المَبْحَث السابع: آيات في مناظَرَة أهل الكتاب
يَحْتَجّ بعض النصارى على أُلُوهِيّة عيسى -عليه الصلاة والسلام- بأنه يُحيي الموتى:
وإن مما يُبطِل هذا الاحتجاج: أن يُبيَّن ما أجْرَاه الله -عزّ وَجَلّ- مِن إحياء الموتى على أيدي الأنبياء قبل عيسى ابن مريم، وإثبات أن إحياء الموتى جَرَى قبل عيسى ابن مريم -عليه الصلاة والسلام-، ووَقَع بعد عيسى أعظَم مِن إحياء الموتى.
ومن ذلك:
أن إحياء الموتى ذُكِر ِستّ مرّات في سُورة البَقَرَة:
الموضع الأول: مَوْت بني إسرائيل بالصَّاعِقَة ثم إحياؤهم.
قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [(2) البقرة: 55، 56].
قال قَتَادَة: أَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ، ثُمَّ بَعَثَهُمُ اللَّهُ -تَعَالَى- لِيُكْمِلُوا بَقِيَّةَ آجَالِهِمْ (222).
وقَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: جَاءَتْهُمْ صَاعِقَةٌ بَعْدَ التَّوْبَةِ، فَصَعَقَتْهُمْ، فَمَاتُوا أَجْمَعُونَ. قَالَ: ثُمَّ أَحْيَاهُمُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِمْ (223).
قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا احْتِجَاجٌ عَلَى مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِالْبَعْثِ مِنْ قُرَيْشٍ، وَاحْتِجَاجٌ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ إِذْ خُبِّرُوا بِهَذَا (224).
الموضع الثاني: في قصة البَقَرَة والأمْر بِذَبحِها: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [(2) البقرة: 72، 73].
قال عِكْرِمَة: (فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا) قَالَ: بِفَخِذِهَا، فَلَمَّا ضُرِبَ بِهَا عَاشَ، وَقَالَ: قَتَلَنِي فُلانٌ؛ ثُمَّ عَادَ إِلَى حَالِهِ (225).
قال ابن جرير: وَمَعْنَى الْكَلامِ: فَقُلْنَا: اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا لِيَحْيَا، فَضَرَبُوهُ فَحَيِيَ (226).
الموضع الثالث: الذين فَرُّوا مِن الطّاعُون؛ فأماتَهم الله ثم أحياهُم.
قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} [(2) البقرة: 243].
قال الْحَسَن فِي قَوْلِهِ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} قَالَ: فَرُّوا مِنَ الطَّاعُونِ، فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ: مُوتُوا، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ لِيُكْمِلُوا بَقِيَّةَ آجَالِهِمْ (227).
الموضع الرابع: الذي أماته الله (100) عام ثم بَعثَه.
قال الله تبارك وتعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [(2) البقرة: 259].
كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: هُو عُزَيْر (228).
الموضع الخامِس: في نَفْس القِصّة: إحياء حِمَار عُزَيْر بعد مَوته: (وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ) قال عِكْرِمَة: لَمَّا قَامَ نَظَرَ إِلَى مَفَاصِلِهِ مُتَفَرِّقَةً، فَمَضَى كُلُّ مَفْصِلٍ إِلَى صَاحِبِهِ فَلَمَّا اتَّصَلَتِ الْمَفَاصِلُ كُسِيَتْ لَحْمًا (229).
قال ابنُ جَرِير: (نَظَرَ إِلَى حِمَارِهِ يَتَّصِلُ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ -وَقَدْ كان مَاتَ مَعَهَ- بِالْعُرُوقِ وَالْعَصَبِ، ثُمَّ كَيْفَ كُسِيَ ذَلِكَ مِنْهُ اللَّحْمَ، حَتَّى اسْتَوَى، ثُمَّ جَرَى فِيهِ الرُّوحُ، فَقَامَ يَنْهَقُ) (230).
الموضع السّادِس: في قصة إبراهيم الخلِيل -عليه الصلاة والسلام-.
قال الله -عزّ وَجَلّ-: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [(2) البقرة: 260].
قال قَتَادَة فِي قَوْلِهِ: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} قَالَ: فَمَزِّقْهُنَّ، قَالَ: أُمِرَ أَنْ يَخْلِطَ الدِّمَاءَ بِالدِّمَاءِ، وَالرِّيشَ بِالرِّيشِ (231).
وقال مُجَاهِد: {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا} قَالَ: ثُمَّ بَدِّدْهُنَّ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ يَأْتِينَكَ سَعْيًا، وَكَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى (232).
وهناك ما هو أعجَب مِن هذه الوَقَائع، وهو أن تَتَحوّل العَصا اليَابِسَة إلى مَخْلُوق يَتَحَرّك ويَسْعَى، ثم تَعود عَصا، ثم تتكَرّر هذه الْمُعجِزة ثلاث مرّات.
ففي قصة موسى -عليه الصلاة والسلام-: تَحَوّلَت العَصا إلى حيّة، ثم عادت عَصا كما كانت، ثم تحوّلت العصا إلى حيّة في مجلس فِرعون، ثم عادت عَصا كما كانت، ثم تحوّلت العَصا إلى حيّة في يوم الزِّينَة، وابْتَلَعَتْ كل ما ألْقَاه السَّحَرَة، وهذا أعجَب مِن مُجرّد إحياء ميّت كان قبل ذلك حيّا، كما في مُعجِزة عيسى ابن مريم -عليه الصلاة والسلام-.
قال الله جلّ جلاله: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى} [(20) طه: 17 - 21].
هذه المرّة الأولى عندما كَلّمه ربُّه في الوادي الْمُقدَّس.
والثانية في مجلس فرعون:
{قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} [(26) الشعراء: 30-32].
والثالثة يوم الزينة:
{قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وأمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَــةً مُوسَى (67) قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [(20) طه: 65-69].
بل وأحيَا الله هارَون -عليه الصلاة والسلام- مِن أجْل إظهار بَراءة موسى -عليه الصلاة والسلام- مِن تُهمَة قَتْلِه.
(رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه فِي قَوْلِ اللَّهِ: {لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} [(33) الأحزاب: 69] الآيَةَ، قَالَ: صَعِدَ مُوسَى وَهَارُونُ الْجَبَلَ، فَمَاتَ هَارُونُ، فَقَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ: أَنْتَ قَتَلْتَهُ، وَكَانَ أَشَدَّ حُبًّا لَنَا مِنْكَ، وَأَلْيَنَ لَنَا مِنْكَ، فَآذَوهُ بِذَلِكَ، فَأَمَرَ اللَّهُ الْمَلائِكَةَ فَحَمَلَتْهُ حَتَّى مُرُّوا بِهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَتَكَلَّمَتِ الْمَلائِكَةُ بِمَوْتِهِ، حَتَّى عَرَفَ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ، فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ فَانْطَلَقُوا بِهِ فَدَفَنُوهُ، فَلَمْ يَطّلِع عَلَى قَبْرِهِ أَحَدٌ مِنْ خَلَقِ اللَّهِ إِلاَّ الرَّخَمَ) (233).
(وفي رواية عن عليّ رضي الله عنه: فَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالُوا لَهُ: أَيْنَ هَارُونُ؟ قَالَ: تَوَفَّاهُ اللَّهُ. قَالُوا: أَنْتَ قَتَلْتَهُ، حَسَدْتَنَا عَلَى خُلُقِهِ وَلِينِهِ، أَوْ كَلِمَةٌ نَحْوَهَا قَالَ: فَاخْتَارُوا مَنْ شِئْتُمْ قَالَ: فَاخْتَاروا سَبْعِينَ رَجُلا. قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا} [(7) الأعراف: 155] قَال: فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَيْهِ قَــالُوا: يَا هَــارُونُ مَنْ قَتَــلَكَ؟ قَالَ: مَا قَتَلَنِي أَحَدٌ، وَلَكِنَّنِي تَوَفَّانِي اللَّهُ) (234).
وفي رواية: (فَلَمَّا أَتَوْا الْقَبْرَ، قَالَ مُوسَى: أَقُتِلْتَ أَوْ مُتَّ؟ قَالَ: مُتُّ).
وفي رواية: (فاخْتَارَ مِنْهُمْ سَبْعِينَ رَجُلا. قَالَ: فَلَمَّا أَتَوْا الْقَبْرَ، قَالَ مُوسَى: أَقُتِلْتَ أَوْ مُتَّ؟  قَالَ: مُتُّ. قَالَ: فَأُصْعِقُوا، فَقَالَ مُوسَى: رَبِّ مَا أَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِذَا رَجَعْتُ؟ يَقُولُونَ: أَنْتَ قَتَلْتَهُمْ، قَالَ: فَأُحْيُوا وَجُعِلُوا أَنْبِيَاءَ) (235).
وأجرَى اللهُ الْحَجَر كما يَجْرِي الأحياء؛ وليس مُجرّد تحرّك وتَدَحرُج، بل جَرْيًا على غير العادة؛ لإظهار براءة موسى -عليه الصلاة والسلام-.
قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: إِنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلاً حَيِيًّا سِتِّيرًا، لاَ يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ، اسْتِحْيَاءً مِنْهُ، فَآذَاهُ مَنْ آذَاهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالُوا: مَا يَسْتَتِرُ هَذَا التَّسَتُّرَ إِلاَّ مِنْ عَيْبٍ بِجِلْدِهِ إِمَّا بَرَصٌ، وأمَّا أُدْرَةٌ (236)، وأمَّا آفَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يُبَرِّئَهُ مِمَّا قَالُوا لِمُوسَى، فَخَلاَ يَوْمًا وَحْدَهُ فَوَضَعَ ثيَابَهُ عَلَى الْحَجَرِ ثُمَّ اغْتَسَلَ، فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ إِلَى ثِيَابِهِ لِيَأْخُذَهَا، وَإِنَّ الْحَجَرَ عَدَا (237) بِثَوْبِهِ، فَأَخَذَ مُوسَى عَصَاهُ وَطَلَبَ الْحَجَرَ، فَجَعَلَ يَقُولُ: ثَوْبِيَ حَجَرُ، ثَوْبِيَ حَجَرُ (238)، حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَلإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَرَأَوْهُ عُرْيَانًا أحْسَنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ، وَأَبْرَأَهُ مِمَّا يَقُولُونَ، وَقَامَ الْحَجَرُ، فَأَخَذَ ثَوْبَهُ فَلَبِسَهُ، وَطَفِقَ بِالْحَجَرِ ضَرْبًا بِعَصَاهُ. فَوَاللَّهِ إِنَّ بِالْحَجَرِ لَنَدَبًا مِنْ أَثَرِ ضَرْبِهِ ثَلاَثًا، أَوْ أَرْبَعًا، أَوْ خَمْسًا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [(33) الأحزاب: 69] (239).
وكانت الآيات والمعجِزات التي أعطاها الله لِمُوسَى أكثر مِمّا أُعطِي عيسى ابن مريم عليهم السلام.
قـال القرطبي: (قَوْلُــهُ -تَعَالَى-: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [(17) الإسراء: 101] وَهِيَ: الْعَصَا، وَالسُّنُونَ، وَالْيَدُ، وَالدَّمُ، وَالطُّوفَانُ، وَالْجَرَادُ وَالْقُمَّلُ، وَالضَّفَادِعُ، وَفَلْقُ الْبَحْرِ. وَقِيلَ: الْبَيِّنَاتُ: التَّوْرَاةُ، وَمَا فِيهَا مِنَ الدَّلالاتِ) (240).
فإن كانت مُعجِزة إحياء الموتى التي أعطاها لِعيسى بن مريم -عليه الصلاة والسلام- سَبَبًا لاتّخاذِه (إلَهًا) أو (ابن إله) كما تَزعم النصارى؛ فإن موسى -عليه الصلاة والسلام- أحقّ بذلك لِكثرة مُعجِزاته، وآدم -عليه الصلاة والسلام- خَلَقَه الله بِيدِه، وأسْجَد له ملائكتــه؛ فكان أحقّ أن يَكون (ابن إله)، لو كان الله مُتّخِــذًا وَلَدا -ســبحانه وتعــالى عمّا يقــولون عُلوّا كبيرا- {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِــذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [(39) الزمر: 4].
وكذلك: ما جاء في قصة داود -عليه الصلاة والسلام- وأن الجِبال كانت تُسبِّح معه.
قال الله -عزّ وَجَلّ-: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [(34) سبأ: 10].
فأنْطَق الله الجِبال مُعجزة لِنَبِيّه داود -عليه الصلاة والسلام-.
فإذا أتَى عيسى ابن مَريم بِآيَة مثل بعض ما سَبق، فلَيْس بِدْعًا مِن الرُّسُل، ولم يَنفرِد بِالْمُعْجِزة، ولا تَفرّد بِمُعجِزة إحياء الموتى، بل أجْرَاها الله -عزّ وَجَلّ- على أيدي مَن ذَكَرنا من الأنبياء مِن قَبْله.
وقد شَهِد بِنُبوّة نَبِيّنا محمد -صلى الله عليه وسلم- الشجر والْحَجَر.
(جاء جبريل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ذات يومٍ وهو جالِس حَزِينًا، قد خُضِّبَ بالدماء، ضَرَبَهُ بعضُ أهل مكةَ قال: فقال له: ما لَكَ؟  فقال له: فَعَلَ بي هؤلاءِ وفَعَلُوا، قال: فقال له جبريل عليه السلام: أتُحِبّ أنْ أُرِيكَ آية؟  قال: نعم، قال: فنظرَ إلى شجرة من وراء الوادي، فقال: ادْعُ بِتلك الشّجرةِ، فَدَعَاها فجاءتْ تمشي حتى قامتْ بين يَديه، فقال: مُرْها فلتَرْجِعْ، فأمَرَها فَرَجَعَتْ إلى مَكانها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: حَسْبِي، حَسْبِي) (241).
ولَمّا دَعَا نَبِيّنا محمد -صلى الله عليه وسلم- شَجَرةً جاءتْ تَمْشِي إليه.
قال ابنُ عمرَ رضي الله عنهما:)كُنّا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سَفَر فأقبَلَ أعرابي، فلمّا دَنَا منه قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أين تُريد؟ قال: إلى أهْلِي، قال: هل لكَ في خَير؟ قال: وما هُو؟  قال: تَشهد أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ لَهُ، وأن محمدا عبدُه ورسولُه. فقال: ومَن يَشهَدُ على ما تَقُول؟  قال: هذه السَّلَمَةُ (242). فَدَعَاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهي بِشَاطِئ الوادِي، فأقْبَلَتْ تَخُدُّ الأرضَ خَدّا حتى قامتْ بين يديه، فاسْتَشْهَدَها ثلاثا، فشَهِدت ثلاثا أنه كَمَا قال، ثم رَجعت إلى مَنْبَتِها، ورَجَع الأعرابي إلى قَومِه، وقال: إن اتّبَعوني أَتَيْتُك بِهِم، وإلاّ رَجَعتُ فكُنتُ مَعك) (243).
وجاء أعرابي آخر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: (بِمَ أعْرِف أنك نَبِيٌّ؟  قال: إن دَعَوتُ هذا العِذقَ (244) مِن هذه النَّخْلةِ، أتَشهَد إني رسولُ الله؟  فَدَعَاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجَعل يَنْزِل مِن النّخلة حتى سَقَط إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم قال: ارجِع، فَعَاد، فأسْلَم الأعرابي) (245).
وسَلَّم الْحَجَر -وهو جَمَاد- على نَبِيّنا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إني لأعرفُ حجرًا بمكةَ كان يُسَلِّم عليّ قبل أن أُبْعَثَ، إني لأعرفه الآن) (246).
واسْتَجَابتْ له الْجِبَال.
فقد صَعِدَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- جَبَل أُحُد وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ، فَرَجَفَ بِهِمْ، فَضَرَبَهُ بِرِجْلِهِ، فَقَالَ: (اثْبُتْ أُحُدُ، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ) (247).
وفي حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ عَلَى حِرَاءٍ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، فَتَحَرَّكَتِ الصَّخْرَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: اهْدَأْ، فَمَا عَلَيْكَ إِلاَّ نَبِيٌّ، أَوْ صِدِّيقٌ، أَوْ شَهِيدٌ) (248).
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن جَبَل أُحُد: (هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ) (249).
وهذا أعجَب مِن إحياء ميّت كانت تَدبّ فيه الحياة.
وأوْرَد ابن كثير قولَ الإمام الشافعي: (ما أعْطَى الله نَبِيًّا ما أعْطَى محمداً -صلى الله عليه وسلم-. فقِيــل له: أعْطَى عيسى إحيـاءَ الْمَوْتَى. فقال: أعْطَى محمدًا -صلى الله عليه وسلم- الْجِذعَ الذي كان يَخطب إلى جَنبه حين هُيئ له المنبرُ: حَنّ الْجِذْعُ حتى سُمِع صَوتُه، فهذا أكبرُ مِن ذاك.
ثم قال ابن كثير: والمراد مِن إيراد ما نَذكره في هذا الباب التنبيهُ على شَرفِ ما أعطَى الله أنبياءه عليهم السلام مِن الآياتِ البيّنات، والخوارقِ القاطعاتِ، والحججِ الواضحاتِ، وأن الله تعالى جَمَع لِعَبده ورسولِه سَيّدِ الأنبياء وخاتَمِهِم مِن جميع أنواع الْمَحَاسِن والآيات، مع ما اختَصّه الله به مما لم يُؤتِ أحدًا قَبْله....
وإنما قال [يعني: الإمام الشافعي]: فهذا أكْبَر مِن ذلك؛ لأن الجذعَ ليس مَحَلاًّ للحَياة، ومع هذا حصل له شعورٌ وَوَجْدٌ (250)، لَمّا تَحوّل عنه إلى المنبرِ فَأنَّ وحَنّ حَنينَ العِشَار (251) حتى نَزَل إليه رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فاحتَضَنَه وسَكَّنه حتى سَكَن (252).
وأمَّا عَودُ الحياة إلى جَسدٍ كانت فيه بإذنِ الله فَعَظيم، وهذا أعجبُ وأعظم مِن إيجاد حياة وشعور في مَحَلٍّ ليس مألُوفًا لذلك لم تكن فيه قَبْل بِالكُلّيّة) (253).
ومِن الآيات التي يُحتَّجّ بها على النصارى، وهي تُوافِق ما عندهم:
قوله تبارك وتعالى عن عيسى بن مريم -عليه الصلاة والسلام-: {هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [(43) الزخرف: 59]. ثم قال الله -عزّ وَجَلّ- عنه: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [(43) الزخرف: 61].
ومَعْنَى الْكَلام: وَإِنَّ عِيسَى ظُهُورُهُ عِلْمٌ يُعْلَمُ بِهِ مَجِيءُ السَّاعَةِ، لأَنَّ ظُهُورَهُ مِنْ أَشْرَاطِهَا، وَنُزُولَهُ إِلَى الأَرْضِ دَلِيلٌ عَلَى فَنَاءِ الدُّنْيَا وَإِقْبَالِ الآخِرَةِ (254).
كانَ ابْن عَبَّاسٍ يَقْرَأُ {وَإِنَّهُ لَعَلَمٌ لِلسَّاعَةِ} قَالَ: نُزُولُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ (255).
قال البغوي: (وَإِنَّهُ) يَعْنِي عِيسَى -عَلَيْهِ السَّلامُ-، {لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} يَعْنِي: نُزُولَهُ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ يُعْلَمُ بِهِ قُرْبُهَا. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَقَتَادَةُ: "وَإِنَّهُ لَعَلَمٌ لِلسَّاعَةِ" بِفَتْحِ اللاّمِ وَالْعَيْنِ، أَيْ: أَمَارَةٌ وَعَلامَةٌ (256).
وهذا ما أخبَرنا بِه نَبِيّنا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا، فَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ، وَيَفِيضُ الْمَالُ حَتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أَحَدٌ (257).
وكَسْر عيسى ابن مريم للصَّلِيب وقَتْله للخِنْزِير؛ لأن النصارى اسْتَبَاحُوها، ولأنها نُسِبَت إلى شَرِيعَته كَذِبا وزُورا.
قال النووي: وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "فيَكسِر الصَّلِيب" معناه يَكسِره حقيقة، ويُبْطِل ما يَزعُمه النصارى مِن تَعظِيمه.
وفيه دليل على تغيير المنكرات وآلات الباطل، وقتل الخنْزِير مِن هذا القَبِيل (258).
وفي هــذا الحــديث: أن عيسى ابن مريم -صلى الله عليه وسلم- سَــيَقوم بأعمال جليلة، منها:
كَسْر الصُّلْبَان، وقَتْل الخِنازير، ومَلء الأرض قِسطا وعَدْلا، ووَضْع الْجِزيَة؛ فلا يَقبَل مِن أحَدٍ إلاّ الإسلام، وتَكْثُر الخيرات في زَمان عيسى؛ حيث يَكثر المال حَتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أَحَد.
وكَسْر الصُّلْبَان؛ لأن الذي زَعَمُوا أنه قُتِل وصُلِب هو مَن يَكسِر الصّلِيب!
وعيسى ابنُ مريم هو الذي سيَقتُل الدَّجال؛ فَمَسِيح الْحَقّ، سيَقتُل مَسِيح الضَّلاَلَة.
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يُخبِر عن الدَّجَال: فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ (259)، بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ (260)، وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ، إِذَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ قَطَرَ، وَإِذَا رَفَعَهُ تَحَدَّرَ مِنْهُ جُمَانٌ كَاللُّؤْلُؤِ (261)، فَلاَ يَحِلُّ لِكَافِرٍ يَجِدُ رِيحَ نَفَسِهِ إِلاَّ مَاتَ، وَنَفَسُهُ يَنْتَهِي حَيْثُ يَنْتَهِي طَرْفُهُ، فَيَطْلُبُهُ حَتَّى يُدْرِكَهُ بِبَابِ لُـدٍّ (262)، فَيَقْتُلُهُ (263).
فَعِيسى ابن مريم وُلِد في فلسطين، وسَيَقتُل الدَّجّال في فلسطين.
ونُزُول عيسى ابن مريم في آخر الزمان مُوافِق لِمَا عند أهل الكِتاب، وهو ما يَدلّ عليه قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [(4) النساء: 159].
قَالَ ابن عباس رضي الله عنهما: قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى (264).
وقَال الحَسَن البَصْري: قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى، وَاللَّهِ إِنَّهُ الآنَ لَحَيُّ عِنْدَ اللَّهِ، وَلَكِنْ إِذَا نَزَلَ آمَنُوا بِهِ أَجْمَعُونَ (265).
و"في إنْجِيل مُرْقس في الفصل السادس عشر التَّصْرِيح بِرَفْع الْمَسِيح عليه السلام إلى السَّمَاء" (266).
وهو مُوافِق لِمَا في القُرآن، فَفِي القرآن الكريم: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [(3) آل عمران: 55].
قال ابن جرير الطبري: وَأَوْلَى هَذِهِ الأَقْوَالِ بِالصِّحَّةِ عِنْدَنَا قَوْلُ مَنْ قَال: مَعْنَى ذَلِكَ: إِنِّي قَابِضُكَ مِنَ الأَرْضِ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ؛ لِتَوَاتُرِ الأَخْبَارِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: "يَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فَيُقْتَلُ الدَّجَّالَ" ثُمَّ يَمْكُثُ فِي الأَرْضِ مُدَّةٌ ذَكَرَهَا، اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ فِي مَبْلَغِهَا، ثُمَّ يَمُوتُ، فَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَيَدْفِنُونَهُ (267).
قال القرطبي: والصَّحِيح أنَّ الله تعالى رَفَعَه إلى السَّمَاء مِن غير وَفَاة ولا نَوم، كما قال الْحَسَن وابن زَيد، وهو اخْتِيَار الطَّبري، وهو الصَّحِيح عن ابن عباس، وقَاله الضَّحَّاك" (268).
ولذلك: فإن أوّل ما اتُّخِذ عِيد الصَّلِيب بعد رَفْع المسيح بنحو (200) سَنَة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وَعِيد الصَّلِيبِ الَّذِي جَعَلُوهُ فِي وَقْتِ ظُهُورِ الصَّلِيبِ، لَمَّا أَظْهَرَتْهُ هِيلانَةُ الْحَرَّانِيَّةُ الْفُنْدُقَانِيَّةُ أُمُّ قُسْطَنْطِينَ بَعْدَ الْمَسِيحِ -عَلَيْهِ السَّلامُ- بِمِائَتَيْنِ مِنَ السِّنِينَ (269).
ويَستَحيل أن يُرسِل الله رسولاً يَدعو الناس إلى عبادة الله، فَيَأمُرهم بِعِبادة غير الله.
قال الله -عزّ وَجَلّ-: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [(3) آل عمران: 79، 80].
قال ابن كثير: أَيْ: مَا يَنْبَغِي لِبَشَرٍ آتَاهُ اللَّهُ الْكِتَابَ والحُكْم وَالنُّبُوَّةَ أَنْ يَقُولَ لِلنَّاسِ: اعْبُدُونِي مِنْ دُونِ اللَّهِ. أَيْ: مَعَ اللَّهِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا لا يَصْلُحُ لِنَبِيٍّ وَلا لِمُرْسَلٍ، فَلأَنْ لا يَصْلُحَ لأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ غَيْرَهُمْ بِطَرِيقِ الأَوْلَى وَالأَحْرَى...
ثُمَّ قَالَ: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا} أَيْ: وَلا يَأْمُرُكُمْ بِعِبَادَةِ أَحَدٍ غَيْرِ اللَّهِ، لا نَبِيٍّ مُرْسَلٍ وَلا مَلَكٍ مُقَرَّب {أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} أَيْ: لا يَفْعَل ذَلِكَ؛ لأنَّ مَنْ دَعَا إِلَى عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ دَعَا إِلَى الْكَفْرِ، وَالأَنْبِيَاءُ إِنَّمَا يَأْمُرُونَ بِالإِيمَانِ، وَهُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، كَمَا قَالَ -تَعَالَى-: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [(21)الأَنْبِيَاء: 25]، وَقَالَ -تَعَالَى-: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} الآيَةَ [(16) النَّحْل: 36] (270).
ومما أُنْزِل على نَبِيِّنا محمد -صلى الله عليه وسلم-: دعوة أهل الكتاب (اليهود والنصارى) إلى كلمة التوحيد.
قال الله -عزّ وَجَلّ-: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [(3) آل عمران: 64].
فَدِينُنا هو دِين الأنبياء كافّة.
قال الله تبارك وتعالى: {قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [(2) البقرة: 136].
وقال -عزّ وَجَلّ-: {قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [(3) آل عمران: 84].
وقد جاء خِطاب أهل الكتاب في القرآن كثيرا، فمِن ذلك: قوله -عزّ وَجَلّ-: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [(5) المائدة: 15-16].
آيات وضوابط في مُحاجّة النصارى:
قال الله -عزّ وَجَلّ-: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [(29) العنكبوت: 46].
قَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ مُحْكَمَةٌ؛ فَيَجُوزُ مُجَادَلَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ عَلَى مَعْنَى الدُّعَاءِ لَهُمْ إِلَى اللَّهِ -عزّ وَجَلّ-، وَالتَّنْبِيهِ عَلَى حُجَجِهِ وَآيَاتِهِ، رَجَاءَ إِجَابَتِهِمْ إِلَى الإِيمَانِ، لا عَلَى طَرِيقِ الإِغْلاظِ وَالْمُخَاشَنَةِ (271).
ومِن الْحُجج التي تُلزِم النصارى: أن يُسألُوا عن اعتقادِهم في عيسى ابن مريم؛ فإنهم مُتفرِّقون مُختَلِفون في اعتقادِهم بِعيسى ابن مريم -عليه الصلاة والسلام-.
فإن زَعموا أنه إلَه أو ابن الله -تعالى الله-، فيُقال لهم: مَن خَلَق الْخَلْق؟ مَن خَلَق السماوات والأرض؟ فسيُجِيبون: الله. فيُسألون عندها: ماذا خَلَق وأوْجَد عيسى ابن مريم بِنفسه؟  هل خَلَق عيسى شيئا؟!
فــإن الابن يَفعل مثل ما يَفعل أبوه، فإن كان ابن الله -كما تَزعُمون- فأين صِفَــة الْخَلْــق والإيجاد؟! فإذا كان لَم يَخلُق شــيئا، فإننا نعلَم يقينا أنه ليس إله!
ويُسأل النصارى:
أرأيتم لو كان لي خمسة أبناء، أربعة يَعصُونني ويَعقّونني ويُؤذونني ولا يُطيعونني، والخامس هو البارّ الراشد المطيع. فإذا عاقَبْت الخامِس لأجل الأربعة، أكُون ظالِما أو عادِلاً؟! فسيُجِيبُون: تكون ظالِمًا!
فيُقال لهم عندها: هذا اعتقادِكم بإلَهِكُم! تعتقدون أن المسيح صُلِب مِن أجل ذنوب الْخَلْق، أو مِن أجل ذُنوب آدم، كما يعتقد بعضهم!
وسألتهم مرّة: لو أن امرأة معها وَلد تُحبّه، فهل تُمكنّي مِنه لأُؤذِيه وأعذّبه؟!
فأجابَت النساء: لا.
فقلت: أنتم تعتقدون أن الله مَكّن أعداء المسيح مِن صَلْبه وتَعذِيبه!
نحن خير مِنكم في الاعتقاد في المسيح، حيث نعتقد أن الله رَفَع المسيح، وعَصَمه مِن أعدائه.
قال الله -عزّ وَجَلّ- رَدّا على مَزاعِم وافتراءات اليهود: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [(5) المائدة: 156 - 158].
فالقَول بِصَلْب المسيح إنما كان مِن قَول اليهود ومِن افترائهم.
ماذا يترتّب على القَول بِصَلْب المسيح لأجْل ذُنُوب البَشَر؟
أولاً:  نُقرِّر النصارى بأن الله على كل شيء قدير. وهذا يُقِرّون به.
ثم نُقرِّر تَبَعًا لذلك: أن مِن كَمال قُدرته مغفرة الذنوب. وأن الأنبياء جميعا دَعَوا أقوامهم إلى الاستغفار، وأخْبَرُوهُم أن الله غافِر الذِّنْب.
قال نَبِيّ الله نُوح -عليه الصلاة والسلام- لِقومِه: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [(71) نوح: 10-12].
وقال نَبِيّ الله هُود -عليه الصلاة والسلام- لِقومِه: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُــوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [(11) هود: 52].
وقال نَبِيّ الله صالح -عليه الصلاة والسلام- لِقومه: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [(11) هود: 61].
وقال نَبِيّ الله محمد -عليه الصلاة والسلام- لِقومِه: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [(11) هود: 3].
ثانياً:  يَتَرَتّب على القَول بِصَلْب المسيح لأجل ذُنُوب البَشَر: أن الله لا يَقدِر على مَغفرة الذّنوب، إلاّ بِمُعاقَبَة مَن ليس له ذَنْب ! وهذا خِلاف ما قَرّرناه، وما اتّفقَتْ عليه الرُّسُل.
ثالثاً:  يَترتّب على ذلك: تَمَادِي العُصاة في المعاصي، وعدم الكَفّ عنها، بل والتّمادِي في الجرائم إذا عَلِموا أنه مَغفور لهم!
رابعاً: نحن نَرى الكنائس تُبنى في كل مكان؛ فلماذا تُبْنَى الكنائس ويَرْتَادها النصارى إذا كان قد غُفِر لهم بِصَلْب المسيح؟؟!
خامساً: عند القَسَاوسة ما يُسمّى بالتّعميد في الماء أو رَشّ الماء، وهذا بِزعمِهم لأجل مَغفرِة الذّنوب. فلماذا يَتمّ التعميد في الماء إذا كانت الذّنوب مغفورة بِصَلْب المسيح؟؟!
أهل الكِتاب في الخطاب القُرآني:
قال العالم الرباني ابن قيم الجوزية -رحمه الله- عن أهل الكِتاب في الخطاب القُرآني:
الأقسام أربعة:
1-    {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} وهذا لا يَذْكُره سبحانه إلاّ في مَعرِض الْمَدْح.
2-    و{الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ} لا يَكون قطّ إلاّ في مَعرِض الذَّمّ.
3-    و{الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} أعمّ منه، فإنه قد يَتَنَاوَلهما، ولكن لا يُفرَد به الْمَمْدُوحُون قط.
4-    و{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} يَعُمّ الْجِنْس كُلّه، ويَتَناول الْمَمْدُوح منه والْمَذْمُوم كَقَولِه: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ} الآية [(3) آل عمران: 113، 114].
وقال في الذَّمّ: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ} [(98) البَيِّنَة: 1] (272).
ولَعل هذه الأمْثِلــة الأخــيرة مِن قَبِيل الوَصْف وليس مِن جِنْس الخطاب.
وإنما الذي يَصدق عليه أنه خِطَاب، قوله تعالى في الذم: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [(3) آل عمران: 70، 71].
وكَقَولِه تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} [(5) المائدة: 15].
ويُمكن إضافة نوع خامس، وهو:
5-    الأمر والنهي في {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ}.
كقوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} الآية [(3) آل عمران: 64].
وكَقَولِه تبارك وتعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ} الآية [(4) النساء: 171].
وأهْل الكِتاب يَشمَل اليهود والنصارى، ويُقصد به أحيانا اليهود، وأحيانا أخرى النصارى، ويُفْهَم المقصُود مِن سِياق الكَلام.
ويَرِد وَصْف أهل الكِتاب بِالْمَدْح والذَّمّ
وقد يَرِد الْمَدْح والذَّمّ في آية واحِدة؛ كَقَوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [(3) آل عمران: 75]، وهذا يُقصَد به اليهود.
وأخبَر الله تبارك وتعالى عن أقوال اليهود والنصارى، وألْزَمَهم بِالْحُجّة الظّاهِرة والدليل القاطِع بُطلان أقوالهم.
فقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [(5) المائدة: 17-18].
ولَمّا سأل اللهُ عيسى ابن مريم -ورَبّك أعلَم-: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ}؟  كان جَوَاب عيسى -عليه الصلاة والسلام-: {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [(5) المائدة: 116، 117].
فَعِيسى ابن مريم تَبَرّأ مما نُسِب إليه مِن اتِّخاذِه إلَـهًا، بل هو عَبْدٌ وَنَبِيّ دَعا الناس إلى عِبادة الله وحده تبارك وتعالى.
ونَحن أُمِرنا أن نُصلِّي على المسيح عيسى ابن مريم كلّما ذَكَرناه، أو ذَكَرنا غيره من الأنبياء.
قال نَبِيّنا محمد -صلى الله عليه وسلم-: صَلُّوا عَلَى أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَهُمْ (273).
ونَبِيّنا محمد -صلى الله عليه وسلم- أجَاب دَعْوة يهودي عندما دَعَاه، وأكَل مِن طَعَامه (274).
وفي حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ يَهُودِيَّةً أَتَتِ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ، فَأَكَلَ مِنْهَا، فَجِيءَ بِهَا فَقِيلَ أَلاَ نَقْتُلُهَا؟ قَالَ: لا (275).
وفي رواية: فَجِيءَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ؟  فَقَالَتْ: أَرَدْتُ لأَقْتُلَكَ! قَالَ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيُسَلِّطَكِ عَلَى ذَاكِ. قَالَ: أَوْ قَالَ، عَلَيَّ.