شبهات دلالية
 شبهات دلالية Ocia1703
اشتباه الدوال
من العجيب أن يتصدَّى لنقد القرآن الكريم مَنْ لا علم له بالعربية، فتشتبه عليه الدوالُّ ويشرع في التلبيس على الناس بما لَبَّسَ عليه شيطانه وجهله.

من ذلك ما ادعاه بعضهم من أن القرآن الكريم نص على دخول الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- النار، وذلك في قوله عز وجل: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} مريم: 71.

ومعنى هذا النص ـ-في زعمهم- هو: ما من أحدٍ من الناس إلاَّ داخل جهنم، وحيث إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- داخل في هذا العموم؛ فإن الحكم ينطبق عليه أيضًا.

والمسألة أيسر من هذا، فلو راجعَ هذا المدعي معنى الورود في اللغة لوجد أنَّ: وَرَدَ الماء وغيره ورودًا وورد عليه، أي: أشرف عليه، دخله أو لم يدخله، وكل من أتى مكانًا -مَنْهَلاً أو غيره- فقد ورده (1).

وإذن فاللغة تنكر تفسير الورود بالدخول، بل هو بلوغ المكان والوصول إليه.

وهذا إمام من أئمة اللغة والتفسير هو أبو إسحاق الزجاج يقول في هذه الآية:
هذه آية كثر الاختلاف فيها، فقال كثير من الناس إن الخلق جميعًا يردون النار فينجو المتقي ويترك الظالم، وكلهم يدخلها.          

وحجة من قال بهذا القول أنه جرى ذكر الكافرين فقال: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ}، ثم قال بعدُ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا}، فكأنه على نظم ذلك الكلام عامٌّ.         

ودليل من قال بهذا القول أيضًا قوله: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ} مريم: 72، ولم يقل: وندخل الظالمين، وكأنَّ (نَذَر) للشيء الذي حصل في مكانه.

وقال قوم: "إن هذا إنما يُعْنَى به المشركون خاصة، واحتجُّوا في هذا بأن بعضهم قرأ: "وإنْ منهم إلاَّ واردها" (2).

ويكون على مذهب هؤلاء {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} أي نخرج المتقين من جملة من ندخله النار.

وقال قوم: إن الخلق يَردُونها فتكون على المؤمن بردًا وسلامًا، ثم يخرج منها فيدخل الجنة، فيعلم فَضْل النعمة لِمَا يشاهِدُ فيه أهل العذاب وما رأى فيه أهل النار.

وقال ابن مسعود والحسن وقتادة: إن ورودها ليس دخولَها، وحُجَّتُهم في ذلك جيدة جدًّا من جهات: إحداهنَّ أن العرب تقول: وردت ماءَ كذا، ولم تدخله، وقال الله عز وجل: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} القصص: 33.

وتقول إذا بلغت البلد ولم تدخله: قد وردتُ بلد كذا وكذا.

ثم خلص الزجاج إلى قوله:
والحجة القاطعة في هذا القول ما قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} الأنبياء: 101 ـ 102.           

فهذا -والله أعلم-  دليل أن أهل الحسنى لا يدخلون النار، وفي اللغة: وردت بلد كذا وكذا، إذا أشرفت عليه، دخلته أو لم تدخله.

قال زهير:
فلمَّا وَرَدْنَ الماء زُرْقًا جِمَامُهُ *  وضَعْنَ عِصِيَّ الحاضِر المتخيِّمِ

المعنى: بلغن إلى الماء أي أقمن عليه.

فالورود هنا -بالإجماع- ليس بدخول (3).

وقد أجمع المفسِّرون قاطبة سواء من قال إن معنى الورود: الدخول، أو من قال إن المراد به المرور أو القرب، على أن المؤمن لا يصيبه حرُّ النار؛لأن الله عز وجل يحجب عنه إحراقها فتكون عليه بردًا وسلامًا (4).

ومن الوجوه التي تحتملها الآية وأوردها المفسرون أن الخطاب للمشركين فقط على طريقة الالتفات عن الغيبة في قوله تعالى: {لنَحْشُرَنَّهُمْ} وقوله تعالى: {لَنُحْضِرَنَّهُمْ}، عدل عن الغيبة إلى الخطاب ارتقاءً في المواجهة بالتهديد.

 لما ذكر انتزاع الذين هم أولى بالنار من بقية طوائف الكفر عطف عليه أن جميع طوائف الشرك يدخلون النار، دفعًا لتوهم أن انتزاع من هو أشد على الرحمن عتيًّا هو قصارى ما ينال تلك الطوائف من العذاب؛ بأن يحسبوا أن كبراءهم يكونون فداءً لهم من النار أو نحو ذلك، أي وذلك الانتزاع لا يصرف بقية الشيع عن النار فإن الله أوجب على جميعهم النار.

فالخطاب في {وإن منكم} التفات عن الغيبة، وفي قوله: {لنحشرنهم} و{لنحضرنهم}؛ عدل عن الغيبة إلى الخطاب ارتقاء في المواجهة بالتهديد حتى لا يبقى مجال للالتباس المراد من ضمير الغيبة فإن ضمير الخطاب أعرف من ضمير الغيبة.          

ومقتضى الظاهر أن يُقال: وإن منهم إلا واردها.          

وعن ابن عباس أنه كان يقرأ: "وإن منهم " وكذلك قرأ عكرمة وجماعة.

فالمعنى: وما منكم أحد ممن نزع من كل شيعة إلا وارد جهنم حتمًا قضاه الله فلا مبدل لكلماته، أى فلا تحسبوا أن تنفعكم شفاعتهم أو تمنعكم عزة شيعكم، أو تلقون التبعة على سادتكم وعظماء أهل ضلالكم، أو يكونون فداء عنكم من النار.

وهذا نظير قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ } الحجر: 42 ـ 43، أى الغاوين وغيرهم.

فليس الخطاب في قوله {وَإِن مِّنكُمْ إِلا وَارِدُهَا} لجميع الناس مؤمنهم وكافرهم على معنى ابتداء كلام؛ بحيث يقتضي أن المؤمنين يردون النار مع الكافرين ثم يُنْجون من عذابها؛ لأن هذا معنى ثقيل ينبو عنه السياق؛ إذ لا مناسبة بينه وبين سياق الآيات السابقة؛ ولأن فضل الله على المؤمنين بالجنة وتشريفهم بالمنازل الرفيعة ينافى أن يسوقهم مع المشركين مساقًا واحدًا، كيف وقد صدر الكلام بقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ } مريم:  68.          

وقال تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً} مريم: 85 ـ 86، وهو صريح في اختلاف حشر الفريقين.

فموقع هذه الآية هنا كموقع قوله تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} الحجر: 43 عقب قوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} الحجر: 42.          

فلا يتوهم أن جهنم موعد عباد الله المخلصين مع تقدم ذكره لأنه ينبو عنه مقام الثناء.

واتفق جميع المفسرين على أن المتقين لا تنالهم نار جهنم.          

واختلفوا في محل الآية فمنهم من جعل ضمير "منكم" لجميع المخاطبين بالقرآن.          

ورووه عن بعض السلف فصدمهم فساد المعنى ومنافاة حكمة الله والأدلة الدالة على سلامة المؤمنين يومئذ من لقاء أدنى عذاب، فسلكوا مسالك من التأويل، فمنهم من تأول الورود بالمرور المجرد دون أن يمس المؤمنين أذى، وهذا بعيد عن الاستعمال، فإنَّ الورود إنما يراد به حصول ما هو مُودَعٌ في المورد لأن أصله من ورود الحوض.         

وفي آي القرآن ما جاء إلا لمعنى المصير إلى النار كقوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلاَء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} الأنبياء: 98 ـ 99، وقوله تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} هود: 98، وقوله تعالى: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً} مريم: 86.          

على أن إيراد المؤمنين إلى النار لا جدوى له فيكون عبثا، ولا اعتداد بما ذكره له الفخر مما سماه فوائد.

ومنهم من تأوَّل ورود جهنم بمرور الصراط، وهو جسر على جهنم، فساقوا الأخبار المروية في مرور الناس على الصراط متفاوتين في سرعة الاجتياز.          

وهذا أقل بُعدًا من الذي قبله.

ومن الناس من لفق تعضيدًا لذلك الحديث الصحيح: " أنه لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيلج النار إلا تحلة القسم"، فتأول تحلة القسم بأنها ما في هذه الآية من قوله تعالى: {وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} مريم: 71، وهذا محمل باطل؛ إذ ليس في هذه الآية قسم يتحلل، وإنما معنى الحديث: أن من استحق عذابًا من المؤمنين لأجل معاصٍ، فإذا كان قد مات له ثلاثة من الولد كانوا كفارة له فلا يلج النار إلا ولوجًا قليلاً يشبه ما يفعل لأجل تحلة القسم، أى التحلل منه.          

وذلك أن المُقْسِم على شيء إذا صعب عليه بر قسمه أخذ بأقل ما يتحقق فيه ما حلف عليه، فقوله: "تَحِلَّة القَسَم" تمثيل(5).

وسواء أخذنا بهذا التفسير أو بغيره مما تقدم ذكره، فالمؤمن لا تناله نار جهنم باتفاق جمع المفسرين.

**************
(1) المحكم، مقاييس اللغة،اللسان (و ر د) .
(2) هذه قراءة ابن عباس وعكرمة (الكشاف 2 : 520، القرطبي 11: 138، البحر المحيط  6: 210، روح المعاني 16 : 121، معجم القراءات القرآنية 3 : 176).
(3) معاني القرآن وإعرابه للزجاج 3 : 340 ـ 342.
(4) انظر: تفسير الطبري 16 : 108 ـ 114، تفسير ابن كثير 3 : 136 ـ 138؛ الكشاف 2: 520، تفسير  الفخر الرازي، مجلد 11، جـ21، ص 243 ـ 246، البغوي 3 : 203 ـ 205، النسفي 3 : 42 ـ 43، تفسير ابن عطية 9 : 511 ـ 516، زاد المسير 5: 255 ـ 257، تفسير أبي السعود 5 : 276، تفسير الآلوسي، مجلد 8، جـ 16، ص 121 ـ 124، البحر المحيط 6: 209 ـ 210، مفردات الأصفهاني (و ر د).
(5) التحرير والتنوير، مجلد 8، ص 149 ـ 152.