مصر المملوكية حاضرة العالم الإسلامي Ocia1890
    مصر المملوكية حاضرة العالم الإسلامي
    كما أضحت مصر في عهد دولة المماليك حاضرة العالم الإسلامي، فبعد هزيمة المغول عام 658هـ/ 1260م على يد سيف الدين قطز، أصبحت مصر قبلة الأنظار ودرة مدن الشرق، وقُدِّر لحضارتها أن تصل إلى المغول، إلى دولة المغول المعروفة باسم القبيلة الذهبية عند بحر قزوين جنوبي روسيا، وإلى إمبراطورية الإيلخانات نفسها بصورة واضحة ملموسة[27].

    استطاع ركن الدين بيبرس أن يجعل مصر قاعدة للخلافة الإسلامية، باستقدامه أحد أبناء البيت العباسي من دمشق، ومبايعته بالخلافة، وهو أبو القاسم أحمد الذي لُقِّب بالمستنصر، لكن المقريزي وصف وضع الخليفة في القاهرة بأن خلافته "ليس فيها أمر ولا نهي، وحَسْبُه أن يُقال له: أمير المؤمنين" [28]، لكن مصر "حين صارت دار خلافة عظم أمرها، وكثُرت شعائر الإسلام فيها، وعلت فيها السُّنَّة، وعَفَت[29] منها البدعة، وصارت محل سكن العلماء، ومحط رجال الفُضلاء"[30].

    لم يتوقف السلاطين المماليك عند الانتصار المشهود في عين جالوت، فسار ركن الدين بيبرس في تتبع الصليبيين في الشام حتى سقطت بعض مدنها مثل قيسارية وحيفا وصفد في عامي (663- 664هـ/ 1265- 1266م)، وكان سقوط مدينة أنطاكية عام 666هـ/ 1268م بمنزلة كارثة حقيقية ألمت بالصليبيين منذ سقوط بيت المقدس على يد صلاح الدين الأيوبي عام 583هـ/ 1187م[31].

    وقد وصف العلامة المغربي عبد الرحمن بن خلدون مصر في عهد المماليك الجراكسة حين قدم إلى مصر في عام 784هـ/ 1382م قائلاً: "فانتقلتُ إلى القاهرة أول ذي القعدة، فرأيت حضرة الدنيا، وبستان العالم، ومحشر الأمم، ومدرج الذر من البشر، وإيوان الإسلام، وكرسيّ الملك، تلوح القصور والأواوين في جوه، وتزهر الخوانق والمدارس بآفاقه، وتضيء البدور والكواكب بين علمائه، وقد مثَلَ بشاطئ بحر النيل نهر الجنة، ومدفع مياه السماء، يسبقهم النهل والعلل سيحه، ويجبى إليهم ثمرات شجه..."[32]. ثم أضاف قائلاً: "ونحن لهذا العهد (المماليك الجراكسة) نرى أن العلم والتعليم إنما هو بالقاهرة من بلاد مصر، لما أن عمرانها مستبحر، وحضارتها مستحكمة منذ آلاف السنين، فاستحكمت فيها الصنائع وتفنَّنت، ومن جملتها تعليم العلم..."[33].

    عَظُمَت أحوال مصر الاقتصادية على عهد سلاطينها المماليك، فاهتموا بالزراعة باعتبارها مصدر الثروة الأول الذي عاش عليه المصريون منذ قديم الأزل، وفي عهدهم قُسمت الأراضي الزراعية إلى أربعة وعشرين قيراطًا، اختصَّ السلطان بأربعة قراريط للكلف والرواتب وغيرها، وخصص عشرة قراريط للأمراء، أما العشرة الباقية فكانت من نصيب الأجناد[34]. وقد ارتقت الصناعة في عهدهم وأصبحت على درجة كبيرة من الجودة والإتقان، ومن أهم الصناعات في العصر المملوكي صناعة المنسوجات من الحرير والصوف والكتان والقطن.

    لم يألُ سلاطين المماليك جهدًا في تشجيع تجارة البحر الأحمر، فرحبوا بتجار الشرق المترددين على موانئ مصر المطلة على البحر الأحمر، وخاصة ميناء عيذاب التي وصفها الرَّحّالة ابن جبير بأنها: "أحفل مراسي الدنيا؛ بسبب أن مراكب الهند واليمن تحط فيها وتقلع منها، زائدًا إلى مراكب الحجّاج الصادرة والواردة..."[35].