الطــاعــــــــــــــون
الطــاعــــــــــــــون Ocia1818
قال عيسى بن هشام: فطاوعنا القدر، وعزمنا السفر، التماسًا لبرء الداء، بتبديل الهواء، ونزلنا من ضواحي الإسكندرية قصرًا ذا روضة غناء في بقعة فيحاء، لا تسمع فيها إلَّا هديل الورقاء، إيقاعًا على هدير الماء، فإذا بلل الموج جَناح النسيم، فرفرف على ذلك الروض البسيم، نَثَرَ الماء درًّا على تيجان الزهر، ورقرقهُ دموعًا في أحداق العبهر،١ هناك يتمنى العاشق لو استعار هذي الدموع لمحاجره، فيستلين بها قلب شاجيه وهاجرِه، وتودُّ الغانية لو نظمت من ذلك الدرِّ عقدًا لنحرها، أو نطاقًا لخصرها:

إن هـــذا المكــان شـيءٌ عجيبٌ
تضحك الأرض من بكاء السماء
ذهـبٌ حـيث مــــــا ذهـبنـــا ودرٌّ
حـيث دُرْنا وفضــةٌ في الفضــاء


أو قل: إنه المجرة قامت فيه زواهر الزهر، مقام الكواكب الزهر، وعناقيد الكروم، مقام ثريا النجوم، وأنوار الأثمار، مقام الشموس والأقمار، فأقمنا في ذلك الظل الوريف، مدة من أيام الخريف، ومكثنا نقطف القطوف الدانية، بين تلك الأعين الجارية، في عيشة راضية، لا تُسمع فيها لاغية، آخذين بمستنِّ النحيزة،٢ ومجتن الغريزة، فيما يوافق صحة البدن من طعام شهي، وغذاء مريّ، ورياضة للأعضاء، دون تعب أو شقاء، وتطهيرٍ للنفس من أدران الكدر، بلطف البحث وحسن النظر، وتجريد للصدر من عوامل الهواجس، وغوائل الوساوس، بالتبصر في حقائق الوجود، والتمعن في صنعة الخالق المعبود، وأفضت بصاحبي طِيبُ هذه الإقامة، إلى المقصود من تمام العافية والسلامة، لولا أن راعنا شيطان من الإنس بخبر الطاعون، فقلنا: إنا لله وإنا إليه راجعون، وسبحان الله والحمد لله ما زلنا نعلل النفس، بزوال النحس والنكس، وما زالت تناوبنا النوائب والأحزان، وتراوحنا النوازل في كل منزل ومكان، وانبرى الباشا يسألني عن هذا الطاعون وأخباره، وما يتوقعه من هول أفعاله وآثاره، فأجبتُه بأنه لا يلبث أن يصبح أثرًا بعد عين، وما أصاب إلى اليوم إلا عدد أصابع اليدين، وقريبًا يفر من أمامنا هذا العدو المناجز.

ونُردد في أثره قول الراجز:
قد رفع الله رماحَ الجـــن
وأذهب التعذيب والتجنِّي

الباشا: كيف تدَّعي ذلك وتزعمه، وما عهدت منك إخفاءً للحقائق ولا تمويهًا للوقائع، وللطاعون في مصر أفاعيل تذوب لها المآقي والأحداق وتتفطر منها القلوب والأكباد، وهو عندنا من أمراض مصر الموضعية التي تحدث عند اختلاف الفصول، والمصريون يتوقعونه لكل ربيع حتى أطلقوا عليه كلمة «الفصل»، فيقولون: جاء «الفصل» عند ظهور الطاعون، فترتاع النفوس وتنخلع القلوب وتخور القوى وتذهل العقول، ثم يصول صولته ويفتك فتكته فلا يقف سيلُه عند حاجز، ولا يمنع اندفاعه مانع، ولا تغيض قرارته حتى يخرب القصور، ويعمر القبور، فتصبح الأطفال يتامى، والنساء أيامى، ويمسي الخلق بين ثاكل ومثكول، وحاملٍ ومحمول: هذا يبكي أباه، وذاك يندب أخاه، وهذه تُوَلول على أهلها، وتلك تنوح على بعلها، وقد سمعت عنه في زماني عن أحد المعمرين يقول في وصفه عند وقوعه في سنة ١٢٠٥هـ:

ابتدأ الطاعون في شهر رجب سنة ١٢٠٥هـ، وداخل الناس منه وهمٌ عظيم، واشتد بطشه وقويَ بأسه في رجب وشعبان، ومات به مَنْ لا يُحصى من الأطفال والشبان والجواري والعبيد والمماليك والأجناد والكُشَّاف والأمراء، ومات من الصناجق أمراء الألوف اثنا عشر صنجقًا منهم إسماعيل بك الكبير، وقد أفنى عسكر القليونجية والأرنؤوط المقيمين بمصر القديمة وبولاق والجيزة، وكانوا لكثرة الموتى يحفرون حفرًا بالجيزة بالقرب من مسجد أبي هريرة ويلقونهم فيها، وكان يخرج من بيت الأمير في الجنازة الواحدة الخمسة والستة والعشرة، وازدحم الناس على الحوانيت يلتمسون ما يجهزون به موتاهم ويطلبون من يحملون النعوش فلا يجدونهم، ويقف الناس يتشاحنون ويتضاربون على ذلك، ولم يبق للناس شغل إلا الموت وأسبابه، فلا تجد إلا مريضًا أو ميتًا أو عائدًا أو معزيًا أو مشيعًا أو راجعًا من صلاة جنازةٍ أو دفنٍ أو مشغولًا بتجهيز ميت أو باكيًا على نفسه موهومًا، ولا تنقطع صلاة الجنازة من المساجد والمصليات، ولا تقام الصلاة إلَّا على أربعة أو خمسة، ونَدَرَ من يُصاب ولا يموت، وقل ظهور الطعن على الجسم فيكون الإنسان جالسًا فيرتعش من البرد فيتدثر، فلا يفيق إلا مخلَّطًا أو يموت في غده إن لم يمت في نهاره، واستمر فتكه إلى أوائل رمضان، فمات الأغا والوالي في أثناء ذلك فولَّوا خلافهما فماتا بعد ثلاثة أيام فولّوا خلافهما أيضًا.          

واتفق أن الميراث انتقل ثلاث مرات في سبعة أيام، وأُغلق بالمفتاح بيت أمير كان فيه مائة وعشرون نفسًا فماتوا جميعًا.

عيسى بن هشام: إني لأظنك تصف لي موقفًا شاهدته من مواقف الآخرة وأهوال القيامة.

الباشا: وما كان الأمر ليقتصر في الطاعون بعد ذلك على فتكه، بل كان يزيد عليه من البلاء ما دسَّه الإفرنج للولاة من وجوب إزعاج الناس بأمور تشق على نفوسهم يزعمون أنها تدفع الطاعون، فيفصلون بين الناس بعضهم عن بعض، ويفرقون بين الأب وابنه والأخ وأخيه والمرء وزوجه، ثم يهدمون الدُّور ويحرقون الثياب وينشرون البخور كأنهم لجهلهم يظنون أن هذه الأعمال التي تؤذي النفوس وتعطل مصالح العباد تشتت شمل الجن، وتكسر أسنة رماحهم، فيزداد الناس ويلًا على ويل وحزنًا على حزن وخرابًا فوق خراب، وقد شاهدت بعيني ما تشيب له النواصي في سنة ١٢٦٠هـ، وقص عليَّ أخي ما رآه منه في سنة ١٢٢٨هـ، وهو في خدمة المرحوم محمد علي باشا الكبير، قال:

أمر جنتمكان محمد علي بعمل «كُورَ نْتيلَه» بالجيزة في اليوم العاشر من ربيع الثاني وعزم على الإقامة بها؛ إذ اشتد عليه الوهم من الطاعون لوقوع القليل من الإصابات بمصر، ومات به الطبيب الفرنسي وبعض من نصارى الأروام، وهم يعتقدون صحة الكور نتيله وأنها تمنع الطاعون، وقاضي الشريعة الذي هو قاضي العسكر يحقق قولهم ويسير على مذهبهم، واتفق أن مات بالطاعون شخص بالمحكمة من أتباع القاضي، فأمر بحرق ثيابه وغسل المكان الذي فيه وتبخيره بالأبخرة المتنوعة، وكذلك الأواني التي كان يمسها وأمروا أصحاب الشرطة أنهم يأمرون الناس وأصحاب الأسواق بالكنس والرش والتنظيف ونشر الثياب في كل وقت، وإذا وردت عليهم مكاتبات خرقوها بالسكاكين ودخنوها بالبخور قبل تسليمها إليهم، ولما عزم الباشا على كور نتيله الجيزة أمر في ذلك اليوم أن ينادوا بها على سكانها بأن من كان يملك قوته وقوت عياله ستين يومًا، واختار الإقامة فليمكث بالبلدة، وإلا فليخرج منها ويذهب فيسكن حيث أراد، وأُعطوا مهلة أربع ساعات، فانزعج سكان الجيزة وخرج من خرج، وأقام منهم من أقام، وكان ذلك في وقت الحصاد وللناس مزارعُ ومرافق مع مجاوريهم من أهل القرى، ولا يخفى احتياج الإنسان لبيته وأهله وعياله وأسباب رزقه، فيحرمونه من ذلك كله حتى لقد سدُّوا خروق السور والأبواب، ومنعوا مراكب المعادي من السير، وأقام الباشا في بيت الأزبكية لا يجتمع بأحد من الناس إلا يوم الجمعة، ثم قصد الجيزة وقت الفجر من ذلك اليوم وصعد إلى قصره، ووقف مركبين الأولى ببر الجيزة والأخرى في مقابلتها ببر مصر القديمة، فإذا أرسل الكتخدا أو المعلم غالي مراسلة ناولها المرسلُ للمقيد بذلك في طرف مزراق بعد تبخير الورقة بالشيح واللبان والكبريت، فيتناولها منه الآخر بمزراق آخر على بعد منهما ويعود راجعًا، فإذا قرب من البر تناولها المنتظر له أيضًا بمزراق وغمسها في الخل وبخَّرها بالبخور المذكور، ثم يوصلها إلى حضرة المشار إليه بكيفية أخرى، وأقام الباشا على ذلك أيامًا، وسافر إلى الفيوم ثم عاد وأرسل مماليكه ومن يخاف عليه الموت إلى أسيوط.

عيسى بن هشام: اعلم أن ما كان يعترض عليه عامة الناس في الأزمان الغابرة —ولا يزال بيننا إلى اليوم بقية منهم— من الأخذ بأسباب التوقي والاحتياط لدفع غائلة الطاعون لجهلهم بحقيقته وأسباب انتشاره هو الذي يحمينا اليوم من فتكاته وسطواته التي قصصت عليّ طرفًا منها، وقد كان جمهور الناس في أزمانكم ينكرون هذه الوقاية ويسخرون منها.

الباشا: قل لي بالله أية علاقة بين إحراق الثياب، وتلك الوخزة التي تأتي بالأجل، وأي ارتباط بين هذا البخور وحُمَّى الطاعون، اللهم إلا أن يراد به تلطيف أمزجة الجن.

عيسى بن هشام: لا يفوتنَّك أن كثيرًا من الحقائق كانت مكنونة في خفاء الجهل عند عامة الناس لاختصاص بعض الأفراد بالعلم، ولبعد تناوله على بقية الطبقات، فلما انتشر العلم وأضاء برهانه كَشَفَ للناس ما كان مكنونًا عنهم، وأظهر من العلل والأسباب ما كانت تقف دونه الأفكار حيْرَى، فإن كان الناس في زمانكم يعتقدون أن الطاعون من وخزات الجن برماحها، وأن لا شيء يقوى على رد تلك الرماح الخفية عن العيون، فإن البحث أوصلهم اليوم إلى اليقين بأن للطاعون جنودًا لا تدركها العيون المجردة، وأن لها وخزًا خفيًّا دونه وخز الأسنة وعوالي المران،٣ ولكنهم استعانوا بالعلم فصنعوا آلة تجسم الأشياء الدقيقة وتعظمها، وتبرزها مرئية للعين فوقفوا بها على حقيقة تلك الجنود، واستنبطوا طرق الوقاية منها فتدرعوا بها لدفع أذاها ورفع غائلتها.

الباشا: وماذا تُجدي الوقاية والحذر من القضاء والقدر؟

عيسى بن هشام: حفظت شيئًا وغابت عنك أشياء، إن الوقاية من السُّنَّة الشريفة وأحكام الدين المبين فقد ظاهَرَ —عليه الصلاة والسلام— في الحرب بين درعين، وقال الله تعالى: "وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ"، ولطرق الوقاية اليوم أنواع مختلفة لدفع هذا العدو الخفيّ الذي يسمونه «الميكروب» وهو دُوَيبة دقيقة من عالم الذر ينطبق عليها أحد أوصاف الجن في سرعة التولد وكثرة التعدد في أيسر مدة من الزمن، وهم يتخذون البخور في الوقاية؛ لينحل تركيبه ويحرقون الثياب والأمتعة حتى لا ينتقل بها عدواهُ.
الباشا: لقد كشفتَ لي معنًى دقيقًا في رماح الجن المسمومة ما كنت إخال أن أحدًا يدركه في عصرنا الماضي، وهل لك في أن تطلعني على تلك الآلة العجيبة المجسّمة للأشياء الدقيقة لأزداد تبصرة وهدًى بالنظر في عجائب المخلوقات؟

قال عيسى بن هشام: فذهبت إلى معمل كيميائيّ وأريته نقطةً من الماء تحت «المكروسكوب»، فلما رآها كأنها غديرٌ ورأى ألوف الألوف من الهوام سابحة فيها سجد سجدة التقديس لقدرة الخالق والتمجيد لعظمة الصانع، وتلا قوله عز من قائل: "وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ" فحمدت الله؛ إذ آمن بالبرهان الساطع، ولم يفعل ما فعله ذلك الهنديُّ مع العالم الألمانيّ حيث أراه مثل هذه النقطة وما فيها من الحيوانات؛ ليقنعه بأن ماء الشرب مشحون بما يحرم أهل الهند قتله وأكله من الحيوانات، فسخر الهنديُّ منه وكسر الآلة إصرارًا على الباطل وعنادًا للحق، ولَمَّا أيقن الباشا بصدق ما قلته وما رآه، وأن العلم هزم جنود الطاعون وحطَّم رماحه ولولاه لمات به اليوم مئات الألوف مكان العشرات سألني يقول:

الباشا: ومن المخترع لهذه الآلة التي تدل بغير واسطة على عظمة الخالق وقدرة الصانع من مشايخ الموحدين وعلماء الدين؟ وفي أية بقعة من بقاع المسلمين كان مولده لنردد الثناء عليه ونذكر اسمه بالحمد؟

عيسى بن هشام: أُقسم لك بالله وملائكته وكتبه أن أكثر مشايخنا لا علم لهم بها، وأنهم لا يزالون كالعهد بهم في معزل عن هذه العلوم النافعة والمخترعات المفيدة، وما نشط لرؤيتها أحدٌ منهم، وهم إلى اليوم ينفرون من الأخذ بوجوه الوقاية ويفضلون التعرض لنيران البنادق في معارضتهم لأوامر الحكومة دون الإذعان لوجوب الاحتياط من هذه الحيوانات الدقيقة، ولا يعرفون منها إلا ما نَخَرَ كتبهم من الأرضة.

الباشا: ومع هذا كله فلا مقام لنا اليوم في هذه البلدة التي أصيبت بالداء، وقد وجب علينا الفرار من قَدَر الله إلى قدر الله، فعُد بنا إلى مصر إن شاء الله آمنين.

قال عيسى بن هشام: فأجبته إلى سؤاله وقفلنا إلى القاهرة، بعد أن ودَّعنا تلك المناظر الباهرة.

----------------------------------
١  العبهر: النرجس.
٢  النحيزة: الطبيعة.
٣  المران: شجر يتخذ منه الرماح.