أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: المَبْحَـث السادس: الأسلوب القرآني السبت 18 نوفمبر 2023, 12:45 am | |
| المَبْحَـث السادس: الأسلوب القرآني لِماذا يُوجَد الْمتَشَابِه في القُرآن؟ (190) لِحِكَم عَظيمة، منها: 1- أن يَتَبيّن إيمان المؤمِن الذي يُؤمِن بالله وكِتابه، ويُسلِّم أمْره لله. قالَتْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: (تَلاَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- هَذِهِ الآيَةَ {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ} [(3) آل عِمران: 7] قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: فَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ) (191). 2- أن يُعلَم أن الله عَالِم الغيب والشهادة، وأنه يَعلَم ما لا يَعلَمون. قال الله تبارك وتعالى: {عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [(34) سبأ: 3]. 3- إحاطة الله بِكُلّ شيء. قال الله -عزّ وَجَلّ-: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [(65) الطلاق: 12]. 4- وُجُود ما يَستأثِر الله بِعِلمه، وحَجْب عِلْمه عن الْخَلْق فيه مَصالح للعباد، وتفَرّد ذي الجلال بِالكَمال والْجَمَال. قال ابن عباس رضي الله عنهما: تَفْسِير القُرآن على أرْبَعَة وُجُوه: (تَفْسِيرٌ تَعْلَمه العُلَمَاء، وتَفْسِيرٌ تَعْرِفُه العَرَب، وتَفْسِيرٌ لا يُعْذَر أحَد بِجَهَالَته -يَقول: مِن الْحَلال والْحَرَام- وتَفْسِيرٌ لا يَعْلَم تَأويلَه إلاَّ الله، مَن ادّعَى عِلْمه فهو كَاذِب) (192). قال الزَّرْكَشِيّ: (وهذا تَقسْيِم صَحِيح. فأمَّا الذي تَعْرِفُه العَرَب فهو الذي يُرْجَع فيه إلى لِسَانِهم، وذلك شَأن اللغَة والإعْرَاب. فأمَّا اللغَة فَعَلَى الْمُفَسِّر مَعْرِفَة مَعَانِيها ومُسَمَّيَات أسْمَائها. وأمَّا الإعْرَاب؛ فما كان اختلافه مُحِيلا للمَعنى وَجَب على الْمُفَسِّر والقَارئ تَعلّمه لِيَتَوصّل الْمُفَسِّر إلى مَعرفة الْحُكم، ولِيَسْلَم القَارئ مِن اللحن، وإن لم يكن مُحِيلا للمَعنى وَجَب تَعلّمه على القارئ لِيَسْلم مِن اللّحْن. الثاني: ما لا يُعذَر أحَد بِجْهله، وهو ما تَتَبَادَر الأفْهَام إلى معرفة مَعناه مِن النُّصُوص الْمُتَضَمِّنة شَرَائع الأحكام ودَلائل التوحيد، وكل لفظ أفاد معنى واحدا جَلِيًّا لا سِواه يُعلَم أنه مُرَاد الله تعالى. فهذا القِسْم لا يَختَلف حُكْمه ولا يَلْتَبِس تأويلُه، إذْ كُلّ أحَد يُدْرِك مَعنى التوحيد مِن قَولِه تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} [(47) محمد: 19]، وأنه لا شَرِيك لَه في إلَهِيّتِه. الثالث: ما لا يَعلَمه إلا الله تعالى؛ فهو مَا يَجْرى مَجْرى الغُيوب، نَحْو الآي الْمُتَضَمِّنَة قِيام الساعة، ونُزُول الغَيث، وما في الأرحام، وتَفْسير الرُّوح، والحروف الْمُقَطَّعة، وكُلّ مُتَشَابِه في القرآن عند أهل الحق فلا مَسَاغ للاجتهاد في تفسيره، ولا طريق إلى ذلك إلاّ بِالتَّوقِيف مِن أحد ثلاثة أوْجُه: إمّا نَصّ مِن التّنْزِيل، أو بَيان مِن النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو إجْمَاع الأُمّة على تأويله، فإذا لَم يَرِد فيه تَوقِيف مِن هذه الجهات عَلِمْنا أنه مما اسْتَأثَر الله تعالى بِعِلْمِه. والرابع: ما يَرْجِع إلى اجتهاد العلماء، وهو الذي يَغلِب عليه إطلاق التأويل، وهو صَرْف اللفظ إلى مَا يَؤول إليه، فَالْمُفَسِّر نَاقِل، والْمُؤوّل مُسْتَنْبِط، وذلك استنباط الأحكام، وبَيَان الْمُجْمَل، وتَخْصيص العُمُوم. وكل لفظ احتَمَل مَعْنَيين فَصَاعدا، فهو الذي لا يجوز لغير العلماء الاجتهاد فيه وعلى العلماء اعتماد الشواهد والدلائل، وليس لهم أن يَعتَمِدوا مُجَرّد رَأيهم فيه) (193). ثمّ إن مَنْع العِبَاد بعض العِلْم مِن مَصالِحِهم. قال ابن القيم -رحمه الله- وهو يُبيّن العِلم الْمَمْنُوح للعِباد والعِلْم الْمَمْنُوع: (ثم مَنَعَهم سبحانه عِلْم ما سِوى ذلك [أي عِلم ما سِوى ما يَنفعهم] مما ليس في شأنهم، ولا فيه مصلحة لهم ولا نَشْأتهم قابِلة له، كَعِلْم الغَيب وعِلْم ما كان وكُلّ ما يكون، والعِلْم بِعَدد القَطْر وأمْوَاج البَحْر وذَرّات الرِّمال ومَسَاقِط الأوْراق وعدد الكَواكِب ومَقَادِيرها، وعِلْمِ ما فوق السموات وما تحت الثرى، وما في لْجَج البِحَار وأقطار العَالَم، وما يُكِنُّه الناس في صُدورهم، وما تَحمل كل أنثى وما تَغيض الأرحام وما تَزداد، إلى سائر ما عَزَب عنهم عِلْمه، فَمَن تَكَلّف مَعرِفة ذلك فقد ظَلَم نفسه وبَخَس مِن التوفيق حَظّه، ولم يحصل إلاّ على الْجَهل الْمُرَكَّب، والْخَيَال الفَاسِد في أكثر أمْرِه. وقال أيضًا: ومِن حِكْمَته سبحانه ما مَنَعهم مِن العِلْم: عِلْم السَّاعة، ومَعرفة آجالهم، وفي ذلك مِن الْحِكمة البَالِغة مَا لا يَحتاج إلى نَظَر، فلو عَرَف الإنسان مِقْدار عُمُره فإن كان قصير العُمر لم يَتَهَنّأ بِالعَيش، وكيف يَتَهَنّأ به وهو يَتَرقّب الْمَوت في ذلك الوقت، فَلولا طُول الأمَل لَخَرِبت الدنيا، وإنما عِمَارتها بِالآمال، وإن كان طويل العُمر وقد تحقق ذلك، فهو واثِق بالبَقاء فلا يُبَالي بِالانْهِماك في الشَّهَوات والمعاصي وأنواع الفساد، ويقول: إذا قَرب الوَقت أحْدَثْتُ تَوبة، وهذا مذهب لا يَرْتَضيه الله تعالى عَزّ وجَلّ مِن عباده، ولا يَقْبله منهم، ولا تَصلح عليه أحْوال العَالَم، ولا يَصلح العَالَم إلاّ على هذا الذي اقتضته حكمته وسَبَق في عِلْمه... إلى أن قال -رحمه الله-: فَبَانَ أن مِن حِكمة الله ونِعَمه على عباده أنْ سَتَر عنهم مقادير آجالهم ومَبْلغ أعْمَارِهم، فلا يزال الكيِّس يَتَرَقّب الموت وقد وَضَعه بَين عَينيه، فَيَنْكَفّ عَمّا يَضرّه في معاده، ويَجتهد فيما يَنْفعه ويُسرُّ به عند القُدُوم) (194). مِن حِكم إنْزَال القُرآن؟ قال الله تبارك وتعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [(16) النحل: 44]. قال الشيخ الشنقيطي: (المراد بالذِّكر في هذه الآية: القرآن، كَقَوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [(15) الحجر: 9]. وقد ذكر جلّ وعلا في هذه الآية حِكْمَتَين مِن حِكم إنْزَال القُرآن على النبي -صلى الله عليه وسلم-: الأولى: أن يُبَيّن للناس ما نُزِّل إليهم في هذا الكتاب مِن الأوامِر والنّواهي، والوَعْد والوَعِيد، ونحو ذلك. وقد بَيَّن هذه الْحِكمة في غير هذا الموضع أيضا، كَقَوله: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [(16)النحل: 64]، وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ} الآية [(4) النساء: 105]. الثانية: هي التّفَكُّر في آياته والاتِّعَاظ بها، كما قال هنا: {وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}، وقد بَيَّن هذه الحكمة في غير هذا الموضع أيضا، كَقَوله: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} [(38) ص: 29]، وقوله: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [(4) النســاء: 82]، وقــولــه: {أَفَــلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [(47) محمد: 24]، إلى غير ذلك من الآيات) (195). وقال -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} [(38) ص: 29]. وقد ذَكَر جَلّ وعَلا في هذه الآية الكريمة أنه أنْزَل هذا الكتاب، مُعَظِّمًا نَفْسه جلّ وعَلا بِصِيغة الْجَمْع، وأنه كتاب مُبارَك، وأن مِن حِكم إنْزاله: أن يَتدبّر الناس آياته، أي: يَتَفَهّموها ويَتَعَقّلوها ويُمْعِنُوا النَّظَر فيها، حتى يَفهَموا ما فيها مِن أنواع الْهُدَى، وأن يتذكّر أُولُوا الألباب أي: يَتّعِظ أصحاب العقول السّليمة مِن شوائب الاختلال. وأمَّا كَوْن تذكّر أُولِي الألباب مِن حِكم إنزاله؛ فقد ذَكره في غير هذا الموضع مُقتَرِنا ببعض الْحِكَم الأخرى التي لم تُذْكَر في آية (ص) هذه، كَقَوله تعالى في سورة إبراهيم: {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} [(14) إبراهيم: 52]، فقد بَيَّن في هذه الآية الكريم، أن تَذكُّر أولي الألباب مِن حِكم إنْزَاله مُبَيِّنا منها حِكمَتين أُخرَيين مِن حِكم إنزاله، وَهُمَا: - إنذار الناس به، وتحقيق معنى لا إله إلا الله. وكَون إنذار الناس وتذكُّر أولي الألباب مِن حِكم إنْزَاله، ذَكَره في قوله تعالى: {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [(7)ا لأعراف: 2]. وذَكَر حِكْمة الإنذار في آيات كثيرة، كَقَوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [(25) الفرقان: 1]. وقوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [(6)الأنعام: 19]. وقولـه تعالى: {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ. لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ} الآيــة [(36) يس: 5 - 6]. وقوله تعالى: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا} الآية [(36) يس: 70]. - ومِن حِكم إنْزَالِه: الإنذار والتبشير معًا، كَقَوله تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [(19) مريم: 97]. وقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} الآية [(18) الكهف: 1 - 2] (196). وكَقَولِه تبارك وتعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [(17) الإسراء: 9، 10]. - ومِن حِكم إنْزَاله أن يُبَيِّن -صلى الله عليه وسلم- للناس ما أُنْزِل إليهم، ولأجْل أن يَتَفكّرُوا، وذلك قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [(16) النحل: 44]. - وذَكَر حِكْمة التّبْيِين المذكُورة مع حِكمة الْهُدى والرَّحْمَة، في قوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [(16) النحل: 64]. - ومِن حِكم إنْزَاله: تَثْبِيت المؤمنين، والْهُدَى والبُشْرى للمُسلِمين في قوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [(16) النحل: 102]. - ومِن حِكم إنْزَاله إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-: أن يَحُكم بَيْن الناس بما أراه الله، وذلك في قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [(4) النساء: 105] (197). - ومِن حِكَم إنْزال القرآن: تَثْبِيت النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما في قوله تبارك وتعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً (32) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [(25) الفُرقان: 32،33] (198). والقُرآن هو المعجزة الباقية لِنبيِّنا محمد -صلى الله عليه وسلم-: قَالَ الرازيُّ: (جَعَل اللهُ مُعْجِزَةَ كُلِّ نَبِيِّ مِنْ جِنْسِ مَا كَانَ غَالِبًا عَلَى أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ؛ فَلَمَّا كَانَ السِّحْرُ غَالِبًا عَلَى أَهْلِ زَمَانِ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلامُ- كَانَتْ مُعْجِزَتُهُ شَبِيهَةً بِالسِّحْرِ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِلسِّحْرِ فِي الْحَقِيقَةِ. وَلَمَّا كَانَ الطِّبُّ غَالِبًا عَلَى أَهْلِ زَمَانِ عِيسَى عَلَيْه السَّلام، كَانَتْ مُعْجِزَتُهُ مِنْ جِنْسِ الطِّبِّ. وَلَمَّا كَانَتِ الْفَصَاحَةُ غَالِبَةً عَلَى أَهْلِ زَمَانِ مُحَمَّدٍ -عليه الصلاة والسلام- لا جَرَمَ كَانَتْ مُعْجِزَتُهُ مِنْ جِنْسِ الْفَصَاحَةِ) (199). وقَالَ ابنُ كثيرٍ: (كَانَتْ مُعْجِزَةُ كُلِّ نَبِيٍّ فِي زَمَانِهِ بِمَا يُنَاسِبُ أَهْلَ ذَلِكَ الزَّمَان؛ ِفَذَكَرُوا أنَّ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلامُ- كَانَتْ مُعْجِزَتُهُ مِمَّا يُنَاسِبُ أهل زمانه، وكانوا سَحَرَةً أَذْكِيَاءَ، فَبُعِثَ بِآيَاتٍ بَهَرَتِ الأَبْصَارَ وَخَضَعَتْ لَهَا الرِّقَابُ، وَلَمَّا كَانَ السَّحَرَةُ خَبِيرِينَ بِفُنُونِ السِّحْرِ وَمَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ وَعَايَنُوا مَا عَايَنُوا مِنَ الأَمْرِ الْبَاهِرِ الْهَائِلِ الَّذِي لا يُمْكِنُ صدوره إلاّ عَمّن أَيَّدَهُ اللَّهُ وَأَجْرَى الْخَارِقَ عَلَى يَدَيْهِ تَصْدِيقًا لَهُ؛ أَسْلَمُوا سِرَاعًا وَلَمْ يَتَلَعْثَمُوا، وَهَكَذَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ بُعِثَ فِي زَمَنِ الطَّبَائِعِيَّةِ الْحُكَمَاءِ، فَأُرْسِلَ بِمُعْجِزَاتٍ لا يَسْتَطِيعُونَهَا وَلا يَهْتَدُونَ إِلَيْهَا؛ وَأَنَّى لِحَكِيمٍ إِبْرَاءُ الأَكْمَهِ - الَّذِي هُوَ أَسْوَأُ حَالاً مِن أعمَى - وَالأَبْرَصِ وَالْمَجْذُومِ، وَمَنْ بِهِ مَرَضٌ مُزْمِنٌ؟ وَكَيْفَ يَتَوَصَّلُ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ إِلَى أَنْ يُقِيمَ الْمَيِّتَ مِنْ قَبْرِهِ؟ هَذَا مِمَّا يَعْلَمُ كُلُّ أحد مُعْجِزَةٌ دَالَّةٌ عَلَى صِدْقِ مَنْ قَامَتْ بِهِ وعلى قُدْرَة مَن أرْسَله. وَهَكَذَا مُحَمَّدٌ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلامُهُ عَلَيْه، بُعِثَ فِي زَمَنِ الْفُصَحَاءِ الْبُلَغَاء، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، الَّذِي لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ، فَلَفْظُهُ مُعْجِزٌ تَحَدَّى بِهِ الإِنْسَ وَالْجِنَّ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ، أَوْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِنْ مَثَلِهِ أَوْ بِسُورَةٍ، وَقَطَعَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لا يَقْدِرُونَ، لا فِي الْحَالِ وَلا فِي الاسْتِقْبَالِ، [فَإِنَّهم] لَمْ يَفْعَلُوا وَلَنْ يَفْعَلُوا، وَمَا ذَاكَ إِلاَّ لأَنَّهُ كَلامُ الْخَالِقِ -عزّ وَجَلّ-، وَاللَّهُ -تَعَالَى- لا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ لا فِي ذَاتِهِ وَلا فِي صِفَاتِهِ وَلا فِي أَفْعَالِهِ) (200). ولِذَا قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ قَدْ اُعْطِيَ مِنَ الآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (201). قَالَ ابنُ كثيرٍ: (مَعْنَاهُ: أَنَّ مُعْجِزَةَ كُلِّ نَبِيٍّ انْقَرَضَتْ بِمَوْتِهِ، وَهَذَا الْقُرْآنُ حُجَّةٌ بَاقِيَةٌ عَلَى الآبَادِ، لا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَلا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ هُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ. مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللهُ، وَمَنِ ابْتغَى الهُدَى مِن غيرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهِ) (202). وقال: (وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ قَدْ أُوتِيَ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ مَا يَقْتَضِي إِيمَانَ مَنْ رَأَى ذَلِكَ مِنْ أُولِي الْبَصَائِرِ وَالنُّهَى، لا مِنْ أَهْلِ الْعِنَادِ وَالشَّقَاءِ. "وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ "، أَيْ: جُلُّهُ وَأَعْظَمُهُ وَأَبْهَرُهُ: الْقُرْآنُ الَّذِي أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ لا يَبِيدُ وَلا يَذْهَبُ كَمَا ذَهَبَتْ مُعْجِزَاتُ الأَنْبِيَاءِ وَانْقَضَتْ بِانْقِضَاءِ أَيَّامِهِمْ فَلَا تُشَاهَدُ، بَلْ يُخْبَرُ عَنْهَا بِالتَّوَاتُرِ أَوِ الآحَادِ بِخِلافِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، فَإِنَّهُ مُعْجِزَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ عَنْهُ، مُسْتَمِرَّةٌ دَائِمَةُ الْبَقَاءِ بَعْدَهُ، مَسْمُوعَةٌ لِكُلٍّ مَنْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) (203). وَقَدْ تَحدَّى اللهُ العَرَبَ أنْ يَأتوا بِمثْلِ هَذَا القرآنِ، بَلْ تَحدّى الإنسَ والجنَّ، ولو اجْتَمَعُوا وَتَعَاضَدُوا وتَعَاونُوا، فقَالَ -عزّ وَجَلّ-: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [(17) الإسراء: 88]. وتَحَدَّاهُم أنْ يَأتوا بِعَشْرِ سُورٍ مِنْ مِثلِهِ (204)، وَتَحدّاهُم أنْ يَأتوا بسورةٍ مِنْ مثْلِهِ. قال ابن حجر: (وأشْهَر مُعْجِزات النبيّ -صلى الله عليه وسلم- القُرآن؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- تَحَدّى به العَرَب، وهُم أفْصَح الناس لِسَانا، وأشدهم اقْتِدَارًا على الكلام بِأن يأتُوا بِسُورة مِثله؛ فعَجَزوا مع شِدّة عداوتهم له وصَدِّهم عنه) (205). وَلَمّا تَحَدّى اللهُ العربَ تَحدّاهُمْ أنْ يَأتوا بسورةٍ مِثْلِهِ بِهَذَينِ القَيدَينِ: 1 - سورة. 2 - مِثْلِهُ. مِثْل القرآنِ في فصاحَتِهِ وبلاغتِهِ ونَظْمِهِ وإعجازِه، وما تَضمَّنَتْهُ نصوصُ القرآنِ، واشتمال الكلام على مقاصِد القرآن الثلاثة: إثباتُ التوحيدِ، وإثباتُ المعادِ، وإثباتُ النبوّاتِ. ولَمْ يَكُنْ يُعجِزُ فصحاء العَرَبِ أن يسْجَعُوا كسَجْعِ الكُهَّانِ! بَلْ كَانَ فيهم قبْلَ النبوةِ فُصحاءُ وَبُلغاءُ وشُعراءُ، وكَانَ فيهم خُطباءُ نَطَقُوا بالْحِكْمَةِ، مِثْلُ: قُسِّ بنِ ساعِدَةَ، وغيرِهِ. وَلَمْ يَكُنْ قولُ أولئك يَشْتَبِهُ بِما جَاءَ بِهِ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنَ القرآنِ، وَلَمْ يُعارِضُوه بِمثْلِ قولِ أولئكَ، مَعَ كونِهِم أربابَ الفصاحةِ وأهلَ اللغةِ. لأنَّ التحدّي كانَ بسورةٍ مِنْ مثلِ القرآنِ، ولَمْ يَكُنْ التحدّي بكلامٍ مَسْجُوعٍ، فإن أسلوب القرآن العظيم أبْهَر العَرب، حتى قال قائلهم، وهو يَصِف القرآن الذي أتَى به محمد -صلى الله عليه وسلم-: (وَاللَّهِ إِنَّ لِقَوْلِهُ لَحَلاوَةً، وَإِنَّهُ لَيَحْطِمُ مَا تَحْتَهُ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَلا يُعْلَى) (206). ولذلك يَختَلِف أسلوب القرآن عن غيره مِن الأساليب مهما بَلَغَتْ مِن القُوّة والْجَزَالة والفَصَاحَة. خصائص الأسلوب القرآني: امتازَ الأسلوبُ القرآني بِخصائصَ ليْسَتْ لِغيرِهِ، فَمِنْ ذلِكَ: أولاً- مَسْحَةُ القرآنِ اللفظيةُ فإنَّها مَسحةٌ خلابَةٌ عَجيبَةٌ، تتجلَّى في نِظامِهِ الصّوتي وجَمالِهِ اللغويِّ. ثانياً- إرضَاؤه العامَّةَ والخاصَّةَ. ومعنى هذا أنَّ القرآنَ الكريمَ إذا قَرأتَهُ العامَّةِ أوْ قُرِئَ عليهم أحّسُّوا جَلالَهُ، وذَاقوا حَلاوتَهُ، وفَهِمُوا مِنه على قَدْرِ استعدادِهِم ما يُرضِي عقولَهُم وعواطِفَهُم، وكذلِكَ الخاصةٌ إذا قَرَؤوه أوْ قُرئَ عليهم أحّسُّوا جَلالَهُ، وذاقوا حلاوتَهُ، وفَهِمُوا مِنْهُ أكْثَرَ مِما يَفْهَمُ العامةُ، ورأوا أنَّهم بينَ يدي كلامٍ لَيْسَ كَمِثلِهِ كلامٌ لا في إشراقِ ديباجَتِهِ ولا في امتلائِهِ وثروتِهِ. ثالثاً- إرضَاؤه العقلَ والعاطفَةَ. ومعنى هذا أنَّ أسلُوبَ القرآنِ يُخاطِبُ العقلَ والقلبَ مَعًا، وَيَجمَعُ الحقَّ والجمالَ معًا. قارِن نُصوص القرآن بِما جاء في بعض الأناجيل ! "فقال لهم يَسُوع: الحق الحق أقول لكم: إن لم تأكلوا جَسْد ابن الإنسان وتَشْرَبوا دَمَه؛ فليس لكم حياة فيكم، مَن يأكل جَسَدي ويشرب دَمي فَلَه حياة أبَدَية وأنا أقِيمه في اليوم الأخير" (207). "هذا هو الخبز النازل مِن السّماء لكي يأكل منه الإنسان ولا يموت" (208). رابعاً- جَودةُ سَبكِ القرآنِ وإحكامُ سَرْدِهِ. ومَعْنَى هذا أنَّ القرآنَ بَلَغَ مِنْ ترابطِ أجزائه، وتَمَاسُكِ كلماتِهِ وجُمَلِهِ وآياتِهِ وسُورِهِ مَبلغًا لا يُداينَهُ فيه أيُّ كلامٍ آخَرَ مَعَ طولِ نَفَسِهِ، وتنوعِ مقاصِدِهِ وافتنانِهِ وتلوينِهِ في الموضوعِ الواحِدِ. وأنه نَزَل في (23) سَنَة غير مُتناقِض ولا مُتنافِر. وقد أُلِّفَت الكُتب في تناسق الآيات والسُّوَر، مثل: كتاب "البرهان في تناسب سُور القرآن" تأليف: ابن الزبير الغرناطي. وكتاب "نظم الدرر في تناسب الآيات والسور" تأليف: إبراهيم بن عُمر البقاعي. وكتاب "مَراصِد المطالِع في تناسب المقاطِع والمطالِع" تأليف: جلال الدين السيوطي. خامساً- بَراعتُهُ في تصريفِ القولِ وثروتِهِ في أفَانِينِ الكلامِ. واستعمال كلّ لَفْظ في مَحلّه، بحيث لا يُمكن نَزْع لَفظَة واستبدالها بِلَفظة مُرادِفَة لها، مثل: {فَانْفَجَرَتْ} [(2) البَقَرة: 60]، وفي [(7) الأعراف: 160] {فَانْبَجَسَتْ}. قال الكِرْماني: قَوْله {فَانْفَجَرَتْ}، وَفِي الأَعْرَاف {فَانْبَجَسَتْ}؛ لأَن الانفجار انْصِبَاب المَاء بِكَثْرَة، والانْبِجَاس ظُهُور الْمَاء. وَكَانَ فِي هَذِه السُّورَة (209) {كُلُوا وَاشْرَبُوا} فَذُكِر بِلَفْظ بليغ، وَفِي الأَعْرَاف: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} وَلَيْسَ فِيهِ وَاشْرَبُوا، فَلم يُبَالغ فِيهِ (210). سادساً- جَمَعَ القرآنُ بينَ الإجمالِ والبَيانِ، مَعَ أنَّهما غايَتانِ مُتقابلتانِ لا يَجتمعانِ في كلامٍ واحد للناس، بل كلامهم إمّا مُجْمَل وأمَّا مُبَيَّن؛ لأن الكلمة إما واضِحة المعنى لا تحتاج إلى بَيَان، وأمَّا خَفِيّة المعنى تحتاج إلى بَيَان، وأمَّا القُرآن فَتَسْمَع الْجُمْلــة منه وإذا هي بَيِّنَــة مُجْمَلــة في آن واحد؛ أمّا أنها بَيِّنَـة أو مُبَيَّنة - بتشديد الياء وفَتْحِها - فلأنها وَاضِحَة الْمَغْزَى وُضُوحا يُرِيح النَّفْس مِن عَناء التّنْقِيب والبَحث لأوّل وَهْلَة، فإذا أمْعَنْت النظر فيها؛ لاحَتْ منها مَعَانٍ جَديدة كُلّها صحيح أو مُحْتَمل لأنْ يكون صحيحا، وكلما أمْعَنْت فيها النّظر زادَتك مِن المعارِف والأسرار بِقَدْر مَا تُصِيب أنت مِن النَّظَر، وما تَحْمِل مِن الاستعداد. سابعاً- قَصْدُ القرآنِ في اللفظِ مَعَ وَفائِهِ بِالْمَعْنَى (211)، ومعنى ذلك: الاختصار في اللفظ مع الوَفاء بالمعنى؛ فقد تأتي قصة بعض الأنبياء في بعض السُّوَر في سَطر أو في سَطْرَين، وهي وافِية فيما سِيقَت له ذلك الْمَسَاق في تلك السورة. وعلى سبيل المثال: قصة نوح -عليه الصلاة والسلام-، وَرَدَتْ مُختَصَرَة في سورة الفرقان (25) في الآية (37)، ووَرَدَتْ مُطوّلة في سورة هود (11) الآيات (25-48) وفي سورة نوح (71). ويُزادُ عَلَيْهَا: 8- تَضَمُّن القُرآنِ للأخبَارِ المستقبليَّةِ، سَواءً مِنْها مَا كَانَ في زَمَنِ نُزولِهِ على النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، أَوْ كَانَ بَعْدَ ذلِكَ. فَمِنْ ذَلِكَ: الْحديثُ عَنْ حَرْبِ فاَرِسَ والرُّومِ، وإخبارُهُ بِانتصارِ الرُّومِ في بِضْعِ سِنين، كَمَا في فواتِحِ سُورَةِ "الرُّومِ". والإخبارُ عَنْ نُصْرَةِ الله لِرَسولِه -صلى الله عليه وسلم- ونُصرَةِ المؤمنين. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وأمَّا الْفُتُوحُ الَّتِي فُتِحَتْ عَلَيْهِمْ، وَالنُّصْرَةُ الَّتِي نُصِرُوا؛ فَقَدْ أَخْبَرَ بِهِ فِي أَوَائِلِ مَبْعَثِهِ، وَوَقَعَ مَا أَخْبَرَ بِهِ (212). وفي هذا تَصدِيق الله لِرسولِه -صلى الله عليه وسلم-، ويَظهر بذلك معنى مِن معاني قوله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم (30): 47]. وما تَضَمَّنَهُ القرآنُ مِنَ الأخبارِ المستقبليَّةِ مِمَّا يُعلَمُ خَبَرُهُ بَعْدَ حِين، ويدلّ على صِدْق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأنه جاء بالحَق واليقين: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم (53): 3، 4]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وأمَّا مَا أَخْبَرَ بِهِ مِمَّا لَمْ يَقَعْ إِلَى الآنَ فَكَثِيرٌ، وَقَدْ أَخْبَرَ بِأَشْيَاءَ مِنَ الْمُغَيَّبَاتِ، وَوَقَعَتْ فِي زَمَانِهِ، وَوُجِدَتْ كَمَا أَخْبَرَ (213). 9- الإخبارُ عنْ أَخْبَارِ الأُمَمِ الماضِيَةِ، وذِكْرُ الأنبياءِ، ومَا جَرَى لَهُم مِمَّا لَمْ يَكُنْ مَعلومًا لِقريش في أوْجَز عِبارَة، ولذلِكَ يَأتي التذكيرُ بِهذا عَقِبَ سياقِ القِصَصِ، كما قَالَ تَعَالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [(11) هُود: 49]. وَلا يَزالُ العِلْمُ التَّجريبيُّ يَقِفُ مَوقِفَ المؤيِّدِ لَمَا جاءَ في القرآنِ مِنْ أخْبَارٍ وحقائِقَ، لا يُنْكِرُها إلاَّ جَاهِلٌ أو مُعانِدٌ ومكابِرٌ! فإن قيل: لماذا تكون تلك الاكتشافات والوصول إليها على أيدي الكُفّار؟ فالجواب: أن هذا أبْلَغ في تأييد الدّين، ونُصْرَة الْحقّ مما لو جاء بها مُسلم؛ لأن المسلم قد يُتّهم بالمبالغة. ثم إن توصّل الكافر إلى هذا الاكتشاف يَقوده إلى الإسلام إذا عَلِم أن ما توصّل إليه العِلْم التجريبي الحديث قد جاء به القرآن قبل أكثر من (1000) سَنة! 10- ما تَضَمَّنَهُ القرآنُ مِنْ إعجَازٍ وبيانٍ وفصاحَةٍ وبلاغَةٍ، في أفْصَحِ عبارةٍ وأرْقَى أسلوبٍ، مِمَّا أعْجَزَ العربَ عَنْ أنْ يَأتوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، مع الإحاطة بالْخَلق والأمْر. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: (وَجْهُ التَّحَدِّي فِي الْقُرْآنِ: إِنَّمَا هُوَ بِنَظْمِهِ وَصِحَّةِ مَعَانِيهِ، وَتَوَالِي فَصَاحَةِ أَلْفَاظِهِ. وَوَجْهُ إِعْجَازِهِ: أَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْما، وَأَحَاطَ بِالْكَلامِ كُلِّهِ عِلْمًا، فَعَلِمَ بِإِحَاطَتِهِ أَيَّ لَفْظَةٍ تَصْلُحُ أَنْ تَلِيَ الأُولَى، وَتُبَيِّنَ الْمَعْنَى بَعْدَ الْمَعْنَى، ثُمَّ كَذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ الْقُرْآنِ إِلَى آخِرِهِ. وَالْبَشَرُ مَعَهُمُ الْجَهْلُ وَالنِّسْيَانُ وَالذُّهُولُ، وَمَعْلُومٌ ضَرُورَةً أَنَّ بَشَرًا لَمْ يَكُنْ قط مُحِيطًا؛ فَبِهَذا جَاءَ نَظْمُ الْقُرْآنِ فِي الْغَايَةِ الْقُصْوَى مِنَ الفصاحة) (214). وقَدْ ذَكَر السيوطيُّ -رَحِمَهُ اللهُ - ثلاثةً وثلاثينَ وَجْهًا مِنْ وُجوهِ إعجازِ القرآنِ، وذلِكَ في كِتابِهِ "مُعتَركِ الأقْرانِ في إعجازِ القرآنِ". 11- البَيَان لِكلّ ما يُحتَاج إليه. قال الله تبارك وتعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [(16) النحل: 89]. وقد ذَكَر الشيخ الشنقيطيُّ -رَحِمَهُ اللهُ - في مقدمَةِ تفسيرِهِ "أضواءِ البيانِ" اثنينِ وعشرينَ نَوعا مِنْ أنواعِ البيانِ التي تضمّنها القرآنُ. 12- تَنَوّع القصص والعِبَر في كُلّ موضِع بِما يُناسِبه. يُرْوَى أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ سُئِلَ: مَا مَعْنَى تَكْرِيرِ الْقَصَصِ فِي الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ كُلَّ النَّاسِ لا يَحْفَظُ الْقُرْآنَ، فَلَوْ لَمْ تَكُنِ الْقِصَّةُ مُكَرَّرَةً لَجَازَ أَنْ تَكُونَ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ وَلا تَكُونُ عِنْدَ بَعْضٍ، فَكُرِّرَتْ لِتَكُونَ عِنْدَ مَنْ حَفِظَ الْبَعْضَ (215). فهذا الأسلوب القرآني لا يُمكن لِبَشَر أن يَأتي بِمِثله، ولا أن يُدَانِيه؛ لأنه كَلام ربّ العالمين، و {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [(41) فُصّلت: 42]. ولَوْ تأمّلْنَا أَقْصَرَ سورةٍ مِنْ سُورِ القرآنِ، وَهِيَ سورةُ الكوثرِ، لَوجَدَنَا أنَّها تضمّــنَتْ ما اتَّفَقَــتْ عَلَيْهِ الشرائعُ السماويَّــةُ، وَهِيَ مقاصِـدُ القرآنِ الثلاثةُ -كمَا بَيّنها العلماء-، وهي: إثباتُ التوحيــدِ، وإثباتُ المعادِ، وإثباتُ النبوّاتِ (216). فضميرُ التعظيمِ {إنَّا} إثباتٌ للتوحيدِ، وإثْبَاتُ العَطاءِ، وأنَّ اللهَ هُوَ المعطِي. وهذا مِن توحيد الربوبية. وقولُه: {أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} إخبارٌ عَنْ غيبٍ، وهُوَ مُتضمّنٌ لإثباتِ الْمَعادِ. وقولُه: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} إثباتُ صِدقِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، الْمُسْتَلْزِمِ إثْبَاتُ نُبوّتِهِ. فكَانَ ما أخبَرَ بِهِ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- هو حَقُّ وصِدْقُ، إذْ كَانَ مُبْغِضُهُ وشانِئُه هُوَ الأبترُ المقطوعُ الذي انقطَعَ ذِكْرُهُ، ولم يَنقَطِع ذِكْر النبي -صلى الله عليه وسلم-. معَ ما في هذه السّورةِ القصيرة ِمِنْ أمْرٍ بالعبادةِ {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}؛ فالأمر بالصلاة والنَّحْر: مِن توحيد العبادة "الألوهية"، وقوله {لِرَبِّكَ} أمْر بإخلاص العبادة لله تبارك وتعالى. قال القرطبي: سورة "الكوثر" ثلاث آيات قِصَار، وهي أقصر سورة في القرآن، وقد تضمّنت الإخبار عن مُغَيَّبَين: أحدهما: الإخبار عن الكَوثر وعِظَمه وسَعَته وكَثرة أوَانِيه، وذلك يدلّ على أن الْمُصَدِّقين به -صلى الله عليه وسلم- أكثر مِن أتْباع سائر الرُّسُل. وَالثَّانِي: الإِخْبَــارُ عَنِ الْوَلِيــدِ بن الْمُغِـيرَةِ، وَقَدْ كَــانَ عِنْــدَ نُزُولِ الآيَةِ ذَا مَــالٍ وَوَلَدٍ، عَلَى مَا يَقْتَضِيــهِ قَوْلُـهُ الْحَقُّ: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُودًا (12)وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا} [(74) المدّثر: 11-14] (217). ونَقَل القرطبي قول مُقَاتِل: (كَانُوا سَبْعَةً كُلُّهُمْ رِجَالٌ، أَسْلَمَ مِنْهُمْ ثَلاثَةٌ: خَالِدٌ، وَهِشَامٌ، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ. قَالَ: فَمَا زَالَ الْوَلِيدُ (218) بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ فِي نُقْصَانٍ مِنْ مَالِهِ وَوَلَدِهِ حَتَّى هَلَكَ) (219). وسورة "الكوثر" رغْم كَونها أقصَر سُورة؛ إلاّ أنها تضمّنت: 1- تعظيم الله. 2- وإثبات توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية. 3- والأمْر بِعِبَادتين: الصلاة والنَّحْر، مع الأمْر بالإخلاص. 4- والإخبار بِمُغيّبَيْن: الإخبار عن الكوثر، وهو أمْر غَيبيّ، والإِخْبَارُ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وما آلَ إليه أمْره بعد ذلك مِن موته على الكُفر؛ وهذا يَدلّ على صِدْق مَن أخبَر به، وهو الرسول -صلى الله عليه وسلم-. قــال ابن كثير: (وَقَوْلُــهُ: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ} أَيْ: إِنَّ مُبْغِضَــكَ - يَا مُحَمَّدُ -وَمُبْغِضَ مَا جِئْتَ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْحَقِّ وَالْبُرْهَانِ السَّاطِعِ وَالنُّورِ الْمُبِينِ؛ هُوَ الأَبْتَرُ الأَقَلُّ الأَذَلُّ الْمُنْقَطِعُ ذكْرُه) (220). 5- تَسْــلِيَة وتَثبِيــت المؤمنــين؛ فإذا ثَبَـت عنـدهم أن مُبغِـض النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الأبْتَر المقطُوع؛ زَاد يَقينهم بِصِدْق النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأنّ ما وُعِدُوا بِه مِن الوُرُود على الكَوثَر حَقّ. وكانَ القرآنُ يتَنَزّلُ في مكّةَ، وكانَ يتضمّنُ أخبارا عن ْكُفّارِ قريشَ، ولم يَكُنْ بِمقدورِهِمْ تكذيبُهُ، ولا إثباتُ ضدِّ مَا قَالَه رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-. وعلى سبيلِ المثالِ: سورةُ الْمَسَدِ، وما فيها مِن إخبارٍ عنْ أبي لهبٍ وأنَّهُ هو وَزَوْجَتُهُ في النَّارِ.. ولم يكُنْ بِمقدورِ أبي لهبٍ إثبات ضدِّ ذلِكَ، ولا ادِّعاءَ الإيمانِ والإسلامِ! ونَزَل القرآن بِوَصْف اليهود بالسَّفَاهة، وأخبر الله أنهم سَيَقُولُون قولاً؛ فقَالُوه. قال الله -عزّ وَجَلّ-: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [(2) البقرة: 142]. قال ابن جرير: (أَعْلَمَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ نَبِيَّهُ -صلى الله عليه وسلم- مَا الْيَهُودُ وَالْمُنَافِقُونَ قَائِلُونَ مِنَ الْقَوْلِ عِنْدَ تَحْوِيلِ قِبْلَتِهِ وَقِبْلَةِ أَصْحَابِهِ عَنِ الشَّامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَعَلَّمَهُ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ رَدِّهِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْجَوَّابِ) (221). ولَمَّا تَحدّى اللهُ أقْحَاحَ العربِ وأربابَ الفصاحةِ أنْ يَأتوا بِسُورةٍ مِنْ مِثلِ القرآنِ، عجِزوا عنْ ذلِكَ لِعلْمِهِم ما تضَمَّنَهُ القرآنُ مِنْ فصَاحَةٍ وبَيانٍ.
|
|