أحوال مصر الحضارية في عصر الولاة Ocia1888
    أحوال مصر الحضارية في عصر الولاة
    من أهم مميزات عهود القوة في تاريخ مصر الاهتمام بالعمران والصناعة والزراعة، ورعاية الشعب، والعناية بالفقراء والمحتاجين، وتقوية الجيوش، ورعاية العلماء وطلاب العلم؛ فعندما خرج المسلمون من شبه الجزيرة العربية لنشر الدين الإسلامي، كانوا يعلمون أنهم سيفتحون بلادًا عرفت الحضارة منذ آلاف السنين، وما كاد الفتح الإسلامي لمصر يتمّ، حتى أدرك المسلمون أنهم أمام شعب أصيل مستقر، فعاملوه باحترام، ولم يتعرضوا لعقيدته وتقاليده، واستوعبوا حضارته وحضارة شعوب الأقطار المفتوحة الأخرى، واستفادوا منها في تأسيس حضارة جديدة، هي الحضارة الإسلامية أعظم ما عرفته البشرية في العصور الوسطى.

    أحمد بن طولون
    وقد استغل أحمد بن طولون إمكانات مصر البشرية أحسن استغلال، ويُعَدّ عهدُه البداية الحقيقية لمصر الإسلامية، لما بلغته من نجاح في أوجه الحياة السياسية والاجتماعية والأساليب الفنية، وفي عهده أيضًا تفوقت مصر ماديًّا ومعنويًّا على حكومة الخلافة العباسية التي اضطرت للاعتماد على مصر، وشعر الناس في عهد ابن طولون بالرفاهية والاستقرار والرخاء، بصورة لم نجدها في إقليم آخر في العالم الإسلامي في القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، ويكفي أنه صار حاكمًا على دولة واسعة شملت مصر إلى النوبة جنوبًا، وامتدت غربًا إلى برقة، وشملت الشام أيضًا[15].

    وهو أول من جمع له بين مصر والشام في الإسلام، وخير تعبير عن وضع مصر في أيام أحمد بن طولون ما قاله القلقشندي: "وفي أيام أحمد بن طولون عَظُمَ شأن مصر، وعلا قدرها، وانتقلت من الإمارة إلى الملك"[16].

    أسس أحمد بن طولون مدينة جديدة سنة 256هـ/ 870م على جبل يشكر الذي يعرف بقلعة الكبش بين الفسطاط وتلال المقطم، وقد سميت المدينة الجديدة باسم القطائع؛ لأن كل طائفة من رجاله اتخذت لها قطيعة لسكانها، فيقال قطيعة السودان، وقطيعة الروم، وقطيعة الفراشين، ونحو ذلك، وبَنَى القواد مواضع متفرقة، فغمرت القطائع، وبنيت فيها المساجد والطواحين والحمامات، فصارت القطائع مدينة كبيرة.

    وبنى ابن طولون في مدينة القطائع قصرًا ضخمًا، جعل أمامه ميدانًا فسيحًا ليستعرض فيه جيشه، ثم أقام حول القصر ثكنات لجنوده وحاشيته، ولما مات ابن طولون وخلفه ابنه خمارويه، زاد في قصر أبيه، وجعل الميدان كله بستانًا، وزرع فيه أنواع الرياحين وأصناف الشجر، كما بنى ابن طولون على سفح جبل يشكر[17] مسجده المعروف باسمه، وما زال باقيًا حتى الوقت الحاضر، ويعتبر أحد الآثار الدينية الرئيسية الإسلامية، وقد انتهى من بنائه في سنة 265هـ/ 879م[18].

    وقد بنى أحمد بن طولون المارستان (المستشفى) في سنة 259هـ/ 872م لعلاج المرضى دون تمييز بين الطبقات والأديان، وجعل العلاج فيه دون مقابل، وألحق به صيدلية لصرف الأدوية، فإذا دخل المريض المستشفى تنزع ثيابه وتقدم له ثياب أخرى، ويودع ما معه من المال عند أمين المارستان، ويظل تحت العلاج حتى يتم شفاؤه، وكانت دلالة شفاء المريض قدرته على أكل رغيف ودجاجة، وعندئذٍ يسمح له بمغادرة المستشفى، وكان ابن طولون يتفقد المستشفى ويتابع علاج الأطباء، ويشرف على المرضى[19].

    استطاع أحمد بن طولون أن يكوِّن جيشًا كثيف العدد، وكان ذلك الجيش أول جيش مستقل في مصر في العصور الوسطى، فقد كان قائده الأعلى هو ابن طولون، وليس لأحد غيره سلطان على الجيش ورجاله[20]، وكان الجيش يتكون من السودان والإغريق والترك والعرب، ويشمل أكثر من أربعة وعشرين ألفًا من الأتراك، وأربعين ألف سوداني، وسبعة آلاف مرتزق، وبلغ رزق الجيش في أيام خمارويه تسعمائة ألف دينار[21].

    قد بذل أحمد بن طولون جهده لتشجيع الزراعة، وزيادة الإنتاج الزراعي، فأصلح الترع والقنوات التي تروي الحقول، وحفر الجديد منها، وأصلح السدود المحطمة، وحمى الفلاحين من ظلم جُباة الضرائب وتعسفهم؛ مما أدى إلى ازدياد مساحات الأراضي المزروعة من جهة، ووصول أسعار الحبوب إلى أدنى مستوى، وكانت عناية خمارويه بالزراعة لا تقل عن عناية أبيه.

    وازدهرت الصناعة أيضًا في مصر في العصر الطولوني، ويأتي على رأس الصناعات التي اشتُهِرَت بها مصر آنذاك صناعة النسيج، ومن ذلك صناعة الكتان التي اكتسبت أسواقًا جديدة، وكانت تصنع أنواعًا مختلفة من الكتان في مدن تَنِّيس ودمياط ودبيق وشطا ودميرة وغيرها، وفي مصر العليا في مدن الفيوم والبهنسا وإخميم، واشتهرت مصر كذلك بصناعة المنسوجات الصوفية المعروفة بجودتها، والتي كان يتم تصدير كمياتٍ كبيرةٍ منها إلى كثيرٍ من الأقطار، كما أن المنسوجات المطرَّزة بالذهب والموشاة التي أنتجتها مدينة الإسكندرية عرفت بجودتها العالية.