نحلة.. وذباب!!
كن نحلة تقع على الطيب وتتجاوز الخبيث.. ولا تك كالذباب يتتبع الجروح!!

31.    لا تنتقد!!
ركب سيارة صاحبه.. فكانت أول كلمة قالها: ياااه!! ما أقدم سيارتك!!
ولما دخل بيته.. رأى الأثاث فقال: أووووه.. ما غيرت أثاثك؟!
ولما رأى أولاده.. قال: ما شاء الله.. حلوين.. لكن لماذا ما تلبسهم ملابس أحسن من هذه!!
ولما قدّمت له زوجته طعامه.. وقد وقفت المسكينة في المطبخ ساعات.. رأى أنواعه فقال: ياااا الله.. لماذا ما طبختي رزّ؟ أوووه.. الملح قليل! لم أكن أشتهي هذا النوع!!
دخل محلاً لبيع الفاكهة.. فإذا المحل مليء بأصناف الفواكه..
فقال: عندك مانجو؟
قال صاحب المحل: لا.. هذه في الصيف فقط..
فقال: عندك بطيخ؟ قال: لا..
فتغير وجهه وقال: ما عندك شيء.. ليش فاتح المحل! وخرج..
ونسي أن في المحل أكثر من أربعين نوعاً من الفواكه..
نعم..
بعض الناس يزعجك بكثرة انتقاده.. ولا يكاد أن يعجبه شيء..
فلا يرى في الطعام اللذيذ إلا الشعرة التي سقطت فيه سهواً..
ولا في الثوب النظيف إلا نقطة الحبر التي سالت عليه خطئاً..
ولا في الكتاب المفيد إلا خطئاً مطبعياً وقع سهواً..
فلا يكاد يسلم أحد من انتقاده.. دائم الملاحظات.. يدقق على الكبيرة والصغيرة..
أعرف أحد الناس.. زاملته طويلاً في أيام الثانوية والجامعة.. ولا تزال علاقتنا مستمرة.. إلا أني لا ذكر أنه أثنى على شيء..
أسأله عن كتاب ألفته وقد أثنى عليه أناس كثيراً وطبع منه مئات الآلاف فيقول ببرود: والله جيد.. ولكن فيه قصة غير مناسبة.. وحجم الخط ما أعجبني.. ونوعية الطباعة أيضاً سيئة.. و..
وأسأله يوماً عن أداء فلان في خطبته.. فلا يكاد يذكر جانباً مشرقاً..
حتى صار أثقل علي من الجبل.. وصرت لا أسأله أبداً عن رأيه في شيء لأني أعرفه سلفاً..
قل مثل ذلك فيمن يفترض المثالية في جميع الناس..
فيريد من زوجته أن يكون بيتها نظيفاً 24ساعة 100%..
ويريدها أيضاً أن يبقى أطفالها نظيفين متزينين على مدى اليوم..
وإن زاره ضيوف افترض أن تطبخ أحسن الطعام..
وإن جالسها افترض أن تحدثه بأجمل الأحاديث..
وكذلك هو مع أولاده.. يريدهم 100% في كل شيء..
ومع زملائه.. ومع كل من يخالطه في الشارع والسوق.. و..
وإن قصّر أحد من هؤلاء أكله بلسانه وأكثر عليه الانتقاد وكرر الملاحظات.. حتى يمل الناس منه.. لأنه لا يرى في الصفحة البيضاء إلا الأسودَ..
من كان هذا حاله عذب نفسه في الحقيقة.. وكرهه أقرب الناس إليه واستثقلوا مجالسته..
إذا أنت لم تشرب مراراً على القذا
ظمئت , وأي الناس تصفو مشاربه؟!
إذا كـنت فـي كل الأمور معاتباً
رفـيقك لن تلـق الـذي ستعاتبه
قالت أمنا عائشة -رضي الله عنه- وهي تصف حال تعامله -صلى الله عليه وسلم- معهم:
ما عاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طعاماً قط.. إن اشتهاه أكله وإلا تركه.. .. نعم ما كان يصنع مشكلة من كل شيء..
وقال أنس -رضي الله عنه-: والله لقد خدمت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تسع سنين.. ما علمته قال لشيء صنعته: لم فعلت كذا وكذا؟ ولا عاب عليّ شيئاً قط.. ووالله ما قال لي أفَّ قط..
هكذا كان.. وهكذا ينبغي أن نكون..
وأنا بذلك لا أدعو إلى ترك النصيحة أو السكوت عن الأخطاء.. ولكن لا تكن مدققاً في كل شيء.. خاصة في الأمور الدنيوية.. تعود أن تمشّي الأمور..
لو طرق بابك ضيف فرحبت به وأدخلته غرفة الضيوف فلما أحضرت الشاي تناول الفنجان.. فلما نظر إلى الشاي بداخله قال: لـمَ لم تملأ الفنجان؟ فقلت: أزيدك؟ قال: لا.. لا.. يكفي..
فطلب ماء فأحضرت له كأس ماء فشكرك وشربه.. فلما انتهى قال: ماؤكم حار..
ثم التفت إلى المكيف وقال: مكيفكم لا يبرّد!! وجعل يشتكى الحر.. ثم..
ألا تشعر بثقل هذا الإنسان.. وتتمنى لو يخرج من بيتك ولا يعود..
إذن الناس يكرهون الانتقاد..
لكن إن احتجت إليه فغلفه بغلاف جميل ثم قدمه للآخرين..
قدمه في صورة اقتراح.. أو بأسلوب غير مباشر.. أو بألفاظ عامة..
كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا لاحظ خطئاً على أحد لم يواجهه به وإنما يقول: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا..
يعني: إياكِ أعني واسمعي يا جارة..
في يوم من الدهر أقبل ثلاثة شباب متحمسين.. إلى المدينة النبوية..
كانوا يريدون معرفة كيفية عبادة النبي -صلى الله عليه وسلم- وصلاته..
سألوا أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- عن عمله في السر..
فأخبرتهم زوجات النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه يصوم أحياناً ويفطر أحياناً.. وينام بعضاً من الليل ويصلي بعضه..
فقال بعضهم لبعض: هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه..
ثم اتخذ كل واحد منهم قراراً..!
فقال أحدهم: أنا لن أتزوج.. أي سأبقى عزباً.. متفرغاً للعبادة..
وقال الآخر: وأنا سأصوم دائماً.. كل يوم..
وقال الثالث: وأنا لا أنام الليل.. أي سأقوم الليل كله..
فبلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- ما قالوه..
فقام على منبره.. فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
ما بال أقوام!! (هكذا مبهماً، لم يقل ما بال فلان وفلان)..
ما بال أقوام قالوا: كذا وكذا.. لكني أصلي وأنام.. وأصوم وأفطر.. وأتزوج النساء..
فمن رغب عن سنتي فليس مني  .
وفي يوم آخر.. لاحظ النبي -صلى الله عليه وسلم- أن رجالاً من المصلين معه.. يرفعون أبصارهم إلى السماء في أثناء صلاتهم..
وهذا خطأ فالأصل أن ينظر أحدهم إلى موضع سجوده..
فقال -صلى الله عليه وسلم-: ما بال أقوام  يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم..
فلم ينتهوا عن ذلك واستمروا يفعلونه.. فلم يفضحهم أو يسمهم بأسمائهم.. وإنما قال:
لينتهُنَّ عن ذلك.. أو لتخطفن أبصارهم ..
وكانت بريرة جارية أمةً مملوكة في المدينة.. أرادت أن تعتق من الرق.. فطلبت ذلك من سيدها.. فاشترط عليها مالاً تدفعه إليه..
فجاءت بريرة.. إلى عائشة تلتمس منها أن تعينها بمال..
فقالت عائشة: إن شئت أعطيت أهلك ثمنك.. فتعتقين.. لكن يكون الولاء لي..
فأخبرت الجارية أهلها فأبوا ذلك.. وأرادوا أن يربحوا الأمرين.. ثمن عتقها.. وولاءها!!
فسألت عائشة النبي -صلى الله عليه وسلم-.. فعجب -صلى الله عليه وسلم- من حرصهم على المال.. ومنعهم للمسكينة من الحرية!!
فقال لعائشة: ابتاعيها.. فأعتقيها.. فإنما الولاء لمن أعتق..
أي الولاء لك ما دام أنك دفعت المال.. ولا تلتفتي إلى شروطهم فهي ظالمة..
ثم قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المنبر فقال:
ما بال أقوام (ولم يقل آل فلان).. يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله.. من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله.. فليس له.. وإن اشترط مائة شرط ..
نعم هكذا.. لوّح بالعصا من بعيد ولا تضرب بها..
فما أجمل أن تقول لزوجتك المهملة في نظافة بيتها: البارحة تعشينا عند صاحبي فلان.. وكان الجميع يثني على نظافة منزله..
أو تقول لولدك المهمل للصلاة في المسجد..: أنا أعجب من فلان ابن جيراننا ما نكاد نفقده في المسجد أبداً..!!
يعني.. إياك أعني واسمعي يا جارة!!
ويحق لك أن تسأل: لماذا يكره الناس الانتقاد؟
فأقول: لأنه يشعرهم بالنقص.. فكل الناس يحبون الكمال..
ذكروا أن رجلاً بسيطاً أراد أن يكون له شيء من التحكم..
فعمد إلى ترمسي ماء أحدهما أخضر والثاني أحمر.. وعبأهما بالماء البارد..
ثم جلس للناس في طريقهم.. وجعل يصيح: ماء بارد مجاناً..
فكان العطشان يقبل عليه ويتناول الكأس ليصب لنفسه ويشرب.. فإذا رآه صاحبنا قد توجه للترمس الأخضر..
قال له: لا.. اشرب من الأحمر.. فيشرب من الأحمر..
وإذا أقبل آخر.. وأراد أن يشرب من الأحمر.. قال له: لا.. اشرب من الأخضر..
فإذا اعترض أحدهم.. وقال: ما الفرق؟!
قال: أنا المسئول عن الماء.. يعجبك هذا النظام أو دبر لنفسك ماءً..
إنه شعور الإنسان الدائم بالحاجة إلى اعتباره والاهتمام به..