من ذكريات شهر ذي القعدة
من ذكريات شهر ذي القعدة Ocia1897
الحمدُ لله الذي أعَزَّنا بالإسلام، وأَكْرَمَنا بالإيمان، ومنَّ علينا بأن جعلنا من أمة خير الأنام، سيدنا محمد -عليه أفضل الصلاة والسلام.

أما بعدُ:
{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111]، إن التاريخ الإسلامي لِيَتِيهَ دلالاً وفخرًا على تواريخ العالم، يتيه دلالاً برجال هم بحق رجالٌ، برجال مضوا ولكن سيرتهم لم تمضِ، مضوا لكن أخبار شجاعتهم وإقدامهم ورجولتهم لم تُنْسَ، كيف تُنْسَى والتاريخُ قد سجلها في سجل محفوظ؟! وضعه في قلبِه خوفًا على أولئك الأبْطال.

والتاريخُ الإسلامي حافلٌ بكثير من أولئك الأبطال، الذين رضعوا وتربَّوا في مدرسة سيد الأبطال، رضعوا منها الشجاعة، وأخذوا عنها الإقدام، فكانوا مثالاً يُحْتَذى، ووجب على مَن جاء بعدهم أن يصنفهم كرجال غَيَّرُوا وجه الزمان، وأضاؤوا صفحات التاريخ.

وما أحلى الحديثَ عنِ الرجال في زمان عزَّ فيه الرِّجال! في زمانٍ لم يبقَ إلا أنصافٌ وأرباع، أو قُل: أشباه الرجال، ولقد ذَكَّرَني شهر ذي القعدة ببطلٍ من أولئك الأبطال، الذين أرجو أن تغير سيرتهم فينا للأفضل، وأن تستنهض هممنا؛ فهم نِبْراسٌ لمن أراد الضياء، وقدوة لمن أراد الاقتداء، فهم خريجو جامعة مَن قَلَّتْ رُوحي أن تكونَ له فداء، سيد المرسلين وإمام الأنبياء، عليه أفضل التحية وأزكى الثناء.

حديثُنا اليوم عن بَطَلٍ من أولئك العِظام، عن بطل قال: لا، في زمن الصمت المخيف، قال: لا، في زمن الخوف الشديد، ولو أنه قال: نعم، لَمَا لامه أحد؛ لكن شجاعته تأبَى ذلك، ودينه يرفض الذُّل والخُنُوع.

إنه المسلم قطز:
ولعل الكثيرَ منكم سمع باسمِه؛ لكنه لا يعرف تفاصيل خبره؛ لأن -وبكل أسف- أخبارَ أولئك الأَفْذاذ تهمَّش، ويُسْتعاض عنها بأخبار تافهين وتافهات؛ لكي يُصبح المجتمع برمَّتِه تافهًا.

الأمير قطز:
اسمه الحقيقي محمود بن ممدود، كان أبوه أحد أُمَراء الدَّولة الخوارزميَّة الإسلاميَّة التي عانتْ كثيرًا منَ التتار، وتصَدَّتْ له في مواقع عدة، وتغلَّبَتْ عليه؛ ولكنها كُسِرَتْ في نهاية الأمر، وكان أمير تلك البلاد (جلال الدين بن خوارزم) قد أَمَرَ بتسيير النِّساء والذرية إلى الهند؛ خوفًا من وقوعهم في الأسْر، وفي الطريق عدا عليهم قطاع طرق من المغول، فقتلوا الرِّجال والنساء والأطفال، وسرقوا الأموال، ولم ينجُ منهم إلا القليل.

وكان فيمَن نجا الطفلُ محمود، نجا منَ القتل ولكنه لم ينجُ منَ الأسْر، فقد ساقوه إلى حلب ليبيعوه في سوق النخاسة على أنه عبد اسمه قطز، وهو الكلب الشرس في اللغة المغولية، وإنما أطلق عليه هذا الاسم لما كان يُرى عليه مِن آثار الشِّدَّة والبأْس، واستقَرَّ به المقام في حلب، ثم بيع إلى دمشق، ثم ذهب إلى مصر، والتقى بعزِّ الدين أيبك، وترقى في المناصب حتى أصبح أكبر قوادِه.

ولَمَّا قُتل الأمير (عز الدِّين أيبك)، جلسَتْ بعده زوجته شجرة الدر على عرْش مصر، ولكنها لم تلبث إلا يسيرًا، حتى لحقتْ بزوجِها مقتولة أيضًا، وعندها جلس على كرسي الملك الطفلُ (المنصور نور الدين)، وكان له منَ العمر خمس عشرة سنة، وكان الوصي عليه هو قطز، وكان هو المتصرِّف الحقيقي في أُمُور الدولة، وكانتِ الدولة الإسلامية تَمُرُّ بظروف صعبة.

ورأى قطز أن وجود طفل على كرسي الملك يضعف من هيبة الدولة، ويجعل الجميع يطمع بها، فقرر عزل الطفل والجلوس مكانه، وفعلاً عَزَلَهُ، وجلس على الكرسي، وكان ذلك في الرابع والعشرين من شهر ذي القعدة من عام سبعة وخمسين وستمائة للهجرة؛ أي: قبل وصول هولاكو إلى حلب بأيام.

ومنذ أنْ صعد قطز إلى كرسي الحكم، وهو يُعِدُّ نفسه للقاء التتار الذين يعيثُون في الأرض فسادًا، واستطاع بهذا الهَدَف النبيل أن يقطعَ أطماع المماليك في الوُصُول إلى الحكم، بجمْعهم خلْف هدف واحد، هو وقف زحف التتار ومواجهتهم، فقام بجمْع الأمراء وكبار القادة وكبار العلماء وأصحاب الرأي في مصر، وقال لهم في وضوح: "إني ما قصدت (أي ما قصدت من السيطرة على الحكم) إلا أن نجتمعَ على قِتال التتار، ولا يتأتَّى ذلك بغير ملك، فإذا خرجنا وكسرنا هذا العدو، فالأمرُ لكم، أقيموا في السلطة مَن شِئتم"، ورضي القومُ وهدؤوا، وبدأت الاستعدادات للقاء ذلك الجيش.

سعى قطز إلى الوَحْدة مع الشام، أو على الأقل تحييد أمراء الشام، حتى يخلُّوا بينه وبين التتار دون أن يتعاونوا مع التتار ضده؛ ولكن النتائج كانتْ مخزية، فلمْ يُوافِقوا، حتى ولو جعلهم أمراء على الجيش؛ بل إنك لتعجب عندما تعلم أن بعض الأمراء فضَّل أن يكون في صفِّ التتار ضد قطز.

وكانت الدولةُ تعاني من أزمةٍ مالية حادَّة، والخزينةُ خاوية على عروشها، فقد اعتلا عرش مصر ستة ملوك في عشر سنوات، فارتأى القائدُ الحكيم أن يفرضَ ضرائب على الناس؛ لكي يمول بها الحرب، ولكنه لم يكن ليستطيع ذلك إلا إذا حصل على غطاء شرعي، وفعلاً عرض الأمر على الشيخ العز بن عبدالسلام، وطَلَبَ منه فتوى بهذا الخصوص.

فكانتْ فتوى الشيخ تقول:
"إذا طرق العدوُّ البلاد وجب على العالَم كلهم قتالهم، وجاز أن يؤخذ من الرعية ما يستعان به على جهازهم؛ بشرط ألاَّ يبقى في بيت المال شيء، وأن تبيعوا ما لكم من الممتلكات والآلات، ويقتصر كل منكم على فرسه وسلاحه، وتتساووا في ذلك أنتم والعامة، وأما أخذ أموال العامة مع بقاء ما في أيدي قادة الجند من الأموال والآلات الفاخرة، فلا".

إِنَّ المُلُوكَ لَيَحْكُمُونَ عَلَى الوَرَى *** وَعَلَى  المُلُوكِ   لَتَحْكُمُ   العُلَمَاءُ

وفعلاً امْتَثَلَ قطز الأمر، وَبَدَأَ يبيع ما عنده، وتبعه الأمراءُ والوزراءُ والقوَّاد، وفي هذه الأثناء قدم رسل هولاكو برسالة تهديد ووعيد، يأمره فيها بتسليم البلاد، وجمع القواد ليستشيرهم في الأمْر، فكان مما أشير عليه: أن سلِّم البلاد لتقي العباد والبلاد شرًّا محققًّا، وهوَّنوا عليه الأمر، فقالوا: إن تسليم البلاد في مثل هذه الظروف لا يُعَدُّ عيبًا ولا عارًا، فمن يجرؤ على لقاء ذلك الجيش الغاشم؟!

لكنه قال:
لا، -أَلَمْ أقل لكم: إنه رجل قال: لا، في زمنٍ لو قال فيه: نعم، لما لامه أحد؟!- قال: لا، أنا ألقى التتار بنفسي.

ثم راح يخاطبهم، ويقول:
لكم زمان تأكلون من بيت مال المسلمين، وأنتم للغزو كارهون! مَن أراد أن يصحبني فليصحبني، ومَن أراد الجلوس فليجلس، وليعلم أنَّ الله مُطّلع على سريرته، وأنَّ خطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين عن القتال.

وكأنه بهذا الكلام الحماسي الصادق أثار حميتهم وغيرتهم، فقالوا: نحن معك -وكيف لا يكونون معه، وهم يرون أنه سيكون في مُقدمتهم، ولا أصدق من أن يجود الإنسان بنفسه؟!- ثم قال لهم وهو يبكي: يا أمراء المسلمين، إذا لم نكن نحن للإسلام، فمَن يكون؟!

وأمر بقطع رؤوس الرسل الأربعة، وتعليقها على أبواب القاهرة - وإيذاء الرُّسل في العلاقات الدولية أمر خطير - وكان ذلك بمثابة صافرة البداية.

وفعلاً أعدَّ نفسه، وهَيَّأَ جُنده للخروج للقاء أعظم جيشٍ على وجه الأرض في ذلك الزمان، لَمْ ينتظرْ دخولهم بل خرج إليهم؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123]، وبلاد الإسلام جميعها هي مما يلي هذا البطل، فهبَّ لنجدتها ملبِّيًا نداء الله.

أتَدْرُون إلى أين خرج؟ ولملاقاة مَن قد بَرَز؟
إنه قد خرج للقاء التتار، ذلك الجيش الذي كان يعيث في الأرض فسادًا، للقاء جيش كان إذا دَخَل مدينةً فإنه لا يُبْقِي ولا يذر، ذَهَبَ لِمُلاقاة جيش كان اسمه كافيًا لإدخال الرُّعب في قُلُوب الناس، فيسلِّمون البلاد بِغَيْر حرب، فيُذبحون ذبح النعاج، وكان جيش التَّتار في قمَّة انتصاراته، وفي أحسن حالاتِه النفسيَّة.

وقبل أن نتابعَ الحديث، ربما تجدر الإشارة للحديث عن التتار؛ لكي نكونَ على تصوُّر واضحٍ، ومعرفة صحيحة بقوة هذا الجيش: كان المغولُ قدِ اكْتسحوا البلاد الإسلامية واحدة بعد الأخرى، وهدموا متاريسها وجدرانها، وسووا الطريق أمام جحافلهم المتقدمة غربًا، ما مِن قيادةٍ إسلاميَّةٍ من أواسط آسيا، وحتى أطراف سيناء، إلاَّ وأذعنتْ لهم طوعًا أو كرهًا.

والذي حَدَثَ في بغداد معروف للجميع، ومعروف أيضًا المصير المفجع الذي آلتْ إليه أكبر قُوَّتينِ إسلاميتين في المشرق؛ الخوارزميون في بلاد فارس وما وراء النهر، والعباسيون في العراق، سنوات عديدة والمطاردات الرهيبة لا تفتر بين المغول وبين السلطان الخوارزمي الأخير جلال الدين، حتى كُسِر في آخرها.

أمَّا الإمارات المحلية، فلم يكن مصيرها بأحسن من مصير دول الإسلام الكبرى، بعضها هادَنَ ونافَقَ ودعا إلى السلم، وهو في موقع الضَّعْف والهوان، فلم ينجه ذلك من سيوف المغول، وبعضها الآخر وَقَفَ الوقفة التي تَقْتَضِيها كرامة المسلم، فلقي من صُنُوف الأذى ما يشير إلى بشاعَة الطرائق التي اعتمدها المغول لإلقاء الرُّعْب في قُلُوب الخصوم.

قُتِلَ الكاملُ الأيوبي أميرُ ميافارقين في ديار بكر شرَّ قِتْلة؛ إذ كان المغول يقطعون لحمه قطعًا، ويدفعون بها إلى فمه حتى مات، ثم قطعوا رأسه، وحملوه على رمح، وطافوا به في بلاد الشام.

ووضع الملك الصالح أمير الموصل في دهن ولباد، وأُلْقِي في الشمس حتى تحوَّلَ الدهن إلى ديدان، فشرعتِ الديدان تأكُل جسده، حتى مات على تلك الصورة البشعة.

أمَّا ابنه الذي كان طِفْلاً في الثالثة من عمره، فلمْ يسْلم من أذاهم؛ بل أُخِذَ إلى شاطئ دجلة وعلى مرأى الناس جميعاً شقوه إلى نصفين.

ابن الأثير المتوفَّى عام 630 هـ، وهو يستعرض وقائع عام 617 هـ، ويسطر بدايات خُرُوج المغول على بلاد الإسلام، يتحَدَّث عن الهَوْل الذي أَلَمَّ بمعالِم الإسلام، وقد كان في مطالعه.

يقول ابن الأثير:
لقد بقيت عدة سنين مُعْرِضًا عن ذِكْر هذه الحادثة؛ استعظامًا لها، كارهًا لِذِكْرِها، فأنا أقدِّم إليه رِجْلاً وأؤخر أخرى، فمَنِ الذي يسهل عليه أن يكتبَ نعي الإسلام والمسلمين؟! ومَن الذي يهون عليه ذِكْر ذلك؟! فيا ليتَ أمي لم تلدني، ويا ليتني متُّ قبل حدوثها، وكنتُ نسيًا منسيًّا.

ثم يقول:

إنهم لم يبقوا على أحد، بل قتلوا الرجال والنساء والأطفال، وشقوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

كان الهجوم المغولي السريع الكاسح قد منح هؤلاء المُغيرين سلاحًا نفسيًّا خطيرًا، هو الرُّعْب الذي كان ينقضُّ على خُصُومهم منَ الداخل، فيهزمهم قبل أن تلمعَ السيوف أمام عيونهم.

يقول ابن الأثير:

لقد حكي لي حكايات يكاد سامعها يكذب بها من الخوف الذي ألقى الله -سبحانه وتعالى- في قلوب الناس منهم، حتى قيل: إن الرجل الواحد منهم كان يدخل القرية أو الدرب، وبه جمع كثير من الناس، فلا يزال يقتلهم واحدًا بعد واحدٍ، لا يتجاسر أحد أن يمد يده إلى ذلك الفارس، ولقد بلغني أن إنسانًا منهم أخذ رجلاً، ولم يكن مع التتري ما يقتله به، فقال له: ضع رأسك على الأرض ولا تبرح، فوضع رأسه على الأرض، ومضى التتري فأحضر سيفًا وقتله به.

ما ذكرته غيض من فيض، من ظلم وجور المغول، ومع كل هذا خرج بطلنا بنفسه ليقاتله، وليكسر شوكته، واثقًا من نصر الله: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد: 7]، صدق الله فصدقه الله.

أمَّا ما حدث في ساحة الوغى فبطولات تشرف سامعها، فضلاً عن فاعلها، ولها لقاء آخر إن كتب الله لنا البقاء.

أُولَئِكَ آبَائِي فَجِئْنِي بِمِثْلِهِمْ *** إِذَا جَمَّعَتْنَا يَا جَرِيرُ المَجَامِعُ

وَكَأَنِّي بالحاضر يجيب:
هَيْهَات أَنْ يَأتِي الزَّمَانُ بِمِثْلِهِمْ.
____________________
الكاتب: الشيخ محمد نجيب بنان