مسجد آيا صوفيا والحُكم القضائيالدكتور: علي الصلابي تعدُّ مدينة القسطنطينيَّة (إستانبول اليوم) من أهمِّ المدن العالميَّة، وقد أُسِّست في عام (330م) على يد الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الأوَّل.
وقد كان لها موقعٌ عالميٌّ فريدٌ، حتَّى قيل عنها: «لو كانت الدُّنيا مملكةً واحدةً، لكانت القسطنطينيَّة أصلح المدن، لتكون عاصمةً لها».
ومنذ تأسيسها فقد اتَّخذها البيزنطيُّون عاصمةً لهم، وهي من أكبر وأهم المدن في العالم (الصلابي، 2003، 69).
عندما دخل المسلمون في جهادٍ مع الدَّولة البيزنطيَّة كان لهذه المدينة مكانتها الخاصَّة في ذلك الصِّراع، ولذلك فقد بشَّر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أصحابه بفتحها في عدَّة مواقف، من ذلك ما حدث أثناء غزوة الخندق، ولهذا فقد تنافس خلفاء المسلمين وقادتهم على فتحها عبر العصور المختلفة طمعاً في أن يتحقَّق فيهم حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «لتفتحنَّ القسطنطينية على يد رجلٍ، فلنِعْمَ الأميرُ أميرُها، ولنِعْمَ الجيشُ ذلك الجيشُ!» (الصلابي، 2003، 69).
لقد كانت القسطنطينيَّة قبل فتحها عقبةً كبيرةً في وجه انتشار الإِسلام في أوروبا، ولذلك فإِنَّ سقوطها يعني: فتح الإِسلام لدخول أوروبا بقوَّةٍ وسلامٍ لمُعتنقيه أكثر من ذي قبل.
ويُعتبر فتح القسطنطينيَّة من أهمِّ أحداث التَّاريخ العالميِّ، وخصوصاً تاريخ أوروبا، وعلاقتها بالإِسلام؛ حتَّى عَدَّهُ المؤرِّخون الأوربيُّون، ومَنْ تابعهم نهاية العصور الوسطى، وبداية العصور الحديثة (أوزنتونا، 1988، 384).
ويمكن القول: إن من أكثر الأحداث التي أثارت الاهتمام العالمي هو فتح مدينة القسطنطينية وتحويل كنيسة آيا صوفيا إلى مسجد…
فما هي حيثيات وسياقات ذلك الحدث التاريخي الكبير؟أولاً: مسار الفتح الإسلامي العثماني لمدينة القسطنطينية ومكانة آيا صوفيااستبسل العثمانيُّون المهاجمون على المدينة وعلى رأسهم محمَّد الفاتح، وصمد البيزنطيُّون بقيادة قسطنطين صموداً بطوليَّاً في الدِّفاع، وحاول الإمبراطور البيزنطيُّ أن يُخَلِّصَ مدينته وشعبه بكلِّ ما يستطيع من حيلةٍ، فقدَّم عروضاً مختلفةً للسلطان ليغريه بالانسحاب مقابل الأموال، أو الطَّاعة، أو غير ذلك من العروض الَّتي قدَّمها، ولكنَّ الفاتح (رحمه الله) يردُّ بالمقابل طالباً تسليم المدينة تسليماً، وأنَّه في هذه الحالة لن يتعرَّض لأحَدٍ من أهلها، ولا لكنائسها بالأذى (الصلابي، 2003، 75).
وقد أيقن محمَّد الفاتح بأنَّ المدينة على وشك السُّقوط، ومع ذلك حاول أن يكون دخولها بسلامٍ، فكتب إِلى الإمبراطور رسالةً دعاه إِلى تسليم المدينة دون إِراقة دماء، وعرض عليه تأمين خروجه، وعائلته، وأعوانه، وكلِّ مَنْ يرغب من سكَّان المدينة إِلى حيث يشاؤون بأمانٍ، وأن تُحقن دماء النَّاس في المدينة، ولا يتعرَّضوا لأيِّ أذىً، ويكونوا بالخيار في البقاء في المدينة، أو الرَّحيل عنها.
ولَمَّا وصلت الرِّسالة إِلى الإمبراطور جمع المستشارين، وعرض عليهم الأمر، فمال بعضهم إِلى التَّسليم، وأصَرَّ آخرون على استمرار الدِّفاع عن المدينة حتَّى الموت، فمال الإمبراطور إِلى رأي القائلين بالقتال حتَّى اخر لحظةٍ، فردَّ الإمبراطور رسول الفاتح برسالةٍ، قال فيها: «إِنَّه يشكر الله إِذ جنح السُّلطان إِلى السِّلم، وأنَّه يرضى أن يدفع له الجزية، أمَّا القسطنطينية فإِنَّه أقسم: أنه سيدافع عنها إِلى آخرِ نَفَسٍ في حياته، فإِمَّا أن يحفظ عرشه، أو يُدفن تحت أسوارها» (فهمي، 1987، 116).
فلمَّا وصلت الرِّسالة إِلى الفاتح، قال: «حسناً عن قريبٍ سيكون لي في القسطنطينية عرشٌ، أو يكون لي فيها قبرٌ».
وبعد أن عاد السلطان الفاتح إِلى خيمته، ودعا إِليه كبار رجال جيشه، أصدر إِليهم التَّعليمات الأخيرة.
ثمَّ ألقى عليهم الخطبة التَّالية: «إِذا تمَّ لنا فتح القسطنطينيَّة، تحقَّق فينا حَدِيثٌ من أحاديث رسول الله، ومعجزةٌ من معجزاته، وسيكون من حظِّنا ما أشاد به هذا الحديث من التَّمجيد، والتَّقدير، فأبلغوا أبناءنا العساكر فرداً فرداً: أنَّ الظفر العظيم الَّذي سنُحرزه سيزيد الإِسلام قدراً، وشرفاً، ويجب على كلِّ جندي أن يجعل تعاليم شريعتنا الغرَّاء نصب عينيه، فلا يَصدر عن أحدٍ منهم ما يُجافي هذه التَّعاليم، وليتجنَّبوا الكنائس، والمعابد، ولا يمسُّوها بأذىً، ويدعوا القُسس، والضُّعفاء، والعَجَزَةَ الَّذين لا يُقاتلون…» (الصلابي، 2003، 85).
وفي هذا الوقت، كان الإمبراطور البيزنطيُّ يجمِّع النَّاس في المدينة لإقامة ابتهالٍ عامٍّ، دعا فيه الرِّجال، والنِّساء، والصِّبيان للدُّعاء، والتَّضرُّع، والبكاء في الكنائس على طريقة النَّصارى لعلَّه أن يُستجاب لهم، فتنجو المدينة من هذا الحصار، وقد خطب فيهم الإمبراطور خطبةً بليغةً كانت آخر خطبةٍ خطبها؛ حيث أكَّد عليهم بالدِّفاع عن المدينة حتَّى لو مات هو، والاستماتة في حماية النَّصرانيَّة أمام المسلمين العثمانيِّين، وكانت خطبةً رائعةً كما يقول المؤرِّخون أبكت الجميع من الحاضرين، كما صلَّى الإِمبراطور ومن معه من النَّصارى الصَّلاة الأخيرة في كنيسة آيا صوفيا أقدس الكنائس عندهم، ثمَّ قصد الإِمبراطور قصره يزوره الزِّيارة الأخيرة، فودَّع جميع من فيه، واستصفحهم، وكان مشهداً مؤثِّراً، وقد كتب مؤرخو النَّصارى عن هذا المشهد، فقال مَنْ حضره: «لو أنَّ شخصاً قلبُه من خشبٍ، أو صخرٍ؛ لفاضت عيناه بالدُّموع لهذا المنظر» (الصلابي، 2003، 85).
عمد السلطان محمد الفاتح (رحمه الله) بعد اليأس من تسليم المدينة صُلحاً إلى تكثيف الهجوم وإلى استهداف الأسوار والقلاع وأخذ بأسباب النصر المعنوية والمادية، وعند الساعة الواحدة صباحاً من يوم الثلاثاء في جمادي الأولى سَنَةَ 857هـ/ 29 مايو 1453م، بدأ الهجوم العام على المدينة بعد أن أصدرت الأوامر للمجاهدين الذين علت أصواتهم بالتكبير وانطلقوا نحو الأسوار، وخاف البيزنطيون خوفاً عظيماً وكان الهجوم الثاني متزامناً برياً وبحرياً في وقت واحد حسب خطة دقيقة، أعِدَّتْ بإحكام، وكان المجاهدون يتقدَّمون بكل شجاعة وتضحية وإقدام نحو الأعداء رغبة في النصر والشهادة ونال الكثير منهم الشهادة، وفي نهاية المطاف تمكَّنت الجيوش العثمانية من دخول المدينة. (سالم الرشيدي، محمد الفاتح).
وبعد أن تم فتح القسطنطينية عُنْوَةً، توجَّه مُحَمَّدٌ الفاتح إِلى كنيسة آيا صوفيا، وقد اجتمع فيها خلقٌ كبيرٌ من النَّاس، ومعهم القُسُسَ، والرُّهبان الَّذين كانوا يتلون عليهم صلواتهم، وأدعيتهم، وعندما اقترب من أبوابها خاف النَّصارى داخلها خوفاً عظيماً، وقام أحد الرُّهبان بفتح الأبواب له، فطلب من الرَّاهب تهدئة النَّاس، وطمأنتهم، والعودة إِلى بيوتهم بأمانٍ، فاطمأنَّ الناس، وكان بعض الرُّهبان مُختبئين في سراديب الكنيسة، فلمَّا رأوا تسامح الفاتح، وعفوه، خرجوا، وأعلنوا إِسلامهم (زيادة أبو غنيمة، جوانب مضيئة من تاريخ العثمانيين).
وقد أمر الفاتح بعد ذلك بتحويل الكنيسة إِلى مسجدٍ، وأن يعدَّ لهذا الأمر حتَّى تقام بها أوَّلُ جمعةٍ قادمة، وقد أخذ العمَّال يعدُّون لهذا الأمر، فأزالوا الصُّلبان، والتَّماثيل، وطمسوا الصُّور بطبقةٍ من الجير، وعملوا منبراً للخطيب، وقد يجوز تحويل الكنيسة إِلى المسجد، لأنَّ البلد فُتِحَتْ عُنْوَةً، والعُنْوَةُ لها حُكمها في الشَّريعة الإِسلاميَّة.
وقد أعطى السُّلطان للنَّصارى حرِّيَّة إقامة الشَّعائر الدِّينيَّة، واختيار رؤسائهم الدِّينيِّين، الَّذين لهم حقُّ الحُكم في القضايا المدنيَّة، كما أعطى هذا الحقَّ لرجال الكنيسة في الأقاليم الأخرى، ولكنَّه في الوقت نفسه فرض الجزية على الجميع (العمري، 1997، 384).
وكان الشيخ آق شمس الدِّين أوَّل مَنْ ألقى خطبة الجمعة في مسجد آيا صوفيا (حرب، 1994، 374).
ثانياً: آيا صوفيا وتاريخهسُمِّيَتْ آيا صوفيا بهذا الاسم نسبةً إلى قِدِّيسَةٍ قبطيةٍ من مصر، ومعنى اسمها باليونانية “الحكمة الإلهية”، وكانت هذه المرأة تعبد الأوثان ثم تأثَّرت بالمسيحية واعتنقتها، وتعمَّقت في العبادة وطقوسها حتى أثَّرت فيمَنْ حولها من المسيحيين، فذاع صيتها الديني حتى وصل إلى أسماع الحاكم الروماني الوثني أقلوديوس الذي أمر بضربها وقتلها، وبذلك أصبحت آيا صوفيا شهيدة الإيمان المسيحي.
وفي عهد الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الأكبر تم نقل جثمانها إلى القسطنطينية حيث تم دفنه، وبنيت حوله كنيسة ضخمة في عام 360م (إسماعيل، 2010).
لكن هذا المبنى الأول للكنيسة قد تعرَّض للتدمير بسبب زلزال حصل أو بسبب تمرد ضد حاكم بيزنطة آنذاك بحسب بعض المصادر، فأعاد الإمبراطور ثيودوسيوس الثاني بناءها وافتتحها للعبادة في عام 415م.
ثم تدمرت مرة أخرى بسبب إحدى الثورات عام 532م، فأعاد الإمبراطور جوستنيان الأول بناءها للمرة الثالثة وقد استمر بناءها خمس سنوات إلى أن اكتمل وتم افتتاحها مرة أخرى في عام 537م، وفي هذه المرة بنيت آيا صوفيا على الشكل الذي نعرفه اليوم، وبالصورة ذاتها (اردوغان، 2012، 3).
والبناء هو تحفة معمارية تمثل قمة الفن المعماري البيزنطي، وقد بني على الطراز البازيليكي، وقد توّج بقبة هي من أكبر قباب العالم حيث يبلغ قِطرها 21 متراً، وترتفع عن الأرض بعلوِ 55 متراً، ترتكز أطرافها على أربعة أكتاف مربعة، ويزين هذا المعبد من الداخل الكثير من اللوحات والرسوم والنقوش التي تغطي جدرانه من الداخل.
وقد كتب الرحالة العربي ابن بطوطة في وصف آيا صوفيا، فاعتبرها بأنها: “أعظم كنائس الروم وأروعها” (إسماعيل، 2010).
وفي عام 1204م، وبعد سقوط القسطنطينية في يد الصليبيين الكاثوليك، تم تحويل آيا صوفيا إلى كاتدرائية رومانية كاثوليكية، وقد استمرت هكذا إلى أن استعادها الروم البيزنطيين في عام 1261م، وبعد أن تم تأسيس الإمبراطورية البيزنطية من جديد، عادت آيا صوفيا إلى كونها كاتدرائية بطريركية أرثوذكسية (قان ديمير، 2014، 18).
وبعد الفتح الإسلامي للقسطنطينية في عام 1453م، أمر السلطان محمد الفاتح بتحويل آيا صوفيا إلى مسجد، فَرُفِعَ الأذان فيها لأول مرة بحضور السلطان وأقيمت الصلاة فيها، وكان من عادة الأتراك العثمانيين إذا افتتحوا مدينة أو قلعة، قاموا بنصب رايات العثمانية على أسوارها وأبراجها، ومن ثَمَّ يرفعون الأذان فيها، ويقومون بتحويل أكبر كنائسها إلى مسجد كعلامة للفتح وعنوان له (قان ديمير، 2014، 33).
ومنذ ذلك الحين أصبحت آيا صوفيا مسجداً للمسلمين يُعْبَدُ فيها اللهُ الواحدُ ولا يُشْرَكَ بِهِ، بعد أن كانت كنيسة لمئات السنين، واستمرت على وضعها كمسجد طوال فترة الحكم العثماني، وقد تخلل هذه الفترة بعض التعديلات العمرانية فقط.
وبعد انهيار الدولة العثمانية وتأسيس الجمهورية التركية وفي إطار علمنة الدولة وتغريبها فقد أغلق مسجد آيا صوفيا في عام 1931م، إلى أن اتخذت حكومة أتاتورك قرارها بتحويله إلى متحف عام 1934م، وتم فتحه للزوار في 1 فبراير 1935م (قان ديمير، 2014، 19).
وفي العاشر من يوليو لعام 2020م، ألغت محكمة تركية قرار وضع آيا صوفيا كمتحف وأعلنت عدم مشروعيته قانونياً، وأعقب هذا القرار مرسوم من رئيس الجمهورية التركية رجب طيب أردوغان يقضي بإعادة تصنيف آيا صوفيا كمسجد وافتتاحه للعبادة.
وهكذا تكون آيا صوفيا قد مرَّت بعدة تحولات تاريخية، فآيا صوفيا التي بدأت ككنيسة أرثوذكسية يونانية ثم تحولت إلى كنيسة كاثوليكية رومانية، ومن ثَمَّ عادت إلى أصلها الأرثوذكسي لتتحوَّل بعد الفتح الإسلامي إلى مسجد، ثم تُصبح متحفاً بقرار من حكومة الجمهورية التركية، ثم لتعود اليوم مسجداً للمسلمين بفضل من الله تعالى.
ثالثاً: مشروعية تحويل آيا صوفيا إلى مسجداعتمد السلطان محمد الفاتح في إجراءه تحويل أيا صوفيا إلى مسجد على فتوى شرعية تقول بجواز تحويل الكنيسة إلى مسجد في البلد الذي فُتِحَ عُنْوَةًّ، فالبلد الذي فُتِحَ حرباً تجري عليه وتحكمه أحكام الشريعة الإسلامية المتعلقة في الفتح عُنْوَةً.