مُقَدِّمَةٌ Wghm_h10
مُقَدِّمَةٌ
الحمد لله المُتعَالى عن الأنداد، المقَدَّس عن النَّقائص والأضداد، المُتنزِّهِ عن الصاحِبةِ والأوْلاد، رافع السَّبع الشِّداد، عاليةً بغير عِماد، وواضِع الأرضِ للمهاد، مثَبتةً بالراسياتِ الأطْواد، المطَّلِع على سِرِّ القُلُوب ومكنونِ الفُؤاد، قَدَّرَ ما كان وما يكونُ من الضَّلال والرَشاد، جادَ على السائلين فزادَهُم من الزَّاد، وأعطى الكثير من العاملين المخلصين في المراد، أحمَدُه حمداً يفوقُ على الأعْداد، وأشْكره على نِعَمه وكلَّما شُكِر زَاد، وأشهد أنْ لا إِله إِلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له له الملكُ الرَّحيم بالعباد، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسولهُ المبعوث إلى جميعِ الخلْق في كلِّ البلاد، صلَّى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكرٍ الَّذِي بذَل منْ نفْسِه ومالِهِ وجاد، وعلى عُمَر الَّذِي بالَغَ في نصْرِ الإِسلام وأجاد، وعلى عثمانَ الَّذِي جهَّزَ جيشَ العُسْرةِ فيا فخره يوم يقوم الأشهاد، وعلى علٍّي المعروفِ بالشجاعةِ والجلاد، وعلى جميع الآلِ والأصْحابِ والتابعينَ لهم بإحَسانٍ إلى يوم التَّنَاد، وسلِّم تسليماً.
* * * * *
صَلَاةُ أَهْلِ الأَعْذَارِ وَأَحْكَامهَا(1)
الأعذار: جمْعُ عُذْرٍ، والمراد بها، هنا: المرض، والسَّفَر، والخوف، فهذه هي الأعذار التي تختلف بها الصَّلاةُ عند وجودِها.

واختلافُ الصَّلاةِ هيئةً أو عدداً بهذه الأعذار مأخوذٌ مِن قاعدة عامَّةٍ في الشريعة الإِسلامية، وهي قوله تعالى: {{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}} [البقرة: 185]، وقوله تعالى: {{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}} [الحج: 78]، وقوله: {{لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}} [البقرة: 286].     

فكلَّما وُجِدت المشقَّة وُجِدَ التيسير، ومِن القواعدِ المعروفةِ عند الفقهاءِ: أنَّ المشقَّةَ تجلبُ التيسيرَ.

«تلزم الصَّلاة قائماً»
وهي الصَّلاة المفروضةُ؛ وذلك لأنَّ صلاةَ النافلةِ لا تلزم الإِنسانَ المريضَ ولا غير المريضِ قائماً، إذ إنَّه يجوزُ للإِنسانِ أن يتنفَّلَ وهو جالسٌ.     

لكن؛ إنْ كان لعُذرٍ أخذ الأجرَ كلَّه، وإنْ كان لغير عُذرٍ أخذَ نصفَ الأجرِ.

«قائماً» أي: واقفاً، وظاهره: أنه ولو كان مثل الرَّاكعِ، أو كان معتمداً على عصا أو جدارٍ أو عمودٍ أو إنسانٍ، فمتى أمكنه أن يكون قائماً وَجَبَ عليه على أيِّ صِفةٍ كان.

والذي كالرَّاكعِ مثل: أن يكون في ظهرِه مَرَضٌ لا يستطيعُ أن يَمُدَّ ظهرَه قائماً فهنا يصلِّي ولو كراكعٍ.

والذي يَعتمدُ كالشخصِ الضعيفِ الذي ليس عندَه قوةٌ، فلا يستطيعُ أن يقفَ إلا معتمداً على عصاً أو معتمداً على جدارٍ أو عمودٍ، أو إنسانٍ؛ يصلِّي قائماً ولو معتمداً.

ولكن؛ لا يجزئ القيامُ باعتمادٍ تامٍ مع القدرةِ على عدمِه، والاعتمادُ التامُّ هو الذي لو أُزيل العُمدةُ لسقط المعتمدُ؛ لأنَّ الذي يقومُ معتمداً على شيءٍ اعتماداً كاملاً، كأنه غيرُ قائمٍ لا يجدُ مشقَّةَ القيامِ، لكن لو فُرِضَ أن شخصاً إما أن يقومَ معتمداً، وإما أن يجلسَ فنقول: قُمْ معتمداً على عصاً، أو جدار، أو عمودٍ، أو إنسانٍ.

فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَقَاعِداً
«فإن لم يستطع»، أي: إن لم يكن في طوعِهِ القيامُ، وذلك بأن يعجزَ عنه فإنَّه يصلِّي قاعداً، لقوله تعالى: {{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}} [التغابن: 16] وقوله: {{لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}} [البقرة: 286] وقولُ النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم لعمران بن حصين: «صَلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً»(2)، فالدَّليلان الأولان عامَّان، والثالث خاصٌّ في نفس الصَّلاةِ.

«فإن لم يستطع» ظاهره: أنه لا يُبيحُ القعودَ إلا العجزُ، وأما المشقَّةُ فلا تُبيح القعودَ.

ولكن؛ الصَّحيحُ: أنَّ المشقَّةَ تُبيحُ القعودَ، فإذا شَقَّ عليه القيامُ صلَّى قاعداً؛ لقوله تعالى: {{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}} [البقرة: 185] وكما لو شَقَّ الصَّومُ على المريضِ مع قدرتِه عليه فإنه يُفطِرُ، فكذلك هنا إذا شَقَّ القيامُ فإنه يصلِّي قاعداً، ولكن ما ضابطُ المشقَّة؟؛ لأن بعضَ النَّاسِ أحياناً يكون في تَعَبٍ وسَهَرٍ، فيشقُّ عليه القيامُ.

الجواب: الضَّابطُ للمشقَّةِ: ما زالَ به الخشوع؛ والخشوعُ هو: حضورُ القلبِ والطُّمأنينةُ، فإذا كان إذا قامَ قَلِقَ قلقاً عظيماً ولم يطمئنَّ، وتجده يتمنَّى أن يصلِ إلى آخر الفاتحةِ ليركعَ مِن شدَّةِ تحمُّلهِ، فهذا قد شَقَّ عليه القيامُ فيصلي قاعداً.

ومثل ذلك الخائفُ فإنَّه لا يستطيعُ أن يصلِّي قائماً، كما لو كان يصلِّي خلفَ جدارٍ وحولَه عدوٌّ يرقبه، فإنْ قامَ تبيَّن مِن وراءِ الجدارِ، وإن جلسَ اختفى بالجدارِ عن عدوِّه، فهنا نقول له: صَلِّ جالساً.

ويدلُّ لهذا قوله تعالى: {{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً}} [البقرة: 239] فأسقطَ اللهُ عن الخائفِ الرُّكوعَ والسُّجودَ والقعودَ، فكذلك القيامُ إذا كان خائفاً.

«فقاعداً» أي: جالساً، ولكن؛ كيف يجلسُ؟
يجلس متربِّعاً على أليتيه(3)، يكفُّ ساقيه إلى فخذيه ويُسمَّى هذا الجلوسُ تربُّعاً؛ لأنَّ السَّاقَ والفخذَ في اليمنى، والسَّاقَ والفخذ في اليُسرى كلَّها ظاهرة، لأن الافتراش تختفي فيه الساق في الفخذ، وأما التربُّع فتظهرُ كلُّ الأعضاءِ الأربعةِ.
 
فإن عَجَزَ فَعَلَى جَنْبِهِ
«فعلى جنبه» أي الجنبين؟ قال النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم لعمران بن حصين: «فإن لم تستطع فعلى جنب»(4) ولم يبيّن أيَّ الجنبين يكون عليه، فنقول: هو مخيَّرٌ على الجَنْبِ الأيمن أو على الأيسر.

والأفضلُ أن يفعلَ ما هو أيسرُ له، فإن كان الأيسرُ أن يكون على جَنْبِهِ الأيسر فهو أفضل، وإن كان بالعكس فهو أفضلُ؛ لأن كثيراً من المرضى، ولا سيَّما المرضى بذات الجَنْبِ، يكون اضطجاعُهم على أحدِ الجنبين أخفَّ عليهم مِن الاضطجاعِ على الجَنْبِ الآخر.     

فإذاً؛ يفعل ما هو أيسر وأسهل له، لأن المقامَ مقامُ رُخصةٍ وتسهيل، فإن تساوى الجنبان فالجنب الأيمن أفضل؛ لحديث وَرَدَ في ذلك(5)، وهو ضعيف.     

لكن؛ كان النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم يعجبُه التيامن في تنعُّلِه وترجُّلِهِ وطُهوره وفي شأنِه كله(6)
* * * * *
الهوامش:
1.     مُلَخَّصًا مِنْ الشَّرْحِ المُمْتِعِ لِلعَلَامَةِ اِبْنِ عُثَيْمِين.
2.     رواه البخاري.
3.     وهل التربع واجب؟
لا، التربُّع سُنَّةٌ، فلو صَلَّى مفترشاً، فلا بأسَ، ولو صَلَّى محتبياً فلا بأس؛ لعموم قول النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «فإنْ لم تستطعْ فقاعداً» ولم يبينْ كيفيَّة قعودِه.
فإذا قال إنسانٌ: هل هناك دليلٌ على أنه يصلِّي متربِّعاً؟
فالجواب: نعم؛ قالت عائشة: «رأيت النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم يُصلِّي متربِّعاً»، ولأن التربُّعَ في الغالبِ أكثرُ طمأنينةً وارتياحاً مِن الافتراشِ، ومن المعلومِ أنَّ القيامَ يحتاجُ إلى قِراءةٍ طويلةٍ أطول مِن قول: «ربِّ اغفِرْ لي وارحمني» فلذلك كان التربُّع فيه أَولى؛ ولأجل فائدة أخرى وهي التَّفريقُ بين قعودِ القيامِ والقعودِ الذي في محلِّه، لأننا لو قلنا يفترشُ في حالِ القيام لم يكن هناك فَرْقٌ بين الجلوسِ في محلِّه وبين الجلوسِ البَدَلي الذي يكون بَدَلَ القيامِ.
وإذا كان في حالِ الرُّكوعِ قال بعضُهم: إنه يكون مفترِشاً، والصَّحيح: أنه يكون متربِّعاً؛ لأنَّ الرَّاكعَ قائمٌ قد نَصَبَ ساقيه وفخذيه، وليس فيه إلا انحناء الظَّهر فنقول: هذا المتربِّعُ يبقى متربِّعاً ويركع وهو متربِّعٌ، وهذا هو الصَّحيحُ في هذه المسألةِ.
4.     سبق تخريجه.
5.     أخرجه الدارقطني (2/42)؛ والبيهقي (2/307).
6.     سبق تخريجه.