الزحافات
(١) الزحافات البائدة
الحيوانات البائدة كثيرة لا يدركها عد ولم نعرف منها إلا ما وقف الناقبون على أحافيره المحجرة، وقد رتبوها في رتب وأنواع، ولهم في وصف أشكالها وطبائعها كتب، ويزداد هذا العلم سعة باتساع وسائل الحفر للكشف عن الأحافير والمحجرات، وهم يأتوننا كل يوم بشيء جديد.

ومن أهم الحيوانات البائدة طائفة من الزحافات هائلة الحجم بادت قبل زمن التاريخ.

والزحافات على الإجمال عشرة أنواع باد منها أربعة، وهي أعظم هامة وأغرب شكلًا من الباقية اتصلوا إلى معرفة أشكالها ودرس طبائعها مما عثروا عليه من بقاياها في الكهوف والمدافن، وأكثر ذلك مجموع في مسارح الحيوانات ومتاحف التاريخ الطبيعي بأوروبا وأميركا، وأغناها في هذا القسم من التاريخ الطبيعي متاحف جامعات برنستون وكليفورنيا، ومتحف كارنجي في بتسبورج، وغيرها من متاحف أميركا الشمالية، ولا سيما القسم البالنتولوجي من متحف التاريخ الطبيعي الأميركاني في نيويورك، فقد تأسس هذا المتحف سنة ١٨٩١م، لجمع أحافير ذوات الثدي، واتسعت إدارته حتى حوى ٩٨٧٣ قطعة منها، فضلًا عن الزحافات، وأكثرها من أميركا الشمالية، ويدخل في ذلك أصناف كثيرة من الزحافات البائدة التي لا وجود لها في متاحف أوروبا، فاصطنعوا أمثلة منها بالجص وحده أو ممزوجًا بالصمغ العربي بغاية الإتقان والضبط، ولونوها بالألوان الطبيعية التي يظنون تلك الحيوانات كانت ملونة بها، وبادلوا متاحف أوروبا بأمثلة من حيوانات لا توجد في ذلك المتحف.

واصطناع هذه التماثيل هين، ولكن تركيب الهياكل على الوضع الأصلي يقتضي علمًا واسعًا وتعمقًا في التاريخ الطبيعي؛ لأنهم يعثرون في الكهوف على قطع مبعثرة بعضها من الرأس، وبعضها من الذنب أو الفقرات الظهرية أو الأضلاع أو غيرها، فيعلمون من أشكالها وأحجامها شكل الحيوان الأصلي وطبائعه، فيركبونها ويملأون ما يبقى من الفراغ بين أجزائها مما لم يوفقوا إلى العثور عليه حتى يأتي الهيكل كاملًا.

وأشهر الزحافات البائدة من نوع يعرف في الاصطلاح العلمي باسم «دينوسوريا» Dinosario، وتحت هذا النوع فصائل أو تباينات من جملتها حيوان يسمى في اصطلاحهم ديبلودكوس، يمتاز بصغر رأسه وضعف أسنانه، وفي متحف باريس مثال من هيكله، وبمجرد النظر إليه يتبين لك عظم هامته، ربما بلغ طوله بضعة عشر مترًا وعلوه نحو خمسة أمتار، فلو قرأنا خبره في بعض الكتب ولم نقف على أحافيره؛ لاتهمنا الكاتب بالمبالغة أو عددنا قوله من قبيل الخرافات، كما نتهم رواة العرب الذين يروون لنا أخبار العنقاء وعددنا قولهم من المستحيلات.

(٢) الدبابات المجنحة
نريد بالدبابات ذوات الأربع التي تدب على الأرض، تمييزًا لها عن الطيور التي تطير في الهواء والأسماك التي تسبح في الماء، على أن الطيران في الهواء ليس خاصًّا بالطيور ولا السباحة في الماء خاصة بالأسماك؛ لأن بعض الطيور تسبح في الماء كالبط وغيره من الطيور المائية، وبعض الأسماك تطير في الهواء كالأسماك الطيارة، وقد عرف العرب منها الخطاف، قال الدميري: «الخطاف سمكة ببحر سبتة لها جناحان على ظهرها أسودان، تخرج من الماء وتطير في الهواء ثم تعود إلى الماء.» وبين الدبابات ما يسبح في الماء وما يطير في الهواء، وذلك يؤيد ما قرره داروين بعد درسه طبائع الحيوان؛ إذ لم يجد حدودًا فاصلة بين أنواعه، والغالب أن تختلط حدود النوع الواحد بحدود النوع الآخر، فحمله ذلك على مذهبه أن لأنواع الحيوان المعروفة أصلًا واحدًا أو بضعة أصول، وليس هنا محل الإفاضة بذلك، لكننا أحببنا ذكر أمثلة من الدبابات الطيارة أو المجنحة.

أشهرها الخفاش وهو في كل طبائعه من الدبابات لكنه يطير بصفاق رقيق بين أصابعه وقوائمه لا بالريش مثل الطيور، وهناك أنواع من أمثاله وإن كانت لا تحلق في الجو مثله، لكن لها شبه القلوع بين قوائمها وأذنابها تتساعد بها على الطيران من غصن إلى غصن أو من شجرة إلى الأرض، وفيها أشباه الهررة والنسانيس والثعالب والجرذ ونحوها.

وأغرب الدبابات الطيارة «الزحافات المجنحة» كالجراذين والضفادع ونحوها، ونوع من الجراذين يزحف على الأرض كالضب، وله حول عنقه صفاق ينطوي كما ينطوي هداب الثوب، ومتى فتح فاه انبسط ذلك الصفاق كالطنف حول عنقه، وهناك ضرب من الضفادع يطير بنسيج صفاقي بين أصابعه.

(٣) أسماك جديدة
مَرَّ على الإنسان ألوف من السنين وهو يبحث في الطبيعة ويتكشف أسرارها، وفي كل يوم يكتشف شيئًا جديدًا، وأكثر القرون الماضية حظًّا من الاكتشافات القرن التاسع عشر، وفيه اكتشفت أكثر النواميس الطبيعية، وساعدهم المكروسكوب على معرفة عوالم من الميكروبات والأحياء الدنيا لم يكونوا يعرفون وجودها، ولا شك أن هذا القرن سيكون أكثر حظًّا من هذا القبيل، ويكفي من اختراعاته التلغراف اللاسلكي العجيب، وأمَّا الاكتشافات فإنهم يقطعون في سبيلها الأصقاع البعيدة؛ حتى بلغوا إلى القطبين وغاصوا من أجلها أعماق البحور، وآخر ما اكتشفوه ولم يكن معروفًا من قبل ضروب من الأسماك لا يعرفها علماء الحيوان، وقد وضع لها العلماء أسماء علمية لا فائدة من ذكرها.

(٤) التنين أو الزحافات المجنحة
التنين حيوان خرافي لا تخلو أمة من التحدث بفظاعته وعظم هامته وشدة بطشه، وأشهر أخباره بيننا ما ينسبونه من قتله إلى القديس جاورجيوس لابس الظفر في حديث يطول شرحه، وفي التاريخ القديم كثير من أشباه هذه القصة، كأن قتل التنين عندهم من أدلة الألوهية أو من أعمال الأبطال؛ ولذلك صوروا كثيرين من أبطالهم وهم يقتلون التنين مثل افولون وبرسيوس وهرقل عند اليونان، وتور عند السكندينافيين، وقس عليه معظم الأمم القديمة حتى في الصين وأصبح التنين عندهم رمزًا عن قوة الشر التي تلتهم البشر وتسوقهم إلى الهلاك.

وقد اتفقت الروايات في وصفه أنه ثعبان مجنح كبير الهامة عظيم الجثة.

أمَّا العرب فقد وصفوه على نحو ذلك الوصف، قال الدميري: «التنين ضرب من الحيات كأكبر ما يكون منها وكنيته أبو مرداس … لونه مثل لون النمر، مفلسًا مثل فلوس السمك، بجناحين عظيمين على هيئة جناحي السمك، ورأسه كرأس الإنسان.» ووصفه غيره وصفًا آخر، ومرجع ذلك كله إلى أنه حية مجنحة كبيرة الجثة تمشي على أرجل.

ومن الحِكم المأثورة «الخرافة لا تخلو من الحقيقة» فلا بد من أن يكون لخرافة التنين أصل حقيقي، وقد عني علماء الحيوان في البحث عن ذلك الأصل في طوائف الحيوان الباقية إلى اليوم فلم يعثروا على ما يفسر تلك الخرافة، فعمدوا إلى الطوائف البائدة فكان في جملة ما عثروا عليه من بقاياها في بعض الكهوف عظام غريبة، ركبوها بعضها بإزاء بعض فتألف منها هيكل حيوان غريب الخلقة، لا يعرفون مثله في الحيوانات الحية، وأغرب ما فيه فضلًا عن عظم هامته أنه زحاف ذو أربع أرجل وأربعة أجنحة هائلة كأجنحة الخفاش الكبير، وعنق دقيق ورأس مستطيل، فتبادر إلى أذهانهم لأول وهلة أنهم أخطأوا ترتيب تلك العظام وتنسيقها على أصلها، ثم ما لبثوا أن عثروا على بقايا أخرى تحققوا من مقابلتها بتلك، ومن أحوال أخرى أنهم لم يخطئوا التنسيق، ولكن الحيوان الذي اكتشفوا عظامه غريب، وعثروا بعد ذلك على كثير من أمثاله، ورتبوا ذلك كله، وجعلوا له مرتبة في أصناف الحيوان خاصة به في طائفة الزحافات؛ لأنه أقرب إليها من سائر طوائف الحيوانات الفقرية، على أنه يشارك طائفة الطيور بالأجنحة وغيرها مما لا محل لتفصيله؛ ولذلك ترجح عند علماء الطبيعة وحدة أصل هاتين الطائفتين؛ لأنهم كانوا قبل هذا الاكتشاف يرون مشابهة بين الطيور والزحافات، وكانوا يتوهمون علاقة بينهما، فلما اكتشفوا بقايا تلك الزحافات المجنحة ترجح لديهم أن طائفة الطيور فرع من طائفة الزحافات، تفرعت عنها في عصر من العصور القديمة على مبدأ الارتقاء الطبيعي.

وفي متحف بييدي في يال، هيكل من هذه الزحافات المجنحة من نوع يسمى في اللسان العلمي دينوسور Dinosaur عثر عليه في ديومين في الولايات المتحدة الأميركية المستر هتشر من متحف بتسبورج، وهو يبحث عن أمثال هذه الرفات بالنيابة عن الأستاذ مارش، فوجد عظام الهيكل المذكور مبعثرة وقد قضوا عامًا كاملًا في تركيبها وتأليفها حتى أتت على الكيفية المطلوبة، طول هذا الحيوان ٢٩ قدمًا؛ أي نحو عشرة أمتار وارتفاعه من قمة الرأس إلى إبهام الرجل ١٣ قدمًا.

وخلاصة ما تقدم لا يبعد أن يكون ما نعده خرافة من أحاديث التنين حقيقة طبيعية تنوعت بتناقلها على ألسنة البشر، وتعاظمت كما يتعاظم كل خبر غريب إذا تنوقل على ألسنة الناس، والظاهر أن فردًا أو بضعة أفراد من هذا الحيوان ظلوا أحياء بعد انقراض معظم النوع فأدركها الإنسان في أول أدواره وتناقل أخبارها في أعقابه بالتلقين؛ حتى وصلت إلينا على هذه الصورة.
=================================