيته، وأمّ بناته وبنيه، تتصرف فيهم كما تتصرف فيه، لم يفرق الدين في حقوق الزوجية، بين الزوجة المسلمة والزوجة الكتابية.
ولم تخرج الزوجة الكتابية باختلافها في العقيدة مع زوجها من حكم قوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)، فلها حظها من المودة، ونصيبها من الرحمة، وهي كما هي، وهو يسكن إليها كما تسكن إليه، وهو لباس لها كما أنها لباس له.
أين أنت من صلة المصاهرة التي تحدث بين أقارب الزوج وأقارب الزوجة وما يكون بين الفريقين من الموالاة والمناصرة على ما عهد في طبيعة البشر؟ وما أجلى ما يظهر من ذلك بين الأولاد وأخوالهم وذوي القربى لوالدتهم، أيغيب عنك ما يستحكم من ربط الألفة بين المسلم وغير المسلم بأمثال هذا التسامح، الذي لم يعهد عند من سبق ولا فيمن لحق من أهل الدينين السابقين عليه؟ ولا يخفى على صحيح النظر أن تقرير التسامح على هذا الوجه في نشأة الدين مما يعود القلوب على الشعور بأن الدين معاملة بين العبد وربه، والعقيدة طور من أطوار القلوب يجب أن يكون أمرها بيد علام الغيوب، فهو الذي يحاسب عليها، وأمَّا المخلوق فلا تطول يده إليها، وغاية ما يكون من العارف بالحق أن ينبه الغافل، ويعلم الجاهل، وينصح الغاوي، ويرشد الضال، لا يكفر في ذلك نعمة العشير، ولا يسلك به مسالك التعسير، ولا يقطع أمل النصير، ولا يخالف سنة الوفاء، ولا يحيد عن شرائع الصدق في الولاء.
ماذا ترى في الزوجة الكتابية لو كانت من أهل النظر العقلي وذهبت مذهباً يخالف مذهب زوجها؟ أفينقص ذلك من مودته لها؟ أو يضعف من شعور الرحمة التي أفاض الله بينه وبينها؟ فإذا كان المسلم يتعود الاحتمال، بل يتعود المحبة والنصرة لمن يخالفه في عقيدته ودينه وملته، ويألف مخالطته وعشرته وولايته ونصرته، أتراه لا يحتمل أن يرى بجواره من يعمل نظره في نظام الخليقة ليصل منه إلى اكتشاف سر أو تقرير أصل في علم، أو قاعدة لصناعة؟ إن كان قد يخالف ظاهرا مما يعتقد، أو يميل إلى رأي غير الذي يجد؟ أفلا يسع هذا ما يسع المجاهر بالخلاف، وهو معه على ما رأيت من الائتلاف؟
لو ذهبت أعد ما في طبيعة الإسلام من عناصر وأركان كلها تؤلف مزاج الكرم، وتكون حقيقة المسامحة مع العلم لأطلت على القارئ أكثر مما أطلت.
ولهذا أرى من الواجب على أن أختم القول بذكر أصل أشرت إليه ولا غنى لما نحن فيه عن ذكره.
الأصل الثامن: الجمع بين مصالح الدنيا والآخرة الصحة: الحياة في الإسلام مقدمة على الدين، أوامر الحنيفية السمحة إن كانت تختطف العبد إلى ربه، وتملأ قلبه من رهبه، وتفعم أمله من رغبه، فهي مع ذلك لا تأخذه عن كسبه، ولا تحرمه من التمتع به، ولا توجب عليه تقشف الزهادة، ولا تجشمه في ترك اللذات ما فوق العادة.
صاحب هذا الدين صلى الله عليه وسلم لم يقل «بع ما تملك واتبعني» ولكن قال لمن استشاره فيما يتصدق به من مال (الثلث، والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس). الرخص: فرض الصوم على المؤمنين لكن إذا خشي منه المرض أو زيادته أو زادت المشقة فيه جاز تركه، بل قد يجب إذا غلب على الظن الضرر فيه.
الوضوء أو الغسل من شروط الصحة للصلاة إلا إذا خشي منه الضرر أو عرضت مشقة في تحصيل الماء.
القيام مما لا تصح الصلاة إلا به إلا إذا أصابت المصلي مشقة فيه فيسقط، ويصلي قاعداً.
السعي إلى الجمعة واجب إلا إذا كان هناك وحل غزير، أو مطر كثير، أو ما يوجب تعبا ومشقة فيسقط، وهكذا تجد القاعدة قد عمت «صحة الأبدان، مقدمة على صحة الأديان» فترى الدين قد راعى في أحكامه سلامة البدن كما أوجب العناية بسلامة الروح.
الزينة والطيبات: أباح الإسلام لأهله التجمل بأنواع الزينة والتوسع في التمتع بالمشتهيات، على شريطة القصد والاعتدال وحسن النية، والوقوف عند الحدود الشرعية، والمحافظة على صفات الرجولة، جاء في الكتاب العزيز: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (سورة الأعراف).
ثم عد الله النعيم والجمال والزينة من نعمه علينا التي بذكرنا بها فضله، ويهيج بها نفوسنا لذكره وشكره، كما قال: (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا ۗ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنفُسِ ۚ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ۚ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ، ثم قال: وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (سورة النحل).
الاقتصاد: ووضع قانونا للإنفاق وحفظ المال في قوله تعالى: (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا * وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلًا مَّيْسُورًا * وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا) سورة الإسراء.
النهي عن الغلو في الدين: وخشي على المؤمن أن يغلو في طلب الآخرة فيهلك دنياه وينسى نفسه منها فذكرنا بما قصه علينا أن الآخرة يمكن نيلها مع التمتع بنعم الله علينا في الدنيا إذ قال وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ سورة القصص.
فترى أن الإسلام لم يبخس الحواس حقها، كما أنه هيأ الروح لبلوغ كمالها، فهو الذي جمع للإنسان أجزاء حقيقية واعتبره حيوانا ناطقا لا جسمانيا صرفا ولا ملكوتيا بحتا، جعله من أهل الدنيا كما هو من أهل الآخرة.
واستبقاه من أهل هذا العالم الجسداني، كما دعاه إلى أن يطلب مقامه الروحاني، أليس يكون بذلك وبما بينه في قوله هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا قد أطلق القيد عن قواه، لتصل من رفه الحياة «مع القصد» إلى منتهاه؟ والنفوس مطبوعة على التنافس قد غرز فيها حب التسابق فيما تعتقده خيرا أو تجده لذيذا أو تظنه نافعا.
وليس في الغريزة الإنسانية أن يقف بها الطلب عند حد محدود أو ينتهي بها السعي إلى غاية لا مطلع للرغبة وراءها، بل خصها الله بالمكنة من الرقي في أطوار الكمال من جميع وجوهه إلى ما شاء الله أن ترقى بدون حد معروف.
فإذا جمع سائق الأنفس ومزجيها ومرشدها وهاديها، بين شاحذين، شاحذ التمتع بمتاع الحياة الدنيا، وشاحذ الرغبة في النعيم الدائم في الآخرة، فقد جمع لها كل ما يسمو بها عن الرضاء في الدنيا بالدون وفي الآخرة بعذاب الهون، فترى كل نفس تمضي مع استعدادها بشهامة فؤادها مضاء الزميع لا تخشى العثرة بالوعيد، ولا تقعد عن مطلبها قعدة الرعديد فتطلب منافعها من هذا الكون الذي وجدت فيه ووجد لها، فتسير في مناكب الأرض ولا تكتفي عن الكل بالبعض، وتبحث في تربتها، ولا يقف بها ظاهرها عن باطنها، ولا يحجبها ظهرها عن مد يدها إلى ما في جوفها، ولا تجد ما يصدها عن النظر في الهواء، والبحث في الماء، والاهتداء بنجوم السماء بعد معرفة مواقعها وحركاتها في مداراتها واستقامتها وانحرافها وظهورها وخنوسها، وبالجملة فكل مستعد لوجه من وجوه النظر أو الولوج في باب من أبواب العلم.
ينطلق إلى حيث يبلغ به استعداده إما للنجاة من ضرورة وإمَّا لاستتمام منفعة أو استكمال لذة، لا يجد من نواهي الدين ما يصده عن مطلب، ولا ما يكف يده عن تنازل رغيبة أين هذا من ذلك الذي لا يرى الخلاص إلا في مجافاة هذا العالم ولذائذه، ويجد أن الغنى والثروة من الحجب التي لا تخرق، تجول بينه وبين ملكوت السماوات.
كيف يتسنى للمسلم أن يشكر الله حق شكره، إذا لم يضع العالم بأسره تحت نظر فكره لينفذ من ظاهره إلى سره، ويقف على قوانينه وشرائعه، ويستخدم كل ما يصلح لخدمته في توفير منافعه؟ كيف يشكر الله إذا توانى في ذلك وقد أرشده الله في كتابه وبسنة نبيه إلى أن عالمه إنما خلق لأجله، وقد وضعه الله تحت تصرف عقله؟ انظر إلى لطف الإشارة في الآية المتقدمة قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ إلخ حيث قال: كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فأهل العلم هم الذين يعرفون مقدار نعم الله تعالى فيما يرفه به معيشتهم، ويجمل به هيئتهم، ويجلي به زينتهم.
المسلمون مسوقون بنابل من دينهم إلى طلب ما يكسبهم الرفعة والسؤدد والعزة والمجد، ولا يرضيهم من ذلك ما دون الغاية، ولا يتوفر شيء من وسائل ذلك إلا بالعلم — فهم محفوزون أشد الحفز إلى طلب العلم وتلمسه في كل مكان، وتلقيه من أية شفة وأي لسان فإذا لاقاهم العالم في أي سبيل، أو عثروا به في أي جبل، أو ظهر لهم من أي قبيل، هشوا له وبشوا، ونصبوا إليه وكمشوا وشدوا به أواصرهم، وعقدوا عليه خناصرهم، ولا يبالون ما تكون عقيدته، إذا نفعتهم حكمته (الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها) ألم يأتهم عن ربهم: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الألْبَابِ) ألم يسمعوا في وصفهم قوله: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ).
ذلك شأن المسلم مع العلم إذا كان مسلما حقا، وذلك ما تنجر إليه طبيعة دينه، وحديث (اطلبوا العلم ولو بالصين)٣ إن كان في سند لفظه إلى النبي صلى الله عليه وسلم مقال فسند معناه متواتر فإنه سند القرآن نفسه، فإن الله يفضل العلم وأهل العلم بدون قيد ولا تخصيص، فالمسلم مطالب بطلب العلم ولو في الصين ولو لم يكن في الصين مسلم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
لا شيء ينقلب عند النفس الإنسانية لذة بنفسه، وإن كان في أول أمره مطلوبا لغيره، مثل العلم، تطلب العلم أولا لحاجتك إليه في تقويم معيشة، أو ترفيه حال، أو دفاع عن نفس وملة، ثم لا تلبث إذا أوغلت فيه أن تجد اللذة في العلم نفسه، فتصير اللذة بتحصيله والوصول إلى دقائقه غاية تقصد بنفسها وتضمحل فيها كل غاية سواها، وعلة ذلك ظاهرة فإن العلم مسرح نظر العقل، والعقل قوة من أفضل القوى الإنسانية، بل هي أفضلها على الحقيقة، وقد وضع لها العليم الحكيم لذة، كما منح لكل قوة سواها نعيما ولذة، ولست في حاجة إلى تعديد لذة البصر أو السمع أو الشم أو الذوق أو اللمس فالحيوان يعرفها بله الإنسان، وكلما عظم اختصاص القوة بالنوع عظمت لذاته باستعمالها فيما وجهت له، فيمكنك أن تستنتج من ذلك ألا شيء عند الإنسان ألذ من كشف المجهول، وإحراز المعقول وقد سمح الإسلام للمسلم أن يتمتع في هذه الحياة الدنيا بما يلذ له مع القصد والاعتدال.
أفلا يكون من لذائذه ومتممات نعيمه أن يسيح في مملكة العلم ليمتع عقله كما يسيح في بسيط الأرض ليكسب رزقه ويقيت أهله؟ على أن العلم كان من ضرورات معيشة المسلم أو حاجياتها كما ذكر فإذا طفق يستنبط ماءه للضرورة، ويستجلي سناءه للحاجة، فلا يلبث أن يصير هو حاجة نفسه، وشاغله عن حاجات حسه حتى يدخل معه في رمسه، كما وقع لكثير من المسلمين، قال إمام جليل من أئمتهم «طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله». ======================================== ١ ورد بهذا المعنى أحاديث في الصحاح والسنن وإيذاء الذمي والمعاهد محرم بالإجماع وروى الخطيب من حديث ابن مسعود، (من آذى ذميا فأنا خصمه ومن كنت خصمه، خاصمته يوم القيامة). ٢ هذا نص إنجيل متى في هذا. ومثله قول إنجيل لوقا ١٤–٢٥ و٢٦ «وقال لهم «يسوع» إن كان أحد يأتي إلي ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وإخوته وإخوانه حتى نفسه أيضاً فلا يقدر أن يكون لي تلميذا» وفي الباب ١٩ من هذا الإنجيل ما نصه «٢٧ أمَّا أعدائي أولئك الذين لم يريدوا أن أملك عليهم فأتوا بهم إلى هنا واذبحوهم قدامي» وأمَّا أسفار التوراة فقد جاء فيها نحو ذلك من القسوة على الأهلين المخالفين وعلى سائر المحاربين. قال في ١٣: ٩ من سفر تثنية الاشتراع: «وإذا غواك سرا أخوك ابن أمك أو ابنك أو ابنتك أو امرأة حضنك أو صاحبك الذي مثل نفسك قائلا: نذهب ونعبد آلهة أخرى لم تعرفها أنت ولا آباؤك آلهة الشعوب القريبين منك أو البعيدين عنك من أقصاء الأرض إلى أقصائها فلا ترض منه ولا تسمع له ولا تشق عينك عليه ولا ترق له ولا تستره بل قتلا تقتله. إلخ». وفي سفر التثنية أيضاً «٢٠: ١٠–١٦» ما نصه «حين تقرب من مدينة لتحاربها ادعها إلى الصلح فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك، وإن لم تسالمك بل عملت معك حربا فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأمَّا النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كلها غنيمتها فتغتنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك الذي أعطاك الرب إلهك، وهكذا تفعل بجميع المدن البعيدة جدا منك التي ليست من هؤلاء الأمم هنا، وأمَّا مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبا فلا تستبق منهم نسمة ما». ٣ رواه ابن عدي في الكامل. والبيهقي في شعب الإيمان والمدخل. وابن عبد البر في العلم. والخطيب في الرحلة. والديلمي في مسند الفردوس، وغيرهم وله طرق كثيرة يقوي بعضها بعضا. -------------------------------------------------------------
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الإسلام بين العلم والمدنية الجمعة 14 يونيو 2024, 3:20 pm | |
| نتائج هذه الأصول إلى أين أفضت طبيعة الإسلام بالمسلمين؟ وماذا كان أثرها في أسلافهم الأولين؟ فتح عمرو بن العاص رضي الله عنه مصر واستولى بجيشه على الإسكندرية بعد لحاق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى بست سنوات في رواية، وتسع سنوات في رواية أخرى، والإسلام في طلوع فجره وتفتح نوره، فكان من بقايا ما تركت الأزمان الأولى رجل مسيحي من اليعقوبيين اسمه يوحنا النحوي، كان في بدء أمره ملاحاً يعبر الناس بسفينته وكان يميل إلى العلم بطبيعته، فإذا ركب معه بعض أهل العلم أصغى إلى مذكراتهم ثم اشتد به الشوق فترك الملاحة واشتغل بالعلم وهو ابن ٤٠ سنة فبلغ فيه ما لم يبلغه الناشئون فيه من طفولتهم، وقد أحسن من العلم فنوناً كثيرة حتى عُدَّ من فلاسفة وقته وأطبائه ومناطقته.
يقول كثير من مؤرخي الغربيين ومؤرخي المسلمين: إن عمرو بن العاص سمع به فاستدناه منه وأكرمه لعلمه، ووقعت بينهما محبة ظهر أمرها واشتهر حتى قال أحد فلاسفة الغربيين: (إن المحبة التي نشأت بين عمرو بن العاص فاتح مصر ويوحنا النحوي ترينا مبلغ ما يسمو إليه العقل العربي من الأفكار الحرة والرأي العالي، بمجرد ما أعتق من الوثنية الجاهلية ودخل في التوحيد المحمدي أصبح على غاية من الاستعداد للجولان في ميادين العلوم الفلسفية والأدبية من كل نوع).
خالط المسلمون أهل فارس وسورية وسواد العراق وأدخلوهم في أعمالهم ولم يمنعهم الدين عن استعمالهم حتى كانت دفاترهم بالرومية في سورية ولم تغير بالعربية إلا بعد عشرات من السنين فاحتكت الأفكار بالأفكار، وأفضت سماحة الدين إلى أن أخذ المسلمون في دراسة العلوم والفنون والصنائع.
اشتغال المسلمين بالعلوم الأدبية والعقلية العلوم الأدبية والعقلية: بعد ٢٠ سنة من وفاته عليه الصلاة والسلام أخذ الخليفة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يحض على تعليم الآداب العربية ويطلب وضع القواعد لها لما رأى من حاجة الناس إلى ذلك، وأخذ المسلمون يتحسسون نور العلم في ظلام تلك الفتن استرسالا مع ما يدعوهم إليه دينهم، وتنبههم لطلبه شريعتهم، وإن كانت الحروب الداخلية التي اشتعلت نارها في أطراف بلادهم للنزاع في أمر الخلافة قد شغلتهم عن كل شيء من مصالحهم، فإنها لم تشغلهم عن تلمس العلوم والتناول منها بالتدريج على سنة الفطرة، فالبراعة في الآداب: من علم بوقائع العرب وتاريخهم، وقول الشعر، وإنشاء البليغ من النثر، قد بلغت في خلافة بني أمية مبلغا لم تبلغه أمة قط في مثل مدتها، وكان الخلفاء الأمويون يعلون منزلتها، ويرفعون مكانات الشعراء والخطباء والعلماء بالسير، ثم ظهرت آثار العلوم العقلية في آخر دولتهم، وترجمت جملة من الكتب العقلية والصناعية قبل نهاية القرن الأول.
الخلفاء الأمويون دار الخلافة من المدينة إلى الشام ولم يسيروا في الزهد سيرة الخلفاء الراشدين، فقد جاء رسول من الفرس إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلما سأل عنه دل عليه فذهب إليه فإذا هو نائم على الأرض تحت نخل البقيع بين الفقراء، وجاءت رسل الملوك إلى معاوية رحمه الله فإذا هو في قصر مشيد محلى البنيان بأجمل ما يكون من الصنعة العربية مزين الجنات والرياض وينابيع الماء، مفروش بأحسن الفرش، يرى الناظر فيه أفخر الأثاث والرياش، ولم يكن معاوية في ذلك قد خالف الدين أو حاد عن طريقه، وإنما تناول مباحا، وتمتع برخصة آتاه الله إياه، ولا يخفى ما في ذلك من ترويج فنون الإبداع في الصنعة على اختلاف ضروبها.
اشتغالهم بالعلوم الكونية: انقضت دولة بني أمية والناس في ظلمات من الفتن كما قلنا ودالت الدولة لبني العباس واستقرت في نصابها من آل بيت النبي قرب نهاية الثلث الأول من القرن الثاني للهجرة (سنة ١٣٢) ثم نقل المنصور عاصمة الملك إلى بغداد فصارت بعد ذلك عاصمة العلم والمدنية أيضا، وأخذ المنصور أيضاً ينشئ المدارس للطب والشريعة، وكان قد جعل من زمنه ما ينفقه في تعلم العلوم الفلكية، وأكمل حفيده الرشيد ما شرع فيه وأمر بأن يلحق بكل مسجد مدرسة لتعليم العلوم بأنواعها، وجاء المأمون فوصلت به دولة العلم إلى أوج قوتها، ونالت به أكبر ثروتها، ويقال إنه حمل إلى بغداد من الكتب المكتوبة بالقلم ما يثقل مائة بعير، وكان من شروط صلحه مع ميشيل الثالث أن يعطيه مكتبة من مكاتب الآستانة فوجد مما فيها من النفائس كتاب بطليموس في الرياضة السماوية فأمر المأمون في الحال بترجمته وسموه بالمجسطي، ولا يسهل على كاتب إحصاء ما ترجم من كتب العلوم على اختلافها في دولة بني العباس أبناء عم الرسول صلى الله عليه وسلم.
إنشاؤهم دور الكتب: وقد أخذت دول الإسلام تعتني بدور الكتب عناية لم يسبقها إلى مثلها من دول سواها «حتى كان في القاهرة في أوائل القرن الرابع مكتبة تحتوي على مائة ألف مجلد، منها ستة آلاف في الطب والفلك لا غير.
وكان من نظامها أن تعار بعض الكتب للطلبة المقيمين في القاهرة، وكان فيها كرتان سماويتان (إحداهما) من الفضة يقال إن صانعها بطليموس نفسه وإنه أنفق فيها ثلاثة آلاف دينار (والثانية) من البرنز، ومكتبة الخلفاء في إسبانيا بلغ ما فيها ستمائة ألف مجلد وكان (فهرسها) أربعة وأربعين مجلداً، وقد حققوا أنه كان في إسبانيا وحدها سبعون مكتبة عمومية، وكان في هذه المكتبات مواضع خاصة للمطالعة والنسخ والترجمة.
وبعض الخاصة كانوا يولعون بالكتب ويجعلون دورهم معاهد دراسة لما تحتوي عليه، يقال إن سلطان بخارى دعا طبيبا أندلسيا ليزوره فأجابه أن ذلك لا يمكنه لأن كتبه تحتاج إلى أربعمائة جمل لتحملها وهو لا يستغني عنها كلها.
وكان حنين بن إسحاق النسطوري في بغداد ممن جعل في داره مكتبة عامة يفد إليها طلاب العلوم العقلية والرياضية وكان يتبرع بمذاكرتهم فيما يريدون المذاكرة فيه. إنشاؤهم المدارس للعلوم
غطى بسيط المملكة الإسلامية على سعتها بالمدارس، نقول «على سعتها» لأنها زادت في السعة على المملكة الرومانية بكثير، فكنت تجد المدارس في كل الأقطار: في المغول، في التتار، من جهة المشرق، في مراكش، في فاس، في إسبانيا من جهة المغرب.
وكانت طريقة الأساتذة في التدريس أن كل مدرس يعد درسه ويكتب في الموضوع الذي يلقي الدرس فيه ما يريد أن يكتب، ثم يلقيه على التلامذة وهم يكتبون عنه ثم تكون هذه الدروس كتبا وأمالي تنشر بين الناس في كل علم.
وهنا نبادر إلى القول بأن المؤرخين قد أجمعوا على أن جميع المقالات والكتب كانت تنشر ويتداولها الناس بدون أدنى مراقبة ولا حجر ولا نقص شيء مما كتب صاحب الكتاب، غير أن مؤرخا واحدا رأيته ذكر أنه قد وضع قانون في بعض الممالك الإسلامية لنشر كتب العقائد مقتضاه ألا ينشر منها شيء إلا بإذن، على أني لا أعلم شيئاً من ذلك وقع في الممالك الإسلامية أيام كان الإسلام إسلاماً.
نرجع إلى الكلام في المدارس الإسلامية: يقول (جيبون) في كلامه على حماية المسلمين للعلم في الشرق وفي الغرب: «إن ولاة الأقاليم والوزراء كانوا ينافسون الخلفاء، في إعلاء مقام العلم والعلماء، وبسط اليد في الإنفاق على إقامة بيوت العلم ومساعدة الفقراء على طلبه، وكان من أثر ذلك أن ذوق العلم ووجدان اللذة في تحصيله قد انتشر في نفوس الناس من سمرقند وبخارى إلى فاس وقرطبة.
أنفق وزير واحد لأحد السلاطين (هو نظام الملك) مائتي ألف دينار على بناء مدرسة في بغداد وجعل لها من الريع الذي يصرف في شئونها خمسة عشر ألف دينار في السنة، وكان الذين يغذون بالمعارف فيها ستة آلاف تلميذ فيهم ابن أعظم العظماء في المملكة، وابن أفقر الصناع فيها، غير أن الفقير ينفق عليه من الريع المخصص للمدرسة وابن الغني يكتفي بمال أبيه، والمعلمون كانوا ينقدون رواتب وافرة».
وانقسمت الممالك الإسلامية في زمن من الأزمان إلى ثلاثة أقسام وتنازع الخلافة ثلاث شيع كان العباسيون في آسيا (الشرق) والأمويون في الأندلس من أوربا (الغرب) والفاطميون في مصر من أفريقيا (الوسط) ولم يكن تنافس هذه الدول الثلاث مقصورا على الملك والسلطان.
ولكن كان التنافس أشد التنافس في العلم والأدب، وكان مرصد سمرقند قائما في ناحية المشرق يشير إلى ما كان عليه المشرقيون من العناية برياضة الأفلاك، ومرصد جيرالد في الأندلس يجيبه بأن أهل المغرب ليسوا بأحط منهم في الإدراك.
جميع المدارس في البلاد الإسلامية أخذت نظام الامتحان في المدارس الطبية عن مدرسة الطب في القاهرة، وكان من أشد النظامات وأدقها، ولم يكن لطبيب أن يمارس صناعته إلا على شريطة أن تكون بعد شهادة بأنه فاز في الامتحان على شدته، وأول مدرسة طبية أنشئت في قارة أوربا على هذا النظام المحكم هي التي أنشأها العرب في (ساليرن) من بلاد إيطاليا وأول مرصد فلكي أقيم في أوربا هو الذي أقامه العرب في إشبيلية من بلاد إسبانيا.
ولع المسلمون بالعلوم الكونية على اختلافها، والفنون الأدبية بجميع أنواعها، حتى القصص والأساطير الخيالية، في الأحوال الاجتماعية، وابتدءوا بأخذ العلم عن اليونانية والسريانية، وأخذوا ينقلون كتب الأولين من تلك الألسن إلى اللغة العربية بالترجمة الصحيحة.
وكان مترجموهم في أول الأمر مسيحيين وصابئين وغيرهم، ثم تعلم كثير من علماء المسلمين اللسان اليوناني واللاتيني وكتبوا معاجم في اللسانين وذلك كله ليأخذوا العلوم من أصولها، وينقلوها إلى لسانهم على حسب ما يصل إليه علمهم فيها.
وكان المعلمون لأبناء العظماء في أول الأمر من المسيحيين واليهود، ثم أنشئت المدارس الجامعة وكان المدرسون فيها من كل ملة ودين، كل يعلم العلم الذي عرف هو بالبراعة فيه.
علوم العرب واكتشافها: كان علم العرب في أول الأمر يونانيا، ولكنه لم يلبث كذلك إلا دون قرن واحد ثم صار عربيا، ولم يرض العربي أن يكون تلميذا لأرسطو وأفلاطون أو إقليدس أو بطليموس زمنا طويلا كما بقي الأوربي كذلك عشرة قرون كاملة من التاريخ المسيحي.
قالوا: إن (باكون) هو أوّل من جعل التجربة والمشاهدة قاعدة للعلوم العصرية أو أقامها مقام الرواية عن الأساتذة والتمسك بآراء المصنفين، وأطلق العلم من رق التقليد، ذلك حق في أوربا وأمَّا عند العرب فقد وضعت هذه القاعدة عندهم لبناء العلم عليها في أواخر القرن الثاني من الهجرة.
أول شيء تميز به فلاسفة العرب عمن سواهم من فلاسفة الأمم هو بناء معارفهم على المشاهدات والتجربة، وألا يكتفوا بمجرد المقدمات العقلية في العلوم ما لم تؤيدها التجربة، حتى لقد نقل جوستاف لوبو عن أحد فلاسفة الأوربيين أن القاعدة عن العرب هي «جرب وشاهد ولاحظ تكن عارفا» وعند الأوربي على ما بعد القرن العاشر من التاريخ المسيحي «اقرأ من الكتب وكرر ما يقول الأساتذة تكن عالما» فلينظر المصريون وغيرهم من الشرقيين كيف انقلبت الحال، وماذا أعقب من سوء المال.
قال (ديلامبر) في تاريخ علم الهيئة «إذا عددت في اليونانيين اثنين أو ثلاثة من الراصدين أمكنك أن تعد في العرب عددا كبيرا غير محصور» وأمَّا في الكيمياء فلا يمكنك أن تعد مجربا واحدا عند اليونانيين، ولكنك تعد من المجربين مائتين عند العرب.
ولهذا عدت الكيمياء الحقيقية من اكتشاف العرب دون سواهم، وقد كانوا يعدون الهندسة والفنون والرياضة من الآلات المنطقية، يستعملونها في الاستدلال على القضايا النظرية، وهي من أصدق الأدلة في الإيصال إلى المجهولات كما هو معروف.
والعرب هم أول من استعمل الساعات الدقاقة للدلالة على أقسام الزمن، وهم أول من أتقن استعمال الساعات الزوالية لهذا الغرض.
وقد اكتشفوا قوانين لثقل الأجسام جامدها ومائعها حتى وضعوا لها جداول في غاية الدقة والصحة، كما وضعوا جداول للأرصاد الفلكية، وكانت تلك الجداول معروفة يطلع عليها الناظرون في سمرقند وبغداد وقرطبة حتى لقد وصلوا بتلك القوانين إلى ما يقرب من اكتشاف الجاذبية.
ولا يمكنني في مقالي هذا أن أعد ما اكتشف العرب ولا ما زادوه في العلوم على اختلاف أنواعها فذلك يحتاج إلى سفر كبير، وقد أحصى ذلك أهل المعرفة والإنصاف من فلاسفة الأوربيين ومؤرخيهم، وربما يتيسر لأبناء الأمة العربية أن ينشروا ذلك لإخوانهم حتى يعرفوا ما كان عليه أسلافهم، ولكني أذكر كلمة قالها بعض حكماء الغربيين.١
«تأخذنا الدهشة أحيانا عندما ننظر في كتب العرب فنجد آراء كنا نعتقد أنها لم تولد إلا في زماننا، كالرأي الجديد في ترقي الكائنات العضوية وتدرجها في كمال أنواعها، فإن هذا الرأي كان مما يعلمه العرب في مدارسهم وكانوا يذهبون به إلى أبعد مما ذهبنا، فكان عندهم عاما يشمل الكائنات غير العضوية والمعادن، والأصل الذي بنيت عليه الكيمياء عندهم هو ترقي المعادن في أشكالها.
قال الخازني إذا سمع الشعب الجاهل ما يقال بين العلماء: أن الذهب قد تقلب في الأشكال المختلفة حتى صار ذهباً ظن من هذا أنه مر في صور معادن أخرى فكان رصاصا ثم قصديرا ثم صفرا ثم فضة ثم صار بعد ذلك ذهبا ولا يعلم أن الفلاسفة إذا قالوا ذلك فإنما يقصدون منه ما أرادوه من قولهم في الإنسان أنه وصل إلى حالته الحاضرة بالتدريج ومن طريق الترقي وهم لم يعنوا بقولهم هذا أنه تقلب في صور الأنواع المختلفة كأن كان ثورا ثم حمارا ثم فرسا ثم قردا ثم صار بعد ذلك إنسانا».
ويقول الفيلسوف جوستاف لبون: «إن العرب أول من علم العالم كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدين». وهنا أنكر على بعض فلاسفتهم ما نقلوه عن ابن رشد من أنه ذهب في حرية الرأي إلى نقض أصل الدين وقال: إن الروح لا بقاء لها بعد فناء الجسد وإنما الذي يبقى هو أرواح الأنواع، فإن هذا خطأ عرض لهم من سوء فهم كلامه في بيان بقاء الأنواع دون الأشخاص، فإنه قال كما قال أرسطو وغيره: إن الأشخاص توجد وتفنى وأمَّا الأنواع فهي باقية لا تزول: وهذا باب آخر يغاير بالمرة ما استنتجوا منه، كما أخطئوا في قولهم عنه إنه كان يعتقد بأن الله روح العالم يظهر في صوره والكل يرجع إليه، بمعنى أنه يفنى في ذاته ولا يبقى في العالم باق آخر.
وهو يقرب من قولهم السابق، فإن ابن رشد كان مسلما يعرف أن الإسلام لا ينافي العالم وإنما ينافي هذا الضرب من الوهم، الذي لم يسقط فيه أحد إلا من عثرة في طريق العلم، أو الاسترسال مع الخيال. وكثير ممن سكروا بهذا الرأي أفاقوا منه، ولكنه كتب ابن رشد التي بين أيدينا تبعد بنا عن نسبة هذا الرأي إليه كما سبق بيانه، ولكني لا أنكر نسبته لو نسب إلى ابن سبعين وهو ممن أخذ عن تلاميذ ابن رشد فإن في كلامه ما يدل على ذلك.
ويقول فيلسوف آخر: «إن العلوم التي تلقاها العرب عن اليونانيين وغيرهم وكانت ميتة بين دفات الدفاتر، مقبورة بين جدران المكاتب، أو مخزونة في بعض الرءوس كأنها أحجار ثمينة في بعض الخزائن، لا حظ للإنسانية منها سوى النظر إليها — صارت عند العرب حياة الآداب، وغذاء الأرواح، وروح الثروة، وقوام الصنعة، ومهمازا للقوى البشرية يسوقها إلى كمالها الذي أعدت له، وليس في الأوربيين من درس التاريخ وحكم العقل ثم ينكر أن الفضل — في إخراج أوربا من ظلمة الجهل إلى ضياء العلم، وفي تعليمها كيف تنظر وكيف تتفكر وفي معرفتها أن التجربة والمشاهدة هما الأصلان اللذان يُبنى عليهما العلم — إنما هو للمسلمين وآدابهم ومعارفهم التي حملوها إليهم وأدخلوها من إسبانيا وجنوب إيطاليا وفرنسا عليهم.
وكان من حظ العلم العربي والأدب المحمدي عندما دخلا إلى إيطاليا أن البابا كان غائبا لأن كرسيه كان قد انتقل إلى فرنسا في أفنيون نحو سبعين سنة فدب العلم إلى شمال إيطاليا واستقر به القرار هناك، إن شوارع باريس لم تفرش بالحجارة إلا في القرن الثاني عشر وقد رصت بالبلاط على نحو ما رصت به مدن إسبانيا».
ويقول آخر: «لا أدري كيف أعطانا الإسلام في مدة قرنين عددا من الفلكيين يطول سرد أفراده وأن الكنيسة تسلطت على العالم المسيحي اثني عشر قرنا في أوربا ولم تمنحنا فلكيا واحدا».
هذا النماء والذكاء العلمي لم يكن خاصا بطائفة دون طائفة بل كان الناس في التمكن من تناوله سواء، وإنما كان التفاضل بالجد والعلم، والفضل في ذلك كله لحلم الخلفاء وأعمالهم وسماحة الدين ويسره وسهولته على أهله وأهل ذمته، قال بعض فلاسفة الغربيين قولا يعرفه الحق وتثبته المشاهدة: «إن شعوب الأرض لم تر قط فاتحا بلغ من الحلم هذا المبلغ (يريد فاتحي الإسلام على اختلافهم) ولا دينا بلغ في لينه ولطفه هذا الحد».
تشجيع العلم والعلماء: إن الخلفاء الذين يقال عنهم إنهم رؤساء دين وحكام سياسة معا كانوا هم بأنفسهم المتعلمين للعلوم الداعين إلى تعلمها، كانوا العالمين العاملين، كان خليفة كالمأمون يضطهد أحيانا أعداء الفلسفة، وقد عرف التاريخ كثيرين من أرباب الشهرة الذين قضوا في سجنه الشهور أو السنين، لأنهم كانوا يعادون الفلسفة ظنا منهم أن منها ما يعدو على الدين فيفسده، هل رأيت في غير الإسلام رئيسا دينيا يضطهد أعداء العلم وجفاة الفلسفة؟ لعلك لا تجده أبداً.
كان أهل العلم والأدب عامة يجدون من الاحترام عند الخلفاء والأمراء والخاصة ما يليق بهم كيفما كانت حالهم، وأضرب المثل بالشيخ أبي العلاء المعري، لشهرته بين الناس بما يشبه الزندقة.
يذكر علي بن يوسف القفطي أن صالح بن مرداش —صاحب حلب— خرج إلى المعرة وقد عصي أهلها عليه، فنازلها وشرع في حصارها ورماها بالمنجنيق، فلما أحس أهلها بالغلب، سعوا إلى أبي العلاء بن سليمان وسألوه أن يخرج ويشفع فيهم، فخرج ومعه قائد يقوده فأكرمه صالح واحترمه، ثم قال: ألك حاجة؟ قال: الأمير —أطال الله بقاءه— كالسيف القاطع لان مسه، وخشن حده، وكالنهار البالغ، قاظ وسط وطاب برده خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ فقال له صالح: قد وهبتها لك، ثم قال: أنشدنا شيئاً من شعرك لنرويه، فأنشده على البديهة أبياتا فيه، فترحل صالح، فانظر كيف وهب الأمير بلدا عصي أهله لفيلسوف معروف بما هو عنه معروف.
ولو ذكرت ما نال العلماء والفلاسفة عند الأمراء والخلفاء لطال بي المقال أكثر مما طال، وفيما سبق كفاية لمكتف.
إزالة شبهتين: قد يتوهم قوم أن الاضطهاد قد يظهر في مقت العامة وخلقهم ما يخلقون من المفتريات على أهل العلم والفكر الحر، وهمس بعضهم في آذان بعض، وتغامزهم على أهل الفضل، ولمزهم إياهم بالألقاب، بل واحتقارهم في بعض الأحيان، وهذا النوع منه عند المسلمين بلا نكير، وهو خطأ ظاهر لأن هذا النوع —ممن يكره أهل العلم— لا تخلو منه أرض ولا تطهر منه بلاد مهما بلغ أهلها من الحرية، ومهما بلغ ذوق العلم من نفوس أهلها، فإن القائمين على عقيدة الكاثوليك إلى اليوم في أرض فرنسا نفسها يمقتون الفلاسفة الذين يظهرون معاداة للكنيسة، ويكتبون ما يوهن قواعدها وقد يختلق عليهم أحزاب الكاثوليك ما لم يقولوه، ويرون أن النظر في كتبهم لا يجوز في شريعة الدين، ونحن لا نرتاب في أن نحو هذا كان عند المسلمين أيام كانت سوق الفلسفة رائجة عندهم، ولكنه ليس من الاضطهاد في شيء، وإنما هي نفرة الإنسان مما لا يعرف، مع ترك صاحبه وشأنه يمضي في سبيله إلى حيث يشاء.
يقول آخرون: إن التاريخ يروي لنا أن بعض أرباب الأفكار قد أخذه السيف لغلوه في فكره، فلم يترك له من الحرية ما يتمتع به إلى منتهى ما يبلغ به، وليس يصح أن ينكر ما صنع الخليفة المنصور وغيره بالزنادقة. وأقول: إن كثيرا من الغلو إذا انتشر بين العامة أفسد نظامها واضطرب أمنها، كما كان من آراء الحلاج وأمثاله٢ فتضطر السياسة للدخول في الأمر لحفظ أمن العامة، فتأخذ صاحب الفكر، لا لأنه تفكر ولكن لأنه لم يرد أن يقصر حق الحرية على شخصه، بل أراد أن يقيد غيره بما رآه من الحرية لنفسه، مع أن غيره في غنى عما يراه هو حقا له، وتخشى الفتنة إذا استمر مدعي الحرية في غلوائه، فلهذا يرى حفاظ النظام أن أمثال هؤلاء يجب أن ينقى منهم المجتمع، صونا له عما يزعزع أركانه.
ونحن نرى الفلسفة اليوم تضطهد الدين هذا الضرب من الاضطهاد، ألم تقض الحكومة الفرنسية على الراهبين والراهبات أن تكون جمعياتهم ومدارسهم تحت سيطرة الحكومة؟ وألا ينشأ شيء منها إلا بإذن من الحكومة، ومن لم يخضع لذلك تنحل جمعيته وتقفل مدارسه بقوة السلاح، وقد ينفى من البلاد كما نُفي كثيرون في سنين سابقة٣ ولكن هل يسمى هذا اضطهاد؟ كلا، إنما الاضطهاد حق الاضطهاد هو اضطهاد محكمة التفتيش واضطهاد رؤساء الإصلاح بعدها في أول نشأتهم.
ماذا يقول القائلون؟ إن التعليم عند المسلمين كان غريباً أمره، يكاد يكون خفيا سره، مسجد أو مدرسة تابعة لمسجد، يجلس فيها للتدريس الفقيه والمتكلم والمحدث والنحوي والمتأدب والفيلسوف والفلكي والمهندس، ينتقل الطالب من بين يدي الفقيه ليجلس بين يدي الفيلسوف، ومن مجلس الحديث إلى مجلس الأدب، وإذا وقعت مذاكرة بينهم في مسألة من المسائل أخذت الحرية مأخذها في الإقناع والإلزام، وسقطت قيمة الغلو في التعبير، وأخذ التسامح بينهم مأخذه.
كان عمرو بن عبيد رئيس المعتزلة وأشدهم صلابة في أصول مذهبه، ومع ذلك هو من مشايخ الإمام البخاري صاحب الصحيح، وكانت له منزلة عند المنصور تعلو كل ذي منزلة عنده، حتى قال له يوما وهو خارج من بين يديه «رميت لكل الناس حبا فلقطوا إلا إياك يا عمرو بن عبيد» فانظر كيف كان لإمام من أئمة السنة أن يصل سنده في الحديث برئيس من رؤساء المعتزلة ولا يرى في ذلك بأسا؟
إذا عد عاد بعض رجال العلم الذين أخذتهم القسوة في الإسلام وقتلتهم حماقة الملوك بإغراء الفقهاء وأهل الغلو في الدين، فما عليه إلا أن ينظر في أحوالهم فيقف لأول وهلة على أن الذي أثار أولئك عليهم ليس مجرد العصبية للدين، وإن الغيرة عليه ليست هي الباعث لهم على الوشاية بهم، وطلب تنكيلهم، وإنما تجد الحسد هو العامل الأول في ذلك كله والدين آلة له، ولهذا لا ترى مثل ذلك الأذى يقع إلا على قاضي قضاة كابن رشد (ورجوع الحاكم إلى العفو عنه وإنزاله منزلته دليل على ذلك) أو وزير، أو جليس خليفة أو سلطان، أو ذي نفوذ عظيم بين العامة.
وهذا كما يقع من الفقهاء مثلا لإيذاء الفلاسفة، يقع من الفقهاء بعضهم مع بعض، لإهلاك بعضهم بعضا، كما يشهد به العيان، ويحكي لنا التاريخ، فليس هذا كذلك معدودا من معنى اضطهاد الدين للفلسفة، لأن التحاسد أكثر ما يقع بين من لا دين لهم على الحقيقة وإن لبسوا لباسه.
وإنما ذلك الاضطهاد هو الذي يحمل عليه محض الاختلاف في العقيدة أو ظن المخالفة للدين في شيء من العلم أو العمل لضيق الدين عن أن يسع المخالف بجانبه وهذا لم يقع في الإسلام، اللهم إلا أن يكون حادث لم يصل إلينا.
هذه طبيعة الدين الإسلامي عرضت عليك في أهم عناصرها ومقومات مزاجها، وهذا كان أثرها في العالم الشرقي والغربي وهذه سعة فضل الدين وقوته على احتمال مخالفيه وتيسيره لأولئك المخالفين أن يحتموا به متى رضوا بأن يستظلوا بظله، هل في هذا خفاء على ناظر؟ وهل يرضى لبيب لنفسه أن ينكر الضوء الباهر؟ أفلا يبسم الإسلام عجبا وهو في أشد الكرب لعقوق أبنائه، من أديب لم يكن يعده من أعدائه، إن لم يحسبه في أحبائه، عندما يراه يسدد سهمه إليه، ويجور، كما يجور الجائرون في حكمهم عليه؟ ======================= ١ هو الفيلسوف درابر الأمريكاني. ٢ ذكر إمام الحرمين في كتابه «الشامل» في أصول الدين أنه كان بين الحلاج والجنابي رئيس القرامطة اتفاق سري على قلب الدولة، وإن ذلك هو السبب الحقيقي في قتل الحلاج. ٣ أغرب من هذا أن أحد الأساتذة في جامعة أميركية قرر فيها نظرية داروين المعروفة فأنكرها عليه جمهور الطلبة لمخالفتها للتوراة فطرد من المدرسة. --------------------------------------------------------------------- |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الإسلام بين العلم والمدنية الجمعة 14 يونيو 2024, 3:21 pm | |
| الإسلام في أوائل القرن العشرين الاحتجاج بالمسلمين على الإسلام: ربما يسأل سائل فيقول: سلمنا أن طبيعة الإسلام تأبى اضطهاد العلم بمعناه الحقيقي وأنه لم يقع من المسلمين الأولين تعذيب، ولا إحراق، ولا شنق لحملة العلوم الكونية، ومقومي العقول البشرية، ولكن أليس العلماء من المسلمين اليوم أعداء العلوم العقلية، والفنون العصرية، أو ليس الناس تبعا لهم؟ أفلا يكون للأديب عذره فيما يراه ويسمعه حوله؟ ألم يسمع بأن رجلا في بلاد إسلامية غير البلاد المصرية١ كتب مقالا في الاجتهاد والتقليد وذهب فيه إلى ما ذهب إليه أئمة المسلمين كافة، ومقالا بين فيه رأيه في مذهب الصوفية، وقال إنه ليس مما انتفع به الإسلام بل قد يكون مما رزئ به أو ما يقرب من هذا —وهو قول قال به جمهور أهل السنة من قبله— فلما طبع مقاله في مصر تحت اسمه هاج عليه حملة العمائم، وسكنةُ الأثواب العباعب، قالوا إنه مرق من الدين، أو جاء بالإفك المبين، ثم رفع أمره إلى الوالي فقبض عليه وألقاه في السجن! فرفع شكواه إلى عاصمة الملك وسأل السلطان أن يأمر بنقله إلى العاصمة ليثبت براءته مما اختلق عليه، بين يدي عادل لا يجور، ومهيمن على الحق لا يحيف، إلخ ما يقال في الشكوى فأجيب طلبه، لكن لم ينفعه ذلك كله، فقد صدر الأمر هناك أيضاً بسجنه ولم يعف عنه إلا بعد أشهر، مع أنه لم يقل إلا ما يتفق مع أصول الدين، ولا ينكره القارئ والكاتب، ولا الآكل والشارب.
ألم يسمع السامعون أن الشيخ السنوسي (والد السنوسي صاحب الجغبوب) كتب كتابا في أصول الفقه زاد فيه بعض مسائل على أصول المالكية، وجاء في كتاب له ما يدل على دعواه أنه ممن يفهم الأحكام من الكتاب والسنة مباشرة، وقد يرى ما يخالف رأي مجتهد أو مجتهدين.
فعلم بذلك أحد المشايخ المالكية (رحمه الله تعالى) وكان المقدم في علماء الجامع الأزهر الشريف٢ فحمل حربة وطلب الشيخ السنوسي ليطعنه بها لأنه خرق حرمة الدين، واتبع سبيلا غير سبل المؤمنين، وربما كان يجترئ الأستاذ على طعن الشيخ السنوسي بالحربة لو لاقاه وإنما الذي خلص السنوسي من الطعنة، ونجى الشيخ المرحوم من سوء المغبة، وارتكاب الجريمة باسم الشريعة، هو مفارقة السنوسي للقاهرة قبل أن يلاقيه الأستاذ المالكي.
هل غاب عن الأذهان ما كان ينشر في الجرائد من نحو ثلاث سنين بأقلام بعض علماء الجامع الأزهر من المقالات الطويلة الأذيال الواسعة الأردان، في استهجان إدخال علم تقويم البلدان (الجغرافية) بين العلوم التي يتلقاها طلبة الجامع الأزهر؟ وكان كتاب تلك المقالات يعرضون بمن أشار بإدخال هذا العلم وغيره بين تلك العلوم وأنه إنما يريد الغض من علوم الدين٣ ألم تنشر في العام الماضي فصول بأقلام بعضهم تشير إلى مطعن في عقيدة البعض الآخر وإرادة التشهير به مع أنه لم يجهر بمنكر ولم يقل قولا يبعد عن الكتاب والسنة؟
ألم يحمل إلينا الرواة ما عند علماء الأفغان والهند والعجم من شدة التمسك بالقديم، والحرص على ما ورثوه عن آبائهم الأقربين، وإقامة الحرب على كل من حاول أن يزحزحهم إصبعا عما كان عليه سلفهم، وإن كان في البقاء عليه تلفهم، وما عليه الحال اليوم في حكومة المغرب من الغلو في التعصب، والمعاقبة بقطع بعض الأعضاء في شرب الدخان، أو القتل في كلمة ينكرها السامعون، وإن أجمع عليها المسلمون الآخرون؟
ثم ألا يتخيل المتأمل أنه يسمع من جوف المستقبل صخبا ولجبا، وضوضاء وجلبة، وهيعات مضطربة، إذا قيل إنه ينبغي لطلبة الأزهر أن يدرسوا طرفا من مبادئ الطبيعة أو يحصلوا جملة من التاريخ الطبيعي؟ ألا تقوم قيامة المتقين، ألا يصيحون أجمعين أكتعين أبتعين: هذا عدوان على الدين، هذا توهين لعقدة المتين، هذا تغرير بأهله المساكين، ولا يزالون يشيدون بهذا إلى ألا يبقى شيء عرف له اسم في اللغة إلا ألصقوه بهذه البدعة في زعمهم.
هل هذه الحال جديدة على المسلمين، حتى يقال إنها عارض عرض عليهم، أو مرض من الأمراض الوافدة إليهم؟ لا يسهل على من يعرض أحوال المسلمين تحت نظره من قرون متعددة أن يظن أن هذه الحال من العلل الطارئة على أمزجة الأمم، خصوصا عندما يجد الوحدة في الصفات، والشمول في جميع الاعتبارات، فلو أخذ مسلما من شاطئ الاطلانطيقي، وآخر من تحت جدار الصين لوجد كلمة واحدة تخرج من فميهما وهي إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ ولكنهم أعداء لكل مخالف لما هم عليه، وإن نطق به الكتاب، واجتمعت الآثار.
اللهم إلا فئة زعمت أنها نفضت غبار التقليد، وأزالت الحجب التي كانت تحول بينها وبين النظر في آيات القرآن ومتون الأحاديث لتفهم أحكام الله منها، ولكن هذه الفئة أضيق عطنا وأحرج صدرا من المقلدين، وإن أنكرت كثيرا من البدع، ونحت عن الدين كثيرا مما أضيف إليه وليس منه، فإنها ترى وجوب الأخذ بما يفهم من لفظ الوارد والتقيد به، بدون التفات إلى ما تقتضيه الأصول التي قام عليها الدين، وإليها كانت الدعوة، ولأجلها منحت النبوة، فلم يكونوا للعلم أولياء، ولا للمدينة السليمة أحباء.٤
هل يمكن أن ينكر جمود الفقهاء ووقوفهم عند عبارات المصنفين على تباينها واختلاف واضطراب الآراء في فهمها وإذا عرضت حادثة من الحوادث ولم يكن لمصنف معروف رأي فيها أحجموا عن إبداء الرأي، واجتهدوا في تحويلها عن حقيقتها إلى أن تتفق مع قول معروف في كتاب من الكتب، حتى لقد جاء طالب علم من بلد من بلاد الدول العثمانية وأراد الالتحاق بأحد الأروقة في الجامع الأزهر فوقع الشك: هل بلده مما لأهله استحقاق في ذلك الرواق على حسب نص الواقف؟ فقال قائل لشيخ الرواق: إن كتب تقويم البلدان تشهد بأن البلد داخل في شروط الواقف.
فقال: إنني لا أقنع بما في تلك الكتب، وإنما الذي يصح أن آخذ به وهو أن يكون فقيه (ممن مات) قال إن هذا البلد من قطر كذا، وهو الذي وقف الواقف على أهله.
وإذا قيل لأحدهم: إن الأئمة أنفسهم لم يعينوا مواقع البلدان ولم يضعوا لنا جدولا لبيان ما يحويه كل قطر وبيان الحدود التي ينتهي إليها، وإن أصول ديننا تسمح لنا بأن نأخذ بأقوال العلماء في هذه الفنون (وهم منا) وبتواتر الأخبار وما أشبه ذلك من البدهيات قال: إنما أريد نصا فقهيا، لا دليلا عقليا.
وإذا قيل لهم: اختلت الشئون، وفسدت الملكات والظنون وساءت أعمال الناس، وضلت عقائدهم، وخوت عبادتهم من روح الإخلاص، فوثب بعضهم على بعض بالشر، وغالت أكثرهم أغوال الفقر، فتضعضعت القوة، واخترق السياج، وضاعت البيضة وانقلبت العزة ذلة، والهداية ضلة، وساكنتكم الحاجة، وألفتكم الضرورة، ولا تزالون تألمون مما نزل بكم وبالناس، فهلا نبهكم ذلك إلى البحث في أسباب ما كان سلفكم عليه، ثم علل ما صرتم وصار الناس إليه؟ قالوا: ذلك ليس إلينا، ولا فرضه الله علينا وإنما هو للحكام ينظرون فيه، ويبحثون عن وسائل تلافيه، فإن لم يفعلوا —ولن يفعلوا— فذلك لأنه آخر الزمان، وقد ورد في الأخبار ما يدل على أنه كائن لا محالة، وإن الإسلام لابد أن يرفع من الأرض، ولا تقوم القيامة إلا على لكع بن لكع، واحتجوا على اليأس والقنوط بآيات وأحاديث وآثار تقطع الأمل، ولا تدع في نفس حركة إلى عمل؟!
رأي رينان في الإسلام: هذا الجمود —الذي لو أردنا بيان ما امتد إليه من طيات الأفكار، وثنيات الوجدان، لكتبنا فيه كتاباً— هو الذي حمل المسيو رينان الفيلسوف الفرنسي المشهور أن يقول في عرض كلام له في تساهل المذاهب الدينية مع العلم، نقلته عنه الجامعة «على أنني أخشى أن يثبت الدين الإسلامي وحده في وجه هذا التسامح العام في العقائد، ولكنني أعرف أن في نفوس بعض الرجال المتمسكين بآداب الدين الإسلامي القديمة وفي بضعة من رجال الآستانة وبلاد الفرس جراثيم جيدة، تدل على فكر واسع، وعقل ميال إلى المسامحة، إلا أنني أخشى أن تختنق هذه الجراثيم بتعصب بعض الفقهاء، فإذا اختنقت قضي على الدين الإسلامي.
ذلك أنه من الثابت الآن أمران: الأول: أن التمدن الحديث لا يريد إماتة الأديان بالمرة لأنها تصلح أن تكون وسيلة إليه.
والثاني: أنه لا يطيق أن تكون الأديان عثرة في سبيله.
فعلى هذه الأديان أن تسالم وتلين، وإلا كان موتها ضربة لازب».
هذا كلام رينان بتصرف لفظي قليل.
فمن أين يكون هذا الجمود العام، الذي سمح للطاعنين أن يحكموا على الإسلام، بأنه عثرة في طريق المسلمين يسقط بهم دون أن ينالوا فلاحا في سعيهم، أو نجاحا في أعمالهم؟ من أين يكون هذا الجمود إن لم يكن من طبيعة الدين؟ فإن لم تسلم بأن هذا اضطهاد، وأن الاضطهاد من لوازم الدين الإسلامي، فعليك أن تسلم بأنه عداوة للعلم أو اشمئزاز منه، أو استهجان له، أو احتقار لشأنه، واحد هذه الأمور كاف إذا عم بين المسلمين في أن ينفر بهم عن كل مجد، وأن يحرمهم كل نفع، وأن يحقق فيهم ما تنبأ به رينان وغيره فما قولك في هذا؟
الجواب: أقول هذا كلام فيه شيء من الحق، ولمعة من الصدق، أمَّا ما نسمعه حولنا من سجن من قال يقول السلف، فليس الحامل عليه التمسك بالدين، فإن حملة العمائم إنما حركهم الحسد لا الغيرة.
وأمَّا صدور الأمر بالسجن فهو من مقتضيات السياسة، والخوف من خروج فكر واحد من حبس التقليد، فتنتشر عداوة فينتبه غافل آخر، ويتبعه ثالث، ثم ربما تسري العدوى من الدين إلى غير الدين — إلى آخر ما يكون من حرية الفكر (يعوذون بالله منها).
فإن شئت أن تقول إن السياسة تضطهد الفكر أو الدين أو العلم فأنا معك من الشاهدين.
أعوذ بالله من السياسة، ومن لفظ السياسة، ومن معنى السياسية ومن كل حرف يلفظ من كلمة السياسة ومن كل خيال يخطر ببالي من السياسة، ومن كل أرض تُذكر فيها السياسة، ومن كل شخص يتكلم أو يتعلم أو يجن أو يعقل في السياسة، ومن ساس ويسوس وسائس ومسوس.
بذلك على أن العقوبة سياسية أن الرجل كان يقول بقول السلف من أهل الدين، لا تقول إن هذه السياسة من الدين، فإني أشهد الله ورسوله وملائكته وسلفنا أجمعين، أن هذه السياسة من أبعد الأمور عن الدين، كأنها الشجرة التي تخرج في أصل الجحيم (طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِّنْ حَمِيمٍ * ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ).
جمود المسلمين وأسبابه: وأما ما وصفت بعد ذلك من الجمود فهو مما لا يصح أن ينسب إلى الإسلام، وقد رأيت صورة الإسلام في صفائها ونصوع بياضها ليس فيها ما يصح أن يكون أصلا يرجع إليه شيء مما ذكرت ولا مما تنبأ بسوء عاقبته (رينان) وغيره.
وإنما هي علة عرضت على المسلمين عندما دخل على قلوبهم عقائد أخرى ساكنت عقيدة الإسلام في أفئدتهم وكان السبب في تمكنها من نفوسهم وإطفائها لنور الإسلام من عقولهم، هو السياسة كذلك، هو تلك الشجرة الملعونة في القرآن عبادة الهوى وإتباع خطوات الشياطين — هو السياسة.
لم أر كالإسلام دينا حفظ أصله، وخلط فيه أهله، ولا مثله سلطانا تفوق عنه جنده، وخفر عهده، وكفر وعيده ووعده، وخفي على الغافلين قصده، وإن وضح للناظرين رشده، أكل الزمان أهله الأولين، وأدال منهم خشارة٥ من الآخرين، لا هم فهموه فأقاموه، ولا هم رحموه فتركوه، سواسية من الناس اتصلوا به، ووصلوا نسبهم بسببه وقالوا نحن أهله وعشيرته، وحماته وعصبته، وهم ليسوا منه شيء إلا كما يكون الجهل من العلم، والطيش من الحلم، وأفن الرأي من صحة الحكم.
انظر كيف صارت مزية من مزايا الإسلام سببا فيما صار إليه أهله: كان الإسلام دينا عربيا، ثم لحقه العلم فصار علما عربيا، بعد أن كان يونانيا، ثم أخطأ خليفة في السياسة فأخذ من سعة الإسلام سبيلا إلى ما كان يظنه خيرا له.
ظن أن الجيش العربي قد يكون عونا لخليفة علوي، لأن العلويين كانوا ألصق ببيت النبي صلى الله عليه وسلم فأراد أن يتخذ له جيشا أجنبيا من الترك والديلم وغيرهما من الأمم التي ظن أنه يستعبدها بسلطانه، ويصطنعها بإحسانه، فلا تساعد الخارج عليه، ولا تعين طالب مكانه من الملك، وفي سعة أحكام الإسلام وسهولته ما يبيح له ذلك، هنالك استعجم الإسلام وانقلب عجميا.
خليفة عباسي أراد أن يصنع لنفسه ولخلفه، وبئس ما صنع بأمته ودينه أكثر من ذلك الجند الأجنبي وأقام عليه الرؤساء منه.
فلم تكن إلا عشية أو ضحاها حتى تغلب رؤساء الجند على الخلفاء، واستبدوا بالسلطان دونهم، وصارت الدولة في قبضتهم، ولم يكن لهم ذلك العقل الذي راضه الإسلام والقلب الذي هذبه الدين، بل جاءوا إلى الإسلام بخشونة الجهل، يحملون ألوية الظلم، لبسوا الإسلام على أبدانهم، ولم ينفذ منه شيء إلى وجدانهم، وكثيرا منهم كان يحمل إلهه معه يعبده في خلوته، ويصلي مع الجماعات لتمكين سلطته، ثم عدا على الإسلام آخرون كالتتار وغيرهم، ومنهم من تولى سلطته، ومنهم من تولى أمره.
أي عدو لهؤلاء أشد من العلم الذي يعرف الناس منزلتهم ويكشف لهم قبح سيرهم؟ فمالوا على العلم وصديقه الإسلام ميلتهم، أمَّا العلم فلم يحفلوا بأهله، وقبضوا عنه يد المعونة، وحملوا كثيرا من أعوانهم أن يندرجوا في سلك العلماء وأن يتسربلوا بسرابيله، ليعدوا من قبيله، ثم يضعوا للعامة في الدين ما يبغض إليهم العلم ويبعد بنفوسهم عن طلبه، ودخلوا عليهم وهم أغرار من باب التقوى وحماية الدين، زعموا الدين ناقصا ليكملوه، أو مريضا ليعللوه، أو متداعيا ليدعموه، أو يكاد ينقض ليقيموه.
نظروا على ما كانوا عليه من فخفخة الوثنية، وفي عادات من كان حولهم من الأمم النصرانية، فاستعادوا من ذلك للإسلام ما هو براء منه، لكنهم نجحوا في إقناع العامة بأن في ذلك تعظيم شعائره، وتفخيم أوامره، والغوغاء عون الغاشم، وهم يد الظالم، فخلقوا لنا هذه الاحتفالات، وتلك الاجتماعات، وسنوا لنا من عبادة الأولياء والعلماء والمتشبهين بهم ما فرق الجماعة، وأركس الناس في الضلالة وقرروا أن المتأخر، ليس له أن يقول بغير ما يقول المتقدم، وجعلوا ذلك عقيدة، حتى يقف الفكر، وتجمد العقول، ثم بثوا أعوانهم في أطراف الممالك الإسلامية ينشرون من القصص والأخبار والآراء ما يقنع العامة، بأنه لا نظر لهم في الشئون العامة، وأن كل ما هو من أمور الجماعة والدولة فهو مما فرض فيه النظر على الحكام دون من عداهم، ومن دخل في شيء من ذلك من غيرهم فهو متعرض لما لا يعنيه، وأن ما يظهر من فساد الأعمال، واختلال الأحوال، ليس من صنع الحكام، وإنما هو تحقيق لما ورد في الأخبار من أحوال آخر الزمان، وأنه لا حيلة في إصلاح حال ولا مال، وأن الأسلم تفويض ذلك إلى الله، وما على المسلم إلا أن يقتصر على خاصة نفسه، ووجدوا في ظواهر الألفاظ لبعض الأحاديث ما يعينهم على ذلك، وفي الموضوعات والضعاف ما شد أزرهم في بث هذه الأوهام.
وقد انتشر بين المسلمين جيش من هؤلاء المضلين، وتعاون ولاة الشر على مساعدتهم في جميع الأطراف، واتخذوا من عقيدة القدر مثبطا للعزائم، وغلا للأيدي عن العمل.
والعامل الأقوى في النفوس على قبول هذه الخرافات إنما هو السذاجة، وضعف البصيرة في الدين، وموافقة الهوى — أمور إذا اجتمعت أهلكت، فاستتر الحق تحت ظلام الباطل، ورسخ في نفوس الناس من العقائد ما يضارب أصول دينهم ويباينها على خط مستقيم كما يقال.
هذه السياسة —سياسة الظلمة وأهل الأثرة— هي التي روجت ما أدخل على الدين مما لا يعرفه، وسلبت من المسلم أملا كان يخترق به آفاق السماوات، وأخلدت به إلى يأس يجاور به العجماوات، فجعل ما تراه الآن مما تسميه إسلاما فهو ليس بإسلام، وإنما حفظ من أعمال الإسلام صورة الصلاة والصوم والحج، ومن الأقوال قليلا منها حرفت عن معانيها، ووصل الناس بما عرض على دينهم من البدع والخرافات إلى الجمود الذي ذكرته وعدوه دينا، نعوذ بالله منهم ومما يفترون على الله ودينه، فكل ما يعاب الآن على المسلمين ليس من الإسلام، وإنما هو شيء آخر سموه إسلاما، والقرآن شاهد صادق لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ يشهد بأنهم كاذبون، وأنهم عنه لاهون، وعما جاء به معرضون، وسنوفي لك الكلام في مفاسد هذا الجمود، ونثبت أنه علة لابد أن تزول.
مفاسد هذا الجمود ونتائجه: طال أمد هذا الجمود لاستمرار عمل العاملين في المحافظة عليه، وولع شهواتهم بالدفاع عنه، وقد حدثت عنه مفاسد يطول بيانها، وإنما يحسن إجمال القول فيها.
كان الدين هو الذي ينطلق بالعقل في سعة العلم، ويسيح به في الأرض، ويصعد به إلى أطباق السماء، ليقف به على أثر من آثار الله، أو يكشف به سرا من أسراره في خليقته، أو يستنبط حكما من أحكام شريعته، فكانت جميع الفنون مسارح للعقول تقتطف من ثمارها ما تشاء، وتبلغ من التمتع بها ما تريد. فلما وقف الدين، وقعد طلاب اليقين، وقف العلم وسكنت ريحه، ولم يكن ذلك دفعة واحدة ولكنه سار سير التدريج.
جناية الجمود على اللغة: أول جناية لهذا الجمود كانت على اللغة العربية وأساليبها وآدابها فإن القوم كانوا يعنون بها لحاجة دينهم إليها — أريد حاجتهم في فهم كتابهم إلى معرفة دقائق أساليبها، وما تشير إليه هيئة تراكيبها، وكانوا يجدون أنهم لن يبلغوا ذلك حتى يكونوا عربا بملكاتهم، يساوون من كانوا عربا بسلائقهم.
فلما لم يبق للمتأخر إلا الأخذ بما قال المتقدم، قصر المحصلون تحصيلهم على فهم كلام من قبلهم، واكتفوا بأخذ حكم الله منه بدون أن يرجعوا إلى دليله، ولو نظروا في الدليل فرأوه غير دال له بل دال لخصمه، بأن كان عرض له في فهمه ما يعرض للبشر الذين لم يقرر الدين عصمتهم، لخطئوا نظرهم وأعموا أبصارهم وقالوا: نعوذ بالله أن تذهب عقولنا إلى غير ما ذهب إليه متقدمنا، وأرغموا عقلهم على الوقفة فيصيبه الشلل من تلك الناحية.
فأية حاجة له بعد ذلك إلى اللغة العربية نفسها، وقد يكفيه منها ما يفهم به أسلوب كلام المتقدم، وهو ليس من أولئك العرب الذين كان ينظر الأولون في كلامهم.
وهكذا كل متأخر يقصر فهمه على النظر في كلام من يليه هو غير مبال بسلفه الأول، بل ولا بما كان يحف بالقول من أحوال الزمان، فهو لا ينظر إلا اللفظ وما يعطيه، فتسقط منزلته في تحصيل اللغة بمقدار بعده عن أهلها حتى وصل حال الناس إلى ما نراهم عليه اليوم: جعلوا دروس اللغة لهم عبارة بعض المؤلفين في النحو وفنون البلاغة، وإن لم يصلوا منها إلى غاية في فهم ما وراءها فدرست علوم الأولين وبادت صناعتهم، بل فقدت كتب السلف الأولين رضي الله عنهم، وأصبح الباحث عن كتاب المدونة لمالك رحمه الله تعالى أو كتاب الأم للشافعي رحمه الله تعالى أو بعض كتب الأمهات في فقه الحنفية كطالب المصحف في بيت الزنديق، تجد جزءا من الكتاب في قطر وجزءه الآخر في قطر آخر، فإذا اجتمعت لك أجزاء الكتاب وجدت ما عرض عليها من مسخ النساخ حائلا بينك وبين الاستعادة منها.
هذا كله من أثر الجمود وسوء الظن بالله وتوهم أن أبواب فضل الله قد أغلقت في وجوه المتأخرين، ليرفع بذلك المتقدمين وعدم الاعتبار بما ورد في الأخبار من أن المبلغ ربما كان أوعى من السامع وأن هذه الأمة كالمطر لا يدرى أوله خير أو آخره وقلة الالتفات إلى أن ذلك قد أضاع آثار المتقدمين أنفسهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
لا ريب أن القارئ يحيط بمقدار ضرر هذه الجناية على اللغة، يكفيه من ذلك أنه إذا تكلم بلغته لغة دينه وكتابه وقومه لا يجد من يفهم ما يقول، وأي ضر أعظم من عجز القائل عن أن يصل بمعناه إلى العقول؟ جناية الجمود على النظام والاجتماع وأعظم من هذه الجناية التفريق وتمزيق نظام الأمة وإيقاعها فيما وقع فيه من سبقها من الاختلاف وتفريق المذاهب والشيع في الدين.
كان اختلاف السلف في الفتوى يرجع إلى اختلاف أفهام الأفراد، وكل يرجع إلى أصل واحد لا يختلفون فيه، وهو كتاب الله وما صح من السنة، فلا مذهب ولا شيعة، ولا عصبية تقاوم عصبية، ولو عرف بعضهم صحة ما يقول الآخر لأسرع إلى موافقته كما صرح به جميعهم، ثم جاء أنصار الجمود فقالوا يولد مولود في بيت رجل من مذهب إمام فلا يجوز له أن ينقل من مذهب أبيه إلى مذهب إمام آخر، وإذا سألتهم قالوا: «وكلهم من رسول الله ملتمس» لكنه قول باللسان، لا أصل له في الجنان، ثم كانت حروب جدال بين أئمة كل مذهب لو صرفت آلاتها وقواها في تبيين أصول الدين ونشر آدابه وعقائده الصحيحة بين العامة، لكنا اليوم في شأن غير ما نحن فيه، يجد المطلع على كتب المتخلفين من مطاعن بعضهم في بعض ما لا يسمح به أصل من أصول الدين الذي ينتسبون إليه.
يضلل بعضهم بعضاً، ويرمي بعضهم بعضا بالبعد عن الدين، وما المطعون فيه بأبعد عن الدين من الطاعن، ولكنه الجمود، قد يؤدي إلى الجحود.
كان الاختلاف في العقائد على نحو الاختلاف في الفتيا تخالف أشخاص في النظر والرأي، وكان كل فريق يأخذ عن الآخر ولا يبالي بمخالفته له في رأيه، مسجدهم واحد وإمامهم واحد وخطيبهم واحد فلما جاء دور الجمود —دور السياسة— أخذ المتخلفون في التنطع وأخذت الصلات تتقطع وامتازت فرق وتألفت شيع كل ذلك على خلاف ما يدعو إليه الدين، وقد بذل قوم وسعهم في تمييز الفرق تمييزا حقيقيا فما استطاعوا وإنما هو تمييز وهمي، وخلف في أكثر المسائل لفظي، وإنما هي الشهوات وضروب السياسات، أشعلت نيران الحرب بين المنتسبين إلى تلك الشيع حتى آل الأمر إلى هذه الفرقة التي يظن الناظر فيها أنها لا دواء لها.
قال قائل٦ من عدة سنين: إنه ينبغي أن يعين القضاة في مصر من أهل المذاهب الأربعة لأن أصول هذه المذاهب متقاربة وعبارات كتبها مما يسهل على الناظر فيها أن يفهمها وقال إن الضرورة قاضية بأن يؤخذ في الأحكام ببعض أقوال من مذهب مالك أو مذهب الشافعي تيسيرا على الناس ودفعا للضرر والفساد، فقام كثير من المتورعين، يحوقلون ويندبون حظ الدين، كأن الطالب يطلب شيئاً ليس من الدين، مع أنه لم يطلب إلا الدين، ولم يأت إلا بما يوافق الدين، وبما كان عليه العمل في أقطار العالم إلى ما قبل عدة سنين، فأين قول هؤلاء «وكلهم من رسول الله ملتمس»؟ لكن هو جمود المتأخر على رأي من سبقه مباشرة وقصر نظره عليه دون التطلع إلى ما وراءه، أو هي السياسة تحل ما تشاء وتحرم ما تشاء، وتصحح ما تشاء، وتعطل ما يشاء، والناس منقادون إليها بأزمة القوة أو الأهواء.
جناية الجمود على الشريعة وأهلها: هذا الجمود في أحكام الشريعة جر إلى عسر حمل الناس على إهمالها: كانت الشريعة الإسلامية أيام كان الإسلام إسلاما سمحة تسع العالم بأسره، وهي اليوم تضيق عن أهلها، حتى يضطروا إلى أن يتناولوا غيرها وأن يلتمسوا حماية حقوقهم فيما لا يرتقي إليها، وأصبح الأتقياء من حملتها يتخاصمون إلى سواها.
صعب تناول الشريعة على الناس حتى رضوا بجهلها عجزا عن الوصول إلى عملها، فلا ترى العارف بها من الناس إلا قليلا لا يعد شيئاً إذا نسب إلى من لا يعرفها.
وهل يتصور من جاهل بشريعة أن يعمل بأحكامها؟ فوقع أغلب العامة في مخالفة شريعتهم بل سقط احترامها من أنفسهم لأنهم لا يستطيعون أن يطبقوا أعمالهم بمقتضى نصوصها، وأول مانع لهم ضيق الطاقة عن فهمها لصعوبة العبارات وكثرة الاختلاف.
سألت يوماً أحد المدرسين في بعض المذاهب: هل تبيع وتشتري وتصرف النقود على مقتضى ما تجد في كتب مذهبك فأجاب أن تلك الأحكام قلما تخطر بباله عند المعاملة بالفعل وإنما يفعل ما يفعل الناس.
هكذا فعل الجمود بأهله، ولو أرادوا أن تكون للشريعة حياة يحيا بها الناس لفعلوا، ولسهل عليهم وعلى الناس أن يكونوا بها أحياء.
تعلم ما وصل إليه الناس من فساد الأخلاق والانحراف عن حدود الشريعة لو سألت عن سببه في القرى وصغار المدن لوجدته أحد أمرين: إما فقد العارف بالشريعة والدين وسقوط القرية أو المدينة في جاهلية جهلاء يرجع بعض أهلها إلى بعض في معرفة الحلال والحرام وليس المسئول بأعلم من السائل وكلهم جاهلون، وإمَّا عجز العارف عن تفهيم من يسأله، لاعتقال لسانه عن حسن التعبير بطريقة تفهمها العامة، فهو إذا سئل يقرأ كتابا أو يسرد عبارة يصعب على السامع فهمها وعلى المتكلم إفهامها.
وذلك للحرج الذي وضع فيه نفسه، فلا يستطيع التصرف فيما يسمع ولا فيما يعلم.
فإذا قلت للعارف: تعلم من وسائل التعبير ما يقدرك على مخاطبة الطبقات المختلفة من الناس حتى تنفع بعلمك، واعْلُ بنفسك إلى أن تفهم الغرض من قول إمامك فتجد لا صلة انطباقا على هذه الحادثة مثلا وإن لم يأت ذكرها بنفسها في قوله أو قول من جاء بعده من أتباعه… قال: سبحان الله، هل فعل ذلك أحد من المشايخ؟ يريد ألا يأتي شيئاً إلا ما أتى به شيخه الذي أخذ عنه يدا بيد، ولو أبعد بنظره لوجد قدماء المشايخ قد فعلوه وبالغوا فيه حتى خالفوا من أخذوا عنه في بعض رأيه ثم إذا حاججته في ذلك لم يبعد من رأيه أن يعدك زنديقا، وأنك تدعوه إلى الخروج من دينه، ولا يدري المسكين أنه بذلك يخالف نصوص دينه، وأنه يتهيأ للخروج منه، نعوذ بالله تعالى.
كان كلام بيني وبين أحد المدرسين في أخذ الطلبة بالنصيحة وتذكيرهم بفضائل الأخلاق وصالح الأعمال، خصوصا عند إلقاء الدروس الفقهية ودروس الحديث والتوحيد، فقال لي: إنه لا فائدة في ذلك قطعاً، وهو تعب في غير طائل.
فقلت له: ذلك حق عليك أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وليس عليك أن يأتمر المأمور ولا أن ينتهي المنهي.
فقال: إذا تحققت استحالة المنفعة كان الأمر والنهر لغواً.
فانظر كيف اعتقد استحالة الانتفاع بنصحه لبلوغ الفساد من النفوس غايته كما يزعم؟ ولم ينظر في الوسيلة إلى اقتلاع هذا الفساد، مع أن الدين يدعوه إلى ذلك وهو يعمل كل يوم عمله لتعليم من لا سبيل إلى إصلاحه، هذا كله لأنه لم ير نفسه أهلا لأن يتخذ وسيلة لم يتخذها من أخذ عنه، أو لم يرشده إليها من تعلم هو بين يديه ولم يتذكر عند ذلك شيئاً من الأوامر الإلهية، وأن اليأس من روح الله إنما يكون من القوم الكافرين أو الضالين.
لا بل إذا قلت له: إن هذا الضرب من ضروب التعليم عقيم لا ينتج المطلوب منه، أو أن هذا الكتاب الذي تعود الطلاب قراءاته قد يضر بقارئيه وغيره أفضل منه.
كان يظن أن قولك هذا مخالف للدين، ورأي العدول عما تعوده نوعا من الإخلال بالدين، وقد يقيم عليك حربا يعتقد نفسه فيها مجاهدا في سبيل الله.
إذا قلت له: إن دروس السلف كانت تقريراً للمسائل وإملاء للحقائق على الطلاب، ولم يكن لأحد منهم كتاب يأخذه بيده ويقرئه تلاميذه، ولم يكن بأيدي الطلبة إلا الأقلام والقراطيس يكتبون ما يسمعونه من أفواه أساتذتهم.
قد يعترف لك بصحة ما تقول ولكنه يستمر في عمله، اعتمادا على أنه وجد الناس هكذا يعملون، فهل يخطر ببال عاقل هذا الجمود من الدين؟ وهل يرتاب من له أدنى إدراك في سوء عقباه على الدين وأهل الدين؟
جناية الجمود على العقيدة: ذلك جمودهم في العمل، وأشد ضررا منه الجمود في العقيدة: نسوا ما جاء في الكتاب وأيدته السنة من أن الإيمان يعتمد اليقين، ولا يجوز الأخذ فيه بالظن، وأن العقل هو ينبوع اليقين في الإيمان بالله وعلمه وقدرته والتصديق بالرسالة، وأن النقل ينبوع فيما بعد ذلك٧ من علم الغيب كأحوال الآخرة وفرض العبادات وهيآتها، وأن العقل إن لم يستقل وحده في إدراك ما لابد فيه من النقل فهو مستقل لا محالة في الاعتقاد بوجود الله، وبأنه يجوز أن يرسل الرسل فتأتينا عنه بالمنقول — نسوا ذلك كله، وقالوا: لابد من مذهب خاص في العقيدة، وافترقوا فرقا وتمزقوا شيعا كما قلنا ولم يكفهم الإلزام باتباع مذهب خاص في نفس المعتقد، بل ذهب بعضهم إلى أنه لابد من الأخذ بدلائل خاصة للوصول إلى ذلك المعتقد فيكون التقليد في الدليل كالتقليد في المدلول، وكأنهم لذلك جعلوا النقل عمادا لكل اعتقاد ويا ليته النقل عن المعصوم، بل النقل ولو عن غير المعروف، فتقررت لديهم قاعدة: إن عقيدة كذا صحيحة، لأن كتاب كذا للمصنف فلان يقول ذلك، ولما كانت الكتب قد تختلف أقوالها صار من الصعب أن يجد الواحد منهم لنفسه عقيدة قارة صافية غير كدرة ولا متزعزعة.
وقد سرى ذلك من قراء المقلدين إلى أمييهم فتراهم يعتقدون كل ما يقال وينقل عن معروف الاسم، وإن لم يكن في حق الأمر من أهل العلم، وتتناقض عقائدهم على حسب تناقض مسموعاتهم.
انجر التساهل في الاعتماد على النقل إلى الخروج عما اختطه لنا السلف رضي الله عنهم، فقد كانوا ينقبون عن صفات من ينقلون عنه، ويمتحنون قوله، حتى يكونوا على شبه اليقين من أنه موضع الثقة.
ولكن جمود المتأخر على ما يصل إليه من المتقدم صير النقل فوضى، فتجد كل شخص يأخذ عمن عرفه وظن أنه أهل للأخذ عنه بدون بحث ولا تنقيب، حتى شاع بين الناس من الأقوال وموضوعات الأحاديث ما ترتفع الأصوات بالشكاية منه من حين إلى حين.
وكل ما تراه من البدع المتجددة فمنشؤه سوء الاعتقاد الذي نشأ من رداءة التقليد، والجمود عند حد ما قال الأول بدون بحث في دليله ولا تحقيق في معرفة حاله، وإهمال العقل في العقائد على خلاف ما يدعو إليه الكتاب المبين والسنة الطاهرة.
دخلت على الناس لذلك عقائد يحتاج صاحب الغيرة على الدين في اقتلاعها من أنفسهم إلى عناء طويل، وجهاد شديد، وسلاحه الكتاب وسلاحه أعدائه أقوال بعض من تقدم ممن يعرف ومن لا يعرف — وما أكثر عدد من ينصر أعداءه اليوم وما أقلهم غدا إن شاء الله.
سأل سائل الأستاذ شيخ الجامع الأزهر عن حكم عمل من الأعمال الجارية في المساجد يوم الجمعة —ومنزلة الشيخ من الرياسة في أهل العلم بالدين منزلته— فأفتى بما ينطبق على السنة وما يعرفه العارفون بالدين وقال: إن العمل بدعة من البدع يجب التنزه عنها.
أتظن أن المستفتي أمكنه العمل بمقتضى الفتيا؟ كلا، حدث قيل وقال، وكثرة تسآل، ودخلت السياسة ثم قيل: إن الزمان ناصر الحقيقة، وقد وجدنا الأمر كذلك من قبلنا، وسكت السائل وماذا يصنع المجيب؟
نعم هذا من شؤم ذلك الجمود فقد فصل بين العامة ومن يرجى فيهم تقويم ما اعوج منها ووكلت إلى أناس منها لا علم لهم بالدين ولا بالأدب وقد غرسوا في أذهان الدهماء شر الغرس، ولا تجني الأمم منه إلا أخبث الثمر فلو قام العالم بالدين وأراد أن يبين حكم الله المصرح به في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم المجمع عليه عند السلف قاطبة انتصب له ناعر من العامة يصيح في وجهه (ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين) ويريد من آبائه الأولين من رآهم بعد ولادته أو ذكرت له أسماؤهم بلسان مضليه حتى صار إرشاد العامة اليوم من أصعب الأمور وأشقها على طالبه.
ماذا يمكن أن أقول؟ أصبح الرجل يرتكب في وسائل العبادة أقبح المنكرات في الدين وإذا دُعي إلى ترك المنكر نفر وزمجر وأبى واستكبر، انظر ماذا يصنع الموسوسون ومن يقرب منهم في الاستبراء من البول على مرأى من المارة وفيهم النساء والأطفال وهم يظنون أنهم يتقربون إلى الله بما يفعلون.
هذا هو شأن العامة يرون ما ليس بدين دينا، ويصعب على حفاظ الدين إرشادهم بفضل جمودهم على ما ورثوا من ملقنيهم بدون تعقل.
فهذا معظم الأمة تراه قد تملص من أيدي منذريه، ولو شاءوا لأقصل كل منهم على صاحبه، وهو أيسر شيء على حملة الشريعة، وما هو إلا أن يرجعوا إلى ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من سعة الدين وسماحته، ثم العمل على حفظه وحياته.
ثم إن الجمود قد أحدث لنا فريقا آخر وهو فريق المتعلمين على الطرق الجديدة إما في مدارس الحكومة الإسلامية وإمَّا في المدارس الأجنبية داخل بلادهم أو خارجا عنها.
لا أتكلم عن هذا الفريق في بلاد القرم أو القاقاز أو سمرقند أو بخارى أو الهند، فإني لا أعرف كثيرا من أحوالهم ومن رأيته منهم رأيت فيه خيرا وأرجو أن يكون منهم لقومهم ما ينتظره الإسلام من العارفين به، فقد رأيت أفرادا قليلين من هؤلاء تعلموا في البلاد الأوربية ودرسوا العلوم فيها درسا دقيقا، وهم أشد تمسكا بلب الدين الإسلامي وروحه من كثير ممن يدعون الورع والتقوى ولا يسمحون لأنفسهم بترك عادة صحيحة من العادات التي أورثها دينهم قومهم، فنعم المتعلمون هؤلاء، أكثر الله منهم.
وإنما أتكلم عن هذا الفريق من المتعلمين في مصر وسورية وسائر بلاد الدولة العثمانية.
سماحة الإسلام وسعة حمله للعلم أباحتا للمسلمين أن يرسلوا أولادهم ليأخذوا العلم في المدارس الرسمية وغير الرسمية عن أساتذة فيهم المسلم وغير المسلم، أو أساتذة كلهم غير مسلمين، بل في مدارس لم تبن إلا لترويج دين غير الدين الإسلامي وأباحتا لغير آباء هؤلاء التلاميذ أن يسكتوا وألا ينكروا عليهم عملهم، مادامت العقيدة سالمة من الهدم أو الضعضعة.
جمود تلاميذ المدارس الأجنبية: هؤلاء التلاميذ إن كانوا في مدارس أجنبية لا أثر لتعليم الدين الإسلامي فيها، بل ربما يعلم فيها دين آخر فقد يسري إلى عقائدهم شيء من الضعف، وقد تذهب عقائدهم بالمرة وتحل مكانها عقائد أخرى تناقضها، كما شوهد ذلك مراراً.
ولو كان آباؤهم على علم بطرق الاستدلال الإقناعية لعقائد دينهم لدعموا من عقائد أبنائهم وحفظوها من التزلزل أو الزوال، وكيف يكون لأولئك الآباء شيء من هذا العلم مع الجمود على طرق قديمة لا يصل إلى فهمها من ينقطع لتعليمها، فضلا عن أولئك المساكين، بل لو كان هناك مرشدون على طريقة يسهل فهمها لتيسر لهؤلاء التلاميذ أن يهتدوا بهديهم ولكن الجمود صير كل شيء صعبا وكل أمر غير مستطاع.
فهذه جناية من جنايات الجمود على أبناء المسلمين الذين يتعلمون في مدارس أجنبية، يخرجهم من دينهم من حيث لا يشعرون.
ويا ليتهم يستبدلون بالدين رادعا آخر من الأدب والحكمة كما يرجوا بعض المغرورين الذين لا يعلمون طبائع هذه الأمم، أو كما يروجه بعض من لا يريدون الخير بها، ولكنه ترك أفئدتهم خواء خالية من كل زاجر أو دافع، اللهم إلا زاجرا عن خير أو دافعا إلى شر، فاتخذوا إلههم هواهم وإمامهم شهوتهم، فهلكوا وأهلكوا، ومن هؤلاء ورثة الأغنياء الذين تصيح من شرور أعمالهم الجرائد كل يوم، فالجهل خير مما يتعلم هؤلاء بدون ريبة، وليت الإسلام لم يرحب صدره لمثل هذا الضرب من التعليم والتعلم.
جمود تلاميذ المدارس الرسمية والأهلية أمَّا المتعلمون في مدارس رسمية أو غير رسمية للتعليم الديني فيها شيء من البقية فهؤلاء ينشئون على شيء من المعارف في الفنون المختلفة، وتقرر لهم حقائق في الكون السماوي أو الأرضي أو في الاجتماع الإنساني، ومن عرف شيئاً انطلق لسانه بالخوض فيه، وقد يسمعه متنطع ممن يلبس لباس أهل الدين وهو جاهد على ألفاظ سمعها، فلو سمع شيئاً غيرها أنكره وظنه مخالفا للعقيدة الصحيحة فيأخذ يلوم المتعلم ويوبخه، ويرميه بالمروق من الدين، هذا والمتعلم لا يشك في قوة دليله، ولجهله بالدين يعتقد أن ما يقوله خصمه منه، فينفر من دينه نفرته من الجهل، ولو قال له قائل: ارجع إلى كتب الدين تجد فيها ما يسرك وينصرك على نفسك وخصمك، حار لا يدري إلى أي كتاب يرجع، ولم يسهل عليه فهم تلك العبارات التي ورثها القوم على ما فيها من تشعيب وتعقيد وأبقوها كما ورثوها، فيعود إلى النفور من الدين نفور طالب الفهم مما لا يمكنه فهمه.
لهذا يعتقد أكثر هؤلاء أن الدين شيء غير مفهوم، بل قد يعده بعضهم خرافة «نعوذ بالله» فيأخذون عنه جانبا، ويتركون عقائده وفضائله وآدابه، ويلتمسون لهم آدابا غيره، وقلما يجدونها، فتراهم وقد فترت قلوبهم وقصرت هممهم، فلا يطلب إلا ما تطلبه العامة من كسب معيشة أو علو جاه «مادام الشرف محفوظا» فإذا وجد بينهم من يدعي الوطنية أو الغيرة المليّة أو نحو ذلك، فإنما ينثر الألفاظ نثرا لا يرجع فيها إلى أصل ثابت، ولا إلى علم صحيح، ولهذا يطلب لبلاده من الوجه الذي يؤدي إلى المفسدة.
وهو يشعر —أو لا يشعر— على حسب حاله.
ومنهم من يصيح باسم الدين ولا تتحرك نفسه لمعرفة حكم من أحكامه أو درس عقيدة من عقائده، فشأنهم كلام في كلام، ولبئس ما يصنعون، ولولا هذا الجمود لوجدوا في كتب دينهم وفي أقوال حملته ما تبتهج به قلوبهم، وتطمئن إليه نفوسهم، ولذاقوا طعم العلم مأدوما بالدين، وتمكنوا من نفع أنفسهم وقومهم ولوجدت منهم طبقة معروفة، يرجع إليها في سير الأمة وسياسة أفكارها وأعمالها الاجتماعية. ======================================= ١ هذا الرجل هو السيد عبد الحميد الهراوي الحمصي الشهير رحمه الله. ٢ هو الشيخ عليش الذي كان ينكر على السيد جمال الدين والشيخ محمد عبده أيضاً طريقتهما في تحقيق المسائل الشرعية على طريقة السلف. ٣ يعني الأستاذ بهذا نفسه فهو الذي أشار بتعليم هذه العلوم. ٤ إنه يعني بهذه الفئة الوهابيين، فهو يحمد منهم ترك البدع والاهتداء بالسنن وتقديم الأثر، على آراء البشر، ولكنه ينكر عليهم ضيق العطن دون العناية بما أرشدت إليه النصوص من علوم الأكوان، ومقدمات المدنية والعمران. ٥ الخشارة بالمعجمتين كالحثالة وزنا ومعنى: الرديء وما لا خير فيه من كل شيء، من خشارة الشعير وهي ما لا لب له، وخشارة الثمر هي رديؤه والشيص منه، وحثالة الطعام ما سقط منه إذا نُفي. ٦ القائل هو الإمام الكاتب وله فيه اقتراح رسمي في تقريره الذي وضعه لإصلاح المحاكم الشرعية. ٧ يعني أن الأخذ بما جاء به الرسل متوقف بالفعل — وفقا لنظر العقل على التصديق بأن الله أرسلهم، فهو لا يكون إلا بعده، وهذا قطعي بالنسبة إلى من يدعى إلى الدين من الكفار وإلى إقامة الحجة على المنكر، وأمَّا الناشئ في الإسلام فلا ترتيب عنده في ذلك فهو يأخذ العلم بالله وصفاته وأدلتها العقلية من القرآن مباشرة. ------------------------------------------------------------ |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الإسلام بين العلم والمدنية الجمعة 14 يونيو 2024, 3:22 pm | |
| الجمود علة تزول تفصيل مضرات هذا الجمود وسيئاته يحتاج إلى كتاب طويل فنكتفي بما أوجزناه في الصفات السابقة، ولن يبقى الكلام في أنه عارض يمكن زواله إن شاء الله تعالى.
وقد عرفت من طبيعة الدين الإسلامي بعد عرضها عليك فيما سبق أنها تسمو عن أن ينسب إليها هذا المرض الخبيث —مرض الجمود على الوجود— وكم في الكتاب من آية تنفر من اتباع الآباء مهما عظم أمرهم بدون استعمال العقل فيما كانوا عليه، ولا حاجة إلى إعادة ذلك.
ثم إننا أشرنا أيضاً إلى بعض الأسباب التي جلبت هذا الجمود على المسلمين لا على الإسلام، وأن مُحدثها إمَّا عدو للمسلمين طالب لخفض شأنهم أو لاستعبادهم واستغلال أيديهم لخاصة نفسه وإمَّا مُحِبٌ جاهل يظن خيراً ويعمل شراً.
وهذا الثاني كان أشد نكاية وأعون على الغواية، وهل تزول هذه العلة ويرجع الإسلام إلى سعته وكرمه الفياض؟ وينهض بأهله إلى خير ما ذخر فيه؟
جاء في الكتاب المبين: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)، ذلك الذكر هو الذكر الحكيم — هو القرآن الذي: (أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)، هو كما قال: (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)، وعد اللهُ بحفظ هذا الكتاب وقد أنجز وعده، لم تطل إليه يد عدو مقاتل، ولا يد مُحِبٍ جاهل، فبقي كما نزل، ولا يضرُّهُ عمل الفريقين في تفسيره وتأويله، فذلك مما لا يلتصق به، فهو لا يزال بين دفّات المصاحف طاهراً نقياً بريئاً من الاختلاف والاضطراب، وهو إمام المتقين ومستودع الدين، وإليه المرجع إذا اشتد الأمر، وعظم الخطب، وسئمت النفوس من التخبط في الضلالات، ولا يزال لأشعة نوره نفوذ من تلك الحجب التي أقاموها دونه ولابد أن تتمزَّق كلها بأيدي أنصاره، فيتبلج ضياؤه لأعين أوليائه، إن شاء الله تعالى.
هذا الضياء كان ولا يزال يلوح لامعه في حنادس الظلم لأفراد اختصَّهمُ اللهُ بسلامة البصيرة فيهتدون به إليه ويحمدون سراهم، بما عرفوا من نجاح مسعاهم، ولكن الذين أطبق عليهم ظلم البدع وران على قلوبهم ما كسبوا من التحزُّب للشيع، وطمست بصائرهم وفسدت عقولهم بما حشوها من الأباطيل، وبما عطلوها عن النظر في الدليل، هؤلاء في عمى عن نوره، وقلوبهم في أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقر، يصيحون بأنهم عُمْي صم، فلا يرون له سناء، ولا يسمعون له نداء، ويعدون ذلك من كمال الإيمان به ولبئس ما رضوا لأنفسهم من السفه وطيش الحلم وهم يعلمون.
هذا حال الجمهور الأعظم ممن يوصفون بأنهم مسلمون، ويجلبون العار على الإسلام بدخولهم تحت عنوانه، ويقوون حجج أعدائه في حربه، بزعمهم الاجتماع تحت لوائه، وما هم منه في شيء كما قدمنا.
هؤلاء لابد أن يصيبهم ما أصاب الأمم قبلهم، فقد اتبعوا سُننهم شبرا بشبر وذراعا بذراع، وضيقوا على أنفسهم بدخولهم في جحر الضب الذي دخلوه١ ومن اتبع سُنن قوم استحق الوقوع تحت أحكام سُنن الله فيهم، فلن يخلص مما قضى الله في عذابهم.
فقد قص عليهم سير الأولين، وبين لهم ما أنزل بهم عندما انحرفوا عنه سننه، وحادوا عن شرعه، ونبذوا كتابه وراءهم ظهريا — أحل بهم الذل، وضرب عليهم المسكنة، وأورث غيرهم أرضهم وديارهم، فهل ينتظر المتبعون سننهم، والسائرون على أثرهم، أن يصنع الله بهم غير الذي صنع بسابقيهم؟ وقد قضى بأن تلك سنته ولن تجد لسنته تبديلا؟
لا تزال الشدائد تنزل بهؤلاء المنتسبين إلى الإسلام ولا تزال القوارع تحل بديارهم حتى يفيقوا (وقد بدءوا يفيقون من سكرتهم) ويفزعوا إلى طلب النحاة، ويغسلوا قذى المحدثات عن بصائرهم، وعند ذلك يجدون هذا الكتاب الكريم في انتظارهم، يعد لهم وسائل الخلاص، ويؤيدهم في سبيله بروح القدس، ويسير بهم إلى منابع العلم، فيغترفون منها ما يشاءون، فيعرفون أنفسهم ويشهدون ما كمن فيها من قوة، فيأخذ بعضهم بيد بعض، ويسيرون إلى المجد غير ناكلين ولا مخذولين.
ولهذا أقول: إن الإسلام لن يقف عثرة في سبيل المدنية أبداً، لكنه سيهذبها وينقيها من أوضارها، وستكون المدنية من أقوى أنصاره متى عرفته وعرفها أهله، وهذا الجمود سيزول، وأقوى دليل لك على زواله، بقاء الكتاب شاهداً عليه بسوء حاله، ولطف الله بتقييض أناس للكتاب ينصرونه، ويدعون إليه ويؤيدونه، والحوادث تساعدهم، وسوط عذاب الله النازل بالجامدين ينصرهم.
هذا الكتاب المجيد الذي يتبعه العلم حيثما سار شرقاً وغرباً لابد أن يعود نوره إلى الظهور، ويمزق حُجُبَ هذه الضلالات، ويرجع إلى موطنه الأول في قلوب المسلمين ويأوي إليها — العلم يتبعه وهو خليله الذي لا يأنس إلا إليه، ولا يعتمد إلا عليه.
يقول أولئك الجامدون الخامدون — كما يقول بعض أعداء القرآن إن الزمان قد أقبل على آخره، وإن الساعة أوشكت أن تقوم، وإن ما وقع فيه الناس من الفساد، وما مني به الدين من الكساد، وما عرض عليه من العلل، وما نراه فيه من الخلل، إنما هو أعراض الشيخوخة والهرم، فلا فائدة في السعي، ولا ثمرة للعمل، فلا حركة إلا إلى العدم ولا يصح أن يمتد بصرنا إلا إلى العدم، ولا أن ننتظر من غاية لأعمالنا سوى العدم (نعوذ بالله).
هؤلاء حفدة الجهل، وأعوان اليأس، يهرفون بما لا يعرفون، ماذا عرفوا من الزمان حتى يعرفوا أنه كاد ينقطع عند نهايته؟ إن الذي مضي بيننا وبين مبدأ الإسلام (أي الهجرة) ألف وثلاثمائة وعشرون عاماً، وإنما هي يوم وبعض يوم أو بعض يوم فقط من أيام الله تعالى.
وإن آيات الله في الكون —وإن كانت تدل على أن ما مضى على الخليقة يقدر بالدهور الدهارير— تشهد بأن ما بقي لهذا النظام العظيم يقصر عن تقديره كل تقدير: (فَمَا لِهَؤُلاءِ الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا).
إن ما بيننا وبين مبدأ الإسلام لا يزيد عن عمر ستة وعشرين رجلاً كل رجل يعيش خمسين سنة فهل يُعَدُّ مثل ذلك دهراً طويلاً بالنسبة إلى دين عام كدين الإسلام؟ إن زمنا كهذا لا يكفي —وقد تَبَيَّنَ أنه لم يكف— لاهتداء الناس كافة بهديه، ولم تقم القيامة على الدين ولم تقم على شرههم وطمعهم؟
قد وَعَدَ اللهُ بأن يُتِمَّ نورَهُ وبأن يُظهرهُ على الدين كله، فسار في سبيل التمام والظهور على العقائد الباطلة أعواماً، ثم انحرف به أهله عن سبيله، وساروا به إلى ما يرون ونرى، ولن ينقضي العالم حتى يتم ذلك الوعد، ويأخذ الدين بيد العلم، ويتعاونا معاً على تقديم العقل والوجدان، فيدرك العقل مبلغ قوته، ويعرف حدود سلطته فيتصرف فيما أتاه الله تصرف الراشدين، ويكشف ما مكنه فيه من أسرار العالمين، حتى إذا غشيته سبحات الجلال وقف خاشعاً، وقفل راجعاً، وأخذ أخذ الراسخين في العلم، الذين قال فيهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (كَرَّمَ اللهُ وجهه) فيما رُوي عنه: «هم الذين أغناهم عن اقتحام السدود المضروبة دون الغيوب، الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب، فمدح الله اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علماً، وسَمَّى تركهم التعمق فيما لم يكلفهم البحث عن كنهه رسوخاً» واعتبر بعد ذلك بقوله: «فاقتصر على ذلك ولا تقدر عظمة الله سبحانه على قدر عقلك، فتكون من الهالكين، هو القادر الذي إذا ارتمت الأوهام لتدرك منقطع قدرته، وحاول الفكر المبرأ من خطرات الوسواس أن يقع عليه في عميقات غيوب ملكوته، وتولهت القلوب إليه لتجري في كيفية صفاته غمضت مداخل العقول في حيث لا تبلغه الصفات لتناول علم ذاته، ردعها وهي تجوب مهاوي سدف٢ الغيوب متخلصة إليه سبحانه فرجعت إذا جبهت٣ معترفة بأنه لا ينال بجور الاعتساف كنه معرفته، ولا تخطر ببال أولى الروايات خاطرة من تقدير جلال عزته».٤
هنالك يلتقي (أي العقل) مع الوجدان الصادق (القلب) ولم يكن الوجدان ليدابر العقل في سيره داخل حدود مملكته، متى كان الوجدان سليما، وكان من استضاء به من نبراس الدين صحيحا، إياك أن تعتقد ما يعتقده بعض السذج من أن فرقا بين العقل والوجدان (القلب) في الوجهة، بمقتضى الفطرة والغريزة، فإنما يقع التخالف بينهما عرضا عند عروض العلل والأمراض الروحية على النفوس وقد أجمع العقلاء على أن المشاهدات بالحس الباطن (الوجدان أو القلب) من مبادئ البرهان العقلي، كوجدانك أنك موجود، ووجدانك لسرورك وحزنك وغضبك ولذتك وألمك ونحو ذلك.
منحنا العقل للنظر في الغايات، والأسباب والمسببات، والفرق بين البسائط والمركبات — والوجدان لإدراك ما يحدث في النفس والذات من لذائذ وآلام، وهلع واطمئنان، وشماس وإذعان ونحو ذلك مما يذوقه الإنسان، ولا يحصيه البيان، فهما عينان للنفس تنظر بهما، عين على القريب: وأخرى تمد إلى البعيد، وهي في حاجة إلى كل منهما ولا تنتفع بإحداهما حتى يتم لها الانتفاع بالأخرى، فالعلم الصحيح مقوم الوجدان، والوجدان السليم من أشد أعوان العلم.
والدين الكامل علم وذوق، وعقل وقلب، برهان وإذعان، فكر ووجدان، فإذا اقتصر دين على أحد الأمرين فقد سقطت إحدى قائمتيه، هيهات أن يقوم على الأخرى ولن يتخالف العقل والوجدان حتى يكون الإنسان الواحد إنسانين، والوجود الفرد وجودين.
قد يدرك عقلك الضرر في عمل ولكنك تعمله طوعا لوجدانك، وربما أيقنت المنفعة في أمر أعرضت عنه إجابة لدافع من سريرتك، فتقول إن هذا يدل على تخالف العقل والوجدان، ولكني أقول: إن هذه حجة من لا يعرف نفسه ولا غيره، عليك أن ترجع إلى نفسك فتتحقق من أحد الأمرين — إما أن يقينك ليس بيقين، وأنه صورة عرضت عليك من قول غيرك، فأنت تظنها علما وما هي به، وإمَّا أن وجدانك وهم تمكن فيك، وعادة رسخت في مكان القوة منك، وليس بالوجدان الصحيح، وإنما هو عادة ورثتها عمن حولك وظننتها شعورا منبعه الغريزة وما هي منه في شيء.
لابد أن ينتهي أمر العالم إلى تآخي العلم والدين، على سنة القرآن والذكر الحكيم، ويأخذ العالمون بمعنى الحديث الذي صَحَّ معناه: (تفكَّرُوا في خلق الله ولا تفكَّرُوا في ذات الله)، وعند ذلك يكون الله قد أتم نوره ولو كره الكافرون وتبعهم الجامدون القانطون، وليس بينك وبين ما أعدك به إلا الزمان الذي لابد منه في تنبيه الغافل وتعليم الجاهل، وتوضيح المنهج، وتقويم الأعوج، وهو ما تقتضيه السنة الإلهية في التدريج (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا، إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ، بَلِ اللهُ مَوْلَاكُمْ ۖ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ). ============================================= ١ في الكلام إشارة إلى حديث: (لتتبعن سُنَنَ من قبلكم شبراً بشبرٍ وذراعاً بذراعٍ حتى لو دخلوا جُحْرَ ضَبٍّ لدخلتموه) رواه الشيخان وغيرهما. ٢ السدف جمع سدفة كظلمة لفظاً ومعنى. ٣ جبهة ضرب جبهته ورده. ٤ هذا الكلام فيه من الصنعة وسمات التوليد ما يدل على أنه موضوع على (علي كَرَّمَ اللهُ وجهه). ---------------------------------------------------------------------------------------------- |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الإسلام بين العلم والمدنية الجمعة 14 يونيو 2024, 3:22 pm | |
| الإسلام ومدنية أوربا تمهيد لم يبق علينا من الكلام إلا ما يتعلق بالأمر الرابع مما ذكرته الجامعة١ وهو: «إن تمكّن العلم والفلسفة من التغلب على الاضطهاد المسيحي في أوروبا وعدم تمكنهما من التغلب على الاضطهاد الإسلامي دليل واقعي على أن النصرانية كانت أكثر تسامحاً مع الفلسفة».
ليس من السهل عليّ أن أعتقد أن أديباً كصاحب الجامعة يقول هذا القول —وهو ناظر إلى الحقيقة بكلتا عينيه مع معرفته بلسان الغربيين واطلاعه على ما كتبوا في هذه المسألة وهي من أهم المسائل التاريخية— وإنما هي عين الرضا تناولت من حاضر الحال ومما انتهى إليه سير التاريخ ما تناولت، ثم أملت على قلبه ما جرى به قلمه.
هل يصح أن تسمى الاستكانة للغالب تسامحا؟ وهل يسمى العجز مع التطلع للنزاع عند القدرة حلماً؟ أم يسمى غل الأيدي عن الشر بوسائل القهر كرما؟ هل تعد مساكنة جناب البابا لملك إيطاليا في مدينة واحدة واجتماع الكرسيين العظيمين: كرسي المملكة الإيطالية وكرسي المملكة البابوية — في عاصمة واحدة تسامحاً من قداسة البابا مع الملك؟ أليس الأجدر بالمنصف أن يُسمّي ذلك تسامحاً من الملك مع البابا، لأنه صاحب القوة والجيش والسلطنة، ويمكنه أن يسلب البابا تلك الثمالة التي بقيت له من السلطة الملكية؟ كما أن الأليق به أن يسمي تلك الحالة التي عليها أهل أوربا اليوم من طمأنينة العلم بينهم بجانب الدين — تساهلاً من العلم مع الدين، لا تسامحاً من الدين مع العلم، بعدما كان بينهما من الحوادث ما كان، وبعد غلبة العلم واستيلائه على عرش السلطان في جميع الممالك ورضاء الدين بأن يكون تابعاً له في أغلبها.
اقتباس أوربا من مدنية الإسلام السبب الأول: الجمعيات كان جلاد بين العلم والدين في أوربا وتألفت لنصرة العلم جمعيات وأحزاب، منها ما اتخذ السر حجاباً له حتى يقوى، ومنها ما ابتدأ بالمجاهر.
وكان الدين يظفر بالعلم كما سبق بيانه، لكثرة أعوانه وضعف أعوان العلم، حتى أشرقت الآداب المحمدية على تلك البلاد من سماء الأندلس، وتبع إشراق تلك الآداب واشتغال الناس بها سطوع نور العلم العربي من الجانب الشرقي كما ذكرنا.
وقد وجد هذان النوران استعداداً من النفوس للاستضاءة بهما في السبيل التي تؤدي بهما إلى المدنية التي كانا يحملانها، هذا الاستعداد كسبته الأنفس بما ضايقها من غلو رؤساء الدين في استعمال سلطانهم، واشتدادهم في استعباد العقل والوجدان حتى ضاق ذرع الفطرة عن الاحتمال، فأخذ الشعور الإنساني يتلمس السبيل إلى الخلاص، وإذا لاح له هذان النوران اتخذهما له هداية، واستقبلهما بوجهه.
وكان بعد ذلك ما كان من تأثير الدين لأهل العلم وإحراقهم بالنيران، ونفيهم من الأوطان، ومقاومة رؤساء الدين للحكومات ولأهل الأفكار المستقلة، في أدنى الأشياء وأعلاها، حتى أنه عندما شرع ملوك فرنسا في فرش باريس بالبلاط على الأسلوب الذي وجدوه في مدينة قرطبة، وصدر الأمر بمنع تربية الخنازير في تلك الشوارع، أغضب ذلك قسس القديس أنطوان.
ونادوا بأن خنازير القديس لابد أن تمر في الشوارع على حريتها الأولى، وحصل لذلك شغب عظيم اضطر الحكومة أن تسمح بذلك مع صدور الأمر بأن توضع في أعناقها أجراس.
وقالوا إن الملك فيليب السمين مات بسقطة عن فرسه عندما انزعج الفرس من منظر خنزير وصلصلة الجرس في عنقه.
لقائل أن يقول: إن القسس في ذلك الزمان كان يمكنهم أن يمتنعوا من وضع الأجراس في أعناق الخنازير فرضاهم بذلك يُعَدُّ تسامحاً عظيماً مع العلم (أو الصناعة).
ويسهل عليّ أن أوافقه على أن مثل هذا الضرب من التسامح في أجراس الخنازير كان يظهر من حين إلى حين، إلا أنه فيما أظن لا يكفي في تشييد هذه المدينة التي يفتخر بها الأوربيون اليوم ونحن لا نبخسها قدرها كذلك.
السبب الثاني: الضغط الديني شدة الحاجة وغلو الرؤساء كانا يوقدان الغيرة في قلوب طلاب العلوم فلم تفتر لهم هِمَّةٌ، فعظم أمرهم واكتشفوا كثيراً من الحقائق التي نفعت العامة ونبهت العقول للأخذ بما يهتدون إليه، وصارت الحرب بينهم وبين رؤساء الدين سجالاً، إلى أن ظهر دعاة الإصلاح الديني «البروتستانت» فانضم دعاة العلم إليهم ظناً منهم أن سيكونون معهم من الجاهدين في سبيل العلم.
وكان منهم «إيراسم» الشهير، فلمَّا انتصر طلاب الإصلاح ودالت لهم دولة استمروا يعاقبون بالموت على الأفكار التي تخالف ظاهر ما يعتقدون كما تقدَّم، فانفصل إيراسم ومَنْ معه من حُماة الحرية واستقلال الإرادة الشخصية، وترك المصلحين يتفرقوا شيعاً ويقتل بعضهم بعضاً، وقال: ما كنت أظن أن دعاة الإصلاح يكونون كذلك أعداء العلم.
هذه الطوائف التي تفرَّقت عقائدها في الإصلاح لم تنتظر إلا أن تأمن من عدوها العام، وهو الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، فلمَّا أمنتها أخذ بعضها يصول على بعض، واشتعلت نيران الحروب بينهم.
قال أحد أفاضل مؤرخيهم: «وكلما ارتفعت طائفة منهم إلى عرش القوة، لوثت يديها بالجرائم في العمل لإفناء البقية، حتى سئمت النفوس دوام تلك الحال، ووجدت من توالي حوادث الانتقام وظهور مضاره في كل طائفة أن الأفضل لكل طائفة أن تمنح الأخرى من الحرية ما لا تستغني عنه واحدة منهما، والعلم كان يعمل عمله في كشف الحقائق وترقية الآداب، وكان من أقوى المنبهات إلى مضار الحروب ومفاسد العدوان على حرية الأشخاص، من أية طائفة كانت، من هذا نشأ ذلك الأصل العظيم: أصل التسامح والرضا بمجاورة المخالف في الرأي: نشأ من القهر والقسوة التي كانت كل طائفة تعامل بها الأخرى» انتهى كلام المؤرخ بالمعنى.
السبب الثالث: الثورة ولا حاجة بي إلى ذكر ما جاءت به الثورة الفرنسية وكيف كانت قيامتها على الدين ورؤسائه مما هو معلوم، وإنما أنبه القارئ إلى الاعتبار بما تقدم من القول، وبما يمكنه أن يقف عليه في كتب القوم، ليعلم أن الدين المسيحي في أوربا لم يحتمل العلم فضلاً وكرماً، وإنما قويت عليه أحزاب العلم فساموه استكانة وخضوعاً، ولو شاء ألا يحتمل لم يستطع إلى ذلك سبيلاً.
السبب الرابع: ترك المسيحية رؤساء الدين المسيحي رجال ذوو عزيمة وإقدام وغيرة على دينهم، قلّما يُدانيهم فيها رؤساء دين من الأديان، وهم مع غلوهم في الدين واشتدادهم في استعمال سلطانهم على النفوس، كانوا ولا يزالون يتخذون كل وسيلة لتأييدهم دينهم، وهم أشد الناس حرصاً على تقويم أركانه ودفع الشبه عنه، ولم يزدهم العلم الجديد إلا وسائل وسبلاً لترويج عقائده وآدابه، ولم تفتر هِمَّة في نشره وتزيينه للقلوب، ومع ذلك كله نرى أن رجال العلم وحُماة المدنية يتسللون منه، والعامة من الشعوب في تخاذل عنه.
والأمَّةُ الفرنسية —التي كانت تدَّعِى بنت الكنيسة— أصبحت من أشد الناس عليه، ورأت فلسفتها أن تحدد حرية أهل الدين في تعاليمهم واجتماعهم: كل ذلك ومدارس اللاهوت لا تزال عامرة، وطلاب اللاهوت يعدون بالألوف، كل ذلك وكثير من الدول يرى من مزاياها حماية الدين المسيحي في أقطار الأرض.
قال أحد رؤساء البروتستانت —في خطبة من خطبه التي ألقاها في بعض البلاد الفرنسية سنة ١٩٠١م، بعد كلام له في أن المسيحية رومانية أو بروتستانتية فقدت خاصتها الدينية كما فقدت فائدتها الاجتماعية— ما نَصُّهُ مُترجماً: «إذا كان الدين المسيحي ليس شيئاً سوى الكثلكة المُحتاجة إلى الإصلاح (المذهب الروماني) أو الكثلكة التي دخلها الإصلاح بالفعل (المذهب البروتستانتي) فالقرن الموفي للعشرين (القرن الحاضر) لا يكون مسيحياً أبداً».
وقد جاء في كلام هذا الخطيب ما يصرح بأنه يريد أن يطلب للمسيحية معنى آخر ينطبق كل الانطباق على اعتقاد المسلمين فيها، فإن وفق للنجاح في سعيه زال الخلاف —إن شاء الله— بين الدين والعلم، بل بين المسيحية والإسلام.
عَوْدٌ إلى سماحة الإسلام: آخذ بيد القارئ الآن، وأرجع به إلى ما مضى من الزمان، وأقف وقفة بين يدي خلفاء بني أمية والأئمة من بني العباسي ووزرائهم —والفقهاء والمتكلمون والمحدثون والأئمة المجتهدون من حولهم، والأدباء والمؤرخون والأطباء والفلكيون والرياضيون والجغرافيون والطبيعيون وسائر أهل النظر من كل قبيل مطيفون بهم، وكل مقبل على عمله، فإذا فرغ عامل من العمل أقبل على أخيه ووضع يده في يده، يصافح الفقيه المتكلم والمحدث الطبيب والمجتهد الرياضي والحكيم، وكل يرى في صاحبه عونا على ما يشتغل هو به— وهكذا أدخل به بيتاً من بيوت العلم فأجد جميع هؤلاء سواء في ذلك البيت يتحادثون ويتباحثون، والإمام البخاري حافظ السُّنَّة بين يدي عمران بن حطان الخارجي يأخذ عنه الحديث، وعمرو بن عبيد رئيس المعتزلة بين يدي الحسن البصري شيخ السُّنَّة من التابعين يتلقى عنه، وقد سُئِلَ الحسن عنه فقال للسائل: «لقد سألت عن رجل كأن الملائكة أدَّبته، وكأن الأنبياء ربَّته، إن قام بأمر قعد به، وإن قعد بأمر قام به، وإن أمِرَ بشيء كان ألزم الناس له، وإن نُهِىَ عن شيء كان أترك الناس له، ما رأيت ظاهراً أشبه بباطن منه، ولا باطناً أشبه بظاهر منه».
بل أرفع بصري فأجد الإمام أبا حنيفة أمام الإمام زيد بن علي (صاحب مذهب الزيدية من الشيعة) يتعلم منه أصول العقائد والفقه، ولا يجد أحدهم من الآخر إلا ما يجد صاحب الرأي في حادثة ممن ينازعه فيه اجتهاداً في بيان المصلحة، وهما من أهل بيت واحد — أمر به بين تلك الصفوف التي كانت تختلف وجهتها في الطلب وغايتها واحدة وهي العلم، وعقيدة كل واحد منهم أن فكر ساعة خير من عبادة ستين سنة كما ورد في بعض الأحاديث.
الخلفاء أئمَّة في الدين مجتهدون وبأيديهم القوة وتحت أمرهم الجيش، والفقهاء والمحدثون والمتكلمون، والأئمة المجتهدون الآخرون هم قادة أهل الدين ومن جند الخلفاء، الدين في قوته والعقيدة في أوج سلطانها، وسائر العلماء ممن ذكرنا بعدهم يتمتعون في أكنافهم بالخير والسعادة ورفه العيش وحرية الفكر، لا فرق في ذلك بين من كان من دينهم ومن كان من دين آخر، فهنالك يشير القارئ المنصف إلى أولئك المسلمين، وأنصار ذلك الدين، ويقول: هاهنا يطلق اسم التسامح مع العلم في حقيقته، هاهنا يوصف الدين بالكرم والحلم، هاهنا يعرف كيف يتفق الدين مع المدنية عن هؤلاء العلماء الحكماء تؤخذ فنون الحرية في النظر، ومنهم تهبط روح المسالمة بين العقل والوجدان (أو بين العقل والقلب كما يقولون).
يرى القارئ أنه لم يكن جلاد بين العلم والدين، وإنما كان بين أهل العلم وبين أهل الدين شيء من التخالف في الآراء، شأن الأحرار في الأفكار الذين أطلقوا من غل التقييد، وعوفوا من علة التقليد، ولم يكن يجري فيما بينهم اللمز والتنابز بالألقاب، فلا يقول أحد منهم لآخر إنه زنديق أو كافر أو مبتدع، أو ما يشبه ذلك.
ولا تتناول أحداً منهم يد بأذى، إلا إذا خرج عن نظام الجماعة، وطلب الإخلال بأمن العامة، فكان كالعضو المجذوم فيقطع ليذهب ضرره عن البدن كله.
ملازمة العلم للدين وعدوى التعصب في المسلمين متى ولع المسلمون بالتكفير والتفسيق ورمي زيد بأنه مبتدع وعمرو بأنه زنديق؟ أشرنا فيما سبق إلى مبدأ هذا المرض، ونقول الآن: إن ذلك بدأ فيهم عندما بدأ الضعف في الدين يظهر بينهم، وأكلت الفتن أهل البصيرة من أهله —تلك الفتن التي كان يثيرها أعداء الدين في الشرق وفي الغرب لخفض سلطانه، وتوهين أركانه— وتصدر للقول في الدين برأيه من لم تمتزج روحه بروح الدين، وأخذ المسلمون يظنون أن من البدع في الدين ما يحسن أحداثه لتعظيم شأنه تقليدا لمن كان بين أيديهم من الأمم المسيحية وغيرها.
وأنشئوا ينسون ماضي الدين ومقالات سلفهم فيه، ويكتفون برأي من يرونه من المتصدرين المتعالين، وتولى شئون المسلمين جهالهم، وقام بإرشادهم في الأغلب ضلالهم، في أثناء ذلك حدث الغلو في الدين، واستعرت نيران العداوات بين النظار فيه، وسهل على كل منهم لجهله بدينه أن يرمي الآخر بالمروق منه لأدنى سبب، وكلما ازدادوا جهلا بدينهم ازدادوا غلوا فيه بالباطل ودخل العلم والفكر والنظر (وهي لوازم الدين الإسلامي) في جملة ما كرهوه، وانقلب عندهم ما كان واجبا من الدين محظورا فيه.
لا أكاد أخطئ القارئ إذا زعم أن المسلم إنما استفاد اسم زندقة وتزندق ومتزندق وزنديق من فضل ما علمه جيرانه إذ كانوا يقولون: هرتقة وتهرتق وهو هرتوقي: أو ما يماثل ذلك — أو زعم أن قد فشت في المسلمين سرعة التكفير بطريق العدوى من أهل الملل المتشددة.
وإن الذي سَهَّلَ سريان العدوى بتلك السرعة الشديدة هو ضعف المزاج الديني عند المسلمين بجهلهم بأصوله ومقوماته، ومتى ضعف المزاج استعد لقبول المرض كما هو معلوم.
إن المسلمين لَمَّا كانوا علماء في دينهم كانوا علماء الكون وأئمَّة العالم، ولَمَّا أصيبوا بمرض الجهل بدينهم انهزموا من الوجود وأصبحوا أكلة الآكل، وطعمة الطاعم، هل وقف الجهل بالمسلمين عند تكفير من يخالفهم في مسائل الدين أو يذهب مذهب الفلاسفة أو ما يقرب من ذلك؟ لا، بل عدا بهم الجهل على أئمَّة الدين، وخَدَمَةِ السُّنَّة والكتاب، فقد حملت كتب الإمام الغزالي إلى غرناطة وبعد ما انتفع بها المسلمون أزماناً هاج الجهل بأهل تلك المدينة وانطلقت ألسنة المتعالمين من البربر بتفسيقه وتضليله، فجمعت تلك الكتب خصوصاً نسخ «إحياء علوم الدين» ووضعت في الشارع العام في المدينة وأحرقت. قال قوم يعدون أنفسهم مسلمين في ابن تيمية — وهو أعلم الناس بالسنة وأشدهم غيرة على الدين: إنه ضال مضل.
وجاء على أثر هؤلاء مقلدون يملئون أفواههم بهذه الشتائم وعليهم إثمها وإثم من يقفوهم بها إلى يوم القيامة.
إهمال آثار السلف: أهمل المسلمون دينهم، والنظر في أقوال سلفهم، حتى أنك لا تجد اليوم في أيديهم كتاباً من كتب أبي الحسن الأشعري ولا أبي منصور الماتريدي، ولا تكاد ترى مؤلفاً من مؤلفات أبي بكر الباقلاني أو أبي إسحاق الإسفراييني، وإذا بحثت عن كتب هؤلاء الأئمَّة في مكتبات المسلمين أعياك البحث، ولا تكاد تجد نسخة صحيحة من كتاب.
كتب على القرآن تفاسير كثيرة في القرن الثالث من الهجرة وما بعده إلى السادس، منها تفسير الطبري وتفسير أبي مسلم الأصفهاني وتفسير القرطبي وتفسير الجصاص وتفسير الغزالي وتفسير أبي بكر بن العربي وكثير غيرها وفيها من آراء أولئك الأئمَّة ووجوه استنباط الحكم والأحكام ما لا غنى لطالب علم الدين عنه، فهل يجد الباحث المجد نسخة من هذه الكتب الجليلة يمكن الوثوق بصحتها إلا بطريق المصادفة وحسن الاتفاق؟
وهل يليق بأمة تدّعي أنها على دين، وأن لها فيه سلفاً، أن تهجر آثار سلفها، وتدع ما كتبوا طُعمة للعث وفراشا للتراب؟ هل وقع مثل ذلك من المشتغلين باللاهوت المسيحي في زمن من الأزمان؟
إن حالة طلبة العلوم الدينية الإسلامية أصبحت مما يرثى له في أكثر بلاد المسلمين، فهم لا يقرءون من كتب الكلام إلا مختصرات مما كتب المتأخرون.
يتعلم أذكاهم منها ما تدل عليه عباراتها، ولا يستطيع أن يتعلم البحث في أدلتها، وتصحيح مقدماتها، وتمييز صحيحها من باطلها، وإنما يتلقاها كأنها كتاب الله أو كلام نبيه صلى الله عليه وآله وسلم يأخذ ما فيها بالتسليم.
فإذا ناظره مناظر في بعض قضاياه وعجز عن تصحيحه قطع الجدال بقوله: هكذا قالوا، وإن لم يكن القول متفقاً عليه، بل قد يكون القول مما لم يقل به سوى صاحب الكتاب الذي اشتغل به، وربما كان صاحب الكتاب ممن لو رآه أحَدٌ من السَّلف لم يرضه تلميذاً يعي عنه ما يقول.
كاد ينقطع طلب العلوم الدينية في سورية والحجاز وتونس والجزائر، وقَلَّ جِدًّا في المغرب الأقصى، ولم يبق الاهتمام به إلا في بعض الصحارى، وذلك إمَّا لصعوبة طرق التعليم، واقتضائها الزمن الطويل —وحاجات الناس مانعة لهم من إفناء أعمارهم في عمل لا يسد من حاجتهم— وإمَّا لتفضيل الآباء تربية أبنائهم على الطرق الحديثة في أوربا أو في المدارس الأخرى وليس فيها من الدين شيء، وإن كان فيها شيء منه فهو مما لا يُعَدُّ تعليماً دينياً ينظر إليه — وإمَّا للفتور والخمود، اللذين نشآ عن التقليد والجمود.
وبذلك تجد المسلمين قد تولَّاهم الجهل بدينهم، وأخذتهم البدع من جميع جوانبهم، وانقطعت الصلة الحقيقية بينهم وبين سلفهم، حتى لو عرض على الجمهور الأعظم منهم ما اتفق عليه السلف من الأحكام لأنكروه واستغربوه وعدوه بدعة في الدين.
وصح فيهم ما قال عمر الخيام في بعض أشعار الفارسية مُخاطباً للنبي عليه الصلاة والسلام: «إن الذين جاءوا بعدك زينوا لك دينك ووضوه وزركشوه حتى لو رأيته أنت لأنكرته».
فهذا الصنف من المسلمين —وهو معظمهم— قد أنكر دينه الحق وعاداه، ونقم على أهله القائمين بخدمته، وإنما اصطفى لاعتقاده بعض أفراد لم يعرف عن السلف اختصاصهم بالثقة، ولم يسمح الدين باختصاصهم بالتقليد، فإذا وقع من هذا الصنف ما فيه أذى للعلم وأهله، فهل يُعَدُّ ذلك واقعاً من دين الإسلام —دين محمد صلى الله عليه وسلم— دين القرآن —دين السُّنَّة الثابتة— دين الخلفاء الراشدين، ومَنْ تبعهم من السَّلف الأولين؟
متابعة العلم للإسلام ومباينته لسواه: الحق أقول — والحس يؤيدني: ما عادوا العلم ولا العلم عاداهم إلا من يوم انحرافهم عن دينهم، وأخذهم في الصَّدِّ عن علمه، فكلما بعد عنهم علم الدين بعد عنهم علم الدنيا وحرموا ثمار العزة، عاداهم العلم وتجهم واكفهر وجهه للقائهم، وكلما بعدوا من الدين سالمهم العلم وبش في وجوههم.
ولذلك يصرحون بأن العلم من ثمار العقل، والعقل لا يصح أن يكون له في الدين عمل، ولا أن يظهر منه فيه أثر، والدين من وجدانات القلب، ولا علاقة بين ما يجد القلب وما يكسب العقل.
فالفصل تام بين العقل والدين، ولا سبيل إلى الجمع بينهما: سامحهم الله فيما يسمونه تسامحاً مع العلم، وهم يصرحون بأنه عدوه الذي يستحيل أن يكون بينه وبينه سِلْمٌ.
هل عرفت السبب في اضطهاد المسلمين للعلم؟ أقول «اضطهاد» ولا أريد به ما كان عند الأمم المسيحية من الاشتداد في إبادة أهله والتنكيل بهم، واختراع ضروب التعذيب، والتفنن في صنع آلات الهلاك، مع الأخذ بالشبهة، والاكتفاء في الإعدام بمجرد التهمة، فإن ذلك لم يقع عند المسلمين لا أيام علمهم، ولا في أزمنة جهلهم، ولكن أريد من الاضطهاد الإعراض عن العلم، ورمي الألفاظ السخيفة في وجوه أهله، وقذفهم بشيء من الشتائم مع الابتعاد عنهم.
لا ريب أنك قد أيقنت بأن السبب في هذا الذي يسميه الأديب اضطهادا — إنما هو جهلهم بدينهم، فالدواء الذي ينجح في شفائهم من هذا الداء لا يكون إلا ردهم إلى العلم بدينهم، والتبصر فيه، للوقوف على أسراره والوصول إلى حقيقة ما يدعو إليه، كان الدين واسطة التعارف بينهم وبين العلم، فلمَّا ذهبت الواسطة تناكرت النفوس وتبدل الأنس وحشة.
الدُّعَاةُ في الإسلام: فهل قام بينهم دُعَاةٌ للعلم حقيقيون، أو دعاة لأصل الدين عارفون، ثم استعصت قلوب المسلمين عليهم، وجمحت نفوسهم عن الانقياد لهم؟ وهل كثر أولئك الدعاة في أطراف بلاد المسلمين كثرتهم في أوربا من أواسط القرن السابع عشر من التاريخ المسيحي إلى أن ظهرت قوة العلم في أوائل القرن السابع عشر وفيما بعد ذلك؟ لا.
إنما رأينا من الصادقين أفراداً يظهرون متفرقين في عصور مختلفة، ربما لا يجتمع أربعة منهم —فما يزيد— في قرن واحد، ويأخذون في العمل لما وجهوا إليه، ثم لا يكادون ينطقون ببعض الكلم، فيحس الناس بهم، فيأخذ المستعد أهبته لمفارقة ما كان عليه واتباعهم حتى تشعر السياسة (نعوذ بالله منها) بما عسى أن يكون من أمرهم فتخمد أنفاسهم، قبل أن يبلغوا من قلب أحد ما أرادوا من غرس أفكارهم، فينطفئ النور، ويدلهم الديجور.
فهل يعد الأديب هذه الضربات من أيدي أرباب السياسة اضطهادا للعلم لأجل حماية الدين؟ أنزه كل أديب عن أن يظن ذلك، وإنما هي صدمات تقع على الدين لا تختلف عن أمثالها مما يصيبه منهم مباشرة، فلا تعد حجة على الدين في نظر المنصف.
المُقَلِّدُ دُونَ المُقَلَّد: ربما يقول القائل: إن كان المسلمون قد أخذوا الجمود في التقليد والنفرة من العلم والاعتقاد بالعداوة بين الدنيا والآخرة وبين العقل والدين وما أشبه ذلك مما هم فيه، وورثوه عن الأمم السابقة عليهم خصوصاً أقرب الملل إليهم.
فما بالهم لم يقلدوا المسيحيين في الحرص على نشر دينهم، والتوسع في علومه مذيلاً بما أخذوه عنهم، ولم يقسموا أنفسهم قسمين كما قسم المسيحيون إخوانهم قسمين: قسماً ينقطع إلى الآخرة في الأديار والصوامع، وقسماً يشتغل بالدنيا ليقيت نفسه ويقيت أهل القسم الأول، ويحمي نفسه ويحميهم من العدوان؟
وما لك ترى المسلمين خملوا وارتخت أعصابهم وسئموا النظر في علوم دينهم كما ذكرت، ثم صاروا أبعد الناس عن معرفة الطرق لتحصيل الغنى والثروة، والقبض على ناصية القوة وصولجان العزة؟ وطرحوا أنفسهم في تيار من القدر كما يقولون، يجري بهم إلى حيث لا يعلمون؟ ثم هم مع ذلك أحرص الناس على حياة، وأشدهم لهفاً على الحطام، فلا ترى الجمهور منهم في شيء للدين ولا للدنيا فما هذا التناقض؟
فأقول له: إنك قد نسيت أن المقلِّد يكون دائماً أحَطُّ حالاً وأخَسُّ منزلة من المُقلَّد، فالمقلد إنما ينظر من عمل المقلد إلى ظاهره ولا يدري سره ولا ما بني عليه، فهو يعمل على غير نظام، ويأخذ الأمر لا على قاعدة، ولذلك سقط المسلمون في شر مما كان عليه مقلدوهم، لا سيما أنهم قد خلطوا في التقليد وأضافوا على دينهم ما لا يمكن أن يتفق معه، فصاروا في مثل حال المتخبط الذي تنازعه عدة قوى يذهب مع كل منها آنا ثم ينتهي أمره بعد الخيبة بالتعب الشديد، فيستلقي إلى أن يستريح، فينهض إلى العمل على هدى أو يموت.
لَمَّا كان المسلمون علماء كانت لهم عينان: عينٌ تنظرُ إلى الدنيا والأخرى تنظرُ إلى الآخرة، فلمَّا طفقوا يقلدون أغمضوا إحدى العينين، وأقذوا الأخرى بما هو أجنبي عنهم، فقدوا المطلبين، ولن يجدوهما إلا بفتح ما أغمضوا، وتطهير ما أقذوا.
الإصلاح والمُصلحون: للقائل أن يقول: كيف تدّعي أن دعاة العلم والدين قليل بين المسلمين مع أننا نسمع أصواتهم تتلاقى في جو مصر وسورية وغيرهما من البلاد في هذه الأيام؟ كل يقول: ديني ملّتي، إسلام مسلمون، قرآن سُنة، مجد الإسلام القديم، سلفه الصالحون، تعلم، تعليم، كتب قديمة كتب جديدة، وما يشاكل ذلك مما يظهر منه أن الداعين إلى العلم أو المنبهين إلى الأخذ بأصول الدين الإسلامي كثيرون، ولا نرى مع ذلك من أغلب المسلمين إلا آذاناً صُمًّا وأعيناً عُمياً، وصَدًّا عَمَّا يدعو إليه هؤلاء؟
ويمكنني أن أقول له: إن الصادق في هؤلاء ليس بكثير عَدُّهُ، والجمهور منهم قلّمَا يخلص قصده، وما تجد أكثرهم إلا متجرين بهذه الكلمات، لكسب بعض دريهمات، ويظهر لك ذلك من أنهم يلفظون هذه الأسماء وقلما يدرسون شيئاً من مدلولاتها ليقفوا على الحقيقة منه، وإنما يلقف بعضهم عن بعض ظواهر كالزبد لا تمكث في الأرض.
وأمَّا الصادقون على قلتهم فقد بدأ بعض الناس يسمعون ما يقولون، ويطلبون الرشاد مما يعلمون، خصوصاً في أمر الدين والجمع بينه وبين مصالح الدنيا، ولا سيما في بلاد الهند وبين مسلمي روسيا، ولكن الإصلاح ليس ريحاً تَهُبُّ فتمسح الأرض من الشرق إلى الغرب في وقت قريب فانتظر.
قد يقول القائل: لِمَ لم يكثر هؤلاء كثرتهم بين الأوربيين فيما مضى، حتى يغلبوا الظالمين من أهل السياسة ويستميلوا العادلين منهم إليهم، وينهضوا بالمسلمين من هذه الرقدة التي طال أمدها عليهم؟ ولم لا يزال أهل البصيرة منهم قليلين متفرقين يهمسون بالقول ولا يجهرون، وليس للعلم فيهم دعاة عمليون؟ أليس ذلك سبيلا لمؤاخذة الإسلام وحجة عليه؟
وأقول له: إن حظ المسلمين لا يصح أن يكون أسعد من حظ مُقلديهم، بل المنتظر أن يكون أتعس، وقد أقامت المسيحية ما يزيد على ألف سنة قبل أن يظهر فيها العلم، أو تنشأ الحرية الشخصية، أو تسري فيها الحركة العلمية، إلى ما فيه صلاح الجمعية الإنسانية، مع توالي المنبهات، وتواصل الصدمات إثر الصدمات، ولم يمض على المسلمين من يوم استحكمت فيهم البدعة، وأطبقت عليهم ظلم المحدثات، ودخلوا جُحر الضَّبِّ الذي دخله مَنْ كان قبلهم إلا أقل من ثمانمائة سنة، فلم يمض عليهم وهم في بدعهم الجديد، ذلك الزمن الذي قد يكون عمراً لمثل هذه الحالة، ثم تقضي نحبها في آخره.
وما أظن أن يمُرَّ على المسلمين مثل تلك المدة قبل أن يبلغوا من صلاح الدين والدنيا ما هم أهل له.
الفرق بين التعصبين: وعلى كل حال لا يجوز في شريعة الإنصاف أن يذكر المسلمون في جانب جمهور المسيحيين إذا ذكر الغلو في التعصب الديني فضلاً عن أن يُقال إن المسلمين أشد إفراطا فيه، والشاهد يدلنا على أنه قد يكون للمسلمين في التعصب ألفاظ وكلمات، ولكن الذي يكون من جمهور المسيحيين إنما هو أعمال وضربات في المعاملات، وما على طالب الحقيقة إلا أن يسيح بفكره في مثل المستعمرات الهولاندية في الشرق ومملكة الترنسفال قبل سقوطها، وبلاد الناتال في الجنوب، ثم يرجع إلى بعض بلاد الروسيا في الشمال من قبل عشرين سنة، ثم يرجع إلى الجزائر وما يليها في جهة الغرب، ليعلم كيف تكون الشدة في المعاملة مع غير أهل المذاهب المسيحية، وكيف يبلغ التعصب من أهله حَدًّا تنظر إليهم فيه الإنسانية شذرًا، ولا تقبل لهم فيه المدنية عُذراً.
ما على الباحث إلا أن ينظر فيما يكتبه الكُتَّابُ الفرنسيون ليعلم أنهم في حيرة من أمرهم مع المسلمين، يريدون أن تكون لحكومتهم طمأنينة فيما ملكت من بلاد المسلمين ولكن حكومتهم لا تجد السبيل إليها مع ما اتخذته قاعدة لعملها وهو الشدة والإفراط في القسوة على المسلمين خاصة وحدهم دون سواهم، وأرباب الأقلام يبحثون عن تلك الطمأنينة مع المحافظة على تلك القسوة، ويأبى اللهُ أن يحصلوا على ما يبحثون عنه، لأنهم يطلبون الجمع بين الضدين في موضوع واحد وهو محال كما يقرره فلاسفتهم.٢ ====================================== ١ كلام الجامعة في نقد الإسلام كان مبنيًا على أربعة أمور، تقدم الرد على ثلاثة منها، وفي هذا المقال الرد على الرابع. ٢ آخر ما استقر عليه رأيهم وشرعت دولتهم في تنفيذه هو إخراج المسلمين من دينهم ولغتهم (العربية) بكل ما يمكن من وسائل العلم والتعليم والإكراه والإجبار وعدم تمكينهم مع ذلك من تعلم العلوم الطبيعية والاجتماعية والقانونية لئلا يطالبوا بالاستقلال الوطني أو المالي، وقد حدث في الماضي أن أكرهوا سلطان المغرب على توقيع مرسوم يخول الحكومة الفرنسية الحامية له تنفيذ ذلك في شعب البربر، فأنشأت لهم قانونا بربريًّا بعيدا عن الشريعة الإسلامية بعد الكفر عن الإيمان في الأحكام الزوجية والإرث وغير ذلك، ومدارس تعلمهم بها دين النصرانية باللغة الفرنسية، واللغة البربرية بالحروف اللاتينية، وتحرم عليهم تعلم اللغة العربية والديانة الإسلامية، حتى إذا ما تم لها إخراج البربر من الإسلام أكرهت العرب على ذلك ومن أبى تطرده من البلاد، وأمَّا إيطالية الكاثوليكية الموالية للبابا فقد حاولت حين احتلالها ليبيا استئصال المسلمين من قطر طرابلس الغرب وبرقة وجعل بقايا أطفالهم إيطاليين كاثوليكيين بالقوة القاهرة تنكيلاً وتقتيلاً!! واللهُ أشَدُّ تنكيلاً وفي الجزائر وتونس فرضت اللغة الفرنسية على الأهالي، وحَرَّمَتْ التعليم باللغة العربية، وحاربت المدارس الأهلية الإسلامية، واضطهدت علماء المسلمين حتى هاجر الكثيرون من بلادهم إلى مصر وسورية. =========================
|
|
| |
| الإسلام بين العلم والمدنية | |
|