رأي..
لا تحسب الناس نوعاً واحداً فلهم طبائع لست تحصيهن ألوان


17.    استعمل الطُّعم المناسب!!
الناس بطبيعتهم يتفقون في أشياء كلهم يحبونها ويفرحون بها..
ويتفقون في أشياء أخرى كلهم يكرهونها..
ويختلفون في أشياء منهم من يفرح بها.. ومنهم من يستثقلها..
فكل الناس يحبون التبسم في وجوههم.. ويكرهون العبوس والكآبة..
لكنهم إلى جانب ذلك.. منهم من يحب المرح والمزاح.. ومنهم من يستثقله..
منهم من يحب أن يزوره الناس ويدعونه.. ومنهم الانطوائي..
ومنهم من يحب الأحاديث وكثرة الكلام.. ومنهم من يبغض ذلك..
وكل واحد في الغالب يرتاح لمن وافق طباعه.. فلماذا لا توافق طباع الجميع عند مجالستهم.. وتعامل كل واحد بما يصلح له ليرتاح إليك؟
ذكروا أن رجلاً رأى صقراً يطير بجانب غراب!! فعجب.. كيف يطير ملك الطيور مع غراب!! فجزم أن بينهما شيئاً مشتركاً جعلهما يتوافقان..
فجعل يتبعهما ببصره.. حتى تعبا من الطيران فحطا على الأرض فإذا كلهما أعرج!!
فإذا علم الولد أن أباه يؤثر السكوت ولا يحب كثرة الكلام.. فليتعامل معه بمثل ذلك ليحبه ويأنس بقربه..
وإذا علمت الزوجة أن زوجها يحب المزاح.. فلتمازحه.. فإن علمت أنه ضد ذلك فلتتجنب..
وقل مثل ذلك عند تعامل الشخص مع زملائه.. أو جيرانه.. أو إخوانه..
لا تحسب الناس طبعاً واحداً فلهم
طبائع لست تحصيهن ألوان
أذكر أن عجوزاً صالحة – وهي أم لأحد الأصدقاء – كانت تمدح أحد أولادها كثيراً.. وترتاح إذا زارها أو تحدث معها.. مع أن بقية أولادها يبرون بها ويحسنون إليها.. لكن قلبها مقبل على ذاك الولد..
كنت أبحث عن السرّ.. حتى جلست معه مرة فسألته عن ذلك.. فقال لي: المشكلة أن إخواني لا يعرفون طبيعة أمي.. فإذا جلسوا معها صاروا عليها ثقلاء..
فقلت له مداعباً: وهل اكتشف معاليكم طبيعتها..!!
ضحك صاحبي وقال: نعم.. سأخبرك بالسرّ..
أمي كبقية العجائز.. تحب الحديث حول النساء وأخبار من تزوجت وطلقت.. وكم عدد أبناء فلانة.. وأيهم أكبر.. ومتى تزوج فلان فلانة؟ وما اسم أول أولادهما..
إلى غير ذلك من الأحاديث التي أعتبرها أنا غير مفيدة.. لكنها تجد سعادتها في تكرارها.. وتشعر بقيمة المعلومات التي تذكرها.. لأننا لن نقرأها في كتاب ولن نسمعها في شريط.. ولا تجدها – قطعاً – في شبكة الإنترنت!!
فتشعر أمي وأنا أسألها عنها أنها تأتي بما لم يأت به الأولون.. فتفرح وتنبسط.. فإذا جالستها حركت فيها هذه المواضيع فابتهجت.. ومضى الوقت وهي تتحدث..
وإخواني لا يتحملون سماع هذه الأخبار.. فيشغلونها بأخبار لا تهمها.. وبالتالي تستثقل مجلسهم.. وتفرح بي!!
هذا كل ما هنالك..
نعم أنت إذا عرفت طبيعة من أمامك.. وماذا يحب وماذا يكره.. استطعت أن تأسر قلبه..
ومن تأمل في تعامل النبي -صلى الله عليه وسلم-.. مع الناس وجد أنه كان يعامل مع كل شخص بما يتناسب مع طبيعته..
في تعامله مع زوجاته كان يعامل كل واحدة بالأسلوب الذي يصلح لها..
عائشة كانت شخصيتها انفتاحية.. فكان يمزح معها.. ويلاطفها..
ذهبت معه مرة في سفر.. فلما قفلوا راجعين واقتربوا من المدينة.. قال -صلى الله عليه وسلم- للناس:
تقدموا عنا..
فتقدم الناس عنه.. حتى بقي مع عائشة..
وكانت جارية حديثة السن.. نشيطة البدن..
فالتفت إليها ثم قال: تعاليْ حتى أسابقك.. فسابقته.. وركضت وركضت.. حتى سبقته..
وبعدها بزمان.. خرجت معه -صلى الله عليه وسلم- في سفر..
بعدما كبرت وسمنت.. وحملت اللحم وبدنت..
فقال -صلى الله عليه وسلم- للناس: تقدموا.. فتقدموا..
ثم قال لعائشة: تعاليْ حتى أسابقك.. فسابقته.. فسبقها..
فلما رأى ذلك..
جعل يضحك ويضرب بين كتفيها.. ويقول: هذه بتلك.. هذه بتلك..
بينما كان يتعامل مع خديجة تعاملاً آخر.. فقد كانت تكبره في السن بخمس عشرة سنة..
حتى مع أصحابه.. كان يراعي ذلك.. فلم يلبس أبا هريرة عباءة خالد.. ولم يعامل أبا بكر كما يعامل طلحة..
وكان يتعامل مع عمر تعاملاً خاصاً.. ويسند إليه أشياء لا يسندها إلى غيره..
انظر إليه -صلى الله عليه وسلم- وقد خرج مع أصحابه إلى بدر..
فلما سمع بخروج قريش.. عرف أن رجالاً من قريش سيحضرون إلى ساحة المعركة كرهاً.. ولن يقع منهم قتال على المسلمين..
فقام -صلى الله عليه وسلم- في أصحابه وقال: إني قد عرفت رجالاً من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرهاً.. لا حاجة لهم بقتالنا..
فمن لقي منكم أحداً من بني هاشم فلا يقتله..
ومن لقي أبا البختري بن هشام فلا يقتله..
ومن لقي العباس بن عبد المطلب عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلا يقتله.. فإنه إنما خرج مستكرهاً..
وقيل إن العباس كان مسلماً يكتم إسلامه.. وينقل أخبار قريش إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.. فلم يحب النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يقتله المسلمون.. ولم يحب كذلك أن يظهر أمر إسلامه..
كانت هذه المعركة أول معركة تقوم بين الفريقين.. المسلمين وكفار قريش..
وكانت نفوس المسلمين مشدودة.. فهم لم يستعدوا لقتال.. وسيقاتلون أقرباء وأبناء وآباء..
وهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمنعهم من قتل البعض..
وكان عتبة بن ربيعة من كبار كفار قريش.. ومن قادة الحرب..
وكان ابنه أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة.. مع المسلمين.. فلم يصبر أبو حذيفة.. بل قال:
أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا ونترك العباس!! والله لئن لقيته لألحمنه بالسيف..
فبلغت كلمته رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.. فالتفت النبي عليه الصلاة والسلام.. فإذا حوله أكثر من ثلاثمائة بطل..
فوجه نظره فوراً إلى عمر.. ولم يلتفت إلى غيره.. وقال:
يا أبا حفص.. أيضرب وجه عم رسول الله بالسيف؟!
قال عمر: والله إنه لأول يوم كناني فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأبي حفص..
وكان عمر رهن إشارة النبي -صلى الله عليه وسلم-.. ويعلم أنهم في ساحة قتال لا مجال فيها للتساهل في التعامل مع من يخالف أمر القائد.. أو يعترض أمام الجيش..
فاختار عمر حلاً صارماً فقال: يا رسول الله دعني فلأضرب عنقه بالسيف..
فمنعه النبي -صلى الله عليه وسلم-.. ورأى أن هذا التهديد كاف في تهدئة الوضع..
كان أبو حذيفة -رضي الله عنه- رجلاً صالحاً.. فكان بعدها يقول: ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ.. ولا أزال منها خائفاً إلا أن تكفرها عني الشهادة.. فقتل يوم اليمامة شهيداً -رضي الله عنه-..
هذا عمر.. كان -صلى الله عليه وسلم- يعلم بنوع الأعمال التي يسندها إليه.. فليس الأمر متعلقاً بجمع صدقات.. ولا بإصلاح متخاصمين.. ولا بتعليم جاهل.. وإنما هم في ساحة قتال فكانت الحاجة إلى الرجل الحازم المهيب أكثر منها إلى غيره.. لذا اختار عمر.. واستثاره: أيضرب وجه عم رسول الله بالسيف؟!
وفي موقف آخر..
يقبل النبي -صلى الله عليه وسلم- على خيبر.. ويقاتل أهلها قتالاً يسيراً..
ثم يصالحهم ويدخلها.. واشترط عليهم أن لا يكتموا شيئاً من الأموال.. ولا يغيبوا شيئاً.. ولا يخبئوا ذهباً ولا فضة.. بل يظهرون ذلك كله ويحكم فيه..
وتوعدهم إن كتموا شيئاً أن لا ذمة لهم ولا عهد..
وكان حيي بن أخطب من رؤوسهم.. وكان جاء من المدينة بجلد تيس مدبوغ ومخيط ووملوء ذهباً وحلياً.. وقد مات حيي وترك المال.. فخبئوه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-..
فقال -صلى الله عليه وسلم- لعم حيي بن أخطب: ما فعل مسك حيي الذي جاء به من النضير؟ أي الجلد المملوء ذهباً..
فقال: أذهبته النفقات والحروب..
فتفكر -صلى الله عليه وسلم- في الجواب.. فإذا موت حيي قريب والمال كثير.. ولم تقع حروب قريبة تضطرهم إلى إنفاقه..
فقال -صلى الله عليه وسلم-: العهد قريب.. والمال أكثر من ذلك..
فقال اليهودي: المال والحلي قد ذهب كله..
فعلم النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه يكذب.. فنظر -صلى الله عليه وسلم- إلى أصحابه فإذا هم كثير بين يديه.. وكلهم رهن إشارته..
فالتفت إلى الزبير بن العوام وقال: يا زبير.. مُسَّه بعذاب..
فأقبل إليه الزبير متوقداً..
فانتفض اليهودي.. وعلم أن الأمر جد.. فقال: قد رأيت حُيياً يطوف في خربة ها هنا.. وأشار إلى بيت قديم خراب.. فذهبوا فطافوا فوجدوا المال مخبئاً في الخربة..
هذا في حاله -صلى الله عليه وسلم- مع الزبير.. يعطي القوس باريها..
وكان الصحابة يتعامل بعضهم مع بعض على هذا الأساس..
لما مرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرض الموت.. واشتد عليه الوجع.. لم يستطع القيام ليصلي بالناس..
فقال وهو على فراشه: مروا أبا بكر فليصل بالناس..
وكان أبو بكر رجلاً رقيقاً.. وهو صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حياته وبعد مماته.. وهو صديقه في الجاهلية والإسلام.. وهو أبو زوجة النبي -صلى الله عليه وسلم- عائشة.. وهو.. وكان يحمل في صدره جبلاً من حزن بسبب مرض النبي -صلى الله عليه وسلم-..
فلما أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يبلغوا أبا بكر ليصلي بالناس..
قال بعض الحاضرين عند النبي -صلى الله عليه وسلم-: إن أبا بكر رجل أسيف.. أي رقيق.. إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس.. أي من شدة التأثر والبكاء..
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعلم ذلك عن أبي بكر.. أنه رجل رقيق يغلبه البكاء.. خاصة في هذا الموطن..
لكنه -صلى الله عليه وسلم- كان يشير إلى أحقية أبي بكر بالخلافة من بعده.. يعني: إذا أنا غير موجود فأبو بكر يتولى المسئولية..
فأعاد -صلى الله عليه وسلم- الأمر: مروا أبا بكر فليصل بالناس.. حتى صلى أبو بكر..
ومع رقة أبي بكر.. إلا أنه كان ذا هيبة.. وله حدة غضب أحياناً تكسوه جلالاً..
وكان رفيق دربه عمر -رضي الله عنه- يراعي ذلك منه..
انظر إليهم جميعاً -رضي الله عنهم-.. وقد اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة.. بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-.. ليتفقوا على خليفة..
اجتمع المهاجرون والأنصار.. وانطلق عمر إلى أبي بكر واصطحبا إلى السقيفة..
قال عمر: فأتيناهم في سقيفة بني ساعدة.. فلما جلسنا تشهد خطيب الأنصار.. وأثنى على الله بما هو له أهل ثم قال:
أما بعد فنحن أنصار الله.. وكتيبة الإسلام.. وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منا.. وقد دفت دافة من قومكم وإذا هم يريدون أن يحتازونا من أصلنا.. ويغصبونا الأمر..
فلما سكت أردت أن أتكلم، وقد زورت في نفسي مقالة قد أعجبتني، أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر.. وكنت أداري منه بعض الحِدّة..
فقال أبو بكر: على رسلك يا عمر..
فكرهت أن أغضبه..
فتكلم وهو كان أعلم مني وأوقر.. فوالله ما ترك من كلمة أعجبتني من توزيري إلا قالها في بديهته.. أو قال مثلها.. أو أفضل منها حتى سَكَتَ..
قال أبو بكر: أما ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل.. ولن تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش.. هم أوسط العرب نسباً وداراً.. وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم..
وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا..
ولم أكره شيئا مما قاله غيرها.. كان والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقرّبني ذلك إلى إثم.. أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر..
سكت الناس..
فقال قائل من الأنصار: أنا جذيلها المحكك.. وعذيقها المرجب.. منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش..
قال عمر: فكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى تخوفت الاختلاف..
فقلت: ابسط يدك يا أبا بكر فبسط يده فبايعته، ثم بايعه المهاجرون، ثم بايعه الأنصار..
نعم.. كل واحد من الناس له مفتاح تستطيع به فتح أبواب قلبه.. وكسب محبته والتأثير عليه..
وهذا تلاحظه في حياة الناس.. أفلم تسمع زملاء عملك يوماً يقولون: المدير.. مفتاحه فلان.. إذا أردتم شيئاً فاجعلوا فلاناً يطلبه لكم.. أو يقنع المدير به..
فلماذا لا تجعل مهاراتك مفاتيح لقلوب الناس.. فتكون رأساً لا ذيلاً..
نعم كن متميزاً.. وابحث عن مفتاح قلب أمك وأبيك وزوجتك وولدك..
اعرف مفتاح قلب مديرك في العمل.. زملائك..
ومعرفة هذه المفاتيح تفيدنا حتى في جعلهم يتقبلون النصح الذي يصدر منا لهم.. إذا أحسنا تقديم هذا النصح بأسلوب مناسب..
فهم ليسوا سواء في طريقة النصح.. بل حتى في إنكار الخطأ إذا وقع منهم..
وانظر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد جلس يوماً في مجلسه المبارك يحدث أصحابه..
فبينما هم على ذلك.. فإذا برجل يدخل إلى المسجد.. يتلفت يميناً ويساراً.. فبدل أن يأتي ويجلس في حلقة النبي -صلى الله عليه وسلم-.. توجه إلى زاوية من زوايا المسجد.. ثم جعل يحرك إزاره!!
عجباً!! ماذا سيفعل؟!
رفع طرف إزاره من الأمام ثم جلس بكل هدوء.. يبول..!!
عجب الصحابة.. وثاروا.. يبول في المسجد!!
وجعلوا يتقافزون ليتوجهوا إليه.. والنبي -صلى الله عليه وسلم- يهدئهم.. ويسكن غضبهم.. ويردد: لا تزرموه.. لا تعجلوا عليه.. لا تقطعوا عليه بوله..
والصحابة يلتفتون إليه.. وهو لعله لم يدر عنهم.. لا يزال يبول..
والنبي -صلى الله عليه وسلم- يرى هذا المنظر.. بول في المسجد.. ويهدئ أصحابه!!
آآآه مااااا أحلمه!!
حتى إذا انتهى الأعرابي من بوله.. وقام يشد على وسطه إزاره.. دعاه النبي -صلى الله عليه وسلم- بكل رفق..
أقبل يمشي حتى إذا وقف بين يديه.. قال له -صلى الله عليه وسلم- بكل رفق:
إن هذه المساجد لم تبن لهذا.. إنما بنيت للصلاة وقراءة القرآن..
انتهى.. نصيحة باختصار..
فَهِم الرجل ذلك ومضى..
فلما جاء وقت الصلاة أقبل ذاك الأعرابي وصلى معهم..
كبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأصحابه مصلياً.. فقرأ ثم ركع.. فلما رفع -صلى الله عليه وسلم- من ركوعه قال: سمع الله لمن حمده..
فقال المأمومون: ربنا ولك الحمد.. إلا هذا الرجل قالها وزاد بعدها: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً!!
وسمعه النبي -صلى الله عليه وسلم-.. فلما انتهت الصلاة.. التفت -صلى الله عليه وسلم- إليهم وسألهم عن القائل.. فأشاروا إليه..
فناداه النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما وقف بين يديه فإذا هو الأعرابي نفسه.. وقد تمكن حب النبي -صلى الله عليه وسلم- من قلبه حتى ود لو أن الرحمة تصيبهما دون غيرهما..
فقال له -صلى الله عليه وسلم- معلماً: لقد تحجرت واسعاً!! أي إن رحمة الله تعالى تسعنا جميعاً وتسع الناس.. فلا تضيقها علي وعليك..
فانظر كيف ملك عليه قلبه.. لأنه عرف كيف يتصرف معه.. فهو أعرابي أقبل من باديته.. لم يبلغ من العلم رتبة أبي بكر وعمر.. ولا معاذ وعمار.. فلا يؤاخذ كغيره..
وإن شئت فانظر أيضاً إلى معاوية بن الحكم -رضي الله عنه- .. كان من عامة الصحابة.. لم يكن يسكن المدينة.. ولم يكن مجالساً للنبي عليه الصلاة والسلام..
وإنما كان له غنم في الصحراء يتتبع بها الخضراء..
أقبل معاوية يوماً إلى المدينة فدخل المسجد.. وجلس إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه.. فسمعه يتكلم عن العطاس.. وكان مما علم أصحابه أن إذا سمع المسلم أخاه عطس فحمد الله فإنه يقول له: يرحمك الله..
حفظها معاوية.. وذهب بها..
وبعد أيام جاء إلى المدينة في حاجة.. فدخل المسجد فإذا النبي عليه الصلاة والسلام يصلي بأصحابه.. فدخل معهم في الصلاة..
فبينما هم على ذلك إذ عطس رجل من المصلين..
فما كاد يحمد الله.. حتى تذكر معاوية أنه تعلم أن المسلم إذا عطس فقال الحمد لله.. فإن أخاه يقول له يرحمك الله..
فبادر معاوية العاطس قائلاً بصوت عالٍ: يرحمك الله -
فاضطرب المصلون.. وجعلوا يلتفتون إليه منكرين-
فلما رأى دهشتهم.. اضطرب وقال: وااااثكل أُمِّياه!!.. ما شأنكم تنظرون إليّ؟..
فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم ليسكت..
فلما رآهم يصمّتونه صمت..
فلما انتهت الصلاة..
التفت -صلى الله عليه وسلم- إلى الناس.. وقد سمع جلبتهم وأصواتهم.. وسمع صوت من تكلم.. لكنه صوت جديد لم يعتد عليه.. فلم يعرفه.. فسألهم:
من المتكلم.. فأشاروا إلى معاوية..
فدعاه النبي عليه الصلاة والسلام إليه..
فأقبل عليه معاوية فزعاً لا يدري بماذا سيستقبله.. وهو الذي أشغلهم في صلاتهم.. وقطع عليهم خشوعهم..
قال معاوية -رضي الله عنه-: فبأبي هو وأمي -صلى الله عليه وسلم- .. والله ما رأيـت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه.. والله ما كهرني.. ولا ضربني.. ولا شتمني..
وإنما قال: يا معاوية.. إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس.. إنما هي التسبيح والتكبير.. وقراءة القرآن.. انتهى.. نصيحة باختصار..
ففهمها معاوية..
ثم ارتاحت نفسه.. واطمأن قلبه.. فجعل يسأل النبي عليه الصلاة والسلام عن خواصّ أموره..
فقال: يا رسول الله.. إني حديث عهد بجاهلية.. وقد جاء الله بالإسلام.. وإن منا رجالاً يأتون الكهان (وهم الذين يدعون علم الغيب).. يعني فسألونهم عن الغيب..
فقال -صلى الله عليه وسلم-: فلا تأتهم.. يعني لأنك مسلم.. والغيب لا يعلمه إلا الله..
قال معاوية: ومنا رجال يتطيرون (أي يتشاءمون بالنظر إلى الطير)..
فقال -صلى الله عليه وسلم-: ذاك شيء يجدونه في صدورهم.. فلا يصدنهم (أي لا يمنعهم ذلك عن وجهتهم.. فإن ذلك لا يؤثر نفعاً ولا ضراً)..
هذا تعامله -صلى الله عليه وسلم- مع أعرابي بال في المسجد.. ورجل تكلم في الصلاة.. عاملهم مراعياً أحوالهم.. لأن الخطأ من مثلهم لا يستغرب..
أما معاذ بن جبل فقد كان من أقرب الصحابة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.. ومن أكثرهم حرصاً على طلب العلم..
فكان تعامل النبي -صلى الله عليه وسلم- مع أخطائه مختلفاً عن تعامله مع أخطاء غيره..
كان معاذ يصلي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العشاء.. ثم يرجع فيصلي بقومه العشاء إماماً بهم في مسجدهم.. فتكون الصلاة له نافلة ولهم فريضة..
رجع معاذ ذات ليلة لقومه ودخل مسجدهم فكبر مصلياً بهم..
أقبل فتى من قومه ودخل معه في الصلاة.. فلما أتم معاذ الفاتحة قال " ولا الضالين " فقالوا " آمين "..
ثم افتتح معاذ سورة البقرة!!
كان الناس في تلك الأيام يتعبون في العمل في مزارعهم ورعيهم دوابهم طوال النهار.. ثم لا يكادون يصلون العشاء حتى يأوون إلى فرشهم..
هذا الشاب.. وقف في الصلاة.. ومعاذ يقرأ ويقرأ..
فلما طالت الصلاة على الفتى.. أتم صلاته وحده.. وخرج من المسجد وانطلق إلى بيته..
انتهى معاذ من الصلاة..
فقال له بعض القوم: يا معاذ.. فلان دخل معنا في الصلاة.. ثم خرج منها لما أطلت..
فغضب معاذ وقال: إن هذا به لنفاق.. لأخبرن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالذي صنع..
فأبلغوا ذلك الشاب بكلام معاذ.. فقال الفتى: وأنا لأخبرن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالذي صنع..
فغدوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبره معاذ بالذي صنع الفتى..
فقال الفتى: يا رسول الله.. يطيل المكث عندك ثم يرجع فيطيل علينا الصلاة.. والله يا رسول الله إنا لنتأخر عن صلاة العشاء مما يطول بنا معاذ..
فسأل الله النبي -صلى الله عليه وسلم- معاذاً: ماذا تقرأ؟!
فإذا بمعاذ يخبره أنه يقرأ بالبقرة.. و.. وجعل يعدد السور الطوال..
فغضب النبي -صلى الله عليه وسلم- لما علم أن الناس يتأخرون عن الصلاة بسبب الإطالة.. وكيف صارت الصلاة ثقيلة عليهم..
فالتفت إلى معاذ وقال: أفتان أنت يا معاذ..؟!
يعني تريد أن تفتن الناس وتبغضهم في دينهم..
اقرأ بـ "السماء والطارق" ، "والسماء ذات البروج"، "والشمس وضحاها"، "والليل إذا يغشى"..
ثم التفت -صلى الله عليه وسلم- إلى الفتى وقال له متلطفاً: كيف تصنع أنت يا بن أخي إذا صليت؟
قال: أقرأ بفاتحة الكتاب.. وأسأل الله الجنة.. وأعوذ به من النار..
ثم تذكر الفتى أنه يرى النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو ويكثر.. ويرى معاذاً كذلك..
فقال في آخر كلامه: وإني لا أدري ما دندنتك ودندنة معاذ.. أي دعاؤكما الطويل لا أعرف مثله!!
فقال -صلى الله عليه وسلم-: إني ومعاذ حول هاتين ندندن.. يعني دعاؤنا هو فيما تدعو به.. حول الجنة والنار..
فقال الشاب: ولكن سيعلم معاذ إذا قدم القوم وقد خبروا أن العدو قد أتوا.. ما أصنع.. يعني في الجهاد في سبيل الله.. سيتبين لمعاذ إيماني وهو الذي يصفني بالنفاق!
فما لبثوا أياماً.. حتى قامت معركة فقاتل فيها الشاب.. فاستشهد -رضي الله عنه-..
فلما علم به -صلى الله عليه وسلم-.. قال لمعاذ: ما فعل خصمي وخصمك؟ يعني الذي اتهمته يا معاذ بالنفاق..
قال معاذ: يا رسول الله، صدق الله وكذبتُ.. لقد استشهد..
فتأمل الفرق في طبائع الرجال.. ومقاماتهم.. وكيف أدى إلى اختلاف تعامل النبي -صلى الله عليه وسلم- معهم..
بل.. انظر إلى تعامله -صلى الله عليه وسلم- مع أسامة بن زيد.. وهو حبيب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.. وقد تربى في بيته..
بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه إلى الحرقات من قبيلة جهينة..
وكان أسامة بن زيد -رضي الله عنه- من ضمن المقاتلين بالجيش..
ابتدأ القتال.. في الصباح..
انتصر المسلمون وهرب مقاتلو العدو..
كان من بين جيش العدو رجل يقاتل.. فلما رأى أصحابه منهزمين.. ألقى سلاحه وهرب..فلحقه أسامة ومعه رجل من الأنصار.. ركض الرجل وركضوا خلفه.. وهو يشتد فزعاً..
حتى عرضت لهم شجرة فاحتمى الرجل بها..
فأحاط به أسامة والأنصاري.. ورفعا عليه السيف..
فلما رأى الرجل السيفين يلتمعان فوق رأسه.. وأحسَّ الموت يهجم عليه.. انتفض وجعل يجمع ما تبقى من ريقه في فمه.. ويردد فزعاً: أشهد أن لا إله إلا الله.. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله..
تحير الأنصاري وأسامة.. هل أسلم الرجل فعلاً.. أم أنها حيلة افتعلها..
كانوا في ساحة قتال.. والأمور مضطربة.. يتلفتون حولهم فلا يرون إلا أجساداً ممزقة..وأيدي مقطعة..قد اختلط بعضها ببعض..الدماء تسيل..النفوس ترتجف..
الرجل بين أيديهما ينظران إليه.. لا بد من الإسراع باتخاذ القرار.. ففي أي لحظة قد يأتي سهم طائش أو غير طائش.. فيرديهما قتيلين..
لم يكن هناك مجال للتفكير الهادئ..
فأما الأنصاري فكف سيفه..
وأما أسامة فظن أنها حيلة.. فضربه بالسيف حتى قتله..
عادوا إلى المدينة تداعب قلوبهم نشوة الانتصار..
وقف أسامة بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم-.. وحكى له قصة المعركة.. وأخبره بخبر الرجل وما كان منه..
كان قصة المعركة تحكي انتصاراً للمسلمين.. وكان -صلى الله عليه وسلم- يستمع مبتهجاً..
لكن أسامة قال:.. ثم قتلته..
فتغير النبي -صلى الله عليه وسلم-.. وقال: قال لا إله إلا الله.. ثم قتلته؟!!
قلت: يا رسول الله لم يقلها من قبل نفسه.. إنما قالها فرقا من السلاح..
فقال -صلى الله عليه وسلم-: قال لا إله إلا الله.. ثم قتلته!! هلا شققت عن قلبه حتى تعلم أنه إنما قالها فرقاً من السلاح..
وجعل -صلى الله عليه وسلم- يحد بصره إلى أسامة ويكرر: قال لا إله إلا الله ثم قتلته..!! قال لا إله إلا الله ثم قتلته..!! ثم قتلته..!! كيف لك بلا إله إلا الله إذا جاءت تحاجك يوم القيامة!!
وما زال -صلى الله عليه وسلم- يكرر ذلك على أسامة..
قال أسامة: فما زال يكررها علي حتى وددت أني لم أكن أسلمت إلا يؤمئذ..