الاستغراب والاستشراق
والتطرق للاستغراب يعرج بنا على الاستشراق، الذي يكون الآن قاعدة من قواعد المعلومات عن الإسلام والمسلمين، ويستقي منه الإعلام الغربي وصناع القرارات السياسية والحربية هذه المعلومات، لا سيما فئة من المُستشرقين الذين سيسوا الاستشراق، وطوعوه للإعلام، وسطحوا المعلومة، فيما يخدم هذا التوجه الإعلامي المؤثر، في حال من الحالات التي يمر بها العالم، ويكون المسلمون طرفًا فيها بإرادة أو دون إرادة أحيانًا، ويمكن أن ينظر إلى الاستشراق الأمريكي على أنه يمثل بوضوح هذا التوجه السريع للاستشراق، وهو الذي جعل الاستشراق السياسي طاغيًا على بقية الاستشراقات، أو ما بعد الاستشراق، أو ما سمي بالاستشراق الجديد، وهو ليس جديدًا (new)، بل هو متجدد (neo)، يؤرخ له عادة بما بعد مؤتمر باريس سنة 1393ه (1973م)، ثم ما بعد 22/ 6/ 1422ه - 11/ 9/ 2001م.

وتظهر بين الفينة والأخرى كتابات متميزة في طرحها حول نقد الاستشراق، تقوم على حوار مباشر مع ثلة من المُستشرقين ومن في حكمهم من التغريبيين العرب الذين أقاموا في الغرب، أو بقوا في محيطهم العربي والإسلامي، وتبنوا الفكر الاستشراقي حول الإسلام والمسلمين، وهؤلاء يسميهم أحمد الشيخ بالمُستشرقين العرب.

ومن ذلك كتاب: مِن نقد الاستشراق إلى نقد الاستغراب: حوار الاستشراق الذي صدر عن المركز العربي للدراسات الغربية، الذي أنشأه المؤلف أحمد الشيخ مع أخيه صلاح، يظهر فيه طرح قوي وجريء مع مستشرقين فرنسيين، حول دراستهم للشرق عمومًا، وللمجتمع المسلم المعاصر بخاصة.

وترى هؤلاء المُستشرقين يدافعون عن طروحاتهم عن الشرق والإسلام، مما يعني أنهم يصدرون عن اقتناع، ويأنفون من الرغبة في إقناعهم من مُحاور مسلم، رغم أنهم يحاولون الهروب من مصطلح الاستشراق، الذي اكتسب مع الوقت سمعة غير حسنة، ويبدو أن المحاور أحمد الشيخ قد واجه هؤلاء بقضايا مهمة حول موقفهم من الشرق وموقف الشرق منهم، وهو ما يمكن أن يكون نواة للاستغراب، بما في ذلك نقد الاستشراق نفسه الذي لا يزال قائمًا، رغم رغبة المُستشرقين أنفسهم في التنصل من المصطلح ؛ لما اكتسب من مفهوم سيئ (سلبي) ومشؤوم لدى العرب والمسلمين والمُستشرقين أنفسهم، وذلك في حوار ممتع مع جاك بيرك ومكسيم رودنسون وروجيه أرنادليز وأندريه ميكيل وجان بول شارنيه وهوجوز وديجو وغيرهم.

وفي ضوء نقد الاستشراق - على أنه من منافذ الاستغراب - ومن خلال هذا الحوار المهم استطاع المحاور أحمد الشيخ أن يخرج بنتائج يؤمل منه أن يجعلها محتوى لعمل قادم؛ لأنه لم يضمنها نتيجة نهائية في كتابه، وإن كانت مبثوثة في مقابلاته مع عدد لا بأس به من المُستشرقين وبعض العرب المتبنين للفكر الاستشراقي أو الفكر التغريبي في النظرة للإسلام دينًا وعقيدة وفكرة وثقافة وتمثلًا، على اعتبار أن الفكر التغريبي المتضمن تبني أفكار غربية هو منهج بذاته.

وما استطاع المحاور أحمد الشيخ الخروج به هو نواة لإمكانية بناء نظرية حول موقف المستشرق نفسه من الدراسات التي يقوم بها.

أما تبني أفكار المُستشرقين حول الإسلام من بعض المفكرين العرب والمسلمين، وهو موجود وكثير في الساحة العربية والإسلامية، فهو منهج آخر بذاته، ولا يعد هذا استغرابًا بالمفهوم الإجرائي لمصطلح الاستغراب، وإذا كان لا بد من المقارنة بين شرين، فبعض الشر أهون من بعض؛ أي إن تبني أفكار منبعها غربي على ما فيه من مآخذ، لا سيما إذا تعارضت مع صحيح الدين، هو شر أهون من تبني أفكار المُستشرقين (الغربيين) غير الدقيقة عن الدين الإسلامي.

وهذه الفئة هي المائلة إلى الغرب، المفتتنة بحضارته، وهكذا استخدم البشير الإبراهيمي هذا المصطلح في بعض مقالاته في مجلة البصائر.

واستخدمه آخرون كثير من أمثال بكر بن عبدالله أبو زيد، استخدمه مرتين في كتابه حراسة الفضيلة وهو بصدد الحديث عن تغريب المرأة المسلمة، واستخدمه محمود خليف خضير الحياني في كتابه الاستشراق والاستغراب، حينما خصص الفصل الرابع بعنوان عن علي الوري مستغربًا، وتحدث عن مرجعياته الثقافية والمعرفية، بصفته تغريبيًّا لا استغرابيًّا.

واستخدمه طيب تيزيني في كتابه من الاستشراق الغربي إلى الاستغراب المغربي، عندما جعل محمد عابد الجابري نموذجًا للمفكر التغريبي، واستخدمه أبو الأعلى المودودي في كتابه الحجاب، حيث يقول المعرب: "المستغربون: المائلون إلى الغرب، المفتتنون بحضارته، هكذا استعمل هذه الكلمة الكاتب الكبير محمد البشير الإبراهيمي في بعض مقالاته في مجلة (البصائر)، فاخترناها على غيرها من الكلمات في هذا المعنى، كالمتغربين والمتفرنجين"، ويبدو أن اختيار المصطلح (المستغربون) جاء من المعرب، وليس بالضرورة من المؤلف.

بينما نجد مَن نعت الاستغراب والمستغرب بأنهما مصطلحان يدلان على الميل نحو الغرب، إعجابًا أو تقليدًا أو دراسة، فأدخل الدراسة مع الإعجاب والتقليد، والدراسة استغراب دون الميل، والإعجاب والتقليد مع الميل قد يكون من التغريب، وقد لا يكون، بحسب درجة الإعجاب والتقليد، ففي الغرب ما يستدعي الإعجاب دون الميل ودون تغريب، وفيه كذلك، ما يستدعي التقليد دون الميل ودون تغريب.

وبعيدًا عن التعميم الذي اتسم به بعض ممن نقد الاستشراق، هناك من المُستشرقين من يحقق ويقرر أن بعضهم ينظر إلى دراسة الشرق عمومًا والإسلام بخاصة، على أنه مادة مكروهة، ويبدو أن هذه جرأة في الطرح واعتراف غير مسبوق؛ إذ ربما يعد من الأسباب التي أدت إلى ما وصلت إليه الدراسات الاستشراقية في معظمها، وبالتالي يمكن القول: إن نقد الاستشراق هو نوع من الاستغراب بالمفهوم العلمي للمصطلح، ويدخل في هذا المفهوم نقد الاستشراق الديني من منظور الاستغراب الديني، وإن كان لم يتبلور بعد، بما في ذلك النظر إلى الاستغراب نفسه من حيث كونه شكلًا من أشكال الحوار الإيجابي، أو امتدادًا لظاهرة الكُره والعداء بين الشرق والغرب، وما ينبغي أن يكون كذلك، فالثقافات ليست بحاجة إلى المزيد من الوقود لإشعال الفتنة بين خلق الله بأي اسم أو حجة.

وهل بالإمكان القول: إن نقد الاستشراق بالتالي قام كذلك على الكره للمستشرقين ودراساتهم؟ هذا الموضوع يحتاج إلى تفصيل يطول، ولكنه يعود بنا إلى دوافع نقد الاستشراق، فإن كان من الدوافع الغَيرة على الدين والمجتمع المسلم، فإن عدم الولاء لهذه الدراسات وارد ومطلوب، وعدم الولاء لا يعني بالضرورة العداء والكره، ولكنها منابر الفكر والرأي والحجة والنقاش والمحاورات والمناظرات، كلها وسائل للإقناع والاقتناع.

ولم تكن الغَيرة على الدين هي المسيطرة بالضرورة على نقد الاستشراق، بل إن هناك دارسين علمانيين أو ليبراليين -أو هكذا يقال عنهم- نقدوا الاستشراق، ومن هؤلاء من نقده ربما لأن الاستشراق تعاطف مع الجانب الديني في المجتمع المسلم، وكان هذا الفريق يود من المستشرق أن يتجاهل الدين في المجتمع المدروس، في الوقت الذي يصرح فيه المستشرقون بأنه لا يمكن إغفال البعد الديني في المجتمع المسلم المعاصر، ناهيك عن المجتمعات المسلمة السالفة.

يقول محمد القاضي: "إنه مهما وجهت من تهم للاستشراق والمُستشرقين لا بد من إنصاف بعضهم، وخصوصًا أولئك الذين أدوا للتراث العربي الإسلامي خدمات جليلة، سواء بأبحاثهم العلمية القيمة وتحقيقاتهم للتراث واكتشاف مصادره، ووضع فهارس مهمة يستفيد منها القارئ العربي والغربي في أبحاثه ودراساته".

وفي المحاورات التي تضمنها الكتاب (من نقد الاستشراق إلى نقد الاستغراب: حوار الاستشراق) طروحات جيدة حول هذا المفهوم، لا يملك المتابع لها أن يخفي إعجابه بها، وإن كان قد لا يتفق معها دائمًا، ولكنه الحوار الهادئ العميق وغير المجامل الذي يجذب القارئ إليه، ويتيح له هامشًا كبيرًا للتأمل والتفكر، ولعله لا يخفى على القارئ استمرار المتعة بهذا الطرح، والإفادة منه في ملاحقة ظاهرة أو حركة الاستشراق، للرغبة في الاستزادة من قراءة ما يكتب حولها، من نقد لها أو عليها.

ومن هذا المنطلق يكون العرب قد بدؤوا يطرقون أبواب الاستغراب، بعد دعوات عدة لدراسة الغرب، في ثقافته وعاداته، وتقاليده وآدابه.

والكتاب في غاية الأهمية لمن يعنيهم نقد الاستشراق، والدعوة إلى الردود عليه، فيما بدأ يطرح الآن على أنه دعوة إلى قيام علم أو ظاهرة أو حركة الاستغراب، التي يرجى ألا تكون مجرد رد فعل لظاهرة الاستشراق، التي تكونت منذ أكثر من سبعمائة سنة على أقل تقدير، منذ أن دعا ريموندو لوليو (1135 - 1314م) الكنيسة والملوك إلى تعليم اللغات الشرقية في جامعات أوروبا.

وتعرضت الظاهرة أو الحركة لتقلبات عددية بحسب ما تعرض له المجتمع المسلم من تقلبات، بدءًا بالحروب الصليبية ثم الاحتلال ثم التنصير، ثم الآن عودة الحروب الصليبية في أوروبا، بالتطهير العرقي والعقدي، مما يعني استمرار الاستشراق مهما حاول أقطابه أن ينسلخوا من المصطلح، وبالتالي يعني ذلك فهم الغرب ومنطلقاته في حملاته المتكررة على الشرق، ليس على مستوى الحروب فحسب، ولكن على مستويات أخرى ثقافية وسياسية واقتصادية، على أن زكي نجيب محمود (1905 - 1993م) يؤكد على أن خلافنا مع الغرب وهمٌ متبادل، وفي هذا تجاهل لكل أدوات سوء الفهم، أو سوء النية، كما يقول فتحي رضوان (1911 - 1988م)، التي طغت على العلاقة بين الشرق والغرب، مما يوحي بقدر من التبعية التي يقول عنها السيد ياسين (1919): إن فهمنا للتبعية مصدره الغرب، ومع هذا فهذا أنور عبدالملك (1924 - 2012م) يقول: أنا دائمًا مع ريح الشرق، مع أنه قد يقال عنه: إن روحه غربية أكثر من كونها شرقية، رغم نشأته في بلد عربي مسلم، بينما يصرح أنور لوقا (2003م) بقوله: أنا مستغرب دون استغراب، ولعله يقصد أنه يميل إلى الفكر الغربي من باب التغريب، لا من باب الاستغراب، ويبدو أن هذا يقع في سلسلة سوء فهم الاستغراب، والخلط بينه وبين التغريب.

ويدخل في المستويات الثقافية المستوى الإعلامي القوي في تأثيره، وهذا ما يمكن أن يطلق عليه مصطلح الاستغراب الصحفي أو الإعلامي الذي يحتاج منا إلى المزيد من التأمل والاعتبار.

ومما يدخل في إشكالية المصطلح أنه لا بد من التفريق في المصطلح بين الاستغراب والتغريب؛ إذ إن الاستغراب هو دراسات علمية وفكرية وثقافية للغرب، أما التغريب فإنما هو تقمص الفكر الغربي وثقافته وآدابه، على حساب الفكر الإسلامي والثقافة الإسلامية والعربية، وما نتج عنها من آداب وفنون واجتماع واقتصاد وسياسة.