بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله أن بلغك الله رمضان، واصطفاك بهذا العطاء، فكم حرم منه من أناس، ومنع منه من خلق، وارهم الموت تحت الثرى، وأصبحوا خبرا بعد عين وأثرا بعد ذات، يا من بلغت رمضان، وصرت من أهل الصيام والقيام، إن نعمة بلوغ الشهر لا يقدر قدرها إلا من عرف فضله، ورأى مزاياه العظام المنوه بذكره، ويكفيك من ذلك قول الباري في بيان مكانته وشرفه "شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ" [البقرة: 185].
لقد كانت بركة هذا الشهر عظيمة على كثير من المسلمين، فقد كان سببا لكثير منهم في الازدياد من الخيرات، ومنطلقا لجم غفير منهم في الإكثار من القربات، وسببا للتغير والتحول من المعصية إلى الطاعة، ومن الفساد إلى الصلاح.
رمضان غيرني
أريدك تحمل هذا الشعار في رمضان هذا العام، لأنك ستسعد بخيراته عليك، يوم ترى نفسك وقد أصبحت من أهل الصلاح، ومن مرتادي المساجد وأماكن الفلاح، فيمتلئ قلبك فرحاً ورضا عن مولاك، إذ وفقك لهذا، واصطفاك لهذا الخير، كيف لا تفرح وقد أصبحت من أولياء الله المتقين، وحزبه المفلحين.
وأعيذك أن تكون ممن يندم في آخره، يوم ضيع هذه الفرصة، وفرط في هذا الموسم.
ولقد رأيت – يا رعاك الله – خلقا ممن بقي في قلوبهم بقية حياة، فندموا في ختامه في ساعة لا ينفع فيها الندم، ولم تفد فيها الحسرات.
لماذا (غيرني رمضان)؟
لقد غيرني رمضان؛ لأنه شهر نزول الرحمات والبركات فالرحمة تشمل الناس كلهم فكيف لا تشملني!
ونفحات المغفرة تحيط بالعباد جلهم فكيف لا تحيط بي، لقد أيقنت أني محروم إن لم تدركني تلك الرحمة، وعلمت أني سابقي في شقاء إن لم أتعرض لتلك النفحات.
جاء في سنن الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليّ، ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان، ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة».
أف للذنوب ما أثقلها على أصحابها، وما أشد وطئها على من عجز أن يتخلص منها:
رأيت الذنوب تميت القلوب
وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب
وخير لنفسك عصيانها
لقد أيقنت أنه آن لي أن أجدد التوبة هذه الأيام، وأعمل لإصلاح شأني وعلاقتي مع ربي، ومراجعة حالي مع سائر الطاعات، إن هذا الشهر الكريم فرصة للتزود من القربات لكثرة العاملين، وللأجواء الإيمانية المشجعة للعمل الصالح، فلذا عزمت على أن يكون رمضان بداية الانطلاقة للجد في الطاعات والتزود منها لداري الحقيقية ومصيري الأبدي؟
(رمضان غيرني) نعم
فأصبحت من المصلين، والمؤدين لها في جماعة المسجد بعد أن كنت هاجراً لها.
كم كانت رحمة الله بي يوم أمهلني حين كنت تاركاً لها مفرطاً في أدائها ليأتي رمضان ويبلغني الله برحمته هذا الشهر، فأحافظ عليها وأكون من أهلها، كيف وهي عمود الإسلام، وأعظم أركانه بعد الشهادتين.
لقد كان رمضان فاتحة خير لي مع هذا الفرض العظيم، وكانت الصور التي أراها أعظم حافز لي، فهاهي المساجد ممتلئة بالمصلين كباراً وصغاراً، رجالاً ونساءً، كم هي المناظر الجميلة بهؤلاء الركع السجود.
لقد كانت الصلاة ثقيلة عليّ لا أحافظ على فروضها كل يوم، وكنت كثير النوم عن صلاة الفجر والعصر مع ما جاء من التحذير في تركها مع الجماعة، حتى همّ النبي عليه الصلاة والسلام بتحريق بيوت المتخلفين عنها، فقد جاء في صحيح مسلم رحمه الله من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيها لأتوهما ولو حبواً، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلا فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرّق عليهم بيوتهم بالنار».
لقد بلغني من شدة حرص النبي عليه الصلاة والسلام على أمته في أن يشهدوها أنه كان يقول في كثير من الأحيان في صلاة الفجر: «أشاهد فلان»؟ قالوا: لا، قال: «أشاهد فلان؟» قالوا: لا. قال: «إن هاتين الصلاتين أثقل الصلوات على المنافقين، ولو تعلمون ما فيها لأتيتموهما ولو حبواً على الركب» [صحيح الترغيب برقم 419 حسن لغيره].
فانظر – يا من هو حاله كحالي – كيف نعرض أنفسنا للعقوبة بترك هذه الفريضة، إن فريضة الصلاة كرامة من الله للمؤمنين، فبها تكفر الذنوب، وبسببها ترفع الدرجات، وهي السبب الأعظم لرضا الله عن عبده، وأعظم معين له في هذه الحياة، ألم يقل الله في كتابه: "وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ" [البقرة: 45].
ومن فضل الله على العباد أيضا في هذه العبادة أن شرع لها نوافلًا، فجعل منها صلاة لليل – وهي أعظمها – وصلاة للنهار، وأوصي عليه الصلاة والسلام أمته بالإكثار من نافلتها وجعلها أفضل الأعمال فقال: «استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن من أفضل أعمالكم الصلاة» صحيح ابن ماجه.
وشرع لنا صلاة التراويح في رمضان التي هي سبب عظيم لتكفير الذنوب والخطايا فقال: «من قام رمضان، إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه» صحيح البخاري.
فلما علمت بهذا الفضل، وأيقنت بهذه الكرامة، عزمت على أن لا أفوت شيئا منها، وأجعلها أهم واجب في حياتي.
لقد وجدت اللذة التي كنت مفتقدها في حياتي، وظللت أبحث عنها هنا وهناك وجدتها في الانطراح بين يدي الله ساجداً باكياً معترفا بذنبي، فكانت أجمل ليالي عمري، وألذ ساعات حياتي، فهل لك أن تلحق بركب المصلين؟
(رمضان غيرني)
مع كتــاب ربي
هذا القرآن الذي طالما هجرته، وكثيراً ما ابتعدت عنه أياماً وأسابيع حتى كأنني المعني بشكوى رسول الله عليه الصلاة والسلام: "وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا" [الفرقان: 30].
حتى حل بساحتي هذا الشهر العظيم الذي هو شهر القرآن، وفيه نزل، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدارس فيه جبريل -عليه السلام- ويعرضه عليه ليثبت في فؤاده، ويستقر في قلبه، فعزمت على أن يكون لي شأن مع القرآن العظيم، فتوجهت بكليتي له فأصبح جليسي في صبحي ومسائي، ومؤنسي في حلي وترحالي، فوجدت انشراحاً في صدري ما كنت أعهده، وراحة في نفسي كم كنت محروماً منها!
لقد وجدته كتاب عظة وعظات، يتنقل بقارئه في حدائق غناء، وضياء لامعة، وتوجيهات كريمة، ومواعظ بليغة.
كم فيه من تعريف بالرب الكريم -سبحانه وتعالى- وبديع صنعه.
قال تعالى: "قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى" [طه: 49-50].
تأملت أول الآيات من سورة الرعد في قوله تعالى: "المر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ * اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ * وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ" [الرعد: 1-4].
فإذا هي آيات عظيمة تبين عظمة الصانع سبحانه، وعجيب مخلوقاته، هذه السماوات والأرضين دالة على إتقانه للمخلوقات، وهذه الثمار اليانعة تسقي بماء واحد فتخرج زرعا مختلفا ألوانها وأكلها، آيات لكل عاقل، وعبرة لكل متفكر، فعززت الإيمان في قلبي، وأحيت عندي سبيل التفكر.
ثم تأملت في المثلات التي حلت في الأمم السابقة فإذا أنواع لا تحصى من العذاب، وصورًا لمصارع أقوام قد ضلوا سبيل الرشاد وانحرفوا عن صراط أهل الهدى والسداد، تأملت قوله تعالى: "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ" [الفجر: 6-14].
فأحدثت في نفسي خوفا من الله، وتأملت في شدة بطشه بمن عصاه وخالف أمره وأيقنت أن الله غير غافل عني، وتأملت بعد ذا في فضله علي، فكم يمهلني وأنا واقع في معصية، فما أحلم الله عني، وما أعظم رحمته بالعاصين أمثالي.
ومما قرأت في هذا الكتاب أن الله يبشر المؤمنين بثواب أعمالهم الصالحة، وأن لهم من الخيرات ما لا يخطر لهم على بال، فإذا هم ينالون نعيم الجسد والروح والقلب.
يقول سبحانه: "إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ * كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ * يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آَمِنِينَ * لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ" [الدخان: 51 -57].
ثم نظرت في وعيد الله لمن عصاه، فإذا هم يتقلبون في أنواع من العذاب المؤلم الذي لا يطاق تأملت في قوله تعالى: "وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ" [فاطر: 36- 37].
فعزمت على أن أعمل لأنجو من هذا، وأفوز بذاك.
لقد علمت من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأجر العظيم في تلاوة القرآن العظيم فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول (الم) حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف» [أخرجه الترمذي وصححه الألباني].
فإذا عدد حروفه 323671 وتساوي في ميزان البشر أكثر من ثلاثة ملايين حسنة في الختمة الواحدة، ولكني على يقين أن فضل الله أعظم، وعطاءه أجل.
لقد بلغني فيما بلغني من أخبار الأخيار في عصرنا أنهم يختمون مرات كثيرة في هذا الشهر حتى وصل بعضهم إلى اثنتي عشر مرة، فعدت باللوم على نفسي كيف يكون هذا حالي مع كتاب ربي، وكم من الحسنات جمعتها من تلاوته؟
يا حسرتاه إذا قدمت يوم القيامة وإذا بمن حولي قد فازوا بعظيم الحسنات من كثرة الختمات، ووقفت أنا حسيراً كسيراً، فعزمت على الإكثار من تلاوته والنظر فيه عسى أن تشملني هذه الآيات: "إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ" [فاطر: 29 -30].
فأفوز بذاك العطاء العظيم.
(رمضان غيرني)
في عـلاقـتي بالنـاس
لقد كانت معاملتي للناس غليظة، وسلوكي معهم فظ، لا أتحمل منهم كلمة، ولا أقبل منهم نقداً، أشك في كل تصرف يتصرفونه معي، وأظنهم يريدون من ورائه التنقيص من قدري ومكانتي، حتى حل بساحتي رمضان، وأدركت هذه الأيام الفاضلة، فكان للطاعات أثر كبير علي، فها هي النفس قد هذبت، والأخلاق قد استقامت.
لقد وجهتني الآيات إلى إحسان الظن بالناس بقوله تعالى: "اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ" [الحجرات: 12].
وأرشدتني إلى القول الحسن: "وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا" [البقرة: 83].
ومعاملتهم بالمعروف، والعفو عنهم: "فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ" [الشورى: 40].
والإحسان إليهم: "وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" [البقرة: 195].
فألزمت نفسي إحسان الظن بالناس، والتأدب معهم بجميل الخطاب، لقد علمت فيما علمت أن أقرب الناس مجلساً من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أكمل المؤمنين إيماناً أحاسنهم أخلاقاً، الموطؤون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف» [السلسلة الصحيحة – الصفحة أو الرقم: 751].
فقلت لنفسي كيف تفوتين هذا الخير بانتصارك لنفسك واتباعك لنزغات الشيطان، ألم تقرئي في كتاب الله: "وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ" [فصلت: 34].
فألزمت نفسي التخلق بكل خلق يدعوا له القرآن العظيم، كم كان لرمضان في طاعاته الجليلة من صيام وصلاة وذكر وتلاوة أثر في تهذيب أخلاقي، وتحسين سلوكي.
أن من أظهر الأدلة على انتفاع المرء بالطاعة، ظهور آثارها على أخلاقه وسلوكه ومعاملاته، بل إن المقصد الأعظم لها هو هذا الهدف الأسمى "لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" [البقرة: 183].
(رمضان غيرني)
فـي سلـــوكي
لقد كنت أظن أن الحياة متع وشهوات يعبئ منها المرء كيف شاء بدون حسيب ولا رقيب، وأن له أن يتمتع بلذائذها حتى وإن كانت فيما لا يرضي الله، أو كان فيه التعدي على الآخرين، فإذا بروحانية رمضان تحل بي، وخيرات هذا الشهر ترشدني من غفلتي، وتوقظني من سهوتي، وتقول لي رويدك إنك تسير في طريق مظلم، ونفق موحش، إن هذا الدرب الذي تسير فيه قد سار قبلك فيه فئام فندموا، ولهث فيه أقوام فخابوا وخسروا.
نادتني بقية الخير في النفس وقالت إن فيك خيراً عظيماً به تكون من الصالحين، ولقد رأيت أناس كانوا مثلي في سهوة وغفلة، فصاروا من رواد المساجد، وأحلاس مواطن العبادة، بل أصبح بعضهم دليلاً لغيره في العودة إلى مولاه فقلت لنفسي: ولما لا أكون أنا مثلهم؟
لقد تحرك في قلبي وازع الإيمان فذكرني بعظيم الفوز برضا رب العالمين، ولقد جاءك شهر كريم، حاملاً في طياته الخيرات، فأحسن وفادته بخير ما بحضرتك، كيف وهو شهر أيامه قليلة: "أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ" [البقرة: 184].
اختارها الله لفريضة الصيام، واختار لياليه لنزول أعظم بيان: "شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ" [البقرة: 185].
فأيقنت أنه زمان غير بقية الأزمنة، ووقت ليس كبقية الأوقات، وعلمت أنه وقت تضاعف فيه الحسنات فضلا من الله ونعمة فعزمت على استغلال كل لحظة، وملء كل ساعة فيه بطاعة تقربني من ربي، وقلت في نفسي لعلي لا ألقاه بعد عامي هذا، وتذكرت وأنا أكتب هذه الكلمات أختا عزيزة كانت من أعظم الناس حرصا على الخير خطفها الموت قل دخول شهر رمضان بأيام، وغيرها الكثير؛ فأيقنت بقرب الموت من كل واحد منا، وجلست أؤنب نفسي حتى متى التسويف، وإلى متى تستمرين في هذا التفريط؟
(رمضان غيرني)
في حفـظ جوارحي
لقد بلغني حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «الصيام جُنة فلا يرفث، ولا يجهل، إن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم مرتين، والذي نفسي محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، الصيام لي وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها» [حديث صحيح، رواه البخاري في الجامع الصحيح].
فعلمت أن كثيرًا من تعبي ونصبي وجوعي وعطشي هذه الأيام سيذهب سدى إن لم أحافظ على جوارحي، وأحيطها برعايتي، لقد قول الله تعالى: "إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا" [الإسراء: 36].
فعرفت أني مسئول عن هذه الجوارح، فأعددت للسؤال جواباً، وللجواب صوابا.
بل تعلمت أعظم من ذلك وهو:
أن هذه الجوارح التي أطلب الملاذ لها ستشهد علي في كل خطيئة ارتكبتها، وكل جرم جنته يداي؛ لقد قرأت قوله تعالى: "وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ" [فصلت: 19 -23].
فإذا الأمر جلل، والحساب عسير والإحاطة لا يغادرها أحد، فعقدت العزم، وأجمعت النية على أن أكون ناصحاً لنفسي، بحفظ هذه الجوارح، ومراقبة الله فيها، وعدم ترك العنان لها تسرح وتمرح كيف شاءت، لأني بذا سأكون رحيماً بها فمن ذا يطيق عذاب الله وسخطه؟
(رمضان غيرني)
في معرفة شريف الأوقات
لقد كنت مفرطاً في أوقات شريفة، وأزمنة جليلة، عظمها ربي -سبحانه وتعالى- وأثنى علي أهلها، لم أعرف فضلها إلا بعد بلوغي رمضان مع أنها معظمة في كل شهر، وهي أوقات مدح الله المغتنمين لها، وجعل الأعطيات لأهلها أعظم العطايا، والإفضال عليهم واسع، ومن أجلها -وقت السحر-، مدح الله أهله مدحاً كريماً في أعظم بيان فقال: "إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ" [الذاريات: 15 -18].
ووصف الجنة بأحسن وصف وأكمله، وبين جليل أعمال أهلها، فإذا من أبرز خصالهم، اغتنام هذا الوقت الفاضل، وعدم التفريط في ذاك الزمن الشريف.
قال تعالى: "قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ" [آل عمران: 15 -17].
فعلمت يقينا أن هذه الأوقات إن لم تغتنم فسيفوتني خير عظيم، فعقدت العزم على اغتنامها واستغلالها.
لقد بلغني أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قلما كان ينام هذا الوقت، بل كان فيه بين الصلاة والاستغفار والدعاء.
وتابعه في هذا الفضل الأخيار من هذه الأمة – سير السلف...
أما المؤمنون فكنت أراهم خاصة في الحرمين الشريفين، قد رفعوا أيديهم سائلين ربهم، مستغفرين مولاهم، في هذا الوقت فعدت باللائمة على نفسي، وكيف أضيع مثل هذه الأوقات، وهل أنا في غني عن عطاء ربي وفضل مولاي؟
أم أني بريء من الذنوب والخطايا؟
لقد وعد الله السائلين أشرف أنواع الوعود وأوفاها فقال: "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ" [البقرة: 186].
فعقدت العزم على استغلاله وطرح حاجتي في جناب ربي الذي وعد، وهو أوفى من صدق.
(رمضان عرفني)
بقــدر نفســي
كم يغتر المرء بحاله وما هو عليه في ساعته، ويظن أنه مادام يعيش في بلاد الإسلام فقد بلغ كل شيء، وأنه ليس بحاجة لمزيد من الطاعات والقربات، وأنه يكفيه ركيعات يركعها، أو يقرأ القرآن وقت فراغه، أو يذكر الله متعجبا من منظر يراه، أو يصل رحمه في المناسبات فقط، وأما الصدقة فهي آخر شيء يفكر فيه ؛ لأن ما معه من مال إنما قد صرفه على شراء كل أمر متعلق بدنياه، ولكن بدخول هذا الشهر الكريم، رأيت مناظراً كريمة، وصوراً ناصعة للأخيار من هذه الأمة فعدت على نفسي باللوم، وأنبتها أشد التأنيب على تفريطها في جنب الله، وكيف مضى هذا العمر وفات وأنا أسير للغفلات، كيف لو قدمت على ربي وأنا خاليًا من الكثير من الحسنات لقد تذكرت وأنا أرى الناس يدلفون على بيوت الرحمن، وقد حبستني الذنوب والمعاصي، رأيتهم وقد حبسوا أنفسهم جلوساً في بيوت الله وقد أمسك كل واحد منهم كتاب الله تعالى يتلوه.
رأيت المتصدقين يسابقون إلى الصدقة فهذا يبحث عن فقير ويصل إلى بيته، وذاك قد قام على سفرة للصائمين يخدم هذا ويدعوا ذاك، وثالث قد نذر وقته كله لخدمة المسلمين فعدت باللوم على نفسي، وأيقنت أنني في حاجة لمعونة ربي أن يعينني على مثل تلكم الطاعات وقلت:
أنا الفقير إلى رب البرياتِ
أنا المسكين في مجموع حالاتي
أنا الظلوم لنفسي وهي ظالمتي
والخير إن يأتنا من عنده يأتي
لا أستطيع لنفسي جلب منفعة
ولا عن النفس لي دفع المضرات
وليس لي دونه مولي يدبرني
ولا شفيع إذا حاطت خطيئاتي
إلا بإذن من الرحمن خالقنا
إلى الشفيع كما قد جاء بالآياتِ
أخي الكريم.. أختي الكريمة..
رمضان هبة الرحمن، وهبة الديان، فاغتنمه بخير ما بحضرتك، فيوشك والله أن تنقضي أيامه وترحل لياليه، بل ربما تقرأ هذه الورقات في آخره، فاستغله بما يرضي ربك عنك، فغدا نوسد أنا وأنت قبورنا، ونتمنى هناك أن لو تكون لنا عودة للدنيا لنتزود منه بصالح العمل ولكن هيهات هيهات ذهبت الدنيا، وقد كانت الفرصة متاحة ولك فها نحن نعيش في الأمنية فهل نغتم هذا الموسم، ونعمل لنفسنا صالحاً.
وفقك الله لهداه، وجعل عملك في رضاه، وصلى الله وبارك على نبيه ومصطفاه، والحمد لله رب العالمين.