أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ قُلْ إِنِ ٱفْتَرَيْتُهُ فَلاَ تَمْلِكُونَ لِي مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَىٰ بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ ٨ - الأحقاف
خواطر محمد متولي الشعراوي
بعد أنْ قالوا عن القرآن أنه سِحْر سَحَر به محمد أصحابه فآمنوا به.
قالوا: إنه افتراء افتراه محمد، والافتراء هو الكذب المتعمد، فردَّ الله عليهم {قُلْ..} [الأحقاف: 8] قل لهم يا محمد {إِنِ ٱفْتَرَيْتُهُ فَلاَ تَمْلِكُونَ لِي مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً..} [الأحقاف: 8].
يعني: لا تدفعون عني عذابَ الله إن افتريت عليه وكذبت في البلاغ عنه، لذلك يقول سبحانه في آية أخرى تُوضح هذه المسألة: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ ٱلأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِٱلْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ ٱلْوَتِينَ * فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 44-47].
فكيف يكذب رسول الله على الله بعد هذه الكلمة، وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قبل بعثته عُرِف بين قومه بالصادق، لأنهم لم يُجربّوا عليه كذباً قط.
تعرفون "قصة الصحابي الجليل خزيمة بن ثابت مع رسول الله عندما اشترى رسول الله فرساً من يهودي اشتراه نسئ الثمن، وفي يوم لقيه رسول الله وأعطاه الثمن دون أنْ يكون بينهما شاهد على السداد، فاستغل اليهودي هذه الفرصة وادعى على رسول الله أنه لم يُعطه ثمن الفرس.
فلما كلَّمه رسول الله قال: هَات لي شاهداً، فقام خزيمة، وقال: أنا أشهد يا رسول الله أنك أعطيتَهُ ثمن الفرس، فبُهت اليهودي وظنَّ أن خزيمة كان موجوداً لكن لم يره.
بعدها استدعى رسول الله خزيمة، وقال له: يا خزيمة ما حملكَ على أنْ قلتَ ما قلتَ ولم تكُنْ موجوداً، ولم تشهد هذه المسألة؟
فضحك خزيمة وقال: يا رسول الله أُصدِّقك في خبر السماء وأكذِّبك في عدة دراهم؟ فتبسَّم رسول الله وأعطاه (نيشاناً) غالياً، فقال: مَنْ شهد له خزيمة فحسبه" ومن يومها وشهادة خزيمة تعدل شهادةَ رجلين.
وهذا (النيشان) انتفع به المسلمون في مسألة جَمْع القرآن، حيث كان جامعو القرآن لا يكتبون الآية إلا إذا وجدوها مُسجَّلة في الرِّقاع، وشهد على صحتها اثنان من العدول، حتى جاءوا في آخر سورة التوبة، فوجدوا آية مكتوبة وليس لها إلا شاهد واحد هو خزيمة، فأخذوا بشهادته وحده، لأن شهادته تعدل شهادة رجلين.
وتأمل أدب الحوار حتى مع المخالفين لرسول الله ومع الذين يتهمونه بالكذب اتهاماً صريحاً، يقول لهم: {إِنِ ٱفْتَرَيْتُهُ..} [الأحقاف: 8] وإنْ تفيد الشك {فَلاَ تَمْلِكُونَ لِي مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً..} [الأحقاف: 8] يعني: لا تدفعون عني عذاب الله {هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ..} [الأحقاف: 8] بما تكثرون فيه الكلام والاتهام، وادعاء أن القرآن مكذوب.
{كَفَىٰ بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ} [الأحقاف: 8] يرجع الأمر إلى الله ويُفوّض أمره إليه، ويرضى بشهادته بينه وبين خصومه، وشهادة الله هي شهادة الحق وشهادة الصدق.
لذلك شهد الله بها لنفسه سبحانه شهادةَ الذات للذات: {شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ..} [آل عمران: 18] وشهدتْ بها الملائكة، شهادةَ مشهد، وشهد بها أولو العلم شهادةَ استدلال {وَٱلْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ قَآئِمَاً بِٱلْقِسْطِ} [آل عمران: 18].
إذن: في هذه القضية رسول الله لا يستطيع أنْ يأتي بشاهد على صدقه في تبليغ القرآن عن الله، فيكتفي بأنْ يجعل الله شاهداً بينه وبينهم.
وهذا من أدب الحوار الذي تأدَّب به سيدنا رسول الله، فهم يتهمونه بتعمُّد الكذب وهو يتودد إليهم، وفي موضع آخر يرد عليهم فيقول الحق سبحانه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم: {أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ قُلْ إِنِ ٱفْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُجْرِمُونَ} [هود: 35].
وقوله في ختام الآية {وَهُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ} [الأحقاف: 8] كأنه يتحنن إليهم، ويستميل قلوبهم، فرغم هذا الادعاء الكاذب فما يزال باب المغفرة والرحمة مفتوحاً أمامكم.
ثم يقول الحق سبحانه:
{قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ ٱلرُّسُلِ...}.