نتيجة..
براعتنا في الاستماع إلى الآخرين.. تجعلهم بارعين في محبتنا والاستئناس بنا..
85. فن الاستماع..
مهارات جذب الناس وكسب قلوبهم.. بعضها يكون بفعل الشيء.. وبعضها يكون بتركه..
فالابتسامة تجذب.. كما أن ترك العبوس يجذبهم..
والأحاديث الجميلة والنكات واللطائف تجذب الناس.. كما أن الاستماع إليهم والتفاعل مع أحاديثهم.. يجذبهم..
فما رأيك أن أتكلم معك هنا عن: الهدووووء الجذاب!!
نعم.. بعض الناس لا يتكلم كثيراً.. ولا تكاد تسمع صوته في المجالس والمتجمعات..
بل لو راقبته في جلسة أو نزهة.. لرأيته لا يتحرك منه إلا رأسه وعيناه.. نعم قد يتحرك فمه أحياناً بالتبسم.. لا بالكلام!!
ومع ذلك يحبه الناس.. ويأنسون بمجالسته..
تدري لماذا؟!
لأنه يمارس الهدووووء الجذااااب..
فن الاستماع له مهارات متعددة.. بل حدثني أحد المهتمين أنه حضر أكثر من خمس عشرة دورة تدريبية في مهارات الاستماع..!!
قارن بين اثنين:
رجل إذا تكلمت بين يديه بقصة وقعت لك.. قاطعك في أولها وقال: وأنا أيضاً وقع لي شيء مشابه..
فتقول: له اصبر حتى أكمل..
فيسكت قليلاً.. فإذا انسجمت في قصتك.. قاطعك قائلاً: صحيح.. صحيح.. نفس القصة التي وقعت لي وهو أنني ذات مرة ذهبت..
فتقول له: أخي انتظر.. فيسكت.. ثم ما يصبر فيقاطعك قائلاً: عجل.. عجل..
هذا الأول..
الثاني..
كان وأنت تتحدث معه أو معهم.. يتلفت يميناً ويساراً.. وقد يخرج جهاز هاتفه من جيبه.. ويكتب رسالة أو يقرأ شيئاً من الرسائل.. أو من يدري لعله يلعب بالألعاب الالكترونية الموجودة فيه!!
أما الثالث.. فيملك مهارات الاستماع.. تجد أنك تتحدث وقد ركز عينيه برفق ينظر إليك.. وتشعر بمتابعته.. فهو تارة يهز رأسه موافقاً.. وتارة يتبسم.. وتارة يضمّ شفتيه متعجباً.. وربما ردد: عجيب.. سبحان الله..
أي هؤلاء ستكون راغباً دائماً في مجالسته.. وتفرح بزيارته.. وتنبلج أساريرك في الحديث معه..؟ لا أشك أنه الأخير..
إذن جذب قلوب الناس.. لا يكون فقط بإسماعهم ما يحبون.. بل وبالاستماع منهم لما يحبون!!
أذكر أن أحد الدعاة البارزين ممن أوتي منطقاً ولساناً.. كان يتنقل متحدثاً دائماً.. ما بين منبر جمعة.. وكرسي فتوى.. ومحاضرة في جامعة.. فهو دائماً يتكلم.. ويتكلم.. ويتكلم..
وكان الناس يرونه على المنابر والقنوات الفضائية ويحبونه ويرغبون في استماع حديثه.. إلا زوجته.. فهو معها في البيت دائماً.. ولا يكاد يستمع منها حديثاً أو قصة.. بل على عادته يتكلم.. ويتكلم..
كانت كثيرة التذمر منه دون أن ينتبه إلى سبب ذلك..
كان كل الناس يكرمونه ويمدحونه إلا هي.. فقرر أن يصطحبها معه يوماً إلى إحدى محاضراته لترى ما لم تر..
قال لها يوماً: ترافقيني؟
قالت: إلى أين؟
قال: محاضرة لأحد الدعاة.. نستفيد منها..
ركبت معه في سيارته.. مشيا.. وقفا عند المسجد.. كانت الجماهير غفيرة.. كلهم جاؤوا يستمعون إلى هذا المحاضر الفذ..
دخلت هي إلى قسم النساء.. ودخل هو وسط جمهرة الناس واعتلى الكرسي وبدأ محاضرته..
كان الناس ينصتون معجبين.. حتى زوجته يبدو أنها كانت معجبة..!
انتهت المحاضرة.. خرج إلى سيارته وسط نشوة النجاح.. وأقبلت زوجته وركبت السيارة بجانبه..
لم يدع لها فرصة.. بدأ يتكلم فوراً عن زحمة الناس.. وجمال المسجد.. و.. ثم سألها: ما رأيك في المحاضرة؟
فقالت: كانت جميلة ومؤثرة.. ولكن من المحاضر؟
قال: عجباً لم تعرفي صوته.. قالت: مع زحمة الناس.. وضعف سماعات الصوت لم أنتبه كثيراً..
فقال – منتشياً -: أنا.. أنا المحاضر..
فقالت: آآآ.. وأنا أقول في نفسي طوال جلوسي: ما أكثر كلامه..
إذن.. الاستماع إلى الناس فن ومهارة..
بعض الناس ينسى أن الله جعل لك فماً واحداً وأذنين.. ليستمع أكثر مما تكلم..
وأظنه لو استطاع لقلب المعادلة.. من شدة محبته للحديث..
فعود نفسك على الإنصات.. حتى لو كان لك على الكلام ملاحظة..
في أوائل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم-.. كان عدد المسلمين قليلاً.. وكان الكفار يكذبونه ونفرون الناس عنه.. ويشيعون أنه -صلى الله عليه وسلم- كاهن وكذاب.. وربما أشاعوا أنه مجنون أو ساحر..
في يوم من الأيام قدم إلى مكة رجل اسمه ضماد.. وهو حكيم له علم بالطب والعلاج.. يعالج المجنون والمسحور..
فلما خالط الناس سمع سفهاء الكفار يقولون عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: جاء المجنون.. ورأينا المجنون..
فقال ضماد: أين هذا الرجل؟ لعل الله أن يشفيه على يدي؟
فدله الناس على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-..
فلما لقيه.. قال ضماد: يا محمد.. إني أرقى من هذه الرياح.. وإن الله يشفي على يدي من شاء.. فهلم أعالجك.. وجعل يتكلم عن علاجه وقدراته..
والنبي -صلى الله عليه وسلم- ينصت إليه.. وذاك يتكلم.. والنبي -صلى الله عليه وسلم- ينصت.. أتدري ينصت إلى ماذا؟ ينصت إلى كلام رجل كافر جاء ليعالجه من مرض الجنون!!
آآآه ما أحكمه -صلى الله عليه وسلم-..
حتى إذا انتهى ضماد من كلامه..
قال -صلى الله عليه وسلم- بكل هدوووء: إن الحمد لله.. نحمده ونستعينه.. من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له..
فانتفض ضماد وقال: أعد علي كلماتك هؤلاء..
فأعادها -صلى الله عليه وسلم- عليه..
فقال ضماد: والله لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل هؤلاء الكلمات.. فلقد بلغن ناعوس البحر..
فهلم يدك أبايعك على الإسلام..
فبسط النبي -صلى الله عليه وسلم- يده.. وأخذ ضماد يخلع ثوب الكفر ويردد: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله..
فعلم -صلى الله عليه وسلم- أن له عند قومه شرفاً.. فقال له: وعلى قومك؟ أي تدعوهم إلى الإسلام؟
فقال ضماد: وعلى قومي.. ثم ذهب إلى قومه هادياً داعياً..
إذن لتكون مستمعاً ماهراً..:
أنصت.. هز رأسك متابعاً..
تفاعل بتعابير وجهك كتقطيب الجبين حيناً.. ورفع الحاجبين حيناً آخر..
والتبسم.. وتحريك الشفتين بتعجب..
وانظر إلى أثر ذلك فيمن يتكلم معك.. سواء كان صغيراً أو كبيراً..
ستجد أنه يركز نظره عليك.. ويقبل بقلبه إليك..