أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: محمد والقيادة السياسية السبت 10 فبراير 2024, 2:52 pm | |
| الفصل الثالث محمد والقيادة السياسية كان الرسول عليه السلام إلى جانب ميزاته المتعددة الجوانب قائداً سياسياً عظيماً ورجل دولة فذاً، في أمة تأخذ طريقها في البناء، بعد حركة هدم، والتوحد بعد تجزئه وتفرقة.. إنها مرحلة انعطاف تاريخي كبير، ليس في إطار شبه جزيرة العرب فحسب، بل انعطاف في حياة الشعوب والأمم، فمرحلة عظيمة كهذه تحتاج إلى قيادة سياسية عظيمة هي بحجم هذا التحول الكبير...
القائد والمُشَرِّع لقد تجلت قيادته السياسية مع بدء مرحلة التاريخ الإسلامي أي مع الهجرة إلى المدينة، وقيام الدولة العربية الإسلامية الأولى، فكان عليه السلام القائد والحاكم والشرع يضع خطط البناء الداخلي، والمجابهة مع العدو الخارجي، بتزامن غاية في الدقة والتنظيم.
يقول هارون ماركوس (1812-1887م): ((كان محمد زعيماً سياسياً بأسمى معاني الزعامة السياسية من معني وسيادة، وهذه كانت تتجلى في أروع المظاهر التي عرفها بنى الإنسان، وخليق بي وأنا في صدر الكلام عن الزعامة السياسية أن أدحض فرية وأرد بهتاناً، لا يزالان عالقين في أذهان قاصري العقول، الذين لا يملكون ذرة من حصافة الرأي، وتلك الفرية وذلك البهتان هما ما يردده أولئك الأغبياء، الذين يزعمون أن لا علاقة بين الدين والسياسة، وأن لا رابطة تربط أحدها بالآخر، إن من الخطأ أن يظن ظان هذا)).
حكمة وبُعد نظر لقد تجلَّت عبقرية محمد -صلى الله عليه وسلم- السياسية في بعد نظره وحكمته في حل المسائل العالقة والشائكة، وكان يخفي سرها حتى على أقرب المقربين إليه، حيث يذهب بعضهم إلى معارضته ومحاولة ثنيه عمَّا عزم عليه... من ثم يدركون بعد حين سداد رأيه وبُعد نظره وليس أدَلَّ على ذلك من الميثاق الذي عقده مع قريش وعُرِفَ فيما بعد باسم «عهد الحديبية»، الذي ظهر في بادىء الأمر وكأنه يجري لصاح قريش، ومجحف بحق المسلمين، لكن ما لبثت أن ظهرت خطورة هذا العهد على مشركي قريش أنفسهم فتوسَّلوا إلى الرسول بصلة الرَّحم أن يتجاوز ذلك البند الذي كان في الظاهر يجري لصالحهم: إعادة مَنْ لجأ إليه هرباً من براثنهم، ولم يجبهم إلى ذلك إلا بعد أن خطياً).
سداد السياسي العاقل ونورانية النبي الصادق إن دارس سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في مختلف أدوار حياته منذ أن صدع بالرسالة، ودوره العظيم في تبديل واقع الجزيرة العربية المجزأة وتوحيد القبائل العربية، وإعلاء اسم الله في معقل الوثنية، قد دللت على بُعد النظر لديه وسداد الرأي.
يقول المستشرق الأسوجي كازانوفا (1937 - 1903م) في مؤلفه: "حضارة الشرق": ((إن التعقل ونضوج الفكر اللذين دل عليهما، إذ أظهر الآيات الأولى الموحاة إليه، وحن سياسته في توحيد القبائل العربية رغم الخرافات المتأصلة، وفي تمييز ما ينبغي الإبقاء عليه من تقاليدها القديمة، كلها أدلة على أنه كان له في الأمور نظر سديد، كان يرى الغاية ويسعى إليها بغريزة السياسي العاقل، ونورانية النبي الصادق على السواء)).
رجل فكر وحكم وسلم وحرب إن دراسة الجوانب السياسية في حياة الرسول ونمط تفكيره، تقودنا إلى أنه كان إنساناً عميق التفكير، قبل مبعثه وفي مرحلة نشر الدعوة الإسلامية في مكة، ومن ثم في مرحلة تأسيس الدولة الإسلامية الأولى، وكان دائماً يجنح للسلم إن هيئت له أسباب إقامة السلام في ربوع أرض العرب.
يقول المفكر البلجيكي هنري ماسيه (1820 - 1886م) في كتابه: ((إذا بحثنا عن محمد إجمالياً نجده ذا مزاج عصبي وفكر دائم التفكير ونفس باطنها حزن، وأمَّا مداركه فهي تمثل شخصاً يعتقد بإله واحد، وبوجود حياة أخرى، ويتصف بالرحمة الخالصة، والحزم في الرأي والاعتقاد، ويضاف إليه أنه رجل حكومة، وأحياناً رجل سياسة وحرب، ولكنه لم يكن ثائراً بل كان مسالماً)).
الكفاءة العظيمة والقيادة الفذة وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- الحاكم، متميزاً حسب اعتراف المستشرقين بالكفاءة العظيمة والقيادة السياسية الفذة... وكانت صفته القيادية بارزة طاغية على سجاياه الأخرى.
يقول المستشرق الإيطالي البنس كايتان في كتابه: «أديان العرب»: ((أن مزية محمد هي كفاءته العجيبة كسياسي محنك أكثر منه كنبي موحى إليه، وليس في وسع أحد فهم محمداً أن يحط من كرامته، ومن فعل ذلك فقد ظلم نفسه وظلم محمداً)).
محمد الحاكم العادل والإداري البارع وتجلَّت عبقرية الرسول فيما تجلَّت به بأنه رجل حُكم وإدارة من الطراز الرفيع يحسن تدبير شؤون الرعية، بعيداً عن الأهواء، تحركه دائماً سجيتان في ذاته هما العدل والرحمة، يقودها عقل راجح يضع الأمور في نصابها... فالإنسان، النبي والإمام والحاكم، كان يرعى شؤون العامة ويصر على حُسن تطبيق العدل على الجميع.
يقول المستشرق الألماني برتلمي سانت هيليار في كتابه: «الشرقيون وعقائدهم»: ((كان مُحَمَّدٌ رئيساً للدولة وساهراً على حياة الشعب وحريته، وكان يعاقب الأشخاص الذين يجترحون الجنايات حسب أحوال زمانه وأحوال تلك الجماعات الوحشية التي كان يعيش النبي بين ظهرانيها، فكان النبي داعياً إلى ديانة الإله الواحد، وكان في دعوته هذه لطيفاً ورحيماً حتى مع أعدائه وإن في شخصيته صفتين هما من أجل الصفات التي تحملها النفس البشرية وهما العدالة والرحمة)).
ولقد تحدث المفكر عبد الرحمن عزام في كتابه: «بطل الأبطال» عن الرسول الحاكم وحُسن سياسته وحكمته في تصريف الأمور فقال: ((صفة عظمى من صفات الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهي مَثَلٌ لرجال الدولة والسياسة والقادة في جميع ميادين الإصلاح، لعلهم كذلك واجدون فيما ما يمكنهم من النجاح، فإن محمداً بما أوتي من الأخلاق، وما وهب من حُسن السياسة، وتصريف الأمور، ووضعها في نصابها، قد أوتي النجاح الذي لم يؤته أحَدٌ قبله ولا بعده، هذه الناحية من حياته يبدو فيها محمد مثلاً عالياً لرجل الدولة، وسترون بها ميزة على من سبقه من الأنبياء والرسل والأبطال، ولقد كانت أكثر وضوحاً في المدينة حيث استلزمت الأحوال أن يكون نبي الأمة وزعيمها وقائدها، وحيث أخذ التشريع الإسلامي يتناول الحياة السياسية والاجتماعية بتوسع وتفصيل أكثر مما كان في مكة، حين كانت الدعوة لا تزال في بدايتها، متجهة بكل قوتها إلى تعريف الناس بالله، وإنذارهم حسابه وعقابه، ذلك الفرق بين مظهري الدعوة في بيئتين مختلفتين، جعل بعض كتاب الملل الأخرى يحاولون أن يصوروا محمداً في شخصيتين مكي ومدني يقولون هذا نبي، وهذا رجل دولة وصاحب سلطان)).
ويتحدث الباحث الإنكليزي مونتجمري وات في كتابه «محمد في المدينة» عن عظمة الرسول ومواهبه التي امتاز بها، وكانت وراء نجاحه وإنجازاته الكبيرة، فهو إلى جانب موهبته لرؤية المستقبل وإدراكه الواقع الاجتماعي، ذو ميزتين اثنتين هما: كونه رجل دولة حكيماً وإدارياً بارعاً.
يقول مونتجمري وات: ((وكان محمد -صلى الله عليه وسلم- رجل دولة حكيماً. ولم يكن هدف البناء الأساسي الذي نجده في القرآن الكريم سوى دعم التدابير السياسية الملموسة والمؤسسات الواقعية. ولقد ألححنا خلال هذا الكتاب غالباً على استراتيجية محمد السياسية البعيدة النظر وعلى إصلاحاته الاجتماعية. ولقد دَلَّ على بُعد نظره في هذه المسائل الانتشار السريع الذي جعل من دولته الصغيرة إمبراطورية، وتطبيق المؤسسات الاجتماعية على الظروف المجاورة واستمرارها خلال أكثر من ثلاثة عشر قرناً، وكان محمد -صلى الله عليه وسلم- رجل إدارة بارعاً، فكان ذا بصيرة رائعة في اختيار الرجال الذين يندبهم للمسائل الإدارية، إذ لن يكون للمؤسسات المتينة والسياسة الحكيمة أثر إذا كان التطبيق خاطئاً متردداً. وكانت الدولة التي أسسها محمد، أصبحت عند وفاته، مؤسسة مزدهرة تستطيع الصمود في وجه الصدمة التي أحدثها غياب مؤسسها، ثم إذا بها بعد فترة تتلاءم مع الوضع الجديد وتتسع بسرعة خارقة اتساعاً رائعاً)).
|
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: رد: محمد والقيادة السياسية السبت 10 فبراير 2024, 2:52 pm | |
| القيادة والتشريع بين مكة والمدينة هذا، وكان للاختلاف بطبيعة واقع الحال بين مكة قبل الهجرة وفي المدينة بعدها، أن ذهب بعض المستشرقين إلى القول بأن محمداً -صلى الله عليه وسلم- كان نبياً في مكة وقائداً سياسياً ومشرعاً ورجل دولة في المدينة.
وهذا ما دفع المستشرق الفرنسي بوازار إلى عرض هذه الفكرة ومناقشتها، بقوله: ((وكثيرا ما يذاع أن محمداً بين في المرحلة الأولى من دعوته أفكار الإسلام العقيديه الأساسية، ثم بسط في زمن لاحق طرق العبادة وإقامة الشعائر، والتشريع الاجتماعي والجزائي، وجماع الشريعة القرآنية التي قام عليا الإسلام في أوائل عهده. وبعد أن كانت دعوته عربية بشكل أساسي في مكة، غدت عالمية الطابع في المدينة. وقد أكد النقد التاريخي هذا التكهن بصورة جزئية على صعيد تسلسل الأحداث بمفهومه الدقيق غير أن المسلم يعلل الوقائع بشكل مغاير. فليس للتنزيل بالفعل في نظره مظهران، مظهر ديني وآخر اجتماعي سياسي. بل هو يتمثله على العكس من ذلك كلا مقدماً بشكله الإجمالي. واعتمد الإسلام في أول أمره الأناة والإقناع، وما كان للمرحلة التشريعية أن تتحقق إلا حين تكون جنين مجتمع تضامني، وعليه يكون هذا المجتمع قد ظهر منطقياً في مرحلة تالية على مرحلة التبشير بالحياة الأخرى. وفي مكة بداً الإسلام بإعداد الأفراد - المسلمين الأوائل - الذين كانوا بحاجة، وهم بعد أقلية مضطهدة، إلى خلق لا إلى تشريع اجتماعي ما كانوا ليستطيعوا أن يطبقوه. وفيما بعد أقام الإسلام بالمدينة من الأفراد الذين سبق إعدادهم عن طريق الدين مجتمعاً قائماً على المساواة والتعاون وبادل المنافع ومزوداً نظم أوحى بها من الله أو مستلهمة من نور هدايته. ولا يقلل هذا التسلسل الزمني للأحداث الذي يرسم مسار ولادة المجتمع الإسلامي من طابع الدين الشمولي، بل هو على العكس يعظم من شأنه)).
وقد ناقش الباحث العربي الإسلامي عبد الرحمن عزام بعض آراء المستشرقين، ممن رأوا في الرسول نبياً في مكة، ورجل دولة في المدينة بقوله: ((لو أن الذين يظنون هذا الظن كانوا بعيدي النظر لرأوا محمداً الواعظ في مكة، هو محمداً الناسك في المدينة، الذي تتورم قدماه من كثرة الوقوف بين يدي الله، والذي يموت وهو رأس الدولة، ودرعه مرهونة عند يهودي.
بل لرأوا محمداً الذي يشيعه العبيد والصبية والسوقة في الطائف بالسخرية والحجارة ويقيمونه إذا جلس من الإعياء فيدعو الله لهم بالهداية هو محمداً الذي يناول مفتاح الكعبة لعثمان بن طلحة يوم الفتح ويقول: اليوم يوم بر ووفاء، لو أن هؤلاء الذين جعلوه نبياً في مكة، ورجل دولة في المدينة لاحظوا كيف وضعت نواة الدولة في أيام المحنة، لما حسبوها من غرس يثرب بل علموا أنها نتيجة محتومة للصراع العنيف، الذي دام ثلاث عشرة سنة، ونتاج للدعوة من وقت أن قال الله عز وجل: (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين)...
فذات الرسول التي وقفت في وجه المشركين ثلاثة عشر عاماً بمكة لا تعجز، ولا تهن، ولا تيأس، هي ذاته التي فاضت في المدينة على شؤون الدنيا فدلت على ما فيها من الحيوية والقوى التي جعلتها أهلاً للتغلب على كل معضلة في وقتها ومناسبتها. تلك القوى والصفات التي لم تجتمع لأحد قبله ولا بعده، جعلته من أية ناحية نظرت إليه كاملا وأسوة حسنة، بل من مجموع هذه القوى والصفات يبرز للناس رسول الله سواء كان في أيام الدعوة المجردة عن السلطة، أم في أيام الدعوة المصحوبة بالرياسة الزمنية، ذاتاً موفقة ناجحة، انصرفت إلى الله بكليتها فجعلته أمامها، ووضعت ما عداه وراءها، هو في كلتا القريتين الناسك العابد، الباكي بين يدي خالقه، وهو فيهما الزاهد، يعرض عليه أصحابه أن يوطئوا له فراشاً، فيقول: « مالي وللدنيا، ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها..» لم يغره السلطان بشيء من المظاهر، ولا خرج به عن التواضع والتياسر...
فأي تنافر يجد النقاد في حياة الرسول، ليجعلوا من شخصه شخصين وهو يكافح في مكة ولا سلطان له، ويجاهد في المدينة على رأس الدولة التي خلقها؟ لقد كان همه فيهما جمعياً إلى اللحظة الأخيرة، نشر دينه، وغايته بسط سيادة الإسلام على الشرك...
وأي تناقض يجد نقاده بين حياته في مكة، وحياته في المدينة، وهو في الأولى يتوسل بالصبر على الأذى والسخرية، ويتقى بعرف الجاهلية الموت مع أنه لا يقر ذلك العرف، ويسعى لهدمه، ويرسل المؤمنين مهاجرين إلى الحبشة، ويجادل على دينه، ويدعو إليه، ويخرج من كل كارثة برأي صائب، ويعد لكل حالة تدبيرا محكماً. وفي الثانية يتخذ من نصرة أهلها تكأة، فيعاهد اليهود والمشركين، ويتقي الموت بدرع الدولة التي نظمها وينجو من (الأحزاب) بحسن الرأي، ويغلب المصائب بموفق التدبير؟...
ثلاث عشرة سنة قضاها في فم السد، دون أن يستطيع الأسد أن يطبق عليه أنيابه، وعشر سنين في المدينة يحاول فيها الأسد أن يمسك بالفريسة، وفي هذه وتلك يبدي رسول الله من حسن الرأي، وبارع السياسة والصبر، وسعة الصدر والتدبير ما يوقع الأسد في شبكت الفريسة، فإذا ما انتهى إلى النصر الحاسم المعجز، وبهت الذين كفروا «قالوا: لو أنه لم يقم دولة ولم يقد جيشاً، لكان النبي الخالص من الشوائب.. لو أن الذين يأخذون على محمد أنه لم يقتصر على حياة الوعظ، وظنوا أن أكمل له أن يقف عند الجهر بالدعوة حتى يقتل، ففكروا في مصير الدعوة نفسها، لشاركونا في الإعجاب به مرشداً وواعظاً، ومنظماً وفاتحاً)).
الرسول ومجتمع الحرية والعدالة والمساواة لقد أقام الرسول كقائد سياسي، مجتمع الحرية والمساواة، بما ينسجم وروح الرسالة الإسلامية...
الرسول ومباديء الحرمة الفكرية طبيعي أن تكون مباديء الحرية في المجتمع الإسلامي لا تنفصم عراها عن مباديء الحرية الدينية التي وقفنا عندها في بحث "محمد والقيادة الدينية" ، فالحرية الفكرية هنا هي حرية الاعتقاد أولاً، ومن ثم الإيمان بحرية الإنسان ومحاربة العبودية...
ولقد رأى الباحث الأسباني العلامة سان اليار في مؤلفه: «تعاليم اللغة العربية» أن مباديء الحرية الفكرية التي دعا إليها الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- تجاوزت أفكار الكثير من المفكرين والمصلحين، بقوله: ((إن أوضح مباديء الحرية الفكرية قد كشفت أمثال -لوثير وكالفين- وعاد الفضل فيها إلى رجل عربي من رجال القرن السابع، ذلك هو صاحب شريعة الإسلام)).
الحرية الإنسانية وكان الإسلام دعوة لحرية الإنسان، والقضاء على العبودية، فأنزل الحرية الإنسانية أعلى عليين، ولذا رأيناه عليه السلام يول عناية خاصة لتحرير الأرقاء، عن طريق إلغاء مصادر الرق أولاً، وتشجيع المؤمنين على تحرر عبيدهم، انطلاقاً من قاعدة أن من أعتق عبداً أعتق الله له بكل عضو عضواً من أعضائه من عذاب النار.
وكان الرسول في مجتمعه الإسلامي إماماً في إقرار مبدأ تحرير العبيد، حتى أن أسرى الحرب لم يعتبرهم عبيداً، وسمح لهم بدفع الفدية أو تعليم أبناء المسلمين لفك إسارهم.
هذا، وستكون لنا وقفة خاصة لدراسة الحرية في الرسالة الإسلامية.
الرسول وإقامة العدالة والمساواة كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- كقائد سياسي ورجل حُكم وإدارة بالغ الحرص على تطبيق المساواة على الجميع، خاصة وقد وضع نفسه على قدم المساواة مع سائر المسلمين.
يقول مولانا محمد علي: ((وفي إقامة العدالة كان الرسول منصفاً حتى التوسوس، كان المسلمون وغير المسلمين، والأصدقاء والأعداء، كلهم سواء في نظره. وحتى قبل أن يبعث إلى الناس كانت أمانته وتجرده واستقامته معروفة لدى الخاص والعام، وكان الناس يرفعون منازعاتهم إليه حتى يحكم فيما. وفي المدينة رضي الوثنيون واليهود به حكماً في منازعاتهم كلها. وعلى الرغم من حقد اليهود العميق الجذور على الإسلام فإن الرسول حكم -عندما عرض عليه ذات مرة نزاع بين يهودي ومسلم- لليهودي بصرف النظر عن أن المسلم قد ينفر، بذلك، من الإسلام بل ربما بصرف النظر عن أن قبيلته كلها قد تنفر بذلك من الإسلام. ولا حاجة بنا إلى تبيان أهمية خسارة كهذه بالنسبة إلى الإسلام في أيام ضعفه ومحنته تلك، فالأمر أوضح من أن يحتاج إلى بيان. وباختصار، فقد كان تجسيداً للآية القرآنية التي تقول: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوَّامين لله شُهداء بالقسط، ولا يجرمنَّكُم شنآنُ قومٍ على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقربُ للتقوى، واتقوا الله، إن الله خبيرٌ بما تعملون). ولقد نبه ابنته، فاطمة، إلى أن أعمالها وحدها سوف تشفع لها يوم القيامة. وقال أيضاً: «لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها». وفيما كان على فراش الاحتضار، قبيل وفاته بقليل، سأل كل مَنْ له عليه دَيْنٌ أن يتقاضاه ذلك الدَّيْنِ، ولكل مَنْ أساء إليه ذات يوم أن يثأر لنفسه منه.
و في معاملاته مع الآخرين لم يكن يضع نفسه على مستوى أرفع من غيره البتة. كان يضع نفسه على قدم المساواة مع سائر الناس. وذات يوم، وكان قد احتل في « المدينة » مقاماً أشبه بمقام الملك، وفد عليه يهودي يقتضيه ديناً ما، وخاطبه في جلافة وخشنونه قائلاً إن بني هاشم لا يردون أيما مال اقترضوه من شخص آخر. فثارت ثاثرة عمر لوقاحة اليهودي، ولكن الرسول عنفه ذاهباً إلى أن الواجب كان يقتضي عمر أن ينصح كلاً من المدين والدائن: أن ينصح المدين -الرسول- برد الدين مع الشكر، وأن ينصح الدائن بالمطالبة به بطريقة أليق. ثم دفع إلى اليهودي حقه وزيادة، فتأثر هذا الأخير تأثراً عظيماً بروح العدل والإنصاف عند الرسول، ودخل في الإسلام. وفي مناسبة أخرى وكان مع أصحابه في أجمة من الآجام، حان وقت إعداد الطعام، فمهد إلى كل امرىء في القيام بجانب من العمل، وانصرف هو نفسه إلى جمع الوقود. لقد كان برغم سلطانه الروحي والزمني يؤدي قسطه من العمل مثل رجل عادي. وكان يراعي، في معاملته خدمه، مبدأ المساواة نفسه، وقال أنس: "خدمت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين فما قال لي أف قط، وما قال لشيء صنعته لم صنعته، ولا لشيء تركته لم تركته. «ولم يبق أيما عبد على عبوديته. فما إن يؤل إليه عبد رقيق حتى يسارع إلى إعتاقه. وطوال حياته كلها لم يضرب قط خادماً أو امرأةً»)).
القائد السياسي والحاكم الإنسان وفي ختام بحثنا هذا، نقف عند نقطة أثيرت في أكثرة من مبحث وهي أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي كان نبياً ومُشَرِّعاً وإدارياً وقائداً عسكرياً، ظل إنساناً بسيطاً في حياته تتسم بسائر جوانبها بطابع البساطة والنُّبل.
يقول الباحث جيمس متشنر عارفاً جوانب من شخصية الرسول القائد السياسي والحاكم الإنسان: ((أن محمداً هذا الرجل المُلهم، الذي أقام الإسلام، ولد حوالي 570 ميلادية في قبيلة عربية تَعْبُدُ الأصنام، وُلِدَ يتيماً مُحِبّاً للفقراء والمُحتاجين والأرامل واليتامى والأرقاء والمستضعفين. وقد أحدث محمد بشخصيته الخارقة للعادة ثورة في شبه الجزيرة العربية وفى الشرق كله. فقد حطم الأصنام بيديه، وأقام ديناً يدعو إلى الله وحده، ورفع عن المرأة قيد العبودية التي فرضتها تقاليد الصحراء، ونادى بالعدالة الاجتماعية وقد عرض عليه في آخر أيامه أن يكون حاكماً بأمره، أو قديساً، ولكنه أصر على أنه ليس إلا عبداً من عباد الله أرسله إلى العالم منذراً وبشيراً)).
|
|