إن الهجرة في الإسلام أخذت صورتين مختلفتين:
- صورة يبحث فيها أصحابها على موطن آمنٍ، يقيمون فيه شعائر دينهم، ويلتزمون بعقائده، ويدعون إليه بأمان وطمأنينة، إذا أمكنهم، كما حدث في هجرة الحبشة.
- وصورة يجد فيها أصحابها المأوى والنصرة في ظل مجتمع يدين بالإسلام، ويعمل لأجله، ويضحي في سبيله، وهي التي يشير إليها قول الله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَّنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمُ الْـمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ إنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)} [الأنفال:72-75].
ولكل واحدة من هاتين الصورتين تكاليفها وأعباؤها، كما أن لها أهدافها وغاياتها؛ والخلط بين هذه وتلك يؤدي لدى البعض إلى خطأ في التقدير وخطأ في السلوك(17).
مميزات الهجرة إلى الحبشة:
أولًا: عدل حاكم الحبشة:
قال رسول الله لأصحابه: «لو خرجتم إلى الحبشة؛ فإن بها ملكًا لا يظلم عنده أحد»، فلم يعلق رسول الله على شيء في حياة هذا الرجل ولا دينه، إنما فقط علق على عدله.
وما حدث للمسلمين في مكة كان نتيجة ظلم بيّن من أهل مكة، والظالم لا ينظر ولا يهتم ولا يكترث بحقوق غيره، أما النجاشي ملك الحبشة فقد كان عادلًا؛ وهو بذلك يحفظ حقوق الآخرين بصرف النظر عن ديانتهم؛ بل بصرف النظر عن حبهم وكراهيتهم؛ حيث العدل من أُسس الحكم، وبغيره لا تستقيم الدنيا، وبدونه لن ينجو الإنسان في الآخرة.
وكان من سعة أفق الرسول وشمول نظرته وعمق تفكيره أن اختار البلد الذي يحكمه حاكم عادل، فضمن بذلك حماية كبيرة لأصحابه، وهو درس للدعاة أن يستفيدوا من الذين يتصفون بالعدل من الناس، وأن يطلعوا على أحوال البلاد المحيطة بهم، حتى في زمان الاستضعاف؛ فقد يكون من الفائدة أن يستعينوا برجل من هؤلاء، بصرف النظر عن ديانتهم أو توجهاتهم، وكانت تلك من المميزات الرئيسية في اختيار الحبشة.
ثانيًا: الحبشة بعيدة عن مكة:
ومع أن هذا يعدّ عيبًا؛ لأن البعد عن مكة يجعل الاتصال بين الرسول وبين المهاجرين صعبًا وشاقًّا ومكلفًا، إلا أنه في ذات الوقت يوفر جانبًا كبيرًا من الأمن للمهاجرين، بعيدًا عن بطش أهل الباطل في مكة وما حولها من الأماكن التي يمتد إليها نفوذهم.
ثالثًا: الحبشة بلد مستقل:
كانت الحبشة مملكة مستقلة، ليس لأحد عليها سلطان، ورغم أنها كانت تتبع الكنيسة المصرية في الإسكندرية، إلا أن هذه التبعية كانت تبعية دينية وليست سياسية، فليس هناك خطورة إذن من أن يملي قيصر الروم أو كسرى فارس أو غيرهم رأيًا على أهل الحبشة.
رابعًا: الحبشة بلد قوي في المنطقة، وعليها ملك عظيم:
فقد كان للحبشة اسم قوي في ذلك الزمن، وكان أهل مكة يعظمون ملكها كثيرًا، وكان بينهم وبينه سفارات ومراسلات وهدايا، ومثل هذا الأمر كان من الممكن أن يكون عيبًا لكن في حال إذا كان ملك الحبشة ظالمًا، أما وإن اتصف بالقوة والعظمة مع العدل؛ فهذا يوفر حماية كبيرة وأكيدة للمهاجرين.
وإن هذا ليضع على عاتق قريش أن تفكر ألف مرة قبل أن تقدم على غزو الحبشة لمطاردة المهاجرين منها، كما فعلت بعد ذلك في المدينة في غزوة الأحزاب، فكانت قوة الحبشة وقوة ملكها، إضافة إلى حاجز البحر وبُعد المسافة، من العوامل المهمة التي تحول دون هذا التفكير في الغزو، وكان أقصى ما يمكن أن تفعله قريش هو أن ترسل سفارة رسمية تطلب فيها تسليم المهاجرين، وإن كان الملك عادلًا فإنه، ولا شك، سيرفض تسليم زوّاره وضيوفه.
خامسًا: الحبشة بلد تجاري، وصاحب قوة اقتصادية:
كانت الحبشة في ذلك الوقت ذات قوة اقتصادية معقولة، ولا يخشى عليها من حدوث أزمات اقتصادية، وذلك نتيجة قدوم المهاجرين، وهذا سيعمل على توفير الأمان والاستقرار للمؤمنين، وفي ذات الوقت فلن يغير من نفسيات أهل الحبشة؛ فهم لم يشعروا بأزمة تذكر نتيجة هجرة المسلمين إليهم.
لهذه الأسباب مجتمعة، وقد يكون لغيرها، كان اختيار الحبشة اختيارًا موفقًا جدًّا، وقد بدأ المهاجرون بالفعل يتجهون إلى هناك، ليبدأ ما يسمى في السيرة بالهجرة الأولى إلى الحبشة(18).
دروس وعبر من الهجرة للحبشة:
أولًا: الواقعية في تعامل النبي مع الأحداث: اتسم الحل النبوي تجاه محنة المسلمين في مكة بالواقعية والعملية، فلم يلجأ النبي إلى طرق خيالية، أو غير منطقية، إذ كان بمقدوره صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله للمؤمنين، ويستجيب الله له، ولكن هذا الحل آنذاك يكون أشبه بالمعجزة الخارقة عن حدود العقل، والتي قد تزعزع المسلمين أنفسهم، فلجأ النبي إلى الهجرة كحلٍ واقعي ينهي به أزمة المسلمين في مكة.
ثانيًا: استمرارية الدعوة إلى الله حتى في أوقات الشدائد: لم يقتصر قرار الهجرة على مجرد إنهاء مسلسل التعذيب الواقع على المسلمين وفقط؛ بل اعتبر النبي الهجرة وسيلة من وسائل الدعوة إلى الله تعالى، فهو وإن كان في ظاهره يعد إنهاءً لمسلسل التعذيب الذي بدأه طغاة مكة ضد المسلمين، إلا أنه في جوهره يعد طريقًا من طرق الدعوة إلى الله تعالى ونشر رسالة الإسلام.
ثالثًا: إن الأمر بالهجرة إلى الحبشة لم يكن عامًا لكل المسلمين في مكة؛ بل كان قاصرًا على الأحرار فقط من أهل مكة دون العبيد، ولعل ذلك يرجع إلى أن تأثير هؤلاء الأشراف في أرض الحبشة يكون أقوى من تأثير العبيد، إضافةً إلى أن الأحرار يملكون أمر أنفسهم، بخلاف العبيد فهم ملك لأسيادهم، أضف إلى ذلك أن هجرة بعض أسياد مكة وأشرافها يؤدي لا محالة إلى ضربة قوية في المجتمع المكي.
رابعًا: البلاء سنة كونية، يلقاه الصالحون فالأمثل فالأمثل، وأن الصبر على البلاء ثوابه عظيم، وفضله كبير، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل»(19)، وقال سبحانه وتعالى في فضل الصبر والصابرين: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10].
خامسًا: أظهرت الهجرة إلى الحبشة مدى الرحمة التي يتمتع بها النبي صلى الله عليه وسلم، حيث كان السبب الرئيس إلى اتخاذ قرار الهجرة هو شدة الأذى الذي لاقاه المسلمون في مكة، فأشفق النبي عليهم، وأمرهم بالهجرة إنهاءً لهذا العذاب، وتلك المحنة، وصدق الله إذ يقول واصفًا نبيه عليه الصلاة والسلام: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
سادسًا: الثبات على المبادئ واليقين في نصر الله صفة من صفات المؤمنين الصادقين، فمع ما لاقاه المسلمون من الأذى والاضطهاد في مكة، كانت بشائر الأمل بتحقيق موعود الله ترفرف على أفئدتهم، فأكسبتهم سكينة وثباتًا وصبرًا.
سابعًا: أظهرت هذه الهجرة حسن تدبير النبي صلي الله عليه وسلم، فلم يختر لهم مكان الهجرة بطريقة عشوائية؛ حتى لا يكون هناك احتمال تعرضهم لاضطهادٍ في مكان آخر؛ بل اختار الحبشة، معللًا هذا الاختيار بأن بها ملكًا عادلًا لا يُظلم عنده أحد، وأنه يُحسن الجوار.
أضف إلى ذلك أن بلاد الحبشة كانت بعيدة عن نفوذ الفرس والروم وقريش، ولا يمكن أن يصل إليها طغاة مكة عبر خيولهم؛ بل لا بد للوصول إليها من ركوب البحر بالسفن، ولم يكن لقريش آنذاك علم بالسفن.
ثامنًا: تصديق اختيار النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يخيب النجاشي ظن رسول الله ولا ظن المسلمين به، فقد رعاهم أحسن رعاية، وأَمَّنهم، وعاملهم بالحسني، وكان أبو طالب قد أرسل رسالة إلى النجاشي يوصيه فيها بالمسلمين، حيث كان جعفر ابنه معهم، فأرسل إليه قصيدة كان من ضمن أبياتها:
تعلم، أبيت اللعن أنك ماجد كريم فلا يشقى لديك المجانب
تعلـــــم بأن الله زادك بســـــــطة وأسباب خـــــير كلـــــها بك لازب
فإنك فيض ذو سجال غزيرة ينال الأعادي نفعها والأقارب(20)