باختصار..
أسرف في المديح.. واقتصد في النقد..

78.    المفتاح..
المدح.. هو مفتاح القلوب..
نعم.. من أجمل مهارات الكلام أن تكون مبدعاً في تعويد نفسك على اكتشاف صواب الآخرين.. ومدحهم والثناء عليهم به.. قبل الانتباه إلى خطئهم..
ويتأكد ذلك عندما تريد أن تنبه شخصاً إلى خطأ ما..
كثير من الناس يرد النصيحة لا لأجل تكبره عنها.. أو عدم اقتناعه بخطئه.. وإنما لأن الناصح لم يسلك الطريق الصحيح لتقديم النصيحة..
هب أنك ذهبت إلى مستشفى حكومي لعلاج..
فلما أقبلت إلى موظف الاستقبال فإذا وراء الزجاج شاب مراهق يقلب جريدة بين يديه.. وبيده سيجاره.. غير مبال بما حوله..
وإذا شيخ كبير أعمى يقف متعباً في يده اليمنى طفل صغير.. وفي الأخرى ورقة مراجعة ينتظر أن يحوله الموظف إلى الطبيب..
وإذا بجانبه عجوز كبيرة بيدها طفلة تبكي وقد تمكنت الحمى من جسدها.. وتنتظر أيضاً الموظف أن يفرغ من قراءة أخبار ناديه المفضل ليحولها لطبيب الأطفال..
لما رأيت هذا المنظر ثارت أعصابك – ولا نلومك على ذلك – فصرخت بالموظف: هيه!! أنت جالس في مستشفى أو في... ما تخاف الله؟!! المرضى يئنون من الألم وأنت تقرأ جريدة!! لا وتدخن أيضاً!! والله عجب.. مثلك ما يربيه إلا شكوى لمدير المستشفى.. أو المفروض أن تفصل من عملك..
وبدأت تهيل هذه العبارات كالبرق عليه..
هب أنه.. لم يرد عليك.. ولم يقابل صراخك بصراخ..
هب فعلاً أنه ألقى جريدته.. وأنهى تحويل المرضى إلى الأطباء..
هل تعتبر نفسك نجحت في حل المشكلة.. كلا.. أنت هنا عالجت الموقف لكنك لم تعالج المشكلة.. لأنه وإن استجاب إليك الآن إلا أنه سيعود إلى تصرفه المشين غداً وبعد غدٍ..
إذن كيف أتصرف؟!!
تعال إليه واكظم غيظك.. تعامل مع الموقف بعقل لا بعاطفة.. لا تدع المناظر المؤذية تؤثر في تصرفاتك.. ابتسم – وإن كنت مغضباً، وإن كانت الابتسامة صفراء لا مشكلة، ابتسم – وقل: السلام عليكم..
سيقول وهو ينظر إلى لاعبه المفضل: عليكم السلام.. انتظر لحظة..
قل أي كلمة تجعله يلتفت إليك.. كأن تقول: كيف الحال؟.. مساك الله بالخير..
سيرفع رأسه - حتماً – إليك ويقول: الحمد لله بخير..
في هذه المرحلة تكون قد قطعت نصف المشوار..
تلطف إليه بأي عبارة تمدحه بها.. قل له مثلاً: تصدق! المفروض مثلك ما يعمل في استقبال مستشفى..
سيتغير ويقول: لماذا؟
قل: لأن هذا الوجه المنير إذا رآه المريض زال مرضه فلا يحتاج إلى طبيب..
سيبتسم متعجباً من جرأتك – يا بطل -.. وتنبلج أساريره..
وقد صار الآن مهيئاً لقبول لنصيحة.. ويقول: ماذا عندك؟
عندها قل: يا أخي الحبيب ترى هذا الشيخ الكبير.. وهذه العجوز المسكينة.. ليتك تنهي لهما إجراءات الدخول على الطبيب..
سيتناول أوراقهما.. ويحولهما للطبيب.. ثم يتناول ورقتك.. فإذا انتهى منك وسلمك الورقة..
فقل له: سبحان الله.. هذه أول مرة أراك ومع ذلك فقد دخلت إلى قلبي.. لا أدري كيف!! والله إنك أحب إليَّ من آلاف الناس.. (وفعلاً أنت صادق فهو مسلم أحب إليك حتماً من ملايين غير المسلمين)..
سيفرح ويشكر لك لطفك..
فقل: وعندي كلمات أود أن تسمعها لكني أخاف أن تغضبك..
سيقول: لا.. لا.. تفضل..
عندها قدم له النصيحة.. أنت قد منّ الله عليك بهذه الوظيفة.. وفي واجهة المستشفى.. وأنت قدوة لغيرك.. فليتك تتلطف قليلاً مع المراجعين.. وتهتم بهم.. لعل دعوة صالحة ترفع لك في ظلمة الليل من فم عجوز عابدة.. أو شيخ زاهد..
أجزم أنه سيخفض رأسه وأنت تتكلم.. ويردد: أشكرك.. جزاك الله خيراً..
وكذلك استعمل هذه الأساليب مع كل شخص تعالج سلوكه..
مثل شخص يتهاون بالصلاة.. أو أب يهمل بناته فيتكشفن.. ويتساهلن بالحجاب..
أو شاب عاق لوالديه..
لأجل أن يقبلوا منك لا بد أن تمارس المهارات المناسبة.. نعم.. استخدم العبارات اللطيفة في إصلاح خطأ الآخر.. كن مؤدباً.. محترماً لرأيه..
قل له: أنا ما أنصحك إلا لأني أعلم.. أنك تقبل النصح..
وفي التنزيل العزيز يقول الله: (إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة)..
وقد كان المربي الحكيم -صلى الله عليه وسلم- يستعمل طرقاً ومهارات تجعل من يعدل سلوكهم لا يملكون إلا أن يقبلوا منه..
أراد يوماً أن يعلم معاذ بن جبل ذكراً يقوله بعد الصلاة..
فأقبل إلى معاذ وقال: يا معاذ.. والله إني أحبك.. فلا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك..
بالله عليك.. ما علاقة المقطع الأول من الكلام "والله إني أحبك " بالمقطع الثاني " لا تدعن أن تقول اللهم أعني على ذكرك "..
قد يكون الأنسب لقوله إني أحبك أن يقول بعدها وأريد أن أزوجك ابنتي – مثلاً – أو أعطيك مالاً.. أو أدعوك إلى طعام..
ولكن أن يتبع خبر المحبة تعليمه ذكراً من أذكار الصلاة..!! فهذا يحتاج إلى تأمل..
أتدري ما موقع قوله: " والله إني أحبك "؟ إنه التهيئة لقبول النصيحة.. فإذا ارتاحت نفس معاذ واستبشر، أعطاه النصيحة..
وفي موقف آخر.. قبض -صلى الله عليه وسلم- يد عبد الله بن مسعود بيده اليمنى، ثم وضع يده اليسرى فوقها، كنوع من العطف والتهيئة، ثم قال: يا عبد الله.. إذا جلست في التشهد فقل: التحيات لله والصلولات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته..
ومضت السنين ومات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.. فكان عبد الله يفخر بذلك ويقول: علمني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التشهد وكفي بين كفيه..
وفي يوم آخر لاحظ -صلى الله عليه وسلم- أن عمر -رضي الله عنه- إذا طاف بالكعبة وحاذى الحجر الأسود.. زاحم الناس وقبله.. وكان صلباً قوي البدن.. وربما زاحم الضعفاء..
فأراد -صلى الله عليه وسلم- أن يعدل سلوكه.. فقال – على سبيل التهيئة لقبول النصيحة -: يا عمر إنك رجل قوي..
فرح عمر بهذا الثناء.. فقال -صلى الله عليه وسلم-: فلا تزاحمن عند الحجر..
ومرة أراد أن ينصح ابن عمر بقيام الليل.. فقال:
نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم الليل.. وفي رواية قال: يا عبد الله لا تكن مثل فلان.. كان يقوم الليل..
لا تكن مثل فلان.. كان يقوم الليل.. فترك قيام الليل..
نعم.. كان -صلى الله عليه وسلم- يستعمل هذا الأسلوب الرائع مع جميع الناس.. ومع الوجهاء خاصة..
في بداية بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم-.. كان الناس ما بين مقبل ومدبر..
وكان رجل في المدينة اسمه سويد بن الصامت وكان رجلاً شريفاً في قومه.. عاقلاً شاعراً.. يحفظ كلام الحكماء.. حتى قيل إنه كان يحفظ كل ما روي عن لقمان الحكيم..
حتى بلغ من إعجاب الناس به أنهم كانوا يسمونه: الكامل.. لجلده وشعره.. وشرفه ونسبه.. وهو الذي يقول:
ألا رب من تدعو صديقاً ولو ترى
مقالته بالغيب ساءك ما يفري
مقالته كالشهد ما كان شاهداً
وبالغيب مأثور على ثغرة النحر
يسرك باديه وتحت أديمه
نميمة غش تبتري عقب الظهر
تبين لك العينان ما هو  كاتم
من الغل والبغضاء بالنظر الشزر
قدم سويد بن الصامت يوماً إلى مكة حاجاً.. أو معتمراً..
فتحدث الناس بدخوله مكة.. وأقبلوا لرؤيته.. فسمع النبي -صلى الله عليه وسلم- به فأقبل عليه.. فدعاه إلى الله.. وإلى الإسلام.. وجعل يحدثه بالتوحيد والرسالة وأنه نبي يوحى إليه قرآن.. وأن هذا القرآن هو كلام الله تعالى.. فيه عبر وأحكام..
فقال له سويد: فلعل الذي معك مثل الذي معي؟
فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما الذي معك؟
قال: معي مجلة لقمان - يعني حكمة لقمان -..
فلم يعنفه -صلى الله عليه وسلم- أو يحقره.. - مع أنه يضاهي كلام الله بكلام البشر -.. وإنما تلطف معه.. وقال -صلى الله عليه وسلم-: اعرضها علي..
فشرع سويد يقرأ ما يحفظ من كلام لقمان وحِكَمِه.. ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستمع إليه بكل هدوووء..
فلما انتهى سويد.. قال -صلى الله عليه وسلم- له: إن هذا لكلام حسن..
ثم قال - مشوقاً لسويد -: والذي معي أفضل من هذا.. قرآن أنزله الله تعالى علي.. هو هدى ونور..
ثم تلا عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القرآن.. ودعاه إلى الإسلام.. وسويد يستمع منصتاً.. فلما فرغ -صلى الله عليه وسلم- من كلامه.. ظهر على سويد التأثر.. وقال: إن هذا لقول حسن..
ثم انصرف سويد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- .. ولا يزال متأثراً بما سمع..
فقدم المدينة على قومه.. فلم يلبث أن وقع قتال بين قبيلتي الأوس والخزرج.. وكان من قبيلة الأوس فقتلته الخزرج..
وذلك قبل أن يهاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة.. ولا يدرى هل أسلم أم لا؟ وإن كان رجل من قومه ليقولون: إنا لنراه قد قتل وهو مسلم..