(ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم)..

36.    قابل الإساءة بالإحسان..
عندما تتعامل مع الناس فإنهم يعاملونك في الغالب على ما يريدون هُم.. لا على ما تريد أنت..
فليس كل من قابلته ببشاشة بادلك بشاشة مثلها.. فبعضهم قد يغضب ويسيء الظن ويسألك: مم تضحك؟!
ولا كل من أهديت له هدية.. رد لك مثلها.. فبعضهم قد تهدي إليه ثم يغتابك في المجالس ويتهمك بالسفه وتضييع المال..!!
ولا كل من تفاعلت معه في كلامه.. أو أثنيت عليه وتلطفت معه في عباراتك قابلك بمثلها..
فإن الله قسم الأخلاق كما قسم الأرزاق..
والمنهج الرباني هو: (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم)..
وبعض الناس لا حل له ولا إصلاح إلا أن تتعامل معه بما هو عليه.. فتصبر عليه أو تفارقه..
ذُكر أن أشعب سافر مع رجل من التجار.. وكان هذا الرجل يقوم بكل شيء من خدمة وإنزال متاع وسقي دواب.. حتى تعب وضجر..
وفي طريق رجوعهما.. نزلا للغداء..
فأناخا بعيريهما ونزلا.. فأما أشعب فتمدد على الأرض..
وأما صاحبه فوضع الفرش.. وأنزل المتاع..
ثم التفت إلى أشعب وقال: قم اجمع الحطب وأنا أقطع اللحم..
فقال أشعب: أنا والله متعب من طول ركوب الدابة.. فقام الرجل وجمع الحطب..
ثم قال: يا أشعب! قم أشعل الحطب.. فقال: يؤذيني الدخان في صدري إن اقتربت منه.. فأشعلها الرجل..
ثم قال: يا أشعب! قم أمسك علي لأقطع اللحم.. فقال: أخشى أن تصيب السكين يدي.. فقطع الرجل اللحم وحده..
ثم قال: يا أشعب! قم ضع اللحم في القدر واطبخ الطعام.. فقال: يتعبني كثرة النظر إلى الطعام قبل نضوجه..
فتولى الرجل الطبخ والنفخ.. حتى جهز الطعام وقد تعب.. فاضجع على الأرض.. وقال: يا أشعب! قم جهز سفرة الطعام.. وضع الطعام في الصحن..
فقال أشعب: جسمي ثقيل ولا أنشط لذلك..
فقام الرجل وجهز الطعام ووضعه على السفرة..
ثم قال: يا أشعب! قم شاركني في أكل الطعام..
فقال أشعب: قد استحييت والله من كثيرة اعتذاري وها أنا أطيعك الآن.. ثم قام وأكل!!
فقد تلاقي من الناس من هو مثل أشعب.. فلا تحزن.. وكن جبلاً..
كان المربي الأول -صلى الله عليه وسلم- يتعامل مع الناس بعقله لا بعاطفته.. كان يتحمل أخطاء الآخرين ويرفق بهم..
وانظر إليه -صلى الله عليه وسلم- وقد جلس في مجلس مبارك يحيط به أصحابه..
فيأتيه أعرابي يستعينه في دية قتيل.. قد قتل - هو أو غيره -رجلاً.. فأقبل يريد من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يعينه بمال.. يؤديه إلى أولياء المقتول..
فأعطاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئاً.. ثم قال تلطفاً معه: أحسنت إليك؟
قال الأعرابي: لا.. لا أحسنت ولا أجملت..
فغضب بعض المسلمين وهموا أن يقوموا إليه.. فأشار النبي -صلى الله عليه وسلم- إليهم أن كفوا..
ثم قام -صلى الله عليه وسلم- إلى منزله.. ودعا الأعرابي إلى البيت فقال له:
إنك جئتنا فسألتنا فأعطيناك.. فقلت ما قلت..
ثم زاده -صلى الله عليه وسلم- شيئاً من مال وجده في بيته..
فقال: أحسنت إليك؟
فقال الأعرابي: نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً..
فأعجبه -صلى الله عليه وسلم- هذا الرضى منه.. لكنه خشي أن يبقى في قلوب أصحابه على الرجل شيء.. فيراه أحدهم في طريق أو سوق.. فلا يزال حاقداً عليه..
فأراد أن يسلَّ ما في صدورهم..
فقال له -صلى الله عليه وسلم-: إنك كنت جئتنا فأعطيناك.. فقلت ما قلت.. وفي نفس أصحابي عليك من ذلك شيء.. فإذا جئت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي.. حتى يذهب عن صدورهم..
فلما جاء الأعرابي.. قال -صلى الله عليه وسلم-: إن صاحبكم كان جاءنا فسألنا فأعطيناه فقال ما قال.. وإنا قد دعوناه فأعطيناه.. فزعم أنه قد رضي..
ثم التفت إلى الأعرابي وقال: أكذاك؟
قال الأعرابي: نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً..
فلما هم الأعرابي أن يخرج إلى أهله..
أراد -صلى الله عليه وسلم- أن يعطي أصحابه درساً في كسب القلوب.. فقال لهم:
إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة فشردت عليه.. فاتبعها الناس.. يعني يركضون وراءها ليمسكوها.. وهي تهرب منهم فزعاً.. ولم يزيدوها إلا نفوراً.. فقال صاحب الناقة:
خلوا بيني وبين ناقتي.. فأنا أرفق بها وأعلم بها..
فتوجه إليها صاحب الناقة فأخذ لها من قشام الأرض.. ودعاها..
حتى جاءت واستجابت.. وشد عليها رحلها.. واستوى عليها..
ولو أني أطعتكم حيث قال ما قال.. دخل النار..
يعني لو طردتموه.. لعله يرتدّ عن الدين.. فيدخل النار..
وما كان الرفق في شيء إلا زانه.. وما نزع من شيء إلا شانه .
(ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم)..
ذُكر أنه -صلى الله عليه وسلم- لما فتح مكة.. جعل يطوف بالبيت..
فأقبل فضالة بن عمير.. رجل يظهر الإسلام..
فجعل يطوف خلف النبي -صلى الله عليه وسلم-.. ينتظر منه غفلة.. ليقتله..!!
فلما دنا من النبي -صلى الله عليه وسلم-..
انتبه -صلى الله عليه وسلم- إليه.. فالتفت إليه وقال: أفضالة!!
قال: نعم.. فضالة يا رسول الله..
قال: ماذا كنت تحدث به نفسك؟
قال: لاشيء.. كنت أذكر الله..!!
فضحك النبي -صلى الله عليه وسلم-.. ثم قال: أستغفر الله..
قال فضالة..: ثم وضع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يده على صدري.. فسكن قلبي..
فوالله ما رفع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يده عن صدري..
حتى ما خلق الله شيء أحب إلي منه..
ثم رجع فضالة إلى أهله.. فمر بامرأة كان يجالسها.. ويتحدث إليها..
فلما رأته.. قالت: هلم إلى الحديث..
فقال: لا.. ثم قال..
قالت هلم إلى الحديث فقلت لا ** يأبى عليك الله و الإسلام
لو ما رأيت محمداً وقبيله ** بالفتح يوم تكسَّر الأصنامُ
لرأيت دين الضحى بينا  ** والشرك يغشى وجهه الإظلام
وكان فضالة بعدها من صالحي المسلمين..
كان -صلى الله عليه وسلم- يملك قلوب الناس بالعفو عنهم.. يتحمل الأذى في سبيل التأثير فيهم.. وجرهم إلى الخير..
كان أبو طالب يكف عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كثيراً من أذى قريش..
فلما مات أبو طالب.. ضيقت قريش كثيراً على النبي -صلى الله عليه وسلم- في مكة..
ونالت من الأذى ما لم تكن نالته منه في حياة عمه أبي طالب..
فجعل -صلى الله عليه وسلم- يفكر في مكان آخر يلجأ إليه.. يجد فيه النصرة والتأييد..
فخرج إلى الطائف يلتمس من قبيلة ثقيف النصرة والمنعة..
دخل الطائف..
فتوجه إلى ثلاثة رجال هم سادة ثقيف وأشرافهم..
وهم أخوة ثلاثة:
عبد ياليل بن عمرو..
وأخوه مسعود..
وحبيب..
جلس اليهم.. دعاهم إلى الله.. كلمهم لما جاءهم له من نصرته على الإسلام.. والقيام معه على من خالفه من قومه..
فكان ردهم بذيئاً!!
أما أحدهم فقال: أنا أمرط ثياب الكعبة.. إن كان الله أرسلك!!
وقال الآخر: أما وجد الله أحداً يرسله غيرك؟!
وجعل الثالث يبحث متحذلقاً عن عبارة يرد بها.. حرص على أن تكون أبلغ من كلام صاحبيه..
فقال: والله لا أرد عليك أبداً.. لئن كنت رسولاً من الله كما تقول.. لأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك الكلام.. ولئن كنت تكذب على الله.. فما ينبغي لي أن أكلمك..
فقام -صلى الله عليه وسلم- من عندهم وقد يئس من خير ثقيف..
وخشي أن تعلم قريش أنهم ردوه.. فيزدادون أذى له..
فقال لهم: إن فعلتم ما فعلتم.. فاكتموا عليَّ..
فلم يفعلوا.. بل أغروا به سفهاءهم وعبيدهم.. فجعلوا يركضون وراء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.. يسبونه ويصيحون به..
وقد اصطفوا صفين.. وهو يسرع الخطى بينهم.. وكلما رفع رجلاً رضخوها بالحجارة..
وهو -صلى الله عليه وسلم- يحاول.. أن يسرع فيخطاه ليتقي ما يرمونه به من حجارة..
وجعلت قدماه الشريفتان -صلى الله عليه وسلم- تسيلان بالدماء..
وهو الكهل الذي جاوز الأربعين..
فأبعد عنهم.. ومشى.. ومشى..
حتى جلس في موضع آمن يستريح.. تحت ظل نخلة..
وهو منشغل البال.. كيف ستستقبله قريش.. كيف سيدخل مكة..
فرفع طرفه إلى السماء وقال:
اللهم اليك أشكو ضعف قوتي.. وقلة حيلتي.. وهواني على الناس..
يا أرحم الراحمين..
أنت رب المستضعفين.. وأنت ربي.. إلى من تكلني! إلى بعيد يتجهمني.. أم إلى عدو ملكته أمري!
إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي.. ولكن عافيتك هي أوسع لي..
أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات.. وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة..
من أن تنزل بي غضبك.. أو تحل عليَّ سخطك..
لك العتبى حتى ترضى.. ولا حول ولا قوة الا بك..
فبينما هو كذلك.. فإذ بسحابة تظله -صلى الله عليه وسلم-..
وإذا فيها جبريل عليه السلام.. فناداه:
يا محمد.. إن الله قد سمع قول قومك لك.. وما ردوا عليك.. وقد بعث لك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم..
وقبل أن ينطق -صلى الله عليه وسلم- بكلمة..
ناداه ملك الجبال.. السلام عليك يا رسول الله..
يا محمد.. إن الله قد سمع قول قومك لك.. وأنا ملك الجبال.. قد بعثني اليك ربك لتأمرني ما شئت..
ثم قبل أن ينطق -صلى الله عليه وسلم- أو يختار..
جعل ملك الجبال يعرض عليه.. ويقول:
إن شئت تطبق عليهم الأخشبين.. وهما جبلان عظيمان في جانبي مكة..
وجعل ملك الجبال ينتظر الأمر..
فإذا به -صلى الله عليه وسلم- يطأ على حظوظ النفس.. وشهوة الانتقام.. ويقول:
بل.. أستأني بهم.. فإني أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً..

كن بطلاً..
وإن الذي بيني وبين بني أبي
وبين بني عمي لمختلف جداً
فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم
وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجداً
وليسوا إلى نصري سراعاً وإن هم
دعوني إلى نصر أتيتهم شداً
ولا أحمل الحقد القديم عليهم
وليس رئيس القوم من يحمل الحقد