الوقفة الثانية: الخصوصية الدافعة والخصوصية الحاصرة

الخصوص -كما في القواميس- الانفراد، ويقابله: العُموم.

ومن مفهوماته:
الانحصار، ويقابله: الانطلاق.

والواضح أن المراد بهذه الخصوصيَّة الثقافية الجمعُ بين أحد المعنَيَين في كِلا المفهومين؛ إذ المقصود الانفراد من المفهوم الأول، والانطلاق من المفهوم الثاني.

والمؤكد هو النزع عن مفهوم الانحصار، من حيث كونُه مفهومًا من مفهومات الخصوصية.

ويقال -كما في لسان العرب-: خاصٌّ: بيِّن الخَصوصية؛ بفتح الخاء وضمِّها، والفتحُ أفصح (1).

يتردد كثيرًا الاهتمام والتركيز على الخصوصية الثقافية للمجتمع العربي والإسلامي، وهذا التركيز فرَضَه الانتماء الثقافي للمجتمع، الذي جعَلها تتبنى الإسلام منهجًا للحياة ومنبعًا للثقافة، في وقتٍ تنصرف فيه بعضُ الدول العربية والإسلامية رسميًّا -وليس بالضرورة على المستوى الشعبي- عن هذا التركيز في جانب الخصوصية الثقافية، ومن ثَم تميل بعض الحكومات إلى تبنِّي منهج العلمانية أسلوبًا للحكم فقط فيما يسمَّى بالعلمانية الجزئية، أو الحكم والحياة معًا فيما يسمى بالعلمانية الشاملة (2)، في الوقت الذي كانت فيه هذه الدول ترعى الإسلام، وتمتلك ناصية القيادة فيه، ثم تحولَت إلى التركيز على إضعاف انتمائها ثقافيًّا لهذا الدِّين، وضيَّقَت على بعض الأفراد الذين يرغَبون في هذا الانتماء، ويُصرُّون فيه على الخصوصية الثقافية، ويُعلنون ذلك في كل مناسبة؛ مَحلِّية كانت، أم إقليمية، أم دولية.

ومن باب ردود الأفعال وُلد تبنِّي العلمانية تيارًا متطرفًا، مبالِغًا في المطالبة بالبقاء على منهج الخصوصية، ظهر في صورة تجمُّع فكري أو تجمعات أو أحزاب أو جماعات فكرية، اتخذَت وسيلة المجابهة والمصادمة أسلوبًا في الوصول إلى أهدافها، دون توخِّي الحكمة في تسويق الفكر الذي غالبًا ما بدأ معتدلًا، ثم لم يلبث أن شطح وغلا، وانبثقَت عنه أفكارٌ زادت في الغلوِّ والتطرف، فكانت المواقف من بعض الدول المضيَّ في استعارة المنهج العلماني؛ بحجة أن هذا الفهم للخصوصية لن يُفلح في سعي الدول إلى النهوض، فكان هذا الإصرار الرسميُّ نتيجةً لذلك الغلوِّ في فرض الخصوصية الثقافية الحاصرة، أو هو من نتائجه على وجه الدقة.

وإذ نفخر بهذا التميز والخصوصية ينبغي أن نتوخَّى الحذر من هذا الإطلاق؛ إذ إنَّ هذه الخصوصية الدافعة يلزم أن تكون حافزًا إلى المزيد من التميز الذي لا يعيقنا البتة عن السير في "رَكْب الحضارة"، والإسهام فيها، واستخدام الوسائل المعينة على ذلك. ومن ثم فلا تَعني الخصوصية الحدَّ من إسهامنا في الحياة العامة، والإحجام عنها تحت قيد التميز والخصوصية الحاصرة (3).

إننا لا نريد أن نعيش "شعورًا بالخصوصية المتفوِّقة، ترتَّب على جهلٍ بحقيقة ما يَجري في عالم اليوم، على مستوى الفكر والتخطيط، ونضوج التنمية البشرية" (4).

يقول إبراهيم بدران:
"إن التمسُّك المبالغ فيه بمقولات الخصوصية الثقافية، والتشدد في عدم التعامل مع مفردات العولمة، أو الحضارة المعاصرة عمومًا؛ بحجة الحفاظ على الهوية القومية والخصوصية الثقافية - أمر غير منتج، وفيه الكثير من الأذى والإعاقة لانطلاق الأمة ونهضتها" (5)، ويقتضي هذا قدرًا واضحًا من التوازن بين مفهومَي الخصوصية والكونيَّة.

ولا تَعني الخصوصية الثقافية القطيعةَ الحضارية مع الثقافات الأخرى؛ فهذه خصوصية حاصرة لا دافعة، كما لا يَعني الانفتاحُ المطلوب على الحضارات مجردَ المحاكاة المتطلِّبة لنُكران التراث النافع في مقابل الأخذ بأسباب المعاصرة والحداثة، هذا الموقف يعبِّر عن صراع مصطنَع بين الأصالة والمعاصرة، لا ينبغي الاستسلام له؛ من منطلق تناقض المفهومَين، وادعاء تعذُّر اجتماعهما في مسيرة حضارية واحدة، في ضوء الخصوصية الدافعة وليست الحاصرة (6).

فلا انغلاق على التراث لمجرَّد أنه تراث، ولا انفتاح على الحداثة يُفضي إلى الانسلاخ من الأصالة؛ إنها نظرة تَوازنية، فيها قوة في عامل الثقة، وفيها اعتراف بالحاجة إلى الإقلاع (7)، دون إغفالِ المعطَيات الثقافية التي جعلَت من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة منطلقًا لها.

في تحرير هذه الثنائية المصطنَعة والتضادِّ المفترض؛ يَنقل عبدالله السيد ولد أباه عن طه عبدالرحمن أن واقع التدخل بين الخصوصية والكونية يأتي من وجهين؛ هما كون "الخصوصية عنصرًا في الكونية"؛ باعتبار أن الكونية "تأليف صريح بين خصوصيات مختلفة"، كما أن "الخصوصية جسد للكونية؛ فالكوني لا يتجرد من الخصوصية بأي حال"، وإذا بطل القول بالتضاد بين الخصوصية والكونية جاز أن تُقبل الخصوصية الإسلامية الاجتماعية إلى الكونية؛ أي: تكون باصطلاحنا خصوصية جامعة (8)، كما جاز أن تقبل الكونية الاجتماع بالخصوصية الإسلامية، وأن تَأخذ منها وعنها.

إنَّ مِن حق المجتمع العربي والإسلامي "أن يدافع عن هويته الثقافيَّة، وأن يتمسك بمقومات ثقافته الأصلية، وعناصرها ومكوناتها، ولكن من الخطأ أن يكون السبيل إلى ذلك هو الانطواء الثقافي على الذات، والانغلاق عن التأثيرات الثقافية الأجنبية؛ لأن ذلك الانغلاق سوف يؤدي إلى جمود الثقافة العربية ذاتها، وإضعافها، وعدم تجديد حيويتها، وحرمانها من فرص التطور والتقدم والانطلاقِ إلى آفاق واسعة جديدة (9)، ويتنافى -كذلك- مع القول بأن الحكمة ضالة المؤمن، أنَّى وجدها فهو أحقُّ بها.

من منطلق أن الأصل في الأشياء -لا سيما المعاملات- الإباحة؛ فإن هذا الأصل يجب أن يكون هو منطلقَنا في النظر إلى التطورات التي نشهدها اليوم في مجالات العلاقات الدولية والثقافية، مما يدخل في نطاق الوسائل التي هي في أغلب الاحيان أوعيةٌ لما يوضع فيها، وسبلٌ لتحقيق الأهداف.

أقول هذا وأنا ألحَظ منطلق بعضنا المعاكِسَ لهذه القاعدة الأصولية؛ إذ ربما يَذهب الذهن عند بعض هؤلاء إلى أن الأصل في الأشياء المنع، أو حتى التحريم عند البعض، لا سيما إذا ورَدَتنا من طرق خارجية؛ كالمتغيرات التي لا تؤثر في الثوابت؛ من الاختراعات، والتطورات العلمية والتقنية، والسلوكية الاجتماعية، والاتصالات الدولية، والأطروحات الثقافية، التي يَلزم الإسهام بها وتصديرها، لا التوقف عند ورودها، ثم استهلاكها.

وقد حدث في السابق القريب رفضٌ من بعض الناس لهذه الإنجازات الداخلية في مفهوم المتغير، ليس من منطلق اجتماعي ضيق، ولكن من نظرة تُعْزى إلى الدين؛ بحجة أنها تؤثر سلبيًّا على الثوابت (10)، دون إغفال أن هذا الموقف ناتجٌ في منطلقه عن هاجس حماية الدين من أي دخيل، فمنبعُه الإخلاص، لكنه قد يكون جانَبه الصواب، وقد قيل: إن الإنسان عدوُّ ما جهل.

وقد عولجت هذه المواقفُ في حينها من قِبَل بعض القيادات السياسية والعلمية بحكمةٍ ورَويَّة، وسرَت هذه التغييرات بهدوء، وأفاد منها الكثيرون.

يقول حسن حنفي: "جدل الثوابت والمتغيرات موجودٌ في كل فكر وثقافةٍ وحضارة ودين، وليس في الفكر الإسلامي وحده؛ لأنه يعبر عن العلاقة بين القديم والجديد، بين الماضي والحاضر، بين الأصالة والمعاصَرة، بين النقل والإبداع، بين التأخير والتقديم، بين الثَّبات والحركة في تاريخ الأمم والشعوب.

لا غِنى لأحدهم عن الآخر.

ويقوم الجدل على التكاملِ وليس على الإقصاء، وعلى التبادلِ وليس على الاستبعاد؛ هُما لفظان متضايفان لُغويًّا، لا يُفهم أحدهما إلا بالآخر... وكلاهما صحيح. ليس أحدُهما صوابًا والثاني خطأً.

الثابت ضروريٌّ للمتغير، والمتغير ضروري للثابت؛ كل منهما يتضمَّن الآخرَ فيه (11).
---------------------------------------------
الهوامش
الوقفة الثانية: الخصوصية الدافعة والخصوصية الحاصرة Aaa18
1.    انظر: ابن منظور. لسان العرب/ حققه عبدالله علي الكبير ومحمد أحمد حسب الله وهاشم محمد الشاذلي - 5 مج. القاهرة: دار المعارف 1173: 2 - 1174.
2.    انظر: عبدالوهاب المسيري. العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة - 2 مج، القاهرة: دار الشروق. 1423 هـ/ 2002م، 1: 15.
3.    انظر: فقرة: وثنية الخصوصية، ص13 - 18، في: عبدالرزاق عيد ومحمد عبدالجبار. الديمقراطية بين العلمانية والإسلام - دمشق: دار الفكر 1421هـ/ 2000 م - 264 ص - (سلسلة حوارات لقرن جديد).
4.    انظر: صلاح الدين أرقه دان. التخلف السياسي في الفكر الإسلامي المعاصر - بيروت: دار النفائس 1423هـ/ 2003 م، ص 214.
5.    انظر: فقرة: أين تذهب الخصوصية؟ ص 189 - 191 في: إبراهيم بدران. أفول الثقافة - بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2002م، ص 294.
6.    انظر: علي بن إبراهيم النملة، السعوديون والخصوصية الدافعة: مرجع سابق، ص 312.
7.    انظر: من النهضة إلى الردة، ص 111 - 153، في: جورج طرابيشي. المرض بالغرب: التحليل النفسي لعصاب جماعي عربي - مرجع سابق، ص 184.
8.    انظر: عبدالله السيد ولد أباه. الحداثة والكونية: جدل الخصوصية والعالمية في المقاربة التحديثية - التسامح - ع 13 (شتاء 1427هـ/ 2006م)، ص 54 - 74.
9.    انظر: سماح أحمد فريد. الحداثة والتقاليد المبتدعة: رؤية لقضايا الثبات والتغير وإعادة التشكل - التسامح - ع 13 (شتاء 1427 هـ/ 2006م)، ص 33 - 53.
10.    انظر: بشير عبدالفتاح. الخصوصية الثقافية - القاهرة - نهضة مصر 2007م، ص 37. (سلسلة الموسوعة السياسية للشباب 20).
11.    انظر: حسن حنفي. جدل الثوابت والمتغيرات في الفكر الإسلامي - التسامح - ع 13 (شتاء 1427هـ/ 2006 م)، ص 10 - 22.