أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: ذكر حمائم الرسائل الأحد 18 فبراير 2024, 6:37 am | |
| ذكر حمائم الرسائل: قال ابن كثير في تاريخه: في سنة سبع وستين وخمسمائة اتخذ السلطان نور الدين الشهيد الحمام الهوادي، وذلك لامتداد مملكته، واتساعها، فإنها من حد النوبة إلى همذان (1)، فلذلك اتخذ قلعة، وحبس الحمام التي تسري الآفاق في أسرع مدة، وأيسر عدة، وما أحسن ما قال فيهن القاضي الفاضل: الحمام ملائكة الملوك، وقد أطنب في ذلك العماد الكاتب وأظرف وأطرب، وأعجب وأغرب (2). وفي سنة إحدى وتسعين وخمسمائة، اعتنى الخليفة الناصر لدين الله بحمام البطاقة اعتناء زائدا، حتى صار يكتب بأنساب الطير المحاضر إنه من ولد الطير الفلاني. وقيل: إنه بيع بألف دينار. وقد ألف القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر في أمور هذه الحمام كتابا سماه "تمام الحمائم" (3)، وذكر فيه فصلا فيما ينبغي أن يفعله المنطق، وما جرت العادة به في ذلك فقال: كان الجاري به العادة أنها لا تحمل البطاقة إلا في جناحها، لأمور منها، حفظها من المطر ولقوة الجناح؛ والواجب أنه إذا انطلق من مصر لا يطلق إلا من أمكنة معلومة، فإذا سرحت إلى الإسكندرية، فلا تسرح إلا من منية عقبة بالجيزة، وإلى الشرقية، فمن مسجد التين ظاهر القاهرة، وإلى دمياط فمن بيسوس بشط بحر منجي. والذي استقرت قواعد الملك عليه، أن طائر البطاقة لا يلهو الملك عنه ولا يغفل، ولا يمهل لحظة واحدة، فتفوت مهمات لا تستدرك، إما من واصل وإما من هارب، وإما من متجدد في الثغور. _________ (1) بعدها في ابن كثير: "لا يتخللها إلا بلاد الإفرنج، وكلهم تحت قهره وهدنته". (2) تاريخ ابن كثير 12: 269. (3) قال في كشف الظنون: "صنفه حين حافظ عليها الفاطميون بمصر، وبالغوا فيها حتى أفردوا لها ديوانا، وجرائد بأنساب الحمائم". (2/313) _________ ولا يضع (1) البطاقة من الحمام إلا السلطان بيده من غير واسطة أحد؛ فإن كان يأكل لا يمهل حتى يفرغ، وإن كان نائمًا لا يمهل حتى يستيقظ بل ينبه. وينبغي أن تكتب البطائق في ورق الطير المعروف بذلك. قال: ورأيت الأوائل لا يكتبون في أوائلها بسملة. قال: وأنا ما كتبتها قط إلا ببسملة للبركة، وتؤرخ بالساعة واليوم، لا السنين؛ وينبغي ألا يكثر في نعوت المخاطب فيها، ولا يذكر في البطائق حشو الألفاظ، ولا يكتب إلا لب الكلام وزبدته. ولا بد أن يكتب شرح الطائر ورفيقه إن كانا طائرين قد سرحا حتى إن تأخر الطائر الواحد رقب حضوره، أو يطلق لئلا يكون قد وقع في برج من أبراج المدينة، ولا يعمل للبطائق هامش ولا يحمدي، وجرت العادة بأن يكتب في آخرها: "وحسبنا الله ونعم الوكيل"، وذلك حفظ لها. ومن فصل في وصفها لتاج الدين أحمد بن سعيد بن الأثير كاتب الإنشاء: طالما جادت بها فأوضحت مخلفة وراءها تبكي عليه السحب، وصدق من سماها أنبياء للطير؛ لأنها مرسلة بالكتب. وفيها يقول أبو محمد أحمد بن علوي بن أبي عقال القيرواني: خضر تفوت الريح في طيرانها ... يا بعد بين غدوها ورواحها تأتي بأخبار الغدو عشية ... لمسير شهر تحت ريش جناحها وكأنما الروح الأمين بوحيه ... نفث الهداية منه في أرواحها وقال غيره: يا حبذا الطائر الميمون يطرقنا ... في الأمر بالطائر الميمون تنبيها فاقت على الهدهد المذكور إذ حملت ... كتب الملوك وصانتها أعاليها _________ (1) ط: "يقع". (2/314) _________ تلقي بكل كتاب نحو صاحبه ... تصون نظرته صونًا وتخفيها فما تمكن عين الشمس تنظره ... ولا تجوز أن تلقيه من فيها منسوبة لرسالات الملوك فب ... المنسوب تسمو ويدعوها تسميها أكرم بجيش سعيد ما سعادته ... مما يشكيك فيها فكر حاكيها (1) حما حمى الغار يوم الغار حرمته ... فيالها وقعة عزت مساعيها! وقوفه عند ذاك الباب شرفه ... وللسعادة أوقات تؤاتيها ويوم فتح رسول الله مكته ... عند الدخول إليها من بواديها صفت تظلل من شمس كتيبته الـ ... خضر أمطره فيها تواليها فظللته بما كانت تود هوى ... لو قابلتها بأشواق فتنهيا فعندما حظيت بالقرب أمنها ... فشرفت بعطايا جل مهديها فما يحل لدى صيد تناولها ... ولا ينال المنى بالنار مصليها ولا تطير بأوراق الفرنج ولا ... يسير عنها بما فيه امانيها سمت بملك المعاني غير ذي دنس ... لا ترضيهم، ولو جزت نواصيها وانظر لها كيف تأتي للخلائق من ... آل رسول بحب كامن فيها من المقام إلى دار السلام فلم ... يمض النهار بعزم في دواعيها وربما ضل عنه الهند ملتقطاً ... حبات فلفله وارتد مبطيها فجاء في يومه في إثر سابقه ... حفظاً لحق يد طابت أياديها مناقب لرسول الله أيسرها ... لدى نبوته الغراء تكفيها
ومن إنشاء القاضي الفاضل في وصف حمائم الرسائل: سرحت لا تزال أجنحتها محملة من البطائق أجنحة، وتجهز جيوش المقاصد والأقلام أسلحة، وتحمل من الأخبار ما تحمله الضمائر، وتطوى الأرض إذا نشرت الجناح الطائر، _________ (1) ط: "جاليها". (2/315) _________ وتزوى لها الأرض حتى يرى ملك هذه الأمة، وتقرب من السماء حتى ترى مالا يبلغه وهم ولا همة، وتكون مراكب للأغراض وكانت والأجنحة قلوعاً، وتركب الجو بحر تصفق فيه هبوب الرياح موجاً مرفوعاً، وتعلق الحاجات على اعجازها، ولا تفوق الإرادات عن إنجازها، ومن بلاغات البطائق استفادت ما هي مشهورة به من السجع، ومن رياض كتبها الفت الرياض فهي إليها دائمة الرجع.
|
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: رد: ذكر حمائم الرسائل الأحد 18 فبراير 2024, 6:39 am | |
| وقد سكنت البروج فهي أنجم، وأعدت في كنائنها فهي للحاجات أسهم، وكادت تكون ملائمة؛ لأنها رسل فإذا نيطت بالرقاع، صارت أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع. وقد باعد الله بين أسفارها وقربها، وجعلها طيف خيال اليقظة الذي صدق العين وما كذبها، وقد أخذت عهود الأمانة في رقابها أطواقا، فأدتها من فأذنابها أوراقا، وصارت خوافي من وراء الخوافي، وغطت سرها المودع بكتمان سحبت عليه ذيول ريشها الضوافي، ترغم النوى بتقريب العهود، وتكاد العيون تلاحظها تلاحظ أنجم السعود؛ وهي أنبياء الطير لكثرة ما تأتي به من الأنباء، وخطباؤها؛ لأنها تقوم على الأغصان مقام الخطباء (1). وقال في وصفها شيخ الكتاب ذو البلاغتين السديد أبو القاسم شيخ القاضي الفاضل: وأما حمام الرسائل؛ فهي من آيات الله المستنطقة الألسن بالتسبيح، العاجز عن وصفها إعجاز البليغ الفصيح، فيما تحمله من البطائق، وترد به مسرعة من الأخبار الواضحة الحقائق، وتعاليه في الجو محلقا عند مطاره، وتهديه على الطريق التي عليها ليأمن من فوت الإدراك وأخطاره، ونظره إلى المقصد الذي يسرح إليه من علي، ووصوله إلى أقرب الساعات بما يصل به البريد في أبعد الأيام من الخبر الجلي، ومجيئه معادلًا لرءوس السفار مسامتا، وإيثاره بالمتجددات فكأنه ناطق وإن كان صامتا، وكونه يمضي محمولا على ظهر المركوب، ويرجع عاملا على ظهره للمكتوب، ولا يعرج على تذكار الهدير، ولا يسأم من الدأب في الخدمة زائدا على التقدير، وفي تقدمه البشائر، يكون _________ (1) نهاية الأرب 10: 280. (2/316) _________ المعنى بقولهم: أيمن طائر؛ ولا غرو أن فارق رسل أهل الأرض وفاتهم وهو مرسل والعنان عنانه، والجو ميدانه، والجناح مركبه، والرياح موكبه، وابتداء الغاية شوطه، والشوق إلى أهله سوطه؛ مع أمنه ما يحدث لمنتاب السفار، ومخبآت القفار، من مخاوف الطوارق وطوارق المخاوف، ومتلف الغوائل وغوائل المتالف، إلا ما يشد من اعتراض خارج (1) وانقضاض كاسب كاسر، فتكف سعادة الدولة تأمينه، وتصد عنه تصميمه؛ لأنه أخذ جيشها من الطيرين اللذين يحدثان في أعدائها؛ هذا بالإنذار الجاعل كيدهم في تضليل، وذلك بما ترى رأيتها المنصورة عليهم من تضليل. وقال القاضي محيي الدين بن الظاهر رحمه الله تعالى: ولما وقفت على ما أنشأه القاضي الفاضل، على ما أنشأه الشيخ السديد أردت أن أجر الخاطر، فأنشات وأنا غير مخاطب أحدًا بل مخاطر، وأين الثرى من الثريا، وما الحسن لكل أحد يتهيا، وعلي أن أجيب وما علي أن أجيد، وما كل والد يدرك شأو الوليد، ولا كل كاتب عبد الرحيم ولا عبد الحميد، فقلت: وأما حمائم الرسائل فكم أغنت البرد عن جوب القفار، وكم قدت جيوبها على أسرى أسرار؛ وكم أعارت السهام أجنحة فأحسنت بتلك العارية المطار، وكم قال جناحها لطالب النجاح: لا جناح، وكم سرت فحمدت المساء إذا حمد غيرها من السارين الصباح، وكم ساوقت الصبا والجنائب فقاقتهما ولم تحوج سلام المشتاقين إلى امتطاء كاهل الرياح. كم حسن ملك كل منهما ملك، وكم قال مسرحها لمجيئه بها: قرة عين لي ولك، كم أجملت في الهوى تقلبًا، وإذا غنت الحمائم على الغصون صمتت عن الهديل والهدير تأدبا، كم دفعت شكا بيقينها، ورفعت شكوى بتبيينها، وكم أدت أمانة ولم تعلم أجنحتها _________ (1) ح، ط: "جارح"، وما أثبته من الأصل. (2/317) _________ بما في شمالها ولا شمالها بما في يمينها. كم التفت منها الساق بالساق، فأحسنت لربها المساق، وكم أخذت عهود الأمانة فبدت أطواقا في الأعناق، ويقال: ما تضمنته من البطائق بعض ما تعلق منها في الرياض من الأوراق، تسبق اللمح، وكم استفتح بها بشير إذا جاء بالفتح، تفوت (1) الطرف السابق، والطرف الرامي الرامق، وما تلت سورة البروج إلا وتلت سورة الطارق. كم أنسى مطارها عدو السلكة والسليك، وكم غنيت في خدمة سلطانها عن الغناء وقال كل منهما لرفيقه: إليك عن الأيك. ما أحوج تصديقهما في رسالتهما إلى الإعزاز بثالث، وكم قيل في كل منهما لمن سام هذا حام في خدمة أبناء يافث، كم سرحا بإحسان، وكم طارا بأفق فاستحق أن يقال لهما: فرسا سحاب إذا قيل لأحدهما فرسا رهان، حاملة علم لمن هو أعلم به منها، يغني السفار والسفارة فلا تحوجهم إلى الاستغناء عنها. تغدو وتروح، وبالسر لا تبوح، فكم غنيت باجتماعها بإلفها عن أنها تنوح. كم سارت تحت أمر سلطانها أحسن السير، وكم أفهمت أن ملك سليمان إذ سخر له منها في مهماته الطير، أسرع من السهام المفوقة، وكم من البطائق مخلقة وغير مخلقة، كم ضللت من كيد، وكم بدت في مقصورة دونها مقصورة ابن دريد. ومن إنشاء الأديب تقي الدين أبو بكر بن حجة في ذلك: سرح فما سرح العيون إلا دون رسالته المقبولة، وطلب السبق فلم يرض البرق سرحا ولا استظل صفحته المصقولة؛ وكم جرى دونه النسيم فقصر وأمست أذياله بعرف السحب ملولة. وأرسل فأقر الناس برسالته وكتابه المصدق، وانقطع كوكب الصبح خلفه فقال عند التقصير: كتب يجاب وعلى يدي يخلق، يؤدي ما جاء على يده من الترسل فيهيج الأشواق، وما برحت الحمام تحسن الأداء في الأوراق، وصحبناه على الهدى فقال: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى}، ومن روى عنه الحديث المسند فعن عكرمة قد روى، يطير مع _________ (1) ح، ط: "تسبق". (2/318) _________ الهوى لفرط صلاحه، ولم يبق على السر المصون جناح إذا دخل تحت جناحه؛ إن برز من مقفصه لم يبق للصرح الممرد قيمة، بل ينعزل بتدبيج أطواقه ويعلق عليه من العين تلك التميم، ما سجن إلا صبر على السجن وضيقة الأطواق، ولهذا حمدت عاقبته على الإطلاق، ولا غنى على عود إلا أسال دموع الندى من حدائق الرياض، ولا أطلق من كبد الجو إلا كان سهما مريشا تبلغ به الأغراض. كم علا فصاد بريش القوادم كالأهداب لعين الشمس، وأمسى عند الهبوط لعيون الهلال كالطمس؛ فهو الطائر الميمون والغاية السباقة، والأمين الذي إذا أودع أسرار الملوك حملها بطاقة؛ فهو من الطيور التي خلا لها الجو فنقرت ما شاءت من حبات النجوم، والعجماء التي من أخذ عنها شرح المعلقات فقد أعرب من دقائق المفهوم، والمقدمة والنتيجة للكتاب الحجلي في منطق الطير، وهي من حملة الكتاب الذي إذا وصل القارئ منه إلى الفتح يتهلل لحبه الخير؛ إن يصدر البازي بغير علم فكم جمعت بين طرفي كتاب، وإن سألت العقبان على بديع السجع أحجمت عن رد الجواب. رعت النسور بقوة جيف الفلا ... ورعى الذباب الشهد وهو ضعيف ما قدمت إلا وأرتنا من شمائلها اللطيفة نعم القادمة، وأظهرت لنا من خوافيها ما كانت له خير كاتمة. كم أهدت من مخلبها وهي غادية رائحة، وكم حنت إليها الجوارح وهي أدام الله إطلاقها عز جارحة، وكم أدارت من كؤوس السجع ما هو أرق من قهوة الغنشا، وأبهج على زهر المنثور من صبح الأعشى. وكم عامت بحور الفضاء ولم تحفل بموج الجبال، وكم جاءت ببشارة وخضبت الكف من تلك الأنملة قلامة الهلا، وكم زاحمت النجوم بالمناكب حتى ظفرت بكل كف خضيب، وانحدرت كأنها دمعة سقطت على خد الشقيق لأمر مريب، وكم لمع في أصيل الشمس خضاب كفها الوضاح، فصارت بسموها وفرط البهجة كمشكاة مصباح.
والله تعالى يديم بأفنان أبوابه العالية الحان السواجع، ولا برح تغريدها بين البادئ والراجع. (2/319) |
|