الفصل الثالث
الأمين
الوسطية القيّمة:
لا يعنى الإسلام مباشرة بالأنظمة السياسية والاقتصادية ولكنه يعنى بها بطريقة غير مباشرة.
وبقدر ما تؤثر الشئون السياسية والاقتصادية على سلوك الإنسان يُرسي الإسلام بعض المبادئ الهامة جداً للحياة الاقتصادية.
ووفقاً للأستاذ ماسينيون (Prof. Massignon) فالإسلام يحافظ على التوازن بين الأضداد المبالغ فيها ويضع دائماً نصب عينيه بناء الشخصية التي هي أساس الحضارة.
وقد ضمن ذلك بشرائعه في الميراث وبنظام الصدقة المنظمة غير الإختيارية المعروفة بالزكاة وبتحريم جميع الممارسات المضادة للاجتماع (antisocial) في مجال الاقتصاد مثل الاحتكار والربا والحصول على فوائد وأرباح محددة أو معينة سلفاً والتحكم في الأسواق (بالامتناع عن البيع لرفع الأسعار) والاختزان وخلق ندرة مصطنعة لأي سلعة من أجل دفع السعر إلى الارتفاع.
والمَيْسِر (المقامرة) حرام أيضاً.
وأسمى أعمال البر في الإسلام هي التبرع للمدارس ودور العبادة والمستشفيات وحفر آبار المياه وبناء ملاجئ للأيتام.
ويُقال أن ملاجئ الأيتام نشأت لأول مرة وفقاً لتعاليم نبي الإسلام، (53) والعالم مدين بملاجئ أيتامه لهذا النبي الذي كان نفسه يتيماً.
يقول توماس كرلايل عن مُحَمَّد:
"إن الصوت الفطري للإنسانية والتقوى والإنصاف الساكن في قلب هذا الابن البري للطبيعة، يتكلم".
الاختبار:
قال أحد المؤرخين ذات مرة: يجب أن يحكم بعظمة الرجل من خلال ثلاثة اختبارات:
(1) هل كان عند معاصريه ذو عزم صادق؟
(2) هل كان من العظمة بحيث يرتفع فوق مستوى مَنْ هم في سِنِّهِ؟
(3) هل ترك شيئاً كتراث دائم للعالم كافة؟ (54)
يمكن لهذه القائمة أن تمتد إلى مدى أبعد ولكن كل هذه الاختبارات الثلاثة للعظمة تتحقق بوضوح ولأعلى درجة في حالة النبي مُحَمَّد.
وقد ذكرنا من قبل بعض الأمثلة فيما يتعلق بالاختبارين الأخيرين.
دعنا نتناول أول هذه الاختبارات وهو:
هل كان نبي الإسلام عند معاصريه ذو عزم صادق؟
الشخصية المعصومة:
تظهر السجلات التاريخية أن جميع معاصري مُحَمَّد الأصدقاء والأعداء اعترفوا بالشمائل النقية والاستقامة الخالصة والفضائل الكريمة والإخلاص المطلق والأمانة المطلقة لرسول الإسلام في جميع نواحي الحياة وفي كل مجال للنشاط الإنساني.
حتى أن اليهود وأولئك الذين لم يؤمنوا برسالته قبلوه حكماً في نزاعاتهم الشخصية (55) بسبب ما عرفوه عنه من تحريه عدم التحيُّز.
وحتى أولئك الذين لم يؤمنوا برسالته اضطروا لأن يقولوا: "يا مُحَمَّد إننا لا نكذبك ولكننا نكفر بالذي أعطاك كتاباً وأوحى إليك بالرسالة". (56)
وقد ظنوا أن به جِنَّةٌ.
وحاولوا علاجه بالعنف.
ولكن أحسنهم طريقة رأوا نوراً جديداً أشرق عليه وأسرعوا في طلب هذا التنوير.
إن الميزة البارزة في سيرة نبي الإسلام أن عشيرته الأقربين كابن عمه الحبيب وأصحابه الحميمين الذين عرفوه معرفة وثيقة جداً تشرَّبُوا بالكامل بصدق رسالته واقتنعوا بأصالة الوحي الإلهي الذي جاء به.
يقول سيد أمير علي في كتابه "روح الإسلام":
"لو أن هؤلاء الرجال والنساء والشرفاء والعقلاء، ومن المؤكد أنهم لم يكونوا أقل تعليماً وثقافة من صيادي السمك بالجليل (57)، شعروا بأدنى إشارة إلى رغبة المعلم (58) الدنيوية وخداعه أو نقص إيمانه، لكان رجاء مُحَمَّد في التجديد الأخلاقي والإصلاح الاجتماعي قد انهار إلى أنقاض في لحظة".
إننا نجد على العكس إخلاص أتباعه له يتمثل في اعترافهم به بإرادتهم كقائد لحياتهم.
وقد تحمَّلُوا من أجله الاضطهاد والخطر بشجاعة وآمنوا به ووثقوا فيه وأطاعوه ووقَّرُوه حتى في خلال تعرضهم لأشد العذاب والكرب العقلي بسبب فرض العزلة عليهم حتى الموت.
هل يكون هذا هو حالهم لو أنهم لاحظوا على قائدهم أدنى اعوجاج؟
الحب السرمدي للنبي الكريم:
لتقرأ سيرة المهتدين الأوائل إلى الإسلام وسينفطر كل قلب لمنظر المعاملة الوحشية للرجال والنساء الأبرياء.
فقد مزقوا بقسوة سُمَيَّةَ تلك المرأة البريئة كل ممزق بالطعن النافذ بالحراب.
أمَّا ياسر (زوجها) فقد جعلوه عبرة وشدوا ساقيه إلى ناقتين وسيقت الدابتين في اتجاهين معاكسين.
أمَّا خباب بن الأرت فجعلوه يرقد على سرير من الجمرات المحترقة وجثم الطغاة عديمو الرحمة بأرجلهم بوحشية فوق صدره حتى لا يتحرك مما جعل الشحم تحت جلده ينصهر.
وخباب بن عَديّ الذي قتلوه بطريقة وحشية ومثلوا بجسده وانتهكوا حرمته ومزقوه إرباً.. إرباً.
وحينما كان يُسأل في وسط هذا التعذيب إن كان يرجو لو أن مُحَمَّداً كان مكانه وهو آمن في بيته بين أهله كان يصرخ معلناً أنه مستعد عن طيب خاطر أن يفتدي مُحَمَّداً بنفسه وأهله وأبنائه ومن في الأرض جميعاً ثم يُنجيه من وخزة الشَّوكة حتى لا يُشاكها.
ويمكننا أن نروي روايات لا حصر لها عن أحداث من هذا القبيل تنفطر لها القلوب.
ولكن ما الذي تظهره كل هذه الأحداث؟
ما السبب في أن أبناء وبنات الإسلام هؤلاء لم يُسَلّموا لنبيهم طاعة وتسليماً فحسب، وإنما جعلوا أجسامهم وقلوبهم وأنفسهم فداه؟
ألم يكن إيمان أتباع مُحَمَّد المباشرين واقتناعهم الشديد أرفع شهادة على صدقه واستغراقه التام في المهمة التي كلف بها؟
أتابعه من أحسن الناس عقلاً ومنزلة:
ولم يكن أصحابه من السَّفلة أو من ذوي العقليات المتدنية.
بل الذين التفوا حوله في وقت مبكر نسبياً هم أفضل وأشرف مَنْ في مكة.
كانوا وجوه القوم وصفوتهم.
رجال لهم مراكزهم ومكانتهم وثراءهم وثقافتهم من الأصحاب والأقارب الذي عرفوا أدق التفاصيل في حياته.
إن جميع الخلفاء الأربعة الأوائل بشخصياتهم الشامخة كانوا ممن اهتدى في هذه الفترة المبكرة.
تقول دائرة المعارف البريطانية:
"إن مُحَمَّداً هو الأكثر نجاحاً وتوفيقاً من كل الأنبياء والشخصيات الدينية".
ولكن هذا النجاح لم يكن نتيجة مصادفة مجردة.
لم يكن ثمرة أسقطتها الرياح.
لقد كان اعترافاً بحقيقة أن معاصريه وجدوه ذو عزم صادق.
وكان نتيجة لشخصيته التي تدعو إلى الإعجاب وتدفع بشدة إلى الانتباه.