أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: عفوًا.. أم المؤمنين الثلاثاء 14 يونيو 2011, 6:49 pm | |
| بسم الله الرحمن الرحيم عفوًا.. أم المؤمنين وقفت ووقفت معي فتيات كثيرات وصفرة الفاجعة تعلونا، ترجف أيدينا، تدور أعيننا فزعة في محاجرها، تتعالى صدورنا تقذف، وتتلقى أنفاسنا بصعوبة، كأنما تخرج من ثقب إبرة، لقد فقدنا أمنا! وبينما نحن على هذه الحال أطل علينا جمل يسير الهوينى عليه هودج بداخله صبية فاقت الصبايا طهراً وعفة وجمالاً وصفاءً وعلماً، يأخذ بخطام الجمل فارس نبيل تلميذ نجيب في مدرسة العفة والطهارة. الحمد لله لقد عادت أمنا سليمة، لقد سار الركب دون أن يفتقدها، ولكنها لحقت بنا وما إن توسط الركب الجمع حتى لمحه حاقد موتور يبطن كفراً ويُظهر إيمانا، له في كل حادثة أو مجلس موقف يزيد رصيده من الكفر والنفاق، ابن سلول الجالس مع أصحابه عصبة النفاق سألهم من هذه؟ إنها عائشة وهذا صفوان بن المعطل، فقال المنافق: والله ما نجت منه ولا نجا منها، امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ثم جاء يقودها! قولة خبيثة أرعبتنا نحن البنيات فتعالت أصواتنا هذا لا يجوز نستلهم معها حسبنا الله ونعم الوكيل، وسرت الشائعة كما تسري النار في الهشيم، وتعاظم إفكه ليؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم- في أهله، ماكر محتال لما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة كانت الأوس والخزرج تنظم له الخرز لتتوجه ملكاً عليها بعد الصلح الذي عقدوه على إثر حروب طويلة ودامية بين القبيلتين، إذاً لابد أن لا يترك أمراً كهذا يفوته. دخلت الصبية عائشة إلى بيتها دون أن تسمع أيًا من الهمس الذي دار حول ركبها كان جسدها الغض يقع تحت وطأة الحمى، إنها لا تشتهي الطعام والشراب ولا تملأ البيت كما كانت حركة وحبورًا، تتقلب على فراشها وكلما زادت عليها الحمى ذكرت ربها تطلب منه الشفاء وتحمده على الداء. تقول في نفسها: ما بال زوجي؟ لا أجد منه اللطف الذي كنت أعهده منه حين أشتكي! لم لا يقترب مني؟ لم لا يناديني باسمي، وأنا الحبيبة إليه المدللة عنده؟ يدخل البيت يسلم على من فيه ثم يقول: كيف تيكم؟ إن أمره يريبني حقاً، ولكني أعرفه الزوج المحب العطوف لا شر من جانبه تجاه كل من في الأرض، فكيف بي وأنا زوجه؟ وخارج تلك الغرفة البسيطة ببنائها وأثاثها، العظيمة بمن فيها وما ينزل فيها، المدينة تغلي. *** المدينة تغلي شرذمة الشر قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (النور:11). ابن سلول محدثاً نفسه: لابدَّ أن تطير هذه الشائعة في كل بيت وناد، ولكن يجب أن لا أعلن، ولابد أن لا أحدث إلا من آمن جانبه حتى لا أآخذ به، فلربما قادني محمد وأصحابه إلى عقوبة. اسمعوا أيها الملأ:لن أعلن إلا لكم، ولا تعلنوا أنتم، ولكن سيروا بالحديث همساً وخفية، هذه فرصتنا التي لن نفوتها أبداً أن نضرب محمداً في أعظم ما يُضرب به رجل شريف عرضه، فرصة نشوش بها عليه فلا يعود ذا ذهن صاف لأي شيء، هذا الأمر ليس كالانسلال من الجيش في غزوة بدر، ولا كمحاولات التآمر مع قريش وأعدائه منها ومن اليهود، إنه أبعد غوراً من ذلك بكثير، أريد أن ترجف المدينة بشراً وبيوتاً وحجارة وطرقات بالشائعة قريبًا وبعيدًا لكي تتحقق أهدافنا من محمد وأهل بيته وأصحابه فلربما غادر المدينة بعد هذه الفضيحة ونعود إلى سابق عهدنا. أرأيتم كيف غير عيشنا وكدر صفو أيامنا؟ إن في هذا الأمر ما يدفع به محمد ثمن كل تغيير أحدثه منذ أن قدم إلى يثرب التي لم يترك لنا حتى اسمها! منافق في المجلس: ولكن يا ابن سلول، إنها عائشة أمهم وزوج نبيهم وابنة أبي بكر أتعتقد أنهم يصدقوننا؟ ابن سلول: من لم يصدقنا فلن يكذبنا، فالناس بين مصدق ومكذب وعاذل ومدافع، كل ذلك لا يمنع أن الأذى لا حق بمحمد وأهله وأصحابه لا محالة. منافق آخر: وإن استشار المؤمنون عقولهم واستفتوا قلوبهم؟ ابن سلول: لا بأس حتى يستشيروا ويستفتوا، نكون قد حققنا الكثير سيروا بالشائعة، ولا تفكروا إلا في نشرها واتركوا الأحداث للأيام. كأني بشيطان ابن سلول وشياطين المنافقين تهلل فرحة بهذا المجلس المنعقد على مدار اليوم وفي كل حلقة تآمر، تفتح لهم ثغرات تغذي بها موضوع تآمرهم. وكأني بملائكة الرحمن ترصد طرقات المدينة، قائمة على مناقبها ومناكب العباد، تسجل الكلمة والحرف يتفوه به المسلم والكافر والمنافق، وتنتظر رحمة ربها فيمن بُعث رحمة للعالمين جبريل -عليه السلام- يعرف عائشة طفلة ينزل بصورتها على محمد صلى الله عليه وسلم- يخبره أن الله اختارها له زوجة في الدنيا والآخرة، يعرفها زوجة لنبيه ينزل على زوجها وهو في لحافها، يعرفها وهي ترمقه، يحدث زوجها في صورة دحية الكلبي، ويقرئها السلام فترد: وعليه السلام ورحمة الله، جزاه الله من زائر ودخيل، فنعم الصاحب ونعم الدخيل. بيت مؤمن (سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) قال تعالى: "لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ". يعود أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري -عليه السلام- مضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم- إلى بيته بعد جهد يوم طويل، ومشقة عمل أنهكته، تستقبله امرأته بما تستقبل به المرأة الصالحة زوجها التعب، يتناولان الطعام، يسأل عن أحوال البيت والأولاد، فيبادرها بالحديث مرة وتبادره أخرى، وكل منهما يدور بضميره حديث أهم وأعظم من حديث الأسرة والأولاد. أبو أيوب: أتذكرين عندما وصل الرسول صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة وخصنا الله تعالى بشرف ضيافته؟ أتذكرين عندما خيرناه بين الأسفل والأعلى فاختار الأسفل حتى لا يزعجنا زائروه الكثيرون، وعندما أهريق منا الماء في الغرفة، كيف تتبعناه بالقطيفة خوفاً من انسلاله على رسول الهدى صلى الله عليه وسلم-، ثم نزلت إليه، وقلت: يا رسول الله لا ينبغي أن نكون فوقك انتقل إلى الأعلى (الغرفة). أم أيوب: وهل ينسى جدار بيتنا هذا الشرف الذي حظينا به حتى أنسى، ليته ظل العمر كله. أبو أيوب: أتذكرين حين كنا نتتبع أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم- في الطعام الذي يرسل إليه؟ أم أيوب: لقد كانت بركة وأي بركة؟ ويدور في خلد الزوجين غير هذا الحديث ولكن كيف تكون البداية؟ ومن سيبدأ بالكلام؟ تبدأ أم أيوب: يا أبا أيوب ما تسمع ما يقول الناس في عائشة رضي الله عنها؟ قال: نعم، (وبثبات المؤمن الذي يستفتي قلبه ويحكم ضميره وبدون أن يرفع بصره وذلك الكذب): أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب؟ قالت فزعة: لا، والله ما كنت لأفعله. قال: فعائشة والله خير منكِ، إنها ابنة أبي بكر صاحب الرسول صلى الله عليه وسلم- ورفيقه في الدعوة. وإذا ما قلبنا الحوار لربما ابتدأه أبو أيوب: أم أيوب! ألا ترين ما يُقال؟ فقالت المرأة الصالحة بثبات المؤمنة: لو كنت بدل صفوان بن المعطل أكنت تظن بحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم- سوءًا؟ قال: أعوذ بالله، لا. قالت: ولو كنت أنا بدل عائشة رضي الله عنها ما خنت رسول الله صلى الله عليه وسلم-، فعائشة خير مني وصفوان خير منك. هكذا عرضت هذه الأسرة الصالحة الأمر على القلب والعقل فاستفتت الضمير، وضع الرجل نفسه مكان صفوان ابن المعطل، أيدور في ذهن من أحبوا نبيهم وعظموه حتى صمتوا في حضوره إذا تحدث، ولم يقاطعوه إلى أن ينهي حديثه ولا يقومون من مجلسه حتى يقوم، وإذا أمر تبادروا إلى تنفيذ أمره، وإذا مشى حفوا به يفدونه بأرواحهم في السلم والحرب، لا بل لقد بلغ من بعضهم أنه كان لا يطيق رفع بصره في وجهه صلى الله عليه وسلم- حتى عجز عن وصفه عندما طلب منه ذلك، أيتبادر إلى من كانوا على هذا الخلق وتلك الهيبة لنبيهم أن يخونوه في زوجه؟ ولقد وضعت المرأة الصالحة نفسها مكان عائشة، أكان ينقص عائشة إيماناً وعفة وطهارة وزوجاً مهتماً محباً جاهر بحبه يسأله أحد أصحابه من أحب الناس إليك؟ فيقول عائشة، حتى تخونه، فإن قيل من الرجال.قال: أبوها. إن المرأة العربية الحرة أنفت الزنا وهي مشركة فكيف بمؤمنة مثل أم أيوب؟ بل كيف بمؤمنة طاهرة مطهرة يختارها سبحانه وتعالى زوجاً لنبيه؟ أيختار تعالى من يعلم في فطرتها خيانة ووضاعة زوجاً لنبيه وأحب عباده إليه؟! إن العاقل خصيم نفسه ينهاها عن الإقدام والإحجام في تناول كل الأمور فكيف إذا اجتمع العقل بالإيمان؟ إن المشاكلة الزوجية بين أبي أيوب وزوجه جعلت كل منهما ينكر قيامه بهذا الفعل القبيح، فكيف بما بين رسول الله وعائشة رضي الله عنها من مشاكلة؟ وهو عند الله عظيم وقال تعالى إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) (النور:15). بلبلة حديث، همس على استحياء، جرأة واستخفاف، ضغائن وأحقاد من فقد عقله من المسلمين حتى تحدث بلا حرج، واستقبل باستهتار، لسان يتلقى عن لسان، واللسان زمام للمرء يحتاج إلى ألف زمام. والرجل يلقي أخاه فيقول ما وراءك؟ فيحدثه حديث الإفك حتى لم يبق بيت ولا ناد إلا طار فيه. حمنة بنت جحش أخت زينب بنت جحش رضي الله عنها زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- تسامي عائشة جمالاً ونسباً، وتغار منها غيرة الضرة من ضرتها التي حازت قلب الزوج بالكلية، ومع ذلك تعصم لسانها عن الحديث فتقول: ما علمتْ على ضرتها إلا خيراً، وما كان لأمهات المؤمنين إلا أن يكن كذلك، ولكن حمنة تقول: فرصة عظيمة نضرب فيها عائشة، على أختي أن تتخلص من هذه المنافسة فتعتلي عرش قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم-، ابن خالنا وزواجه أمر إلهي لإبطال ما اعتاده العرب في الجاهلية في شأن ابن التبني وتحريم زوجه على من تبناه، ولكن عائشة عقبة، حب رسول الله صلى الله عليه وسلم- لها عقبة، تفضيله لها قلبياً نسائه عقبة، حتى من يريد أن يُهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- يتحرى ليلتها ويومها ليهدي إليه، أي عقبة عائشة هذه؟ تكلمه زوجاته في ذلك فيرد صلى الله عليه وسلم: "لا تؤذوني في عائشة، ما نزل جبريل عليّ وأنا في لحاف امرأة إلا عائشة" عائشة، عائشة، متى يتم التخلص منها؟ سأسير بالحديث خائضة فيه بكل ما أوتيت من قوة علها تكون القاضية على عائشة. إن الغيرة تعمي البصر، وتحجب البصيرة، تقتل موتاً، وتقتل حياة، تقتل من توجه إليه سهام الانتقام والتدمير بدوافع الغيرة تدبيراً أو مكراً، تقتل صاحبها معاناة، وتُشغل ليلة ونهاره تدبيراً لمن يغار منه ويكره.هذه حمنة بنت جحش ودوافعها. فما بال حسان بن ثابت؟ صحابي يذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- بشعره، فيهجو قريشًا بكلام أشد عليهم من وقع النيل، يشجعه الرسول صلى الله عليه وسلم- وينصب له منبرًا في المسجد: «اهجهم وروح القدس معك» إنه يعرف لرسول الله صلى الله عليه وسلم- ولبيته قدره، ومسطح بن أثاثة قريب لأبي بكر مهاجر فقير يغمره فضله وإحسانه ويعرف أي البيوت بيته. إنها البشرية تسري عليهم بقوانينها، فيخوضون فيما يخوض فيه الناس، ويخطئون كما يخطئون. بل هو التدبير الإلهي لمن وسع سمعه وبصره كل شيء، حتى إذا فصل سبحانه في المسألة، كانت التربية الربانية لكل النفوس؛ لأن أمراً كهذا لن يقتصر على عهد النبوة والأصحاب، ولا على عائشة والخيّرات من النساء، وإنما سيتكرر وستعاني منه الكثير من الأسر في كل الأزمان والمجتمعات؛ لذا فإن التربية الربانية لابد وأن تشمل كل شرائح المجتمع حين يكون التشريع الإلهي ممن تنهاهم عقولهم وضمائرهم وممن لا ينطبق عليهم هذا الأمر. قال تعالى: "لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ * لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ * وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ" (النور:12-19). إن لأعراض الناس حرمة كما لعرض نبيكم، وإن كان أعظم حرمة، فإياكم إياكم، وهذا عقاب من يقذف مؤمنًا ومؤمنة،كيف يمكن أن يقرر حد في منهج الإسلام غير قابل للتغيير، يتبعه المسلمون في كل العصور - إذا لم تحدث واقعة، ويدور جدل، وتتباين ردود الأفعال، فيكون حكم من الله تعالى فيصلاً لكل شيء؟ الوحشة محمد الإنسان، يعاني النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، يعاني الرجل في محمد، يعاني اتهام زوجه الصغيرة المحبة التي تفتحت عيناها وهي في حجر النبوة، يدرك أن زوجتة بريئة، ولكن أيدرك جميع الناس ذلك؟ لئن جمع للناس كل قرائن براءتها وصدقه المؤمنون الثابتون فما تعليق شرذمة الشر؟ كل ما حوله يعتصر قلبه الإنساني، الزوجة الصغيرة المريضة التي لا تعلم مما يدور حولها شيئًا، صديقه وصفيه ومؤازره في دعوته، يتعذب مما يقال في ابنته، ولا يملك أن يدفع عنه شيئًا، الرجل فيه يتألم، خياله الذي لا يصور له عائشة إلا صبية صغيرة يدخل عليها وهي تلعب بالبنات، وبينهن فرس له جناحان فيسألها ما هذا ياعائشة؟ فتقول خيل سليمان ولها أجنحة، فيضحك من بساطتها وعلمها، يسرب لها صويحباتها ليلعبن معها بعد ما يدخل البيت، فيستحيين منه ويختبئن، أليست هي من سترتها بردائي على باب حجرتها لتنظر للحبشة يلعبون حتى تسأم، ويقول: -صلى الله عليه وسلم- «أقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو»؟ أليست عائشة هذه التي يسابقها فتسبقه مرة ويسبقها أخرى. وذكرى الرؤيا التي رآها ثلاثاً، يأتي جبريل -صلى الله عليه وسلم- بصورتها في خرقة حرير ويقول: هذه زوجتك في الدنيا والآخرة، فيستيقظ -صلى الله عليه وسلم-، ويقول: «إن يك هذا من عند الله يمضه». صراع طويل بين الذكريات العذبة مع عائشة وطفولتها وبساطتها، وحب عائشة الذي تملك قلبه كما تملك حبه قلبها، تصفو مع هذا كله الروح، وينسل القلب من وجعه حتى تهاجمه وساوس وشكوك وإفك المتآمرين وكلماتهم: (امرأة نبيكم باتت مع رجل، ثم جاء يقودها في الصبح) ضربات موجعة لرجل شريف ونبي معصوم، عصم الله بيته وأهله من الخنا، فيتضخم الألم ليعتصر فؤاده العظيم الذي طالما كان تقياً مدافعاً عن حرمات المسلمين لا يغضب إلا لها، وهاهي ذا حرمته توجه إليها سهام أعداء الدين والأمة، أعداء الطهر والشرف لتلتذ عقولهم السقيمة بنشر حديث الفاحشة، وتنتشي قلوبهم المريضة بضرب أعظم بيت زوج وزوجة. ""قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا"" وفي هذه المرة يتقلب -صلى الله عليه وسلم- في فراشه لا يطمئن له جنب، وتتقلب عيناه الشريفتان في السماء، يسأل الله الدليل الحاسم لتبرئة من لم يشك لحظة في براءتها. لقد أثقلته ذكرياته، وأوجعته فرية الإفك فمن يحدث أباها صديقه؟ ماذا يمكن أن يقول صاحب لصاحبه تحابا وأْتلفا قبل البعثة وبعدها؟ ماذا يمكن أن يقول رفيق لرفيقة تآزرا في أصعب المواقف وأشدها؟ ألم يصدقه في كل شيء؟ أمَا كان أبو بكر مسافراً حين حادثة الإسراء والمعراج؟! وما إن دخل مكة حتى تلقاه أبو جهل مبتدراً: أسمعت ما يقول صاحبك؟ نضرب لبيت المقدس أكباد الإبل شهراً كاملاً، ويُسري بصاحبك ويعود منها في ليلة واحدة، أبعد هذا كذب وادعاء؟ فيرد الصديق: «والله إني لأصدقه في أبعد من ذلك، في خبر السماء يأتيه، فكيف لا أصدق إسراءه إلى بيت المقدس»؟! ألم يدفع أبو بكر ماله كله في سبيل الدعوة محرراً لمن ألهبت ظهورهم أسياط أسيادهم؟!. أما افتقر حتى خلل عباءته بخلال، وهو التاجر القرشي الغني أسرة كاملة تتجند في سبيل الدعوة وتصطف، تتقاسم الأدوار للهجرة، ابنته (أسماء) تأتي بالطعام للمختبئين في الغار، وتتلقى لطمة من أبي جهل كادت أن تنزع معها رقبتها فلا تجيب عن استفساره؟! وتشق نطاقها لتحزم أمتعة الشريدين؟! وابن يأتي بالأخبار من مكة إليهما، وراع يتتبع بغنمه آثار الابن والابنة؛ لتختفي مع آثار الأغنام آثارهما، وعائشة طفلة عقد عليها لم يكن لها دور ولا تعهد والديها إلا وهما على الإسلام، بل على الدفع عن الإسلام. وفي الغار، ألم يدخل أبو بكر قبله يسويه ويمهده ويكتشف مكامن الخطر فيه؟ ثم يقطع من ردائه ليلقم ثغراته مخافة الهوام، ولما لم يستطع أن يشق أكثر، وبقيت فتحة قرر أن يسدها بقدمه ليضع الرسول -صلى الله عليه وسلم- رأسه الشريف على حجر أبي بكر وينام، فتلدغ أبو بكر أفعى تدمع عينه لحر سمها ولكنه لا يهتز حرصاً على راحة نبيه وصاحبه، فتقوم الدمعة مكان المخبر عن حال الرجل لتسقط على وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فيستيقظ ويسأل، ثم ينفث فيبرأ. وفي طريق الهجرة، أما تقدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومشى عن يمينه ويساره، وأمامه مرة، وخلفه أخرى يقول: إن أهلك فإنما أنا رجل، وإن تهلك يا رسول الله تهلك أمة، يمهد له حين يقرر الراحة فيترك له الظل ويأخذ مكانه في الشمس؟! نعم الصاحب يا أبا بكر واسيتني بمالك وأهلك ونفسك فما لأحد عندنا يد إلا كافئناه خلا أبا بكر ماذا يمكن أن أقول لك؟ أستشيرك في أمور السلم والحرب، فكيف أستشيرك في أمر ابنتك التي كانت فرحتك عظيمة يوم أن خطبتها منك، وكنت نعم الحكم بيني وبينها حين نختلف كما يختلف أي زوجين فتقف إلى جانبي مؤنباً ومؤدباً لا تؤذي رسول الله. لقد فقدتك لأول مرة في مسيرة حياتنا لن ألجأ إليك اليوم طالباً الرأي والمشورة فيما يوجعك أكثر مما يوجعني. يبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى حبه أسامه بن زيد، وابن عمه وسنده علي بن أبي طالب رضي الله عنهما يستشيرهما في خاصة خاصة أمره، فما رد الرجلين؟ أسامة يدرك ما بقلب رسول الله من ألم، وأي ألم يدرك حبه العظيم لزوجه الحبيبة وعلمه الأكيد ببراءتها وطهرها فيقول: يا رسول الله هم أهلك ولا نعلم إلا خيراً. أما علي فموقفه جد حرج إنه عصبة محمد والرجولة الحقة تقضي بتر الوهم من أساسه، حتى وإن كنا نعلم بالبراءة، فالرجولة تقول: لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير. ولكن يا علي أما قدرت للفراق؟ إن كان الألم والقلق يعتصر قلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو يعلم ببراءة أهله، فما بالك بألم وقلق وفراق من يحب، وهو متيقن ببراءة من يحب؟ كيف يجتمع على رسول الله هذا كله؟ ألم وقلق وفراق، وهو الإنسان العطوف، محنة وأي محنة؟ إذن لنسأل الجارية، فالخادمة ترى سيدتها في كل أحوالها، وهي أول من يكتشف ما يريب، بريرة الجارية، هذا رأي حصيف، سل الجارية يا رسول الله. بريرة ، هل رأيت شيئاً يريبك من عائشة؟ قالت: والذي بعثك بالحق، ما رأيت عليها أمراً أغمطه عليها، أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن وتأكله. ويوسع رسول الله صلى الله عليه وسلم- دائرة السؤال فيسأل ضرائرها، والضرة تكره وتبغض أو لنقل تتمنى إبعاد ضرتها عن طريقها إن وجدت لذلك سبيلاً، وعائشة ذات مكانة عند الزوج كبيرة، فرصة تنتهزها الضرائر ليخلو لهم وجه الزوج العظيم، ولكن الورع يعصم من الزلل فيشهد الجميع ما علمنا عليها غير الخير والصلاح. يستمد صلى الله عليه وسلم- من هذه الشهادات القوة والعزم ليواجه القوم في المسجد « فمن يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي، وما علمت على أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً، وما كان يدخل على أهلي إلا معي». ولأن ابن سلول من الخزرج، وأراد أنصاري أوسي قتله نفث الشيطان في نفوس الخزرج حمية، إذ كيف يقتل أوسي خزرجياًّ حتى وإن كان منافقًا، ويتثاور الحيان حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم- قائم على المنبر، فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا، يقتل مسلم بمنافق لأن عصبية قبيلة استيقظت! لقد أيقظ الشيطان عصبية القبيلة، لم وقد أماتها الإسلام؟ لأن حرمة نبي الإسلام قد انتهكت وعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم- قد تطاول عليه من تطاول؟ إن الجو الإيماني في المدينة ينذر بكارثة ويدل على ارتداد كارثة الفوضى تنذر كل مسلمات الأمة، حرمة نبيهم، حمية قبائلهم، أخوتهم الإيمانية براءتهم من النفاق والمنافقين، وهم أهل الصلاح والإيمان. ونسأل ولابد أن نسأل في المسجد، وحيث قام الرسول -صلى الله عليه وسلم- خطيباً، وتثاور الحيان من الأوس والخزرج، ما حال بقية المجتمعين؟ وأريد هنا المهاجرين لأن شرذمة الشر التي طارد بالشائعة فئة المنافقين، والمنافقون لم يكونوا يوماً من المهاجرين الذين خلفوا وراءهم كل شيء فارين بالعقيدة مكتنزين الإيمان، كأني بمن في المسجد بعد اشتعال حمية الأوس والخزرج قد ألجمه الحدث عن الحرف، وقيد هول الأمر العقول قبل أن يكمم الأفواه، كأن عيونهم تدور يطحنها الرعب والألم فتتمسك بالرجاء، تتعلق بملامح رسول الله، تتشبث بخلجات نفسه، تنزع فارة لائذة بنبضات قلبه الثابتة بالإيمان، لكأني بهم ترتفع أبصارهم إلى السماء: ربنا أنقذ الأمة ونبيها وقداستها مما أحيك بها. ابن سلول لأصحابه: ألم أقل لكم أن لا تلتفتوا إلى مصدق ومكذب فإن الأمر لا يخلو من ارتداد وتردد، أما التردد فهو تردد العقول والقلوب في التصديق والتكذيب، وأما الارتداد فهذا أول بوادره : أوسي يريد قتلي، وخزرجي يمنعه، والعود على سابق العهد لم يعد بيننا وبينه إلا خطوات، إن لم تكن خطوة، فسعروا نار الشائعة؛ لتستعر نار العصبية التي ربما ارتدت من الأنصار على المهاجرين، وطرد الفريق الأول الثاني، وعادوا من حيث أتوا بنبيهم وفضيحته، وكأني أرى قريشاً ترفض استقبالهم فيقضي عليهم بالتيه والتبدد في بقاع الأرض، وتخلص لنا يثرب كما كانت وكنا. * * *
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الأحد 11 أبريل 2021, 11:36 pm عدل 1 مرات |
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: عفوًا.. أم المؤمنين الثلاثاء 14 يونيو 2011, 7:03 pm | |
| صبر جميل والله المستعان غفت عينا عائشة في تلك الليلة وأيقظها صوت المؤذن: حي على الصلاة، حي على الفلاح، تتلمس عائشة جسدها، فترى أن الحمى قد انخفضت، رفعت الغطاء عنها واستوت قاعدة، لم تعد تشعر بذاك الثقل في رأسها، وقفت وكأنما مع وقفتها تلك انسلت الحمى من جسدها انسلالاً، لم يعد هناك دوار يثقلها عن الحركة والوقوف كما كانت في الأيام السابقة. أشعر اليوم أني أفضل بكثير، سبحانك ربي لك الحمد على ما أوليتنا من نعم. عادت عائشة تمارس مهامها في بيتها وتتحرك بنشاط وحيوية، ثم قررت أن تخرج ليلاً لقضاء حاجتها مع ابنة خالة أبيها أم مسطح بن أثاثة، وفي طريق العودة عثرت أم مسطح في مرطها، فقالت: تعس مسطح، فتعجبت عائشة: بئسما قلت؟ أتسبين رجلاً شهد بدراً؟ وهل بعد هذا عملاً يقدم في تاريخ المرء من منظورها بل من منظور زوجها ونبيها الذي مكن لهذا كله من نفسها. قالت أم مسطح: ألم تسمعي ما قال؟ ما قال؟ فأخبرتها بحديث الإفك، لقد دارت المدينة بفضائها برأس عائشة، أنا؟! حسبنا الله ونعم الوكيل، وعاودها المرض، ما الجسد إلا صورة للنفس ومرآة الروح تنعكس عليه أفراحها وأوجاعها، إن كان صحيحاً فكيف بجسد لم يبرأ بعد؟ لقد داهمها المرض مرة أخرى ولكنه في المرة الأولى كان المرض الذي تتقلب معه على فراشها وقد استوطن أعضاءها، واليوم يتقلب هو فيها مستوطناً أضلاعها وما تحويه هذه الأضلاع قلبها الصغير البريء الذي ما عرف من الرجال إلا أباً وأخوة صالحين وزوجاً نبياً أحبها بعمق، فتفتحت أنوثتها على حبه واللهو معه، والغيرة عليه، واغتراف العلم منه. خذوا شطر دينكم عن هذه الحميراء، اغترفوا مما تغترف من نبيكم ليلاً ونهاراً في لقائه بجبريل -صلى الله عليه وسلم- وعرض الرجال والنساء من المسلمين قضاياهم عليه واستفتاءهم، وهي تسمع وترى لتكون للعالمين من بعده -صلى الله عليه وسلم- ركناً وطيداً، تُشد إليه الرحال، ويلجأ إليه المستفسرون في أدق الأمور وأجلها. خذوا شطر دينكم عن هذه الحميراء، حتى في توجيهه -صلى الله عليه وسلم- كان مشيداً بجمالها وحمرتها ورقة بشرتها، وتتساءل مَنَ مِنْ الممكن أن يأخذ ديناً ممن اتهمت في عرضها؟ ألم أكن العب على أرجوحة وأنا بنت تسع وجاءني النسوة فهيأنني وصنعنني وأتين بي إليه؟ فأنزل الله على من وقتها حياء منه، ومن ذلك اليوم عرفته زوجاً، ولم أعرف سواه، فكيف أخون؟ ما الذي ينقص عائشة في علاقتها بزوجها حتى تخون؟ لقد عادت إلى بيتها ودخل عليها الزوج المحب المهموم فنظرت إليه تستلهم من تعابيره موقفه وما الذي يمكن أن يقتل إحساس امرأة أعظم من شك تراه وتشعر به ممن تحب في عفتها؟ بادرته أتأذن لي أن آتي أبويَ؟ قال: نعم. تخرج عائشة من بيتها، ولا تعلم أتعود له أم لا، وما أشد ذلك على المرأة ! إن بيت الزوجية يُنسج بخيالها أولاً، ثم تنسجه عروقها وأنفاسها، أترك خلفي بيتًا عظيمًا في حبي وإحساسي به، بيتي العظيم بحب زوجي ولهفته عليّ، بيتي العظيم بمن يسكن فيه وما ينزل عليه وما يتدبر بين جنباته آناء الليل وأطراف النهار. آه يا بيتي، كأنما أقاد منك بخيول قوية وفرسان أشداء ينزعونني منك، وقدماي قد رسختا حتى وصلت أطرافهما على الأرض الأولى من الأسفل أو هي السابعة من الأعلى، ينزعونني منك وتنزع روحي وأنفاسي من كل شريان خلقه الله في، مع كل ذرة تراب في حجرتي أفارقها تموت الذرة وتموت معها كل خلية فيَّ جسدي، ومفتاح حجرتي يئن في يدي أنا لم أقفلها لأنها لم تعد ملكاً لي، ولكني احتفظت بالمفتاح أملاً في أن أعود، وربما ليرافقني حياتي عندما لا أعود، يئن مفتاحي في يدي وأسمع أنينه ويسأل أين نحن ذاهبان؟ ولم نحن مفارقان؟ أنعود يا عائشة أنعود؟ تلتفت عائشة تجول بنظرها في أركان غرفتها، وتقول: هنا صليت وهنا صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفي هذا الركن أكلنا طعامنا وفيه تحدثنا وضحكنا، عاتبته تقتلني الغيرة من زوجاته، وداعبني يمتص غضبي، هنا نمنا وتقلبنا على فراشنا، وافتقدته ليلة وظننت أنه ذاهب إلى إحداهن وتبعته لأجده يذهب إلى البقيع يستغفر لأهله، وعدت أسبقه وخيالي يسبقني وهو -صلى الله عليه وسلم- يراني، وادعيت النوم في فراشي، فاكتشف -صلى الله عليه وسلم- برده، ومعها عرف بظنوني، وسامحني وهو العادل الذي لا يظلم، هنا نظفت ثوبه وهيأت مشطه ومهدت فراشه، وهنا دخلت علينا خوله بنت ثعلبة تستفتيه في أمر مظاهرة زوجها لها. آه يا ذكرياتي لأبد أن تئني وأئن ويئن معي مفتاحي. أي أماه ماذا يتحدث الناس به؟ أي بنية هوني عليك فوالله لقلما كانت امرأة وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها. سبحان الله وقد تحدث الناس بهذا وبلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ نعم. ما الذي حدث يا عائشة؟ أنا أمك وأعلم الناس بك ولكن قصي عليّ ما حدث؟ خرجت مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- في هذه الغزوة لأن سهمك خرج عندما أقرع بينكن كالمعتاد لم عاد الركب وتأخرت وجئت يقود جملك صفوان؟ يا أماه لما فرغ الرسول -صلى الله عليه وسلم- من غزوته تلك – بني المصطلق، المريسيع- وقفل دنونا من المدينة، آذن ليلة بالرحيل، فقمت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت من شأني، أقبلت إلى الرحل فلمست صدري فإذا عقد لي من أظفار قد انقطع، فرجعت ألتمسه، فحبسني ابتغاؤه، فحمل الرهط هودجي، فرحلوه على بعيري وهم يحسبون أني فيه، وأنا جارية حديثة السن خفيفة اللحم،فلم يستنكروا خفة الهودج، فبعثوا الجمل وساروا، فلما أن وجدت عقدي جئت منزلهم وليس فيه أحد منهم، فتيممت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أنهم سيفقدونني ويرجعون إلى، فبينما أنا جالسة غلبتني عيناي فنمت، ومن عادة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يخلف خلف الجيش من يتفقد مكانه الذي نزل به فكان صفوان بن المعطل، فلما أصبح عند منزلي ورأى سواد إنسان نائم، فعرفني حين رآني وكان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت على استرجاعه، فخمرت وجهي بجلبابي، والله يا أماه ما يكلمني بكلمة، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه: "إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ"، وهوى حتى أناخ راحلته فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش. هذا ما توقعته يا بنيتي وسيجعل الله لك من العسر يسراً. باتت عائشة ليلتها باكية لا يرقأ لها دمع ولا تكتحل بنوم حتى أصبحت فدخل عليها أبوها فسأل أمها عن بكائها. قالت: لم تكن علمت ما قيل عنها، فأكب يبكي. ويقول: والله ما رمُينا بهذا في جاهلية أفنرضى به في الإسلام؟ يا لها من كلمة إن نَمتَ على شيء فإنما تنم عن عميق ألم وشدة حسرة تحمل من المرارة الكثير الكثير. ظلت عائشة تبكي يومها وليلتها الأخرى، وأبواها المفجوعان لا حول لهما ولا قوة والتفتت الأم: (أم رومان): أخشى يا أبا بكر إن البكاء فالق كبد ابنتي . فتجاوبها دموعه: إن لم تبك على هذا فعلى أي أمر تبكي؟ كانت دموع الأم تتجاوب ودموع الابنة، فتستنفر دموعهما دموع الأب الشيخ الجليل المصاب في صاحبه ونبيه وصفيه وابنته وشرفه، رحمك الله يا أبا بكر قيل له في الجاهلية: لم لا تشرب الخمر؟ قال: أأصبح حكيم العرب وأمسي سفيهها؟ أيصبح ساعد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وذراعه اليمنى يذب عن الدعوة ويبارك زواج صاحبه بابنته ويمسى وقد أثقلت صاحبه إشاعة مغرضة في ابنته؟ ماذا تحمل يا أبا بكر من هموم: هم الصاحب المعصور قلبه على زوجه، أم هم الابنة المفارقة لبيتها المطعونة في شرفها؟ لقد عاد بذاكرته إلى اليوم الذي زارتهم فيه خولة بنت حكيم تقول لأم رومان: ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة؟ قالت: ماذا؟ قالت: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يذكر عائشة قالت: انتظري فإن أبا بكر آت فلما بلغني ذلك قلت: أَو تصلح له وهي ابنة أخيه، فرد -صلى الله عليه وسلم- أنا أخوه وهو أخي وابنته تصلح لي، برأس أبي بكر أمور تدور إن المطعم بن عدي ذكرها لابنه، كيف يخلف وعداً قطعه له؟ وكيف يرفض لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمراً باركهم الله به؟ أبو بكر: يا مطعم ما تقول في أمر هذه الجارية؟ فأقبل على امرأته ما تقولين؟ فأقبلت المرأة على أبي بكر تقول: لعلنا إن أنكحنا هذا الفتى إليك تدخله في دينك؟ وأكد الزوج على كلام زوجه، فتنفس أبو بكر الصعداء الحمد لله الذي أحلني من الوعد قولي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فليأت فجاء، فعقدت له عليها وهي ابنة ست، وبنى بها وهي ابنة تسع. هاهو أبو بكر يستعد للمواجهة ترى لو كان أبًا لابنة زوجها من عامة الناس، وهو من عامتهم ما موقفه؟ هند بنت عتبة حين اتهمها زوجها الفاكه بن المغيرة برجل رآه يخرج من بيته الذي كان قد أعده مضيفة لضيوفه، ودخل البيت فوجدها نائمة، وعندما اشتكت زوجها لأبيها وأقسمت على براءتها، تحاكم الوالد والزوج والزوجة إلى عراف في اليمن، فهل يتحاكم أبو بكر ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعراف؟ إنهم لم يفعلوا ذلك في جاهلية فهل يفعلونه في إسلام وتوحيد؟ وماذا بعد؟ ماذا أقول لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكيف أواجهه؟ وأنا أب منكوب في ابنة طاهرة، وصهر عظيم وصاحب قريب. وتبدأ الجلسة الأسرية النبوية ويبدأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الكلام حامداً لله تعالى.. أما بعد. فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فيسبرئك الله تعالى، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله تعالى وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه. إذاً رسول الله يشك فيّ، أو أنه لم يستيقن، ولم يقض بتهمة ولا ببراءة، ولم يخبره ربه بعد، وتلتفت عائشة إلى أبيها، ومن للمرأة إلا أبوها تستلهم منه دائماً النصرة والتأييد؟ أجب عني رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. أبو بكر: والله لا أدري ما أقول لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتنفجر عائشة بالبكاء وتهون عليها أمها. وتعيد قولتها: والله يا بنية لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها، ولها ضرائر إلا أكثرن عليها هوني عليك يا ابنتي. من لعائشة في هذه اللحظات بالتماسك؟ من أين تأتي بالقوة التي تجعلها تتماسك؟ أجيبي أنت يا أماه. وتردد نفس الجملة: والله ما أدري ما أقول لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-. غصت عائشة بدموعها، وضاق صدرها، تتلعثم وتهرب منها الكلمات، وتنسى ما حفظت من كتاب الله. فترفع عينيها إلى السماء تطلب مدداً: «والله لئن حلفت لا تصدقوني ولئن قلت لا تعذروني ولن أقول إلا كما قال أبو يوسف: صبر جميل والله المستعان على ما تصفون». لقد نسيت اسم يعقوب -صلى الله عليه وسلم- وحق عليها أن تنسى، ويزداد مرضها شدة، فتتحول على جنبها وتردد: عسى أن يرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رؤيا تبرئني مما اتهمت به. الــــــــــــــــــــــــــــــــــــــبراءة تدافعنا نحن الفتيات صوب مجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واجتماعه بعائشة وأبويها، لتتخذ كل منا مكانها، تتزاحم أكتافنا، وتسبقنا عقولنا، وتهفو قلوبنا، وقفنا حلقات وحلقات غير منتظمة نمثل جميع العصور، عصر الحادثة وما تلاها، نتلفت ونلتف لنستوعب بنظراتنا بعضنا البعض علنا أن نستوعب هول الموقف، وصحنا بصوت واحد: إن أمنا بريئة يا رسول الله، ونعلم أنك تعلم ببراءتها، لا تحزن يا رسول الله، لا تخافي يا أمنا إن الله معك ومعنا. لقد وصلت الشدة إلى ذروتها، الأمل يدافع اليأس، والضراء تستمهل السراء، كأنما تريد للجميع تمحيصاً أكثر وأكثر، واليسر مضاعفاً يغلب العسر يريد القضاء عليه، والعسر يتشبث بالحياة يغالب الموت، واليسر هازمه بإذن الله تعالى، وفي حمأة ذلك كله تذاكرنا نحن البنيات مناقب أمنا. أمنا بنت الإمام الصديق الأكبر، صاحب الصاحب في الغار، هاجر الشرك وعبادة الأصنام قبل البعثة، المهاجر مع نبي الرحمة، الممهد للدعوة، الباذل للنفس والأهل والمال والولد في سبيلها. أمنا التي ما عهدت والديها إلا وهما على الإسلام، لقد ولدت بعد البعثة بخمس سنوات، واختارها ربها طاهرة مطهرة لتكون زوجة نبيه -صلى الله عليه وسلم- في الدنيا والآخرة، عقد عليها قبل الهجرة ببضعة عشر شهراً وهي في السادسة، وبني بها في التاسعة، لثنتين خلتا من الهجرة، فقضت طفولتها وصباها في بيت إيمان، وتأدبت بأدب النبوة، لم يتزوج -صلى الله عليه وسلم- بكراً غيرها، ولا أحب امرأة حبها، حمد لله تعالى وقال: الحمد لله الذي رزقني حب عائشة، ولا أعلم في أمة محمد ولا في النساء علمها. وتساءلت إحدانا: ترى كم ستعيش أمنا من العمر وكم ستروي من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قلنا نحن المتأخرات: يبلغ سندها ألفين ومائتين وعشرة أحاديث روت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعن أبيها وعن عمر وفاطمة -رضي الله عنهم- وروى عنها الكثير، كان مسروق وهو من كبار المحدثين التابعين إذا حدث عن عائشة قال: حدثتني الصديقة بنت الصديق، حبيبة حبيب الله، المبرأة من فوق سبع سماوات، توفيت في الليلة السابعة عشر من رمضان بعد الوتر، لسنة سبع وخمسين للهجرة صلى عليها أبو هريرة -رضي الله عنه، وأمرت أن تدفن من ليلتها. اجتمع الأنصار وحضروا فلم ترى ليلة أكثر ناساً، منها نزل أهل العوالي يشيعون زوج نبيهم -صلى الله عليه وسلم- وحبيبته، لقد قدمت على فرط صدق، رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر. لقد سمعت أمي تقول: إن أبوي عائشة سألا الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يدعو لها بدعوة يسمعانها فقال -صلى الله عليه وسلم-: «اللهم اغفر لعائشة بنت أبي بكر مغفرة واجبة ظاهرة باطنة» فعجب أبواها، فقال -صلى الله عليه وسلم-:«أتعجبان؟! هذه دعوتي لمن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمد -صلى الله عليه وسلم- رسول الله». أبي يقول: إنها والرسول -صلى الله عليه وسلم- كانا يختلفان كأي زوجين، وأن عائشة ما كانت تهجر منه -صلى الله عليه وسلم- إلا اسمه، لئن كانت راضية قالت: لا ورب محمد، وإن غضبت قالت: لا ورب إبراهيم . ذات مرة رفعت صوتها على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وسمعها أبو بكر وهو مستأذن في الدخول عليهما، فعنفها وكاد يضربها حتى حال الرسول -صلى الله عليه وسلم- بينه وبينها، ثم خرج أبو بكر فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يترضاها، ويقول ألم تريني حلت بين الرجل وبينك ؟ ثم أستأذن أبو بكر مرة أخرى وسمع تضاحكهما، فقال أشركاني في سلمكما كما أشركتماني في حربكما. ومن بين الفتيات سألت إحداهن: ألم تكن أمنا تغار من أزواج الرسول -صلى الله عليه وسلم-؟ بلى ولكنها كانت تقول والله ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة من كثرة ما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يذكرها، قالت السائلة تغار من امرأة عجوز توفيت قبل أن تتزوج من الرسول -صلى الله عليه وسلم- بمدة؟ نعم. ومن ألطاف الله أن حماها من شدة الغيرة من عدة نسوة يشاركنها في النبي -صلى الله عليه وسلم- لئلا يتكدر عيشها، ولعل ذلك مما علمت من حب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لها وميله إليها، ومع ذلك فقد كسرت إناء ضرتها الذي بعثت فيه طعاماً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو عندها، يا لحب أمنا لزوجها تغار من زوجة ميتة! ويا لوفاء نبينا -صلى الله عليه وسلم-! لا يفتأ يذكر ميتة ويبر كل من له صلة بها. أذكر فيما حدثنا أن عائشة رضي الله عنها استعارت قلادة في سفر مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فانسلت منها، فذكر ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فطلبوها فأقام، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء فقال الناس لأبيها: ما ترى ما صنعت عائشة أقامت برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء فعاتبها أبوها فنام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أصبح على غير ماء فأنزل الله آية التيمم فتيمموا فقال أسيد بن حضير أحد النقباء: ما هذا بأول بركتكم يا آل أبي بكر، هذه رخصة للمسلمين، عندها قال لها أبوها: والله ما علمت يا بنية إنك لمباركة، ما جعل الله للمسلمين في حبسك إياهم من البركة واليسر. دار الحديث بين البنيات فقالت ممن تُنسب إلى عصر عمر: إن عمر -رضي الله عنه- لما كتب العطاء فرض لأمهات المؤمنين عشرة آلاف، وزاد عائشة ألفين، وقال إنها حبيبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. ماذا كانت تصنع بهذا العطاء؟ توزعه على المحتاجين، بلغنا في خلافته أنه بعث إليها مرة بمائة ألف، فوالله ما أمست حتى فرقتها، فقالت لها مولاتها: لو اشتريت لنا بدرهم لحماً، فقالت: ألا قلت لي لقد نسيت. نسيت أمنا إفطارها وهي صائمة من مائة ألف، ولم تنس بيوت المسلمين وحين بعث إليها مرة أخرى بقلادة بمائة ألف قسمتها بين أمهات المؤمنين، إنها بارة بضرائرها، تكرم زوجها فيهن بعد وفاته، لقد كانت تصدق بمئات الألوف، وإنها لترقع جانب درعها. أمي تقول: إن بكرة بنت عقبة حدثتها أنها دخلت على عائشة فحدثتها عن الحناء قالت: شجرة طيبة وماء طهور، وسألتها عن الحفاف (إزالة الشعر من الوجه)، قالت: إن كان لك زوج فاستطعت أن تنزعي مقلتيك فتصنعيهما أحسن مما هما فافعلي. إ نها أم بحق توجه بناتها إلى كل ما يحفظ عليهن استقرار حياتهن وسعادتهن. يقول لها هشام بن عروة بن الزبير: يا أمتاه لا أعجب من فقهك، فما رأيت أحد قط أعلم بآية أنزلت ولا بفريضة ولا بسنة ولا بقضاء منك، أقول زوجة نبي الله، وابنة أبي بكر، ولا أعجب من علمك بالشعر وأيام الناس، أقول ابنة أبي بكر وكان أعلم الناس، ولكن أعجب من علمك بالطب كيف هو؟ من أين علمته؟ فقالت: كنت أمرض فينعت لي الشيء، ويمرض المريض فينعت له، وأسمع الناس ينعت بعضهم لبعض فأحفظه. وكان معاوية -رضي الله عنه- بعد أن يحدثها يقول: والله ما سمعت قط أبلغ من عائشة ليس رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وكان الأحنف يقول: سمعت خطبة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والخلفاء بعدهم، فما سمعت الكلام من فم مخلوق أفخم ولا أحسن منه من في عائشة رضي الله عنها. أما عطاء بن رباح فقال: (كانت عائشة أفقه الناس وأحسن الناس رأياً في العامة). أريد أن أسأل ولكني أخشى عاقبة السؤال فقد يكون فيه جرأة ولكني لا أفهم لم اشتركت أمنا في معركة الجمل؟ كانت متأولة قاصدة خيراً كما كان كل الصحابة رضوان الله عليهم، اشتركت ليصطلح الناس إذا ما رأوا أمهم بين أظهرهم. ألا أخبركم عن آخر لحظات حياتها مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- تقول أمنا: توفي الرسول -صلى الله عليه وسلم- في بيتي، وفي يومي وليلتي، وبين سحري ونحري، ودخل عبد الرحمن بن أبي بكر ومعه سواك رطب، فنظر إليه حتى ظننت أنه يريده، فأخذته فمضغته ونفضته وطيبته ثم دفعته إليه، فاستن به كأحسن ما رأيته مستناً قط، ثم ذهب يرفعه إلىّ فسقطت يده، فأخذت أدعو له بدعاء كان يدعو له به جبريل -عليه السلام- وكان هو يدعو به إذا مرض، فلم يدعو به مرضه ذاك، فرفع بصره إلى السماء وقال: « الرفيق الأعلى» وفاضت نفسه. فالحمد لله الذي جمع بين ريقي وريقه في آخر يوم من الدنيا. اليوم شاتٍ، ولكننا جميعاً نتصبب عرقاً فما عادت أجسادنا تستوعب أرواحنا، وما عادت أرواحنا تطيق البقاء محبوسة في هذه الأجساد، نرمق أمنا مضطجعة على جنبها، تأمل أن يبرئها ربها، ولا تطمع في وحي ينزل بذلك، وتكاد تزهق نفسها الشريفة حزناً، وامرأة من الأنصار تبكي إلى جوارها، ولسان حال الجميع «اللهم إن عيوناً تعلقت بك وبالرجاء فيك لن تراع ولن تخيب، وأيديًا امتدت إليك لن تعود صفراً، يا حيي من عبادك ياالله. وفيما نحن كذلك أخذ الرسول -صلى الله عليه وسلم- ما كان يأخذه من البرحاء حين ينزل عليه الوحي حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق من ثقل الذي ينزل عليه، وما أثقلها من لحظات على الجميع! كنا وأمنا وأهل بيتها ننتظر فرجاً، فالأمر بلغ الذروة، والغمة فاقت كل شيء، الجو موبوء بهواءٍ فاسد، افتقدنا كل معنى للنظافة، فلم يعد للسان نظافة، ولا للهواء نقاء، ولا للكلمات بريق، لقد أفسد وباء الشائعة كل شيء، فكنا ننظر إلى رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، وهو يتلقى وحي ربه؛ لينقشع ذلك كله ونعود إلى سابق عهدنا بيئة نظيفة، وهواءً نقيًا، ومحارم محفوظة. فلما سري عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يضحك، لا فارق مبسمك الشريف الضحك يا سيدي يا رسول الله، أحزنَ اللهُ مَنْ أحزَنَكَ، وجازاهم بما هم أهلٌ له، فما كان لك أن تملأ حياتنا ببهجة الإيمان وحبور التوحيد؛ ليدخل عليك هذا الشقي ومَنْ معه كل هذا الألم شهراً كاملاً، لم نَر فيه وجهك الكريم يتهلل بالبسمة كما عهدناه، كان الإيمان يجلله، والرجاء فيما عند الله تنطق به ملامحك، وكان الأسى يبدو على محياك، كم كنا نألم من ألمك، ولكنا لا نستطيع إلا الانتظار، وما أثقله عليك وعلينا! كانت أول كلمة تكلم بها: «يا عائشة أما والله لقد برأكِ اللهُ» فابتدرت أم رومان ضاحكة مستبشرة: قومي يا بُنية إليه، فردَّت عائشة والله، لا أقومُ إليه، ولا أحمدُ إلا اللهَ، إنما هي قولة الشاكرة لربها الدالة بحبها ومكانتها وعتبها على زوجها. قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النور: 11). قال أبو بكر: والله لا أنفق على مسطح شيئاً أبداً بعد الذي قال في عائشة. مهلاً أبا بكر مثلكم ينفق، ويتصدق بمظلمته وعرضه. قال تعالى: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور: 22]. نكس أبو بكر رأسه التي ما نُكست إلا لأمر الله تعالى، بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي، والله لا أنزعها «النفقة» منه أبداً. تقافزنا نحن البنيات فرحات بهذا النصر العظيم لأمنا، وقبلناها، وباركنا سيرتها فيما نقرأ عنها، وتواصينا بالصبر والثبات واللجوء إلى الله تعالى، فلربما مررنا بنفس التجربة، وعندها نحتاج لسيرتها رضي الله عنها، نستلهم منها ثباتها وعظيم صبرها، صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» تقول أمنا –رضي الله عنها-: لي خلال تسع لم تكن لأحد خلا ما آتى الله مريم عليها السلام، والله ما أقول هذا فخراَ على صواحباتي. لقد نزل جبريل بصورتي في راحته حين أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يتزوجني، ولقد تزوجني بكراً وما تزوج بكراً غيري، ولقد قبض ورأسه في حجري لم يله أحد غير الملك إلا أنا، ولقد قبرته في بيتي، ولقد حفت الملائكة بيتي، وإن كان الوحي ينزل عليه وإني لمعه في لحافه، وإني لابنة خليفته وصديقه، ورأيت جبريل ولم يره أحد من نسائه غيري، ولقد نزل عذري من السماء، ولقد خلقت طيبة عند طيب، ولقد وعدت مغفرة ورزقاً كريمًا. ولكن يا بنات ماذا تعتقدن أن يفعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- بابن سلول ومَنْ معه؟ إنه منافق لا يحاكم بحكم الإسلام في القذف، فالحد تطهير وجبر، ومثل هذا لا تطهير له ولا جبر، طبَّق الحَدَّ على حسَّان ومسطح وحمنة. لقد صدق الله امرأة نبيه، والمسلم العفيف صفوان بن المعطل الذي كان يرد، وألسن الاتهام تلاحقه: والله ما كشفت كتف أنثى، وما كنت أخون رسول الله -صلى الله عليه وسلم-في زوجه. الغريب أن ابن سلول وهو يحتضر أوصى أن يصلي عليه الرسول، وأن يقوم على قبره مستغفراً أملاً في أن تناله رحمة، وما كان يتوقع ممن أرسل رحمة للعالمين، من جلّل الحياء حياته مع أعدائه قبل أصدقائه أن لا يستجيب لعبد الله بن عبد الله بن سلول جبراً لخاطره في أبيه المنافق، حتى عاتبه ربه سبحانه وتعالى، صلوات ربي وسلامه عليك، يا سيدي يا رسول الله، لَمْ تحمل حقداً، ولَمْ تجاز متجاوزاً منتصراً لنفسك وحرمتك. صدق الله تعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة: 128]. سجدنا لله شكراً وتفرقنا بعد مشهد البراءة ليغلق كتاب الإفك بهذا النصر المبين، وتعود كل منا إلى صفحات كتاب عصرها تقلب فيه، وفي صفحات ما قبلها من عصور وما بعدها، نذكر فيها أمنا مقتفين أثرها رضوان الله عليها وعلى أمهات المؤمنين. يقول حسان بن ثابت: رأيتك وليغفر الله لك حرة من المحصنات غير ذات غوائلِ حصان رزان ما تظن بريبة وتصبح غرثي من لحوم الغوافلِ وإن الذي قد قيل ليس بلائق بك الدهر بل قِيلُ امرئ متماحلِ فإن كنت أهجوكم كما بلغوكمُ فلا رفعتْ سوطي إليّ أناملي وكيف وودي ما حييت ونصرتي لآل رسول الله زين المحافلِ وإن لهم عزًّا يرى الناس دونهم قصاراً وطال العز كل التطاولِ عقيلة حي من لؤي بن غالب كرام المساعي مجدهم غير زائلِ مهذبة قد طيب الله خيمها وطهرها من كل سوء وباطلِ ************ ******** ***** *** ** * الفهــرس عفوًا..أم المؤمنين 5 المدينة تغلي شرذمة الشر 7 بيت مؤمن 9 وهو عند الله عظيم 12 الوحشة 15 صبر جميل والله المستعان 22 البراءة 30 الفهــرس 40 |
|