المطلب الثامن
القيام بواجب الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر
في ضوء الكتاب والسنة
من الأمور الفاعلة للمحافظة على نعمة الأمن والاستقرار في بلادنا القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ضوء الكتاب والسنة، ونظرا لأهمية هذا الموضوع البالغة لما له من أثر في استقرار حياة الأمة..
فسوف أتحدث بشيء من التفصيل عن هذه الفريضة العظيمة مركزا بشكل عام على الصفات والآداب التي لا بد من توافرها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ونبدأ لنقول إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل من أصول قيام حضارة الإسلام بدونه "وهو القطب الأعظم في الدين، والمنهج الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طوى بساطه وأهمل عمله وعلمه لتعطلت النبوة واضمحلت الديانة وعمت الفتنة وفشت الضلالة وشاعت الجهالة واستشرى الفساد واتسع التمزق وخرجت البلاد وهلك العباد" (1).
والمعروف هو كل ما ينبغي فعله أو قوله طبقا لنصوص الشريعة الإسلامية سواء كان النص عليه صراحة أو كان مأخوذا من روح النصوص الشرعية الإسلامية وفحواها، فالأخلاق الفاضلة، وصلة الرحم، والإحسان للفقراء، وإقامة الأموال العامة في مصارفها، وتولية الأمناء، وتحكيم شرع الله، كل ذلك يدخل في المعروف الذي ينبغي فعله، وكل ضد ما تقدم هو من المنكر الذي يجب تركه.
فالمنكر كل فعل أو قول لا ينبغي فعله أو قوله طبقَاَ لنصوص الشريعة الإسلامية، وإذا قرن الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالإيمان بالله قال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] (2) ثم تأكد ذلك بالأمر الرباني في قوله تعالى:
_________
(1) أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، ج2، ص306.
(2) سورة آل عمران، الآية 110.
_________
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] (1).
إذا كانت هذه مكانة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مجتمعنا الإسلامي فإذن ذلك يعني أن المجتمع يقوم دائما على الخير وإرادة الخير، فلا يمكن لمجتمع يقوم على عدم التواصي بالحقِ والخير أن يستمر أو تقوم له قائمة {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج: 41] (2) فإن هذا هو شرط دوام النعمة على مجتمع أن تظل الولاية بين الناس قائمة والتكافل الاجتماعي كذلك ما دام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الراية الخفاقة واللواء المرفوع {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [التوبة: 71] (3).
والتجارب تقول إن المرض إذا استشرى عزّ دواؤه، وكذلك المنكر فالنهي عنه واجب وعدم التراخي في محاربته واجب، وإذا ترك أُلِفَهُ الناس وفعله الكبير والصغير وتعودوه فكان كالسوس الذي ينخر في البناء الاجتماعي حتى يقوضه.
من هنا كان اهتمام القرآن والحديث الشريف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واقرأ معي يا عزيزي القارئ هذه الطائفة الرائعة من الآيات، والآيات، والأحاديث لترى مدى اهتمام شريعتنا الغراء بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
_________
(1) سورة آل عمران، الآية 104.
(2) سورة الحج، الآية 17.
(3) سورة التوبة، الآية 71..
_________
هذا لقمان يعظ ابنه يخبر به الحق تبارك وتعالى في قوله في سورة لقمان: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17] (1).
وعن بني إسرائيل يقول الله جل في علاه: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78 - 79] (2).
{لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114] (3).
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وهذا أضعف الإيمان» (4).
ويقول عليه السلام: «ما من قوم عملوا بالمعاصي وفيهم من يقدر أن ينكر عليهم فلم يفعلوا إلا أوشك بأن يعمهم الله بعذاب من عنده» (5).
ومن هنا فإن الناس إذا اعتادت القبيح لم تنفر منه، ولكنه يظل قبيحا لكن البصيرة تنطمس عنه من كثرة ما تراه، وأصبح الرجس عادة اجتماعية، من أجل ذلك أمر الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأوجبه فريضة على المسلمين، إبقاء على الطهر والصلاح ومحافظة على شرف ومكانة المسلمين بين الأمم وتثبيتَاَ لنعم الله عليهم.
ويمكن إجمال الحكمة من إيجاب الشريعة الإسلامية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما يلي: - (6)
_________
(1) سورة لقمان، الآية 17.
(2) سورة المائدة، الآية 78 - 79.
(3) سورة النساء، الآية 114..
(4) رواه البخاري ومسلم والترمذي..
(5) رواه البخاري وقال حديث حسن صحيح..
(6) للمزيد من المعلومات انظر كتاب المؤلف، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ضوء كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، الرياض، 1413، ص66.
_________
1 - حفظ الإسلام من الشرك والبدع.
2 - إثبات معاني الخير والصلاح في الأمة الإسلامية.
3 - إزالة عوامل الفساد والشر من حياتها والقضاء عليها أولا بأول حتى تسلم الأمة وتسعد.
4 - تهيئة الجو المناسب الصالح الذي تنمو فيه الآداب والفضائل وتختفي فيه المنكرات والرذائل، ويتربى في ظله الضمير العفيف والوجدان اليقظ الذي لا يسمح للشر أن يبدأ فضلا من أن يبقى أو يمتد.
5 - تكوين الرأي المسلم الواعي، الذي يحرس آداب الأمة وفضائلها وأخلاقها وحقوقها، ويجعل لها شخصية وسلطانا، هو أقوى من القوة وأنفذ من الأنظمة والقوانين.
6 - بعث الإحساس بمعنى الأخوة والتكامل والتعاون على البر والتقوى واهتمام المسلمين بعضهم ببعض، وذلك مما يوطد الأمن ويبعث الطمأنينة على الحقوق والحرمات، وأنها في حراسة الأمة وبأعينها مما يؤكد الثقة والمحبة والاعتزاز بالجماعة في قلوب المؤمنين.
ولكي يتمكن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، من تحقيق الأهداف المتوخاة من إقرار هذه الفريضة العظيمة، لا بد أن يتحلى بصفات معينة من أهمها:- (1).
أولا: أَن يكون رقيقا لطيفا بمن يأمره وبمن ينهاه:
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا كان العنف في
_________
(1) للمزيد من المعلومات انظر المصدر السابق، ص125.
_________
شئ إلا شانه» (1).
وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله ويعطي ما لا يعطي على العنف» (2).
ومن الرفق أن يراعي القائم بهذه الفريضة حُرْمة الناس ومشاعرهم فلا يفضحهم، وإنما يأمرهم وينهاهم بالرفق واللين، وبدون تشهير بهم، قال الإمام الشافعي: "من وعظ أخاه سرا، فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه" (3).
إلا أنه يستثنى من ذلك من اختاروا فضح أنفسهم فجاهروا بمعاصيهم، فهؤلاء يتم أمرهم ونهيهم سرا وعلانية.
ثانيا: الإخلاص:
من أهم الصفات اللازمة لنجاح الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر الإخلاص؛ بحيث يجعل الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر نيته خالصة لله سبحانه وتعالى، وأن يقصد بعمله هذا أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الله هو المطاع في الأرض.
ويتضح مما سبق:
أن الشخص الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إذا نوى بعمله في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمورا شخصية كأن ينوي بروز شهرته بين الناس، أو ينوي أن يظهر للناس أنه عالم أو ينوي الانتقام والتشفي من شخص معين لأنه يكرهه لسبب من الأسباب، أو ينوي التقليل من قدر شأن كريم محبوب عند الناس ليعلم الناس بفسقه... إذا عمل هذه الأشياء وأمثالها فإن عمله هذا رياء، ولا يكون من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
_________
(1) رواه مسلم..
(2) رواه البخاري ومسلم..
(3) شرح النووي على صحيح مسلم، ج2، ص24..
_________
ثالثا: الصبر:
الصبر من الصفات اللازمة لنجاح الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، وهو فضيلة من الفضائل التي حث عليها القرآن الكريم في أكثر من آية حتى وردت مادة (ص.ب.ر) في القرآن في مائة وثلاثة مواضع.
إن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر رجل نصب نفسه لبيان الحق والحق لا يرضي كل الناس، لذا فإنه يتعرض للأذى ممن لا يرضيهم الحق، فلا بد لمن يقوم بهذه الفريضة أن يكون حليما صبورا، فإنه إن لم يكن كذلك فربما يؤول أسلوبه إلى فساد أكثر من الإصلاح، ولذلك كانت وصية لقمان لابنه كما قال تعالى: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17] (1).
فأوصاه بالصبر مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
رابعا: التواضع:
التواضع من أهم الصفات اللازمة لنجاح الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، ويعني التواضع في أبسط معانيه معرفة المرء قدر نفسه، وتجنب الكبر.
ومن التواضع:
التواضع مع من هو دونك فإذا وجدت أحدا أصغر منك سنا أو أقل منك قدرا فلا تحقره، فقد يكون أسلم منك قلبا، أو أقل منك ذنبا، أو أكثر منك إلي الله قربا، حتى لو رأيت إنسانا فاسقَاَ وأنت يظهر عليك الصلاح فلا تستكبر عليه، واحمد الله على أن أنجاك مما ابتلاه به، وتذكر أنه ربما يكون في عملك الصالح رياء أو عجب يحبطه، وقد يكون
_________
(1) سورة لقمان، الآية 17..
_________
عند هذا المذنب من الندم والانكسار والخوف من خطيئته ما يكون سببا في غفران ذنبه.
عن جندب -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حدث «أن رجلا قال: والله لا يغفر الله لفلان، وأن الله تعالى قال: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان، فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عملك» (1)، أو كما قال.
خامسا: معرفة متى يكون الأمر بالمعروف سرا ومتى يكون جهرا:
من الأمور اللازمة لنجاح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكرٍ معرفة متى يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سرا ومتى يكون جهرا..
وعليه أن يعلم أن الأمر السري لا يعالج علنا بل يعالج سرا، لئلا يفشو المنكر، ولئلا يفتضح فاعله إلا إذا كان الأمر ظاهرا فإنه يعالج علنا ولا حرج في ذلك، لأن صاحب المنكر هو الذي فضح نفسه وأعلن البلاء (2).
وكان السلف يحبون أن يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سرا فيما بين الآمر والمأمور، فإن ذلك من علامات النصح له فإن الناصح ليس غرضه إشاعة عيوب من ينصح له، وإنما غرضه إزالة المفسدة التي وقع فيها (3).
سادسا: التحقق والتثبت من المنكر:
من الأمور اللازمة لنجاح الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، التحقق والتثبت من المنكر المطلوب إزالته وتغييره، فعلى المسلم أن يتحقق من أن ما يريد إنكاره منكر محقق دال على إنكاره كتاب الله وسنة رسوله صلى
_________
(1) رواه مسلم..
(2) عبد الله آل قعود، أثر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الرياض، دار العاصمة، بدون تاريخ، ص 39..
(3) الحافظ بن رجب، الفرق بين النصيحة والتعبير، الأردن، دار عمر 1406 هـ، ص 17 - ص 18..
_________
الله عليه وسلم، لأن بعض الناس قد يرى فعلا مًن الأفعال أو يسمع قولا من الأقوال يظنه منكرا بحسب ما جرت عليه عادات الناس وتقاليدهم، ولكنه في الشريعة الإسلامية ليس بمنكر، بل هو معروف، وقد يحصل العكس، فيرى بعض الناس المعروف شرعا منكرا عندهم، وهذا ما يحدث كثيرا في بعض الأقطار الإسلامية، وما ذلك إلا لأن الجهل قد ضرب أطنابه على هذه الفئة من الناس.
والتثبت من المنكر يتطلب أن يتأكد أن هذا المنكر وقع بالفعل ويجب على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن لا يسارع بنهي شخص معين أو جماعة معينة بمجرد الظن من غير تثبيت أو بينة، وأن الإنسان تكتنفه نوازع الخير ونوازع الشر، وربما فكر في عمل المنكر ولكنه تراجع عنه.
والتحقق والتثبت من المنكر يتطلب من الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أنه عندما يبلغ بوجود منكر ما من شخص، فإن عليه أن يتحقق من الهدف الحقيقي لذلك الشخص، فقد يكون هذا الشخص من المنافقين أو الفاسقين النمامين أو أصحاب الغيبة، الذين يفسدون ولا يصلحون، المخبرون من هذه الفئة قد لا يكون هدفهم العمل على إزالة المنكر وتغييره، وإنما يكون هدفهم الإيقاع وتشويه سمعة من ينسبون إليه فعل المنكر..
وهنا فإنه يجب على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن لا يأخذ القول الذي يأتيه عن وجود منكر قولا مُسَلما، بل عليه التحري والتثبت حتى لا يأمر إنسانَاَ بمعروف لم يتركه أو ينهاه عن منكر لم يقترفه.
سابعا: معرفة أحوال الناس وظروفهم:
من الأمور اللازمة لنجاح الآمر بالمعروف والنهي عن المنكر معرفة أحوال الناس وظروف المجتمع وطبيعته وخصائص العصر، لكي يتمكن من مخاطبة الناس على قدر أحوالهم وطاقاتهم بحيث يكون أسلوبه طبقا لحال المخاطب، فيكون أسلوبه مع الأمي غير أسلوبه مع المتعلم، وطريقته مع العاقل غير طريقته مع السفيه.
ثامنا: القدوة فيما يدعو إليه واجتناب ما ينهي عنه:
من الأمور اللازمة لنجاح الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يفعل ما يأمر به ويتجنب ما ينهي عنه.
ومما لا شك فيه أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لا يستطيع أن ينفذ بدعوته إلى مستمعيه ما لم يكن قدوة حسنة، إن مسئولية الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر تجاه أنفسهم أعظم بكثير من مسئولياتهم تجاه المجتمع، وخطورة التقصير فيما للدعاة على أنفسهم من واجبات يفوق خطورة التقصير فيما للمجتمع عليهم من حقوق.. فالآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ينبغي أن يكونوا قدوة حسنة للمجتمع الذي يعيشون فيه، تبدو في حياتهم آثار الرسالة التي يدعون إليها.
وقد أنكر الله -جل وعلا- على أولئك الذين يعظون الناس ولا يتعظون ولا ينتهون فقال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44] (1).
إن على الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر أن يترسموا خطى الدعوة في كل شأن من شئونهم في أقوالهم وأفعالهم في حياتهم الخاصة والعامة.. في أنفسهم أفرادا وفي بيوتهم كأزواج وآباء، وهذا ما يؤكد أهمية الالتزام
_________
(1) سورة البقرة، الآية 44.
_________
به الخليفة الراشد علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- يقول: "من نصب نفسه للناس إماما فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تهذيبه لسيرته قبل تهذيبه بلسانه، فمعلم نفسه ومهذبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومهذبهم" (1).
وهل يجني الذين يقولون ما لا يفعلون.. ويعظون ولا يتعظون، ويرشدون ولا يسترشدون إلا سخرية العباد، وسخط رب العباد، يخسرون دينهم ودنياهم وذلك هو الخسران المبين.
قال الشعبي:
"يطلع يوم القيامة قوم من أهل الجنة على قوم من أهل النار فيقولون لهم: ما أدخلكم النار وإنما دخلنا الجنة بفضل تأديبكم وتعليمكم فيقولون: إنا كنا نأمر بالخير ولا نفعله وننهى عن الشر ونفعله" (2).
إن الواجب على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون حريصا على إصلاح سره كما يجب عليه أن يكون حريصا على إصلاح جهره.
عليه أن يكون حريصا على نفسه فلا يخادعها ومع الناس، فلا يرائيهم ولا ينافقهم، وليسمع قول ابن السماك في هذا المعنى: "كم من مذكر بالله ناس الله، وكم من مخوف بالله جريء على الله، وكم مقرب إلى الله بعيد عن الله فار من الله، وكم من تال لكتاب الله منسلخ عن آيات الله" (3).
فالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يجب أن يخشى الله لا الناس، ويخلص له في سره وجهره فلا يكون في ظاهره ملاكا وفي باطنه شيطانا، وليحذر أن يكون ممن عناهم الله بقوله تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ} [النساء: 108] (4).
_________
(1) فتحي يكن، مشكلات الدعوة والداعية، بيروت مؤسسة الرسالة، ص 69..
(2) نفس المصدر السابق، ص69..
(3) المصدر السابق، ص7..
(4) سورة النساء، الآية 108.
_________
تاسعا كسر الحواجز بين الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر وبين من يتعين أمرهم ونهيهم:
يعني هذا المصطلح باختصار أن على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يذهب إلى من يتوجب أمرهم ونهيهم من الفسقة والعصاة، ويستعمل معهم أسلوب الحكمة والموعظة الحسنة.
إن بعض الدعاة يحجم عن الاتصال بالفسقة والعصاة من باب كراهية المنكر وهذا خطأ، فإذا لم يذهب الداعية إلى الله إلى هؤلاء الفسقة فمن يذهب إليهم لوعظهم ونصحهم وإرشادهم" (1).
إن هجر العصاة واجتنابهم وكراهيتهم لا يتعين إلا بعد أن يعجز الداعية عن تقويمهم وإزالة منكرهم، وعندما يتعين على الداعية إلى الله أن يتجنبهم، ويكون انعزاله في هذه الحالة من باب إنكار المنكر بالقلب، لقد أكد الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن «المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجرا من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم» (2).
وهذا الحديث "فيه أفضلية من يخالط الناس مخالطة يأمرهم فيها بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحسن معاملتهم فإنه أفضل من الذي يعتزلهم ولا يصبر على المخالطة" (3).
عاشرا: اتساع الصدر لقبول الخلاف فيما يسوغ الخلاف فيه:
من الأمور اللازمة لنجاح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اتساع الصدر لقبول الخلاف، فيما يجوز الخلاف فيه، فالخلاف طبيعة البشر، قال الله تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ - إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود: 118 - 119] (4).
_________
(1) محمد بن صالح العثيمين: زاد الداعية إلى الله عز وجل، الرياض، مطابع المدينة، ص 16..
(2) رواه الإمام أحمد وابن ماجه..
(3) سبل السلام، شرح بلوغ المرام، ج4، ص28..
(4) سورة هود، الآيتان 118 - 119.
_________
وهناك مسائل فرعية يختلف فيها الناس وهي في الحقيقة مما وسع الله فيه على عباده (1).
وأعني مسائل ليست من الأصول التي تبلغ إلى تكفير المخالف فهذه مما وسع الله فيها على العباد ومن يتصفح كتب العلماء -المعتد بعلمهم- في أنواع العلوم الشرعية في التفسير وشروح الحديث والفقه، يجد أن هذه الكتب ممتلئة بالخلافات في المسائل الفرعية، ولم يثر ذلك أحد من أهل العلم وادعى فيه طعنا على من رد عليه قوله ولا ذما ولا نقصا، ولم يثر على ذلك أحد إلا إذا كان المخالف ممن يفحش في الكلام ويسيء الأدب في العبارة، فينكر عليه فحشه وإساءته دون أصل رده ومخالفته إقامة للحجج الشرعية والأدلة المفيدة، وسبب ذلك أن العلماء كلهم مجتمعون على إظهار الحق الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، ولأن يكون الدين كله لله وأن تكون كلمته هي العليا " (2).
وكلهم معترفون بأن الإحاطة بالعلم كله من غير شذوذ منه ليس هو مرتبة أحد منهم، ولا ادعاه أحد من المتقدمين ولا من المتأخرين، فلهذا كان أئمة السلف المجمع على علمهم وفضلهم يقبلون الحق ممن أورده عليهم، وإن كان صغيرا، ويوصون أصحابهم وأتباعهم بقبول الحق، إذا ظهر في غير قولهم.
وكان الشافعي -رحمه الله- يوصي أصحابه باتباع الحق وقبول السنة، إذا ظهر لهم على خلاف قوله، وأن يضرب بقوله حينئذ الحائط (3).
ويقول: "ما ناجزني أحد فباليت أظهرت الحجة على لسانه أو على لساني" وهذا يدل على أنه لم يكن له قصد إلا ظهور الحق ولو كان على لسان غيره ممن يخالفه.
_________
(1) زاد الداعية، مصدر سابق، ص26..
(2) الفرق بين النصيحة والتعبير، مصدر سابق، ص 18 - ص10..
(3) ابن القيم، أعلام الموقعين، القاهرة، مطابع الإسلام، 1388، ج2، ص 63..
_________
والخلاصة:
إن فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة عظيمة ذات فوائد جليلة، وهي بمثابة صِمَام أمان للمجتمع المسلم من أن يتطرق إليه الانحلال والفساد والخراب والقلاقل والمحن والفتن والاضطرابات متى تم القيام بها في ضوء الكتاب والسنة، والعكس صحيح فإن هذه الفريضة عندما تمارس بطريقة خاطئة وخلافا لما ورد في الكتاب والسنة، فإنها تكون مصدرا لتمزق المجتمع، وإثارة الفتن والخلافات والتفرق والتطاحن بين أفراد المجتمع، ومتى سادت هذه الأخلاق الذميمة في المجتمع انقلب أمنه خوفا واستقراره فوضى.
ندعو الله مخلصين أن يديم علينا في هذه البلاد نعمه التي لا تعد ولا تحصى، ومن أهمها نعمة القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ضوء كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.