|
| الخلاصة في حياة الأنبياء (1) | |
| | |
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644
| موضوع: رد: الخلاصة في حياة الأنبياء (1) الجمعة 10 يونيو 2011, 9:40 pm | |
| موسى وهارون عليهما السلام
في الزمن الماضي كان يعيش في مصر ملك جبار طاغية، يعرف بفرعون، استعبد قومه وطغى عليهم، وقسم رعيته إلى عدة أقسام، استضعف طائفة منهم، وأخذ في ظلمهم واستخدامهم في أخس الأعمال شرفًا ومكانة، وهؤلاء هم بنو إسرائيل الذين يرجع نسبهم إلى نبي الله يعقوب-عليه السلام- وقد دخلوا مصر عندما كان سيدنا يوسف -عليه السلام- وزيراً عليها.
وحدث أن فرعون كان نائمًا، فرأى في منامه كأن نارا أقبلت من بيت المقدس، فأحرقت مصر جميعها إلا بيوت بني إسرائيل، فلما استيقظ، خاف وفزع من هذه الرؤيا، فجمع الكهنة والسحرة وسألهم عن تلك الرؤية فأخبروه بأن غلامًا سيولد في بني إسرائيل، يكون سببا لهلاك أهل مصر، ففزع فرعون من هذه الرؤيا العجيبة، وأمر بقتل كل مولود ذكر يولد في بني إسرائيل، خوفا من أن يولد هذا الغلام.
ومرت السنوات، ورأى أهل مصر أن بني إسرائيل قل عددهم بسبب قتل الذكور الصغار، فخافوا أن يموت الكبار مع قتل الصغار، فلا يجدون من يعمل في أراضيهم، فذهبوا إلى فرعون وأخبروه بذلك، ففكر فرعون، ثم أمر بقتل الذكور عامًا، وتركهم عامًا آخر.
فولد هارون في العام الذي لا يُقتل فيه الأطفال.
أما موسى فقد ولد في عام القتل، فخافت أمه عليه، واحتار تفكيرها في المكان الذي تضعه فيه بعيدًا عن أعين جنود فرعون الذين يتربصون بكل مولود من بني إسرائيل لقتله، فأوحى الله إليها أن ترضعه وتضعه في صندوق، ثم ترمي هذا الصندوق في النيل إذا جاء الجنود، قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} (7) سورة القصص.
فجهزت صندوقًا صغيرًا، وأرضعت ابنها، ثم وضعته في الصندوق، وألقته في النيل عندما جاء جنود فرعون، وأمرت أخته بمتابعته، والسير بجواره على البر لتراقبه، وتتعرف على المكان الذي استقر فيه الصندوق.
وظل الصندوق طافيًا على وجه النهر وهو يتمايل يمينًا ويساراً، تتناقله الأمواج من جهة إلى أخرى، ثم استقرت به تلك الأمواج ناحية قصر فرعون الموجود على النيل، ولما رأت أخته ذلك أسرعت إلى أمها لتخبرها بما حدث.
وكانت السيدة آسية زوجة فرعون تمشي في حديقة القصر كعادتها، ويسير من خلفها جواريها، فرأت الصندوق على شاطئ النهر من ناحية القصر، فأمرت جواريها أن يأتين به، ثم فتحنه أمامها، ونظرت آسية في الصندوق، فوقع نظرها على طفل صغير، فألقى الله في قلبها محبة هذا الطفل الصغير.
وكانت آسية عقيمًا لا تلد، فأخذته وضمته إلى صدرها ثم قبلته، وعزمت على حمايته من القتل والذبح، وذهبت به إلى زوجها، وقالت له في حنان ورحمة: {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} (9) سورة القصص.
فلما رأى فرعون تمسك زوجته بهذا الطفل، وافق على طلبها ولم يأمر بقتله، واتخذه ولدًا.
ومرت ساعات قليلة وزوجة فرعون تحمل الطفل فرحة مسرورة به، تضمه إلى صدرها وتقبله، وفجأة بكى موسى بشدة، فأدركت السيدة آسية أنه قد حان وقت رضاعته فأمرت بإحضار مرضعة لترضعه، وتهتم بأمره، فجاء إلى القصر عدد كثير من المرضعات، لكن الطفل امتنع عن أن يرضع منهن، مما جعل أهل القصر ينشغلون بهذا الأمر، واشتهر هذا الأمر بين الناس، فعرفت أخته بذلك، فذهبت إلى القصر، وقابلت السيدة آسية زوجة فرعون، وأخبرتها أنها تعلم مرضعة تصلح لهذا الطفل.
ففرحت امرأة فرعون، وطلبت منها أن تسرع، وتأتي بتلك المرضعة، فذهبت إلى أمها فوجدتها حزينة على ابنها حزنًا كبيرًا، فأخبرتها بما حدث بينها وبين زوجة فرعون، فهدأت نفس أم موسى وارتاح بالها.
ذهبت أم موسى مع ابنتها إلى قصر فرعون، ولما دخلته أتوها بالرضيع، وبمجرد أن قدمت له ثديها أقبل عليه الطفل وشرب وارتوى، وأخذت الأم ابنها إلى بيته الذي ولد فيه، فعاش موسى فترة رضاعته مع أبيه وأمه وإخوته، ولما عاد إلى قصر فرعون اهتموا بتربيته تربية حسنة، فنشأ وتربى كأبناء الملوك والأمراء قويًّا جريئًا متعلماً.
كبر موسى، وصار رجلاً قويًّا شجاعًا، وذات يوم، كان يسير في المدينة فرأى رجلين يتشاجران، أحدهما من قومه بني إسرائيل، والآخر قبطي من أهل مصر، فاستغاث الإسرائيلي بموسى، فأقبل موسى، وأراد منع المصري من الاعتداء، فدفعه بيده فسقط على الأرض ميتًا، فوجد موسى نفسه في موقف عصيب، لأنه لم يقصد قتل هذا الرجل، بل كان يريد الدفاع عن مظلوم فقط، وحزن موسى، وتاب إلى الله ورجع إليه، وأخذ يدعوه سبحانه أن يغفر له هذا الذنب.
ولكن سرعان ما انتشر الأمر في المدينة، وأخذ الناس يبحثون عن القاتل، ليعاقبوه، فلم يعثروا عليه، ومرت الأيام، وبينما موسى كعادته يسير في المدينة؛ فوجد الرجل الإسرائيلي نفسه يتشاجر مع مصري آخر، واستغاث مرة ثانية بموسى فغضب موسى من هذا الأمر، ثم تقدم ليفض هذا النزاع، فظنَّ الإسرائيلي أن موسى سيقبل عليه؛ ليضربه لأنه غضبان منه، فقال له: {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} (19) سورة القصص.
وعلم المصريون أن موسى هو القاتل، فأخذوا يفكرون في الانتقام منه، وجاء إليه من ينصحه بأن يبتعد عن المدينة. فخرج موسى من المدينة وهو خائف، يتلفت يمينًا ويساراً يترقب أهلها، ويدعو الله أن ينجيه من القوم الظالمين.
خرج موسى عليه السلام من مصر خائفًا يترقب وهو يقول: رَبّ نَجّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص:21]، ثم توجه تلقاء مَدْيَن وهو يلهج بالدعاء: عَسَى رَبّى أَن يَهْدِيَنِى سَوَاء السَّبِيلِ [القصص:22]، ثم يدخل ديار مَدْيَن ويحدث له فيها قصة، قصةٌ لم يتجاوزها القرآن، كما هي طريقته المعجزة في طيّ السنين والوقوف عند الحدث المؤثر فحسب.
لقد وقف القرآن مع هذا الحدث ليدلّ على أهمّيّته وضرورة التماس العبرة منه، فخذ الحدث مقرونًا بدلالاته ممزوجًا بإشاراته، لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأوْلِى الألْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى [يوسف:111].
دخل موسى ديار مدين وقد أجهده التعب وأضناه، يصوّر ذلك ابن عباس رضي الله عنهما بقوله: (سار موسى من مصر إلى مدين ليس له طعام إلا البقل وورق الشجر، وكان حافيًا، فما وصل إلى مدين حتى سقطت نعل قدميه، وبطنه لاصق بظهره من الجوع، وإن خضرَة البقل لتُرى من داخل جوفه، وإنه لمحتاج إلى شقّ تمرة).
فيرد ماء مدين ليروي عطشه ويبلّ كبده، لكنه يرى مشهدًا يلهيه عن ذلك، مشهد لا ترضاه النفوس الأبيّة ولا تقبله الفِطَر السوية.
وجد الرعاةَ يُورِدون أنعامهم لتشرب، ووجد هناك امرأتين تمنَعَان غنمَهما أن ترد مع غنم أولئك القوم، خشيةَ أن تؤذيا أو يحلّ بهما مكروه. إنها الاستهانة بحقّ الضعيف، حتى لكأنما الدنيا ملك الغني القوي فحسب.
لقد أثار هذا الموقف في نفس موسى من الرحمة والشفقة والمروءة ما أثار، الشيء الذي جعله ينسى رَهَقَ الطريق وتعبه، فيتقدم لإقرار الأمر في نصابه وإعادة الحقّ إلى أصحابه، تقدم ليسقي لهما أولاً قبل أن يتولى إلى الظل ليرتاح.
وإذا كانت النفوس كبارًا تعبت في مرادها الأجسام
وينبغي أن لا يغيب عن ذهنك وأنت ترى هذه الصورة المشرقة أنّ موسى عليه السلام غريب في ديار مدين لا يُعرف، ليس له سند ولا ظهير، ومن عادة الغريب أن يكون هيّابًا، فكيف إذا كان مع ذلك مُطارَدًا شريدًا؟! لكن هذا كلّه لم يكن ليمنع سجاياه الكريمة أن تظهر، وشيمة المؤمن تجعله لا يقدم المعروفَ للمعروفِ فحسب، بل يبذله للناس عامة.
وأيضا فإن موسى عليه السلام مكدود الخاطر قادم من سفر طويل، لا زاد له ولا استعداد، شريد مطارد يترقّب، ولم يكن ذلك كلّه ليقعده عن تلبية دواعي المروءة والمعروف،{ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِى حَتَّى يُصْدِرَ الرّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ فَسَقَى لَهُمَا [القصص:23، 24].
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، أَنَّ مُوسَى عليه السلام لَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ يَسْقُونَ ، فَلَمَّا فَرَغُوا أَعَادُوا الصَّخْرَةَ عَلَى الْبِئْرِ ، وَلاَ يُطِيقُ رَفْعَهَا إلاَّ عَشْرَةُ رِجَالٍ, فَإِذَا هُوَ بِامْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ ، قَالَ : مَا خَطْبُكُمَا فَأَخْبَرَتَاهُ فَأَتَى الْحَجَرَ فَرَفَعَهُ ، ثُمَّ لَمْ يَسْتَقِ إلاَّ ذَنُوبًا وَاحِدًا حَتَّى رُوِيَتْ الْغَنَمُ وَرَجَعَتْ الْمَرْأَتَانِ إلَى أَبِيهِمَا فَحَدَّثَتَاهُ , وَتَوَلَّى مُوسَى عليه السلام إلَى الظِّلِّ ، فَقَالَ : رَبِّ إنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ، قَالَ : فَجَاءَتْهُ إحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ وَاضِعَةً ثَوْبَهَا عَلَى وَجْهِهَا ، قَالَتْ : إنَّ أَبِي يَدْعُوك لِيَجْزِيَك أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ، قَالَ لَهَا : امْشِي خَلْفِي وَصِفِي لِي الطَّرِيقَ , فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ تُصِيبَ الرِّيحُ ثَوْبَك فَيَصِفَ لِي جَسَدَك ، فَلَمَّا انْتَهَى إلَى أَبِيهَا قَصَّ عَلَيْهِ ، قَالَتْ إحْدَاهُمَا : يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ ، قَالَ : يَا بُنَيَّةُ , مَا عِلْمُك بِأَمَانَتِهِ وَقُوَّتِهِ، قَالَتْ : أَمَّا قُوَّتُهُ فَرَفْعُهُ الْحَجَرَ ، وَلاَ يُطِيقُهُ إلاَّ عَشْرَةٌ , وَأَمَّا أَمَانَتُهُ ، فَقَالَ : لِي امْشِي خَلْفِي وَصِفِي لِي الطَّرِيقَ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ تُصِيبَ الرِّيحُ ثَوْبَك فَتَصِفَ جَسَدَك ، فَقَالَ : عُمَرُ فَأَقْبَلَتْ إلَيْهِ لَيْسَتْ بِسَلْفَعٍ مِنْ النِّسَاءِ لاَ خَرَّاجَةٌ ، وَلأَوَلاَجَةٌ , وَمَعَهُ , ثَوْبُهَا عَلَى وَجْهِهَا.
ما أجمل أن يجتمع مع الإيمان قوّة الجسد وكمال البنية وتمام الصحة، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : « الْمُؤْمِنُ الْقَوِىُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِى كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجِزْ وَإِنْ أَصَابَكَ شَىْءٌ فَلاَ تَقُلْ لَوْ أَنِّى فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا.
وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ » سقى لهما موسى عليه السلام ولم يكن في سقيه يطلب أجرًا، تولى عنهما، لم ينتظر كلمة مدح أو عبارة ثناء،{ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُورًا [الإنسان:9].
توجه موسى عليه السلام ببدنه إلى الظلّ ليتّقي شدّة الحر، ولكن توجّهه الأكبر كان في قلبه وروحه، حين توجه إلى ظلال رحمة الوهاب، توجه إلى الله يناديه ويعرض حاله عليه ويناجيه،{ رَبّ إِنّى لِمَا أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص:24].
يا فالق الإصباح أنت ربي وأنت مولاي وأنت حسبي
إن من يأوي إلى الله يأوي إلى ركن شديد وإلى مولى حميد، فأين الفقير؟! وأين الشريد؟! وأين الأسير والكسير؟! وأين من يبغي صلاح ولده وشفاء جسده؟! إِنَّ رَبّى قَرِيبٌ مُّجِيبٌ [هود:61].
دعا موسى عليه السلام وأَلحَّ، فاستجاب الله له وما أسرع ردَّ الجواب من الوهاب، فها هي إحدى البنات تقبل عليه، تبلّغه دعوة أبيها:{ إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا [القصص:25]}.
ولكن ثمّةَ في هذا الموقف درس عظيم، لا نستطيع أن نغفله أو نعرض عنه صفحًا، إنه مشهد الطهر والنقاء والعفة والحياء، يصوّر ذلك حالُ المرأة وهي تأتي إلى موسى لتبلّغ دعوة أبيها،{ فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى اسْتِحْيَاء [القصص:25]}، تمشي مِشية الفتاة الطاهرة النقية حين تلقى الرجال، عَلَى اسْتِحْيَاء، من غير تبذل ولا تبرج ولا تبجّح ولا إغواء، لم تأتِ لتعرض مفاتنها.
عن عمر رضي الله عنه قال: (جاءت تمشي على استحياء قائلة بثوبها على وجهها، ليست بسَلْفَعٍ من النساء ولاّجةً خرّاجة) .
إنها حالة المؤمنة العفيفة وضوحًا في غير خضوع،{ إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا [القصص:25]}، بدون زيادات أو مقدمات أو عبارات إعجاب أو لفظة ثناء.
ويجيء موسى معها إلى أبيها كما يجيء الكرام، قال عمر وابن عباس وغيرهما رضي الله عنهم: (إن موسى لما جاء معها تقدمت أمامه لتدلّه الطريق، فقال لها: كوني ورائي، فإذا اختلف عليّ الطريق فاحذفي لي بحصاة أعلم بها كيف الطريق لأهتدي إليه).
إنها الأمانة في أعلى مراتبها وأرفع منازلها.
أما الرجل الصالح الذي يهتدي بنور الله فإنه يدرك أنه وإن كان الناس لا يعرفونه إلا أنه لا يغيب لحظة عن نظر الله وعلمه وإحاطته،{ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلّ شَىْء عِلْمَا [الطلاق:12]}.
جاء موسى إلى الرجل الصالح فقصَّ عليه قصته فهدَّأ من روعه، وقال له:{ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص:25]}، فأنت في مأمن مما تخاف، وما أحوج الداعية المطارد إلى من يطمئن فؤاده ويهدّئ من روعه ويهيئ له مكانًا آمنًا يأمن فيه على نفسه ودعوته.
ثم تطلب إحدى البنات من أبيها أن يستأجِر موسى عليه السلام لرعي الغنم، ولعلّها وأختها تعانيان من مزاحمة الرجال على الماء فتتأذيان من ذلك كله، وتبغيان القرار في البيت، الشيء الذي يضفي على المرأة الستر والحياء، في وقت تتسابق فيه النساء إلى الخروج لحاجة ولغير حاجة، ((وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ )) ، قَالَتْ إِحْدَاهُمَا ياأَبَتِ اسْتَجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَجَرْتَ الْقَوِىُّ الامِينُ [القصص:26]، القوة والأمانة ركنان للولاية لا يتم صلاحها إلا بهما.
ثم يتكلم الأب الرجل الصالح بصراحة ووضوح دون غموض أو تلجلج ليقول:{ إِنّى أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَىَّ هَاتَيْنِ [القصص:27]}، وليس في ذلك ما يدعو إلى الخجل أو التردّد والحرج، فهو يعرض عليه بناء أسرة وإقامة بيت.
إنَّ عَرضَ الرجل ابنته ومن تحت يده على رجل صالح كفء ليتزوجها أمرٌ جائز، لا غضاضة فيه ولا عيب، بل هو سنّةٌ قائمة، فعَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ أَخْبَرَنِى سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ - رضى الله عنهما - يُحَدِّثُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حِينَ تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ مِنْ خُنَيْسِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِىِّ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ شَهِدَ بَدْرًا تُوُفِّىَ بِالْمَدِينَةِ قَالَ عُمَرُ فَلَقِيتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَفْصَةَ فَقُلْتُ إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ . قَالَ سَأَنْظُرُ فِى أَمْرِى . فَلَبِثْتُ لَيَالِىَ ، فَقَالَ قَدْ بَدَا لِى أَنْ لاَ أَتَزَوَّجَ يَوْمِى هَذَا . قَالَ عُمَرُ فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ . فَصَمَتَ أَبُو بَكْرٍ ، فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَىَّ شَيْئًا ، فَكُنْتُ عَلَيْهِ أَوْجَدَ مِنِّى عَلَى عُثْمَانَ ، فَلَبِثْتُ لَيَالِىَ ، ثُمَّ خَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَنْكَحْتُهَا إِيَّاهُ ، فَلَقِيَنِى أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ لَعَلَّكَ وَجَدْتَ عَلَىَّ حِينَ عَرَضْتَ عَلَىَّ حَفْصَةَ فَلَمْ أَرْجِعْ إِلَيْكَ قُلْتُ نَعَمْ . قَالَ فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِى أَنْ أَرْجِعَ إِلَيْكَ فِيمَا عَرَضْتَ إِلاَّ أَنِّى قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ ذَكَرَهَا ، فَلَمْ أَكُنْ لأُفْشِىَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَلَوْ تَرَكَهَا لَقَبِلْتُهَا "
وفي فتح الباري لابن حجر:
"وَفِيهِ عَرْض الْإِنْسَان بِنْته وَغَيْرهَا مِنْ مَوْلَيَاته عَلَى مَنْ يُعْتَقَد خَيْره وَصَلَاحه لِمَا فِيهِ مِنْ النَّفْع الْعَائِد عَلَى الْمَعْرُوضَة عَلَيْهِ ، وَأَنَّهُ لَا اِسْتِحْيَاء فِي ذَلِكَ . وَفِيهِ أَنَّهُ لَا بَأْس بِعَرْضِهَا عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ مُتَزَوِّجًا لِأَنَّ أَبَا بَكْر كَانَ حِينَئِذٍ مُتَزَوِّجًا . "
وما يظنه بعض الناس من أن المرأة لا تُعرض إلا لنقصها فليس ذلك بصحيح وإن كان قد يحصل، كما أنه قد تكون المرأة المخطوبة دون عَرضٍ أسوأ حالاً من غيرها، ثم إن الإنسان لا يعرض غالبًا إلا أحسن ما عنده وأفضل ما لديه، ويبقى بعد ذلك أن العَرض ليس عَقدًا، بل ـ على اسمه ـ مجرَّد عرض، يليه البحث والتحري والاستخارة والاستشارة، ثم رؤية المخطوبة حين العزم على النكاح.
{إِنّى أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَىَّ هَاتَيْنِ}، إنّ في تخييره بين ابنتيه إشارةً أخرى بأنه لا بأس بتزويج البنت الأصغر سنًا قبل من تكبرها في العمر، إذ ربما كان باب الكبرى مستورًا ببابِ الصغرى، والله كتب الأرزاق كما كتب الآجال.
ثم يُختم سياق القصة بكريم سجايا الرجل الصالح وحسن دَلِّه، حيث قال:{ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ [القصص:27]}، لن أطلب منك رَهَقًا ولن أكلفك شَطَطًا.
فهل يعي هذا أولياء أمور النساء حين تصل بهم محبة المشقة على الزوج درجة كبيرة من حيث شعروا أو لم يشعروا؟!
حتى إنك لتجد كثيرًا من الأزواج يلبث بعد زواجه سنين عددًا يدفع أقساطًا تثقل كاهله وتشغل خاطره، وهذا يؤثر ولا بد على راحته النفسية، ومن ثم على استقراره الأسري، والأب يريد لابنته أن تعيش السعادة مع زوجها، فيضرّها من حيث أراد نفعها.
إن من الضروري حين تقرير المهر أن يراعى في ذلك الواقع المعيشي الذي يعيشه الزوج ويعيشه المجتمع، وأن تراعى تكاليف الحياة ومتطلباتها، فالأحوال تغيرت عن ذي قبل، وما كان بالأمس مقبولاً قد يكون اليوم غير مقبول ولا معقول.
إن على عقلاء الناس أن يراعوا ذلك، وأن يكونوا قدوة لغيرهم في تيسير أمور الزواج وخفض تكاليفه، و« مَنْ سَنَّ فِى الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَىْءٌ وَمَنْ سَنَّ فِى الإِسْلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَىْءٌ» .
ويتمّ موسى أكمل الأجلين، وتلك سجية الكرام، فهو لا يرضى لنفسه أن يقفَ عند أدنى المراتب وهو يستطيع أن يصل إلى أكملها، لم يكن ليحسب كما قد يحسب غيره: كم سيأخذ عليها من أجر لو كان يتقاضى راتبًا؟! وكم ستكلفه من جهد ووقت يذهب دون عائد أو مقابل؟! لم يكن في حسابه شيء من ذلك.
ثم يسير موسى بأهله بعد انقضاء الأجل، ليرى من آيات ربه الكبرى، وليصارع بعد ذلك دولة الباطل وجنود البغي والعدوان، في عرض قرآني وسرد قصصي يفيض بالدروس والعبر، كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الألْبَابِ [ص:29].
سار موسى بأهله تجاه مصر، حتى حل عليهم الظلام، فجلسوا يستريحون من أثر هذا السفر، حتى يكملوا المسير بعد ذلك في الصباح، وكان الجو شديد البرودة، فأخذ موسى يبحث عن شيء يستدفئون عليه، فرأى ناراً من بعيد، فطلب من أهله الانتظار؛ حتى يذهب إلى مكان النار، ويأتي منها بشيء يستدفئون به.
توجه موسى وفي يده عصاه ناحية النار التي شاهدها، ولما وصل إليها نداء يقول: ( يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) [طه: 11-16].
ثم سأله الله-عز وجل-عما يحمله في يمينه. فقال موسى: {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} (18) سورة طـه.
فأمره الله-عز وجل-أن يلقي هذه العصا، فألقاها فانقلبت العصا وتحولت إلى ثعبان كبير يتحرك ويسير بسرعة، فولَّى موسى من الخوف هاربًا، فأمره الله -عز وجل-أن يعود ولا يخاف، وسوف تعود عصاه كما كانت أول مرة، فمد موسى يده إلى تلك الحية ليأخذها، فإذا بها عصا كما كانت.
وكان موسى أسمر اللون، فأمره الله-عز وجل-أن يدخل يده في ثيابه ثم يخرجها، فخرجت بيضاء ناصعة البياض، فكانت هاتان معجزتين من الله لنبيه موسى، لتثبيته في رسالته المقبلة إلى فرعون وملئه، ثم أمره الله-عز وجل-بالذهاب إلى فرعون لهدايته وتبليغه الدعوة، فاستجاب موسى لأمر ربه، ولكنه قبل أن يذهب أخذ يدعو ربه بأن يوفقه لما هو ذاهب إليه، ويسأله العون والمدد، فقال: (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35))[طه: 25-35].
فاستجاب الله-عز وجل-دعاءه، فتذكر موسى أنه قتل رجلاً من المصريين، فخاف أن يقتلوه، فطمأنه الله-سبحانه-بأنهم لن يصيبوه بأذى، فاطمأن موسى.
وعاد موسى إلى مصر، وأخبر أخاه هارون بما حدث بينه وبين الله-عز وجل-، ليشاركه في توصيل الرسالة إلى فرعون وقومه، ويساعده في إخراج بني إسرائيل من مصر، ففرح هارون بذلك، وأخذ يدعو مع موسى ويشاركه في نشر الدعوة.
وكان فرعون شديد البطش والظلم ببني إسرائيل فتوجه هارون وموسى -عليهما الصلاة والسلام-إلى ربهما يدعوانه بأن ينقذهما من طغيان فرعون.
فقال لهما الله تعالى مطمئنًا ومثبتًا: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) [طه: 43-48].
فلما ذهب موسى مع أخيه هارون إلى فرعون قاما بدعوته إلى الله، وإخراج بني إسرائيل معهم، لكن فرعون راح يستهزئ بهما، ويسخر منهما، ومما جاءا به، وذكر موسى بأنه هو الذي رباه في قصره وظل يرعاه حتى قتل المصري وفرَّ هاربًا، فأخبره موسى أن الله قد هداه وجعله نبيًّا، لكي يدعوه إلى عبادة الله وطاعته، ولكن فرعون لم يستجب له، فعرض عليه موسى أن يأتي له بدليل يبين له صدق رسالته.
فطلب فرعون منه الدليل إن كان صادقًا، فألقى موسى عصاه فتحولت إلى حية كبيرة، فخاف الناس وفزعوا من هذا الثعبان، فمد موسى يده إليها وأخذها فعادت عصا كما كانت. ثم أدخل يده في جيب قميصه ثم أخرجها فإذا هي بيضاء ناصعة البياض.
ولكن فرعون يعلن في قومه أن موسى ساحر، فأشار عليه القوم أن يجمع السحرة من كل مكان لمواجهة موسى وسحره، على أن يكون هذا الاجتماع يوم الزينة، وكان هذا اليوم يوم عيد فرعون وقومه، حيث يجتمع الناس جميعًا، في مكان فسيح أمام قصر فرعون للاحتفال.
وسارع فرعون في إعلان الموعد لجميع الناس، ليشهدوا هذا اليوم، وكتب إلى كل السحرة ليعدوا العدة لذلك اليوم.. وجاء اليوم المنتظر، وتسابق الناس إلى ساحة المناظرة، ليروا من المنتصر؛ موسى أم السحرة؟
وقبل أن يخرج فرعون إلى موسى اجتمع مع السحرة، وأخذ يرغبهم ويعدهم ويمنيهم بآمال عظيمة إذ ما انتصروا على موسى وأخيه وتفوقوا عليهما، وكان السحرة يطمعون فيما عند فرعون من أجر ومكانة.
وبعد لحظات خرج فرعون ومن خلفه السحرة إلى ساحة المناظرة، ثم جلس في المكان الذي أُعد له هو وحاشيته، ووقف السحرة أمام موسى وهارون -عليهما الصلاة والسلام-. بعد ذلك رفع فرعون يده إيذانا ببدء المناظرة.
وعرض السحرة على موسى أحد أمرين؛ إما أن يلقي عصاه أولاً أو يلقوا عصيهم أولاً. فترك لهم موسى البداية.
فألقى السحرة حبالهم وعصيهم، فسحروا أعين الناس، وتحولت جميع الحبال والعصيان إلى حيات تسعى وتتحرك أمام أعين الحاضرين، فخاف الناس من هول ما يرونه أمامهم، حتى موسى وهارون-عليهما السلام-أصابهما الخوف، ليس من هذه الحيات المزيفة ، ولكن من غفلة الناس الذين أخذوا يلوِّحون لفرعون بالنصر قبل أن يضع موسى عصاه ، فأوحى الله لموسى ألا يخاف ويلقي عصاه، فاطمأن موسى وأخوه لأمر الله، ثم ألقى عصاه فتحولت إلى حية عظيمة تبتلع حبال السحرة وعصيهم. فلما رأى السحرة ذلك علموا أنها معجزة من معجزات الله وليست سحرًا، فشرح الله صدورهم للإيمان بالله وتصديق ما جاء به موسى فسجدوا لله الواحد الأحد، معلنين إيمانهم برب موسى وهارون.
وهنا اشتد غيظ فرعون وأخذ يهدد السحرة، ويقول لهم: (قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71))[طه: 71].
لكن السحرة لم يخافوا ولم يفزعوا من كلامه وتهديداته، بعد أن أدخل الله في قلوبهم نور الحق والإيمان، فقالوا: (لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76))[طه: 72-76].
فغضب فرعون غضبا شديدا، وأخذ المضللون من قومه يحرضونه على موسى وبني إسرائيل، فأصدر فرعون أوامره لجنوده أن يقتلوا أبناء الذين آمنوا من بني إسرائيل، ويتركوا النساء، واستطاع فرعون بهذه التهديدات أن يرهب الضعاف والذين في قلوبهم مرض من قوم موسى، فلم يؤمنوا به خوفًا من فرعون وبطشه، وحتى أولئك الذين آمنوا لم يسلموا تمامًا من الخوف والرهبة من فرعون.
فلما رأى موسى ما أصاب قومه من خوف وهلع، توجه إلى الله بدعاء أن ينجيه والمؤمنين من كيد فرعون.
وأخذ فرعون يفكر في حيلة للخلاص من موسى، وذات يوم جمع أعوانه وعشيرته وأعلن لهم ما توصل إليه، وهو أن يقتل موسى.
وبعد أن انتهى من كلامه إذا برجل من قومه وعشيرته قد آمن بموسى سرًّا يقول له: ({وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} (غافر: 28]، ثم أخذ يدعو المصريين للإيمان بالله ويحذرهم من العذاب، فأعرض فرعون عنه ولم يستمع إلى نصيحته.
ومرت الأيام، وأخذ فرعون وأعوانه في تعذيب بني إسرائيل وتسخيرهم في العمل، ولم يسمع لما طلبه منه موسى في أن يتركه وقومه يخرجون من مصر إلى الشام فسلط الله عليهم أعوام جدب وفقر حيث قلَّ ماء النيل، ونقصت الثمار، وجاع الناس، وعجزوا أمام بلاء الله-عز وجل-، وأنزل الله بهم أنواعًا أخرى من العذاب إضافة إلى ما هم فيه كالطوفان الذي أغرق زروعهم وديارهم، والجراد الذي أكل ما بقي من زروعهم وأشجارهم وسلط عليهم السوس، فأكل ما اختزنوه في صوامعهم من الحبوب والدقيق، وأرسل إليهم الضفادع، فأقلقت راحتهم، وحوَّل مياههم التي تأتي من النيل والآبار والعيون دمًا.
كل هذه البلايا أصابت فرعون وقومه، أما موسى ومن آمن معه فلم يحدث لهم أي شيء، فكان هذا دليلاً وبرهانًا على صدق ما جاء به موسى وأخيه هارون.
ومرت الأيام، واستمرت تلك البلايا، بل إنها كانت تزداد يومًا بعد يوم، فذهب المصريون إلى فرعون يشيرون عليه أن يطلق سراح بني إسرائيل مقابل أن يدعو موسى ربه أن يكشف ذلك الضر عنهم، ويشفع لهم عند ربه هذا العذاب والضيق.
فدعا موسى ربه، حتى استجاب له، وكشف ما أصاب فرعون وقومه من عذاب وبلاء.
وزاد فرعون في عناده وكفره بالله، ولما رأى موسى إصرار فرعون على كفره وجحوده، وتماديه في غيِّه وتكذيبه بكل الآيات التي جاء بها، رفع يديه إلى السماء متوجهًا إلى الله متضرعًا ومتوسلاً إليه سبحانه أن يخلص بني إسرائيل من يدي فرعون وجنوده، وأن يعذب الكفرة بالعذاب المهين.
واستجاب الله-سبحانه وتعالى-دعاء نبيه ورسوله موسى، وجاء الأمر الإلهي إلى موسى أن يخرج مع بني إسرائيل من مصر ليلاً، ولا يخاف من العاقبة، وأخبره أن فرعون سيتبعه، ولكن الله منجيه هو ومن آمن معه وسيغرق فرعون وجنوده.
فأخبر موسى بني إسرائيل بالخبر، وطلب منهم أن يتجهزوا للخروج معه إذا جنَّ الليل، فأسرع قوم موسى يتجهزون للرحيل من مصر، فهي الساعة التي طال انتظارهم بها.
وسار موسى وقومه في اتجاه البحر، وبعد ساعات طويلة كان موسى ومن معه قد قطعوا شوطًا طويلاً على أقدامهم، ووصل خبر خروج بني إسرائيل من مصر إلى فرعون فهاج هياجًا شديدًا، وأصدر أوامره أن يجتمع إليه في الحال جميع جنوده.
وفي لحظات اجتمع إلى فرعون عدد كبير من الجنود والفرسان، فأخذهم وخرج بهم يتعقب أثر موسى وقومه حتى أدركهم عند شروق الشمس، وهنا تملك بني إسرائيل الرعب والفزع من هول الموقف الذي هم فيه، فالبحر أمامهم، وفرعون وجنوده من خلفهم، فراحوا يتخيلون ما سيوقعه فرعون بهم من ألوان العذاب والنكال، وظنوا أن فرعون سيدركهم لا محالة.
فأخذ موسى يطمئنهم ويذكرهم بأن الله سينصرهم وينجيهم، فأمر الله موسى أن يضرب بعصاه البحر، ففعل، فانشقَّ طريق يابس، فاندفع بنو إسرائيل فيه قبل أن يصل فرعون وجنوده إليهم، ولما وصل فرعون ومن معه إلى الشاطئ، كان بنو إسرائيل قد خرجوا إلى الشاطئ الآخر، ولما رأى فرعون أن الطريق الذي سلكه بنو إسرائيل مازال موجودًا، اندفع هو الآخر بجنوده للحاق بهم، ولما وصل فرعون وجنوده إلى منتصف البحر، تحول الطريق إلى ماء، وغرقوا جميعاً.
ولما أدرك فرعون أنه سيغرق أراد أن ينجو بحيلة فقال: { آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (90) سورة يونس.
لكن هيهات لقد نفذ أمر الله، وغرق فرعون وعاين الموت، وأيقن أنه لا نجاة له منه، وفي هذا الوقت لا تنفع التوبة، ولا ينفع الندم، لقد بلغت الروح الحلقوم، وجاء إيمان فرعون متأخراً فقد حضر الموت، وفات أوان التوبة.
قال تعالى : {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (18) سورة النساء .
وبعد أن لفظ فرعون أنفاسه الأخيرة، حملت الأمواج جثته، وألقتها على شاطئ البحر ليراها المصريون، ويدركوا جميعًا أن الرجل الذي عبدوه وأطاعوه من دون الله، لم يستطع دفع الموت عن نفسه، وأصبح عبرة لكل متكبر جبار.
{فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} (92) سورة يونس .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إِنَّ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ شَكُّوا فِي مَوْتِ فِرْعَوْنَ ، فَأَمَرَ اللهُ البَحْرَ أَنْ يُلْقِيهِ بِجَسَدِهِ سَوِيّاً بِلاَ رُوحٍ ، لِيَتَحَقَّقَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ مَوْتِهِ وَهَلاَكِهِ ، فَتَكُونَ تِلْكَ آيَةً لَهُمْ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ ، وَصِدْقِ وَعْدِهِ لِرَسُولِهِ ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ غَافِلُونَ عَنْ آيَاتِ اللهِ ، لاَ يَتَّعِظُونَ بِهَا ، وَلاَ يَعْتَبِرُونَ .
( وَكَانَ هَلاَكُ فِرْعَونَ وَنَجَاةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ ، " فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى المَدِينَةِ وَجَدَ اليَهُودَ يَصُومُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ ، فَسَأَلَ النَّبِيُّ : مَا هَذا الذِي تَصُومُونَهُ؟ فَقَالُوا يَوْمَ ظَهَرَ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ . فَقَالَ النَّبِيُّ لأَصْحَابِهِ أَنْتُمْ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْهُمْ فَصُومُوهُ " ) ( رَوَاهُ البُخَارِيُّ )
وبعد أن عبر بنو إسرائيل البحر، ساروا متوجهين إلى الأرض المقدسة، وفي الطريق رأوا قومًا يعبدون أصنامًا، فطلبوا من موسى أن يجعل لهم إلهًا مثل هؤلاء الكفار، فصبر موسى عليهم وبين لهم جهلهم، وبين لهم نعم الله عليهم التي لا تحصى، وأن الله فضلهم على خلقه، وأنه نجاهم من فرعون وجنوده، وهو وحده المستحق للعبادة والطاعة. {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (138) سورة الأعراف.
وواصل موسى ومن معه المسير، وحرارة الشمس تلفح وجوههم، فذهب بنو إسرائيل إلى موسى يشكون له ذلك، فسخر الله لهم الغمام يقف معهم إذا وقفوا، ويسير معهم إذا ساروا، ليظلهم ويقيهم ليهيب الشمس الحارقة. {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (57) سورة البقرة .
ولما عطشوا أوحى الله إلى موسى أن يضرب بعصاه التي يحملها معه الحجر، فرفع موسى عصاه وهوى بها على حجر في الجبل وإذا بمعجزة جديدة من معجزات موسى تحدث أمام عيون بني إسرائيل، حيث تتفجر بمجرد وقوع العصا على الحجر اثنتا عشرة عينًا، بعدد قبائل بني إسرائيل الذين كانوا معه، مما جعل موسى يخص لكل قبيلة عينًا تشرب منها. {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (60) سورة البقرة .
ولما جاعوا أدركتهم نعمة الله، حيث ساق لهم المن، وهو نوع من الحلوى، والسلوى وهو نوع من الطير يشبه السمان، فأخذوا يأكلون منه، ولكنهم سرعان ما سئموا هذا الطعام وملُّوا منه، فذهبوا إلى موسى يشكون له ذلك {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} (61) سورة البقرة.
فتعجب موسى، ثم أخبرهم بأن ذلك يكون في الأرض، فليذهبوا إلى مكان يزرعون فيه ويعملون حتى يتحقق لهم ما يطلبون.
وعاش بنو إسرائيل في أمان واطمئنان، وأصبحوا في حاجة إلى قانون يحتكمون إليه، وشريعة تنظم حياتهم، فأوحى الله إلى موسى أن يخرج بمفرده إلى مكان معين، ليعطيه الشريعة التي يتحاكم إليها بنو إسرائيل وتنظم حياتهم، فاستخلف موسى أخاه هارون على قومه، ووعظه وذكره بالله، وحذره من المضلين الذين يحاولون أن يفسدوا غيرهم.
ثم ذهب الجبل الذي تلقى فيه بربه عندما كان عائدًا من مدين إلى مصر، وعنده أنزلت عليه التوراة، ولما رأى موسى إكرام ربه له، وتفضله الزائد عليه، طلب من الله أن يمكنه من رؤيته سبحانه، ظنًا منه أن رؤية الله ممكنة في الدنيا، فرد الله على موسى مبينًا أن الإنسان بتكوينه هذا لا يقدر على رؤية الله-عز وجل-، وحتى يطمئن قلب موسى، فقد أخبره الله أنه سيتجلَّى للجبل، وما على موسى إلا أن ينظر إلى الجبل، ويلاحظ ما سيحدث، ونظر موسى إلى الجبل، فرآه قد اندك وتهدم.
ولقد صور لنا القرآن ذلك: {وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} (143) سورة الأعراف.
فأخذ موسى الألواح التي فيها التوراة، وكانت تتضمن المواعظ والأحكام التي بها تنتظم حياة بني إسرائيل وتستقيم. {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (44) (سورة المائدة).
وحدث في بني إسرائيل بعد أن تركهم موسى أن قام رجل منهم يعرف بالسامري، وجمع ما معهم من الحلي والذهب، وصنع لهم صنما مجوفًا على هيئة عجل إذا دخل فيه الهواء من جانب خرج من الجانب الآخر محدثا صوتًا يشبه صوت العجل، وأخبرهم أن هذا هو إلههم وإله موسى، فصدقه بنو إسرائيل، وعبدوا العجل وتركوا عبادة الله الواحد الأحد، فتوجه إليهم نبي الله هارون ينصحهم ويعظهم، وأنهم قد فتنوا بهذا الأمر، لكنهم استمروا في جهلهم، ولم ينتفعوا بنصح هارون، بل اعترضوا عليه وكادوا أن يقتلوه، وأعلنوا له أنهم لن يتركوا عبادة هذا العجل، حتى يرجع إليهم موسى. {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ} (148) سورة الأعراف.
ولما عاد موسى ووجد قومه على تلك الحالة، غضب منهم غضبًا شديدًا، ومن شدة حزنه وغضبه مما فعله قومه ألقى الألواح التي فيها التوراة من يديه، وتوجه إلى أخيه هارون وأمسك برأسه وجذبه إليه بشدة، وقال له بصوت ظهر فيه الغضب: (يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93)) [طه: 92-93].
فقال هارون: (قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)) [طه: 94]، وأخبره أن القوم كادوا أن يقتلوه، فتركه موسى وتوجه إلى السامري؛ ذلك الرجل الذي صنع هذا العجل، وسأله عن الأمر، فأخبره السامري بما حدث، فأحرق موسى ذلك العجل حتى جعله ذرات صغيرة، ثم رمى بتلك الذرات في البحر.
{ قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98) [طه/90-98]
هنا أحس بنو إسرائيل بسوء صنيعهم فندموا عليه، وأعلنوا توبتهم إلى الله، وسألوه الرحمة والمغفرة، فأوحى الله-عز وجل-إلى موسى أن هارون برئ منهم وأنه حاول معهم كثيرًا ليبتعدوا عن عبادة العجل، فاطمأن قلب موسى إلى أن أخاه لم يشارك في ذلك الإثم، فتوجه إلى الله تعالى مستغفرًا لنفسه ولأخيه، قائلاً: { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (151) سورة الأعراف. يتبع إن شاءالله... |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644
| موضوع: رد: الخلاصة في حياة الأنبياء (1) الجمعة 10 يونيو 2011, 9:56 pm | |
| واختار موسى سبعين رجلاً من خيرة قومه، وذهب بهم إلى مكان حدده الله-عز وجل-، فلما وصلوا إلى ذلك المكان، فإذا بهم يطلبون أن يروا الله جهرة، فغضب موسى منهم غضبًا شديداً، وأنزل الله عليهم صاعقة دمرتهم، وأخذت أرواحهم. فأخذ موسى يدعو الله ويتضرع إليه أن يرحمهم.
{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)} سورة الأعراف.
وشاء الله-عز وجل-ألا يخزي نبيه موسى، فاستجاب له وأحيا أولئك الذين قتلتهم الصاعقة لعلهم يشكرون الله على نعمة إحيائهم من بعد موتهم، ورجع موسى بهم إلى قومه فأخذ التوراة وراح يقرؤها على بني إسرائيل ويشرح لهم ما فيها من مواعظ وأحكام، وأخذ عليهم المواثيق والعهود ليعلموا بما فيها من غير مخالفة، فلما وعدوه أن يلتزموا بما فيها أخذهم وسار في اتجاه الأرض المباركة وهي فلسطين، لكنهم راحوا يتنكرون للتوراة وما جاء فيها من أوامر وأحكام، فأراد الله أن ينتقم منهم، فرفع من الجبل صخرة كبيرة وحركها حتى صارت كأنها سحابة تظلهم، ففزعوا منها، وحسبوا أن الله سيلقيها عليهم، فتوجهوا إلى الله بالاستغاثة والدعاء، وتابوا إلى الله لينقذهم من الهلاك، فصرف الله عنهم تلك الصخرة رحمة منه وفضلاً.
ثم أوحى الله إلى موسى بأنه قد حان الوقت لاستقرار بني إسرائيل، ودخولهم الأرض المقدسة (فلسطين).
ففرح موسى بذلك فرحًا شديدًا. ولكن بني إسرائيل جبناء خائفون، حيث إنهم أعلنوا ذلك لموسى فقالوا: { يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} (22) سورة المائدة.
وهنا قام رجلان مؤمنان منهم، فقالا لهم: { رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (23) سورة المائدة ، فما كان رد بني إسرائيل إلا أن قالوا: { يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} (24) سورة المائدة.
فاشتد غضب موسى على هؤلاء القوم الذين ينسون نعمة الله عليهم، فأخذ يدعو ربه أن يباعد بينه وبين هؤلاء الفاسقين. فجاءه الجواب من الله عز وجل، قال تعالى: { فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } (26) سورة المائدة .
وهكذا حكم الله على بني إسرائيل أن يتيهوا في الأرض مدة أربعين سنة؛ نتيجة اعتراضهم على أوامر الله، وعدم امتثالهم لما أمرهم به موسى، وراح بنو إسرائيل يسيرون في الصحراء بلا هدى واستمروا في التيه حتى دخلوا الأرض المقدسة بعد ذلك على يد يوشع بن نون بعد أن جمع شملهم.
===================
دروس وعبر من قصة موسى عليه السلام وفرعون
*- سبب كثرة ذكر قصة موسى مع فرعون في القرآن.
إن الناظر للقرآن العظيم ليجد أن القصص والحوادث قد أخذت حيزًا كبيرًا من آياته وخطاباته ونداءاته، وفي كل قصة عبرة وما يعقلها إلا العالمون.
وقصص القرآن الكريم تحكي صورًا من صور الصراع القديم بين الحق المؤيد من السماء والباطل الذي يلوذ به الأعداء.
ومن تلك القصص قصة عظيمة ما زال الناس يصدرون منها ويردون، قصة تميزت بكثرة عرضها وتنوع مشاهدها، غاص المفسرون في أعماقها فرأوا العجب العجاب. كيف لا والذي قصها هو رب الأرباب؟!
فيا لبلاغة الخطاب، ويا لروعة الجواب، سلوى الدعاة، وبشارة الأمل، وعظيم التوكل، وقوة الإيمان، وفأل المستضعفين والمضطهدين، إنها قصة النبي الكريم مع الطاغية اللئيم، إنها قصة نبي الله موسى بن عمران عليه السلام مع فرعون الظالم.
هذه القصة لِم كثر في القرآن ذكرها وبآياته طال حديثها؟!
قال المفسرون:
"لأنها من أعجب القصص؛ فإن فرعون حذر من موسى كل الحذر، فسخره الله أن ربّى هذا الذي يحذر منه على فراشه ومائدته بمنزلة الولد، ثم ترعرع ورزق النبوة والرسالة، فعاد إلى القصر الذي ترعرع فيه داعيًا ومذكرًا ومنذرًا"، وأيضًا أن بني إسرائيل الذين أرسل إليهم موسى عليه السلام هم آخر الأمم قبل أمة محمد، صلى الله عليه وسلم وإن كان عيسى عليه السلام قد جاء بعد موسى إلا أنه جاء لبني إسرائيل أيضًا، وأيضًا لكثرة الآيات لنبي إسرائيل؛ تسع آيات بينات.
*- قصة موسى مع فرعون.
لقد تعمد فرعون قتل أبناء بني إسرائيل؛ لأنه بلغه أن غلامًا منهم سيولد يكون هلاك حاكم مصر على يديه، فانزعج لذلك وأمر بقتل كل مولود يولد لبني إسرائيل، ثم خشي انقراض شعبه، فأمر بقتل المواليد سنة وتركهم سنة، فيقدر الله سبحانه أن يولد موسى عليه السلام في السنة التي تقتل فيها المواليد من بني إسرائيل، وقد حزنت أمه حين حملت به خوفًا عليه، وحين وضعته، وكذلك وهي ترضعه، ويُوحى إليها أن إذا خافت عليه أن تضعه في صندوق وتلقيه في البحر، فيا سبحان الله، ويا عجبًا من قدرة الله، البحر بأمواجه المتلاطمة ومياهه الغامرة وأعماقه المظلمة هو الملاذ الآمن للطفل الرضيع، سبحانك إلهنا ما أعظمك، سبحانك ربنا ما أقدرك. نعم البحر المائج والموج الهائج هو الملاذ الآمن للطفل الرضيع؛ لأنه وعد وهو أحق من وعد: فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ [القصص:7].
وها هي الرياح العاتية تتقاذف صندوق الرضيع موسى عليه السلام ذات اليمين وذات الشمال، إلى أين؟ إلى بيت فرعون؛ ليكون جبروت فرعون هباءً وخواءً أمام جبروت الجبار وقدرته جل في علاه وتقدس في سماه.
ها هو موسى يولد ويسلم من القتل ويصل إلى بيت فرعون دون عناء، فهل لفرعون أن يقتله أو بالسوء يتعرضه؟!
كلا ورب الكعبة، الله يحفظه، ومن السوء يمنعه، بل يربيه ويرعاه فرعون دهرًا من الزمن، وما علم أن الذي بين يديه نهايته على يديه، سبحانه أحكم الحاكمين، يعلم ولا نعلم، يقدر ولا نقدر، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
وتتوالى المواقف والأحداث ليأتي الأمر الإلهي لعبده ونبيه موسى بالبدء بالدعوة و الذهاب إلى رأس الكفر والطغيان: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:43، 44]. وما أجمل أن يسبح الدعاة في بحر قوله تعالى: فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا. فهل نحن خير أم موسى عليه السلام؟! بل موسى ولا شك. وهل من ندعوهم شر من فرعون؟!
بل فرعون أشر. فرفقًا معشر الدعاة، وصدق المصطفى : ((ومن يحرم الرفق فقد حرم الخير كله)). فالابتسامة الصادقة والكلمة الرفيقة والهمسة اللطيفة مفاتيح عظيمة لمغاليق القلوب.
ويبدأ موسى في دعوة فرعون وملئه بادئًا خطابه: فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى [طه:47]، وتطرق أذن الطاغية: مِنْ رَبِّكَ، فيتعجب ويسأل: فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:49، 50].
فعند كلمة: خَلْقَهُ عبر أيّ عبر، وتحت كلمة: هَدَى مجلدات من الصور، هدى كل شيء، هدى الطفل يوم أن رضعته أمه لا يعرف شيئا، هداه إلى ثدي أمه ليمص اللبن، فمن الذي دله لثديها وعلمه كيف يمص؟! إنه الله الواحد الأحد الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى. هدى النحلة أن تطير آلاف الأميال لتأخذ الرحيق ثم تعود إلى خليتها، من الذي علمها؟! من الذي دلها؟!
إنه الله الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى. هدى النملة تدخر قوتها من الصيف لفصل الشتاء، تسير في نظام دقيق عجيب، من الذي علمها؟! من الذي بصرها؟! إنه الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
ويُسقط في يد فرعون، فيلجأ إلى القوة والسلطان ويهدّد بالسجن، وهذه لغة الطغاة والمجرمين، قَالَ لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهَا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ [الشعراء:29].
ثم ها هو المشهد يقترب من نهايته، والمعركة تصل إلى ذروتها، فها هو موسى وقومه أمام البحر ليس معهم سفينة، ولا يملكون خوضه، وما هم بمسلحين، وقد قارب فرعون وجنوده يطلبونهم ولا يرحمون، ودلائل الحال تقول: البحر أمامهم والعدو خلفهم، قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61].
ويبلغ الكرب مداه، ويصل الضيق منتهاه، إلا أن موسى عليه السلام لا يشك لحظة، وملء قلبه الثقة بالحق المبين واليقين بعون أرحم الراحمين، قَالَ كَلا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62].
(كلا) بهذا الجزم والتأكيد، (كلا) بهذا الثبات واليقين، وحق لموسى أن يملأ فاه بـ(كلا)، ومعتمده مَنِ البحر والسموات والأرضين والبشر كلهم ملكه يصرفهم كيف يشاء، وها هو طريق النجاة ينفتح من حيث لا يحتسبون، فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشعراء:63].
ينشق طريق يابس ولكأنه لم تصبه قطرة ماء، والبحر كالجبال العظيمة واقف ذات اليمين وذات الشمال، وتسير الطائفة المؤمنة والله يرقبها وبالحفظ يكلؤها، تسير واثقة بنصر الله مؤمنة بوعد الله، لكن العناد والطغيان والتجبر المتأصل في نفس فرعون أبى عليه إلا السير خلفهم، فلما تكامل قوم موسى خارجين من البحر وتكامل قوم فرعون داخلين في البحر أمر الله بحره أن أطبق عليهم، وصدق الله: وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء:65-68].
*- نور الله غالب مهما حاول المجرمون طمس معالمه:
انظروا إلى سحرة فرعون كم وعدهم فرعون ثم انقلبوا فجأة حين أبصروا دلائل الإيمان، فيا لله كانوا أول النهار سحرة وآخره شهداء بررة، قال سعيد بن جبير رحمه الله: "لما سجد السحرة رأوا منازلهم وقصورهم في الجنة تهيأ لهم وتزخرفت لقدومهم".
*-إن نور الله مهما حاول المجرمون طمس معالمه، وأن الطغاة وإن أثروا في عقول الدهماء فترة من الزمن واستمالوهم بالمنح والعطايا فإن القلوب بيد الله يصرفها كيف يشاء، وتأملوا في حال فرعون وسحرته، وكم وعدوا لقاء مواجهتهم موسى، ومع ذلك انقلبوا فجأة عليه، واستهانوا بما وعد به حين أبصروا دلائل الإيمان، ولاذوا بحمى الملك الديان، فكانوا أول النهار سحرة، وآخره شهداء بررة {وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) [الأعراف/113-122].
إنه موقف من المواقف الحاسمة في تاريخ البشرية هذا الموقف بين فرعون وملئه، والمؤمنين من السحرة السابقين.
وإنه موقف حاسم ينتهي بانتصار العقيدة على الحياة، وانتصار العزيمة على الألم، وانتصار الإنسان على الشيطان .
وليس هذا أول خرق في سفينة فرعون فقد كان في بيته مؤمنون، ومع ضعف النساء فقد تحدت آسية امرأة فرعون زوجها، وشمخت بإيمانها ولم تفتنها الدنيا ومباهجها.
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (11) سورة التحريم.
ووجد في آل فرعون مؤمنون ناصحون رغم العنت والأذى:
{وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} (28) سورة غافر.
بل وجد سوى هؤلاء ذرية من آل فرعون آمنوا بموسى رغم الخوف وخشية الفتنة في الدين {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} (83) سورة يونس.
قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما - في تأويل هذه الأية - ( فإن الذرية التى آمنت لموسى من ناس غير بني إسرائيل، من قوم فرعون يسير، منهم امرأة فرعون، ومؤمن آل فرعون، وخازن فرعون وامرأة خازنه.
وكذلك يبدد نور الإيمان دياجير الظلام في أجواء تَخنق فيها العبودية لله رب العالمين ويكره الناس على العبودية من دون الله ..
*- ما أعظم الإيمان إذا تمكن من سويداء القلوب:
يستسهل صاحبه عندئذٍ كل يسير، ويعرض نفسه للخطر الكبير، لمه؟ في سبيل رضا العليم الخبير.
انظر إلى السحرة، فرعون يتوعد ويتهدد:
لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل، ومع ذلك يطلقها السحرة في وجه أعتى الطغاة فرعون: قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنْ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه:72، 73].
دونك الأرض يا فرعون، افعل في أجسادنا ما تشاء فسلطانك مقيدٌ بها، وما أقصر الحياة الدنيا وأهونها، أما الأرواح فأنى لك أن تحجبها عن الخضوع لربها ومولاها؟!
*- ثلاثة قضايا ابتدأ الله بها وحيه لموسى:
ولكأنها الزاد والمعين على دعوته ورسالته، وهكذا كل الدعاة، وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى [طه:13-15].
نعم الاعتصام بلا إله إلا الله وإقامة الصلاة والإيمان باليوم الآخر.
عاش المسلمون في أيام فرعون ظروفًا عصيبة ملؤها الخوف والأذى، إلى أن وصل بهم الأمر إلى أن يسروا بصلواتهم في بيوتهم، فأرشدهم الله إلى وسائل يتجاوزن بها الصعاب، وهي:
أولاً: الصبر والصلاة، قال تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [يونس:87]، وقال سبحانه: قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا [الأعراف:128].
ثانيًا: الإيمان بالله والتوكل عليه، قال تعالى: وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ [يونس:84].
ثالثًا: الدعاء وصدق اللجوء إليه، قال تعالى: فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنْ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [يونس:85، 86].
رابعًا: الاستقامة على الخير وعدم الاستعجال في الحصول على المطلوب، قال تعالى: قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [يونس:89]، قال ابن جريج: "يقال: إن الله استجاب دعاء موسى على فرعون بعد أربعين سنة".
*- إن الصراع مهما امتد أجله والفتنة مهما استحكمت حلقاتها والليل مهما ادلهم ظلامه ومهما كثرت الجراحات ومهما قتل الرجال ويتم الأطفال فإن الله ناصرٌ دينه:
أبى الله إلا ذلك، أبى الله إلا ذلك، أبى الله إلا ذلك، يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف:8].
وإذا كان الحق قد انتصر في هذه القصة على مشهد من الناس، فليس ذلك شأن القصص كله في القرآن، إذ ليس أمد النصر ينتهي في هذه الحياة، وليس معنى النصر مقصورًا على النصر المحسوس للناس، فقد ينال النصر فرد أو مجموعة من الصادقين وإنْ خُيلَّ للناس أنهم قد استضعفوا أو أهينوا أو غلبوا في هذه الدنيا.
لقد انتصر الخليل إبراهيم عليه السلام على الطغاة وإن قذف في النار، وانتصر أصحاب الأخدود وإن حفرت لهم الأخاديد وأحرقوا، وانتصر الغلام المؤمن وإن كانت روحه أزهقت على ملأ من الناس الذين لم يتمالكوا أنفسهم إلا أن ضجوا: آمنا برب الغلام ....
*-إن الثبات على مبدأ الحق حتى الممات نصر:
وأن نصر المبادئ والقيم نجاح ونصر، وقد يشهد الأبناء والأحفاد هذا النصر الذي بذرت بذوره الأولى في عهد آبائهم وأجدادهم، فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ [الزخرف:41، 42].
*- الحفاظ على النصر، فبمضاعفة الشكر تتضاعف النعم: وكما يمتحن الله بالضعف والذلة يمتحن بالقوة والنصر، وإن الأمة إذا انتصرت ثم غيرت وبدلت بدل الله نصرها هزيمة وعزها ذُلاً.
فهؤلاء بنو إسرائيل بعدما أنجاهم الله من فرعون وانتصروا ما لبث كثير منهم إلا وأن ارتد، اتخذوا العجل وعصوا أمر الله بالذهاب إلى الأرض المقدسة، عابوا نبيهم، بل وصار أمرهم بعد ذلك إلى قتل أنبيائهم ورسلهم، فماذا حل بهم من أمة قال الله في شأنها: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة:122] حتى صار حالهم إلى: وَجَعَلَ مِنْهُمْ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ [المائدة:60].
وهكذا أمة الإسلام، انتصرت وتصدرت إبان تاريخها الأول، ثم غيرت وبدلت، فانظروا إلى دمائها المسفوكة في كثير من الأصقاع، وسنن الله لا تتغير، ونواميس كونه لا تتبدل، ألا يا ليت قومي يعلمون.
*- إن يوم نجاة موسى عليه السلام من فرعون ليوم فرح عظيم:
إنه يوم عاشوراء يوم العاشر من المحرم، لذلك سن صيامه، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ وَسُئِلَ عَنْ صِيَامِ عَاشُورَاءَ قَالَ مَا عَلِمْتُ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- صَامَ يَوْمًا يَتَحَرَّى فَضْلَهُ عَلَى الأَيَّامِ إِلاَّ هَذَا الْيَوْمَ يَعْنِى شَهْرَ رَمَضَانَ وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ.
و عَنْ أَبِى قَتَادَةَ الأَنْصَارِىِّ رضى الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عَنْ صَوْمِهِ قَالَ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ عُمَرُ رضى الله عنه رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً وَبِبَيْعَتِنَا بَيْعَةً. قَالَ فَسُئِلَ عَنْ صِيَامِ الدَّهْرِ فَقَالَ « لاَ صَامَ وَلاَ أَفْطَرَ ». أَوْ « مَا صَامَ وَمَا أَفْطَرَ ». قَالَ فَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمَيْنِ وَإِفْطَارِ يَوْمٍ قَالَ « وَمَنْ يُطِيقُ ذَلِكَ ». قَالَ وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمٍ وَإِفْطَارِ يَوْمَيْنِ قَالَ « لَيْتَ أَنَّ اللَّهَ قَوَّانَا لِذَلِكَ ».
قَالَ وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمٍ وَإِفْطَارِ يَوْمٍ قَالَ « ذَاكَ صَوْمُ أَخِى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ». قَالَ وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الاِثْنَيْنِ قَالَ « ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ وَيَوْمٌ بُعِثْتُ أَوْ أُنْزِلَ عَلَىَّ فِيهِ ». قَالَ فَقَالَ « صَوْمُ ثَلاَثَةٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَرَمَضَانَ إِلَى رَمَضَانَ صَوْمُ الدَّهْرِ ». قَالَ وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ فَقَالَ « يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ ». قَالَ وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ فَقَالَ « يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ ».
ومن حرص السلف عليه أنهم كانوا يصومونه حتى في أسفارهم كما ذكر ذلك عن ابن عباس والزهري وغيرهم، بل ثبت في البخاري أن الصحابة كانوا يصومون صبيانهم تعويدًا لهم على الفضل، ويلهونهم باللعب حتى الإفطار.
وأعلى المراتب في صيامه أن يصام عاشوراء مع التاسع والحادي عشر، ثم يليها صوم التاسع والعاشر، ثم يليها صومه وحده، وإن ضعفت فلا تغلبن على اليوم العاشر؛ فالذنوب كثيرة، والعمل قليل، والوقوف بين يدي الله قريب.
*- تكثر القصص في القرآن بشكل عام، وفي كل قصة عبرة، وما يعقلها إلا العالمون.
وتحكى قصص القرآن صوراً للصراع القديم بين الحق المؤيد من السماء والباطل الذي يلوذ به الملأ والكبراء خداعاُ وعناداُ واستكبار وحفاظاُ على الذوات ليس إلا ، كما تكشف القرآن عن مواقف المؤمنين وحقيقته وآثار الإيمان ومواقف الظالمين ونهاية الفجار.
ولئن كانت القصص تشغل مساحة عريضة في القرآن. فإن قصة موسى عليه السلام مع فرعون تتميز بكثرة عرضها وتنوع مشاهدها وهي من أطول قصص الانبياء عليهم السلام في القرآن.
فما الحكمة من كثرة ذكرها؟
قال المفسرون:
لأنها من أعجب القصص. فإن فرعون حذِر من موسى كل الحذر فسخره القدر لتربية هذا الذي يحذر منه على فراشه ومائدته بمنزلة الولد ثم ترعرع ، وعقد الله له سببا من بين أظهرهم، ورزقه النبوة والرسالة والتكليم.
وبعثه إليه ليدعوه إلى الله تعالى ليعبده ويؤمن برسالة الله ، وليس له وزير سوى أخيه هارون عليه السلام، فتمرد فرعون واستكبر وأخذته الحمية والنفس الخبيثة الأبية، وقوي رأسه وتولى بركنه، وادعى ما ليس له، وتجرأ على الله وعتا وبغى، وأهان حزب الإيمان من بنى إسرائيل.
والله تعالى يحفظ رسوله موسى وأخاه هارون _ عليهما السلام _ ويحوطهما بعنايته ويحرسها بعينه التى لا تنام، ولم تزل المحاجة والمجادلات والآيات تقوم على يدي موسى شيئاُ فشيئاُ، ومرة بعد مرة مما يبهر العقول ويدهش الألباب، ومما لا يقوم له شيء ولا يأتي به إلا من هو مؤيد من الله . وما نريهم من آية إلا هى أكبر من أختها [الزخرف:48].
وصمم فرعون وملؤه - على التكذيب بذلك كله .. حتى أحل الله بهم بأسه الذي لا يرد وأغرقهم في صبيحة واحدة: فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين .
*- لقد تعمد فرعون قتل أبناء بني إسرائيل:
لأنه بلغه أن غلاماً منهم سيولد ويكون هلاك ملك مصر على يديه، فانزعج لذلك وأمر بقتل كل مولود يولد لبني إسرائيل حذراً من وجود هذا الغلام - ولا يغني الحذر عن القدر -.
ومع حرص فرعون وطغيانه وجبروته فقد قدر الله أن يولد موسى عليه السلام في السنة التى يقتل فيها كل مولود لبنى إسرائيل. وأن ينجو من بأسه وقتله وقد حزنت أمه حين حملت به خوفاُ عليه، وحين وضعته.
واستمر الخوف يلاحقها حتى أوحى إليها أن ترضعه، فإذا خافت عليه فلتضعه في صندوق ثم تلق به في البحر وسيحفظه الله ويرده إليها :{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} (7) سورة القصص.
وأمواج البحر قد بدأت تقذف بتابوت الرضيع موسى عليه السلام ذات اليمين وذات الشمال حتى أوصلته إلى بيت فرعون.
وكأن الله تعالى أراد - فيما أراد - أن يظهر عجز فرعون وضعفه أمام قوة الله الجبار وقدرته.
فإذا كان فرعون يقتل الغلمان من أجل هذا الغلام.
فها هو الغلام يولد.
ويسلم من القتل رغم المتابعة الدقيقة، فإذا سلم ووصل إلى بيت فرعون دون عناء أو بحث، فهل يستطيع الملك الطاغية أن يقتل غلاماً مازال في المهد؟
كلا وعناية الله تحيط بالغلام ورعايته سبحانه تتولاه، وصدق الله {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} (8) سورة القصص ، وتحقق وعد الله :{فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (13) سورة القصص.
ويبدأ موسى عليه السلام في دعوة فرعون وملئه .. ويصر أولئك على الكفر والمعاندة، ويستمر بلين الدعاة بالقول تارة،وبالحجة الباهرة تارة، ويؤكد موسى وهارون عليهما السلام نبوتهما بالبراهين القاطعة والمعجزات الظاهرة، ويظل الحوار مع فرعون صريحاً جاداً تظهر فيه الربوبية الحقة لله رب العالمين، وتسلخها من فرعون الدعي العنيد وتنسف الدعوة الكاذبة،ويظهر الحق رغم المكابرة والاستهزاء والتهديد:
قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) [الشعراء/23-28].
وحين شعر فرعون أن موسى عليه السلام قد غلبه بالحجة والبرهان لجأ إلى القوة والسلطان وهدد بسجن موسى إن هو عبد الله وحده ورفض ما عليه الناس من عبودية فرعون: {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29)} [الشعراء/29].
*-لقد عاش المسلمون في أيام فرعون ظروفا عصيبة ملؤها الخوف والأذى:
ووصل بهم الأمر أن يسروا بصلاتهم ويتخذوا المساجد في بيوتهم قال الله تعالى:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (87) سورة يونس.
و المعنى: كما قال العوفي عن ابن عباس في تفسير الآية: قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام: لا نستطيع أن نظهر صلاتنا مع الفراعنة، وأذن الله لهم أن يصلوا في بيوتهم.
وقال مجاهد: لما خاف بنو إسرائيل من فرعون أن يقتلوا في الكنائس الجامعة.. أمروا أن يجعلوا بيوتهم مساجد مستقبلة الكعبة يصلون فيها سراً وكذا قال قتادة والضحاك .
*- فى ظل هذه الظروف العصيبة أمر المسلمون بالصبر عليها والاستعانة بالله على تجاوزها بالوسائل التالية:
أ) الصبر والصلاة:
قال الله تعالى لهم {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ} (43) سورة البقرة ، وقال موسى لقومه { اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (128) سورة الأعراف. وقال لهم ولغيرهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (153) سورة البقرة. فالصلاة سمة المسلم حين الرخاء وحين الشدة والضراء.
ب) والايمان بالله والتوكل عليه ضروري للمسلم في كل حال:
وهما في حال الشدة عدة {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ} (84) سورة يونس.
ج) وكذلك الدعاء وصدق اللجوء إلى الله يصنع أملاً من الضيق:
وفيه فرج من الكروب وخلاص من فتنة الظالمين ونجاة من الكافرين.
{فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) } [يونس/85-87].
{وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) } [يونس/88].
ومع ذلك فلا بد من الاستقامة على الخير وعدم الاستعجال في حصول المطلوب، فذلك أمر يقدره الله أنى شاء وكيف شاء {قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} (89) سورة يونس. قال ابن جريج: يقال: إن فرعون مكث بعد هذه الدعوة أربعين سنة ، وقال محمد بن علي بن الحسين : مكث أربعين يوماً .
*- قصة الحوار بين موسى عليه السلام والمؤمنين معه"
وفرعون وملئه، فهو الخداع الذي يمارسه المجرمون على رعاع الناس وجهالهم، وتأملوا في مقالة فرعون للسحرة - حين آمنوا - كما قال تعالى {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} (123) سورة الأعراف.
وقال في الآية الأخرى:{قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} (71) سورة طـه.
قال ابن كثير رحمه الله: وفرعون يعلم وكل من له لب أن هذا الذي قاله من أبطل الباطل، فإن موسى عليه السلام بمجرد مجيئه من مدين دعا فرعون إلى الله وأظهر له من المعجزات ما جعله يبعث في مملكته لجمع السحرة لإبطال سحر موسى كما زعم، وموسى عليه السلام ، لا يعرف أحداً منهم، ولا رآه، ولا اجتمع به .. إلى أن يقول ابن كثير: ( وفرعون يعلم ذلك وإنما قاله تسترا وتدليسا على رعاع دولته وجهلتهم ، كما قال تعالى فاستخف قومه فأطاعوه فإن قوماً صدقوا في قوله أنا ربكم الأعلى من أجهل خلق الله وأضلهم ، .انتهى كلامه رحمه الله .
*-الخداع والتدليس على الدهماء بقلب الحقائق ، واتهام الأبرياء
فلم يكتف فرعون وقومه بالقول عن المؤمنين الصادقين {إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} (54) سورة الشعراء. بل اتهم الملأ وجلساءُ السوء موسى والمؤمنين بالإفساد في الأرض: {وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} (127) سورة الأعراف.
فليس كل من ادعى النزاهة والعدالة محقا صادقاً، وليس كل من رمي بالتطرف أو اتهم بالفساد مبطلاً كاذباً، وليست تغير الألفاظ والاتهامات الباطلة من واقع الأمر شيئاً، لكنها السنن في الابتلاء تمضي في الأولين والآخرين؟
ومن حق ابن كثير أن يعجب لهذه المقولة الكاذبة ويقول: (يالله، للعجب صار هؤلاء يشفقون من إفساد موسى وقومه ، ألا إن فرعون وقومه هم المفسدون ولكن لا يشعرون ).
إن الصراع مهما امتد أجله والفتنة مهما استحكمت حلقاتها فإن العاقبة للمتقين .. لكن ذلك يحتاج إلى صبر ومصابرة واستعانة بالله صادقة: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (128) سورة الأعراف.
فلا ينبغى أن يخالج قلوب المؤمنين أدنى شك بوعد الله، ولا ينبغي أن يساورهم القلق وهم يصبرون على الضراء، ولا ينبغي أن يخدعهم أو يغرهم تقلب الذين كفروا في البلاد فيظنوه إلى الأبد، وما هو إلا متاع قليل، ثم يكون الفرج والنصر المبين للمؤمنين.
*- إن السحرة أمام الحق ذهب سحرهم، وتبعثر سحرهم:
ذاك أن الساحر إنما عمدته شركٌ بالله، واستعانة بالشياطين، واستعمال الأمور التي يُظَن أنها حقائق، ولكنها باطل وكذب، فالساحر أمام صاحب الحق لا بد أن ينهار، وإذا قرئ القرآن عليه بَطُل سحره وذهب باطله الذي كان رائجا عنده. إن الحقَّ يعلو ولا يُعلى عليه، إنها دعوةُ موسى وسائر أنبياء الله، تلكم الدعوات الصادقة التي أخلص فيها أنبياء الله في دعوتهم، وصدقوا الله في دعوتهم، فوفقهم الله وأعانهم.
*- لا شك أن ظهور آيات الله في مخلوقاته نعمة كبرى يستحق عليها الحمد والشكر:
خصوصا إذا كانت في نصر أولياء الله وحزبه ودحر أعداء الله وحزبه ولذلك لما قدم النبي المدينة وجد اليهود يصومون اليوم العاشر من هذا الشهر شهر المحرم ويقولون إنه يوم نجى الله فيه موسى وقومه وأهلك فرعون وقومه فصامه موسى شكرا فقال النبي : ((وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِى قَبْلَهُ)) فينبغي للمسلم أن يصوم يوم عاشوراء.
*- وقال القرطبى :
الحكمة فى تخصيص موسى بمراجعة النبى صلى الله عليه وسلم فى أمر الصلوات يحتمل أن تكون لكون أمة موسى عليه السلام كلفت من الصلوات ما لم يكلف به غيرها من الأمم قبلها فثقلت عليهم ، فأشفق موسى على أمة محمد من مثل ذلك ، ويشير إليه قوله : إنى جربت الناس قبلك .
"الزرقانى على المواهب اللدنية ج 6 ص 123 " . وهناك توضيحات كثيرة لهذه النقطة لم يجر فيها نقد لها أو مجرد شبهة أنها دخيل إسرائيلى .
إن الأنبياء جميعا إخوة من علات أمهاتهم شتى ودينهم واحد كما ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم ، وليس بعيدا أن يشير أخ على أخيه بما يحقق له ولأمته المصلحة ، ثم ماذا يقول من يرفضون هذه القطعة من الحديث خوفا أن يظن أن هناك وصاية من موسى على محمد فى تكريم محمد لموسى وعيسى ويونس وغيرهم من الأنبياء، وقد ثبت فى الحديث الصحيح قوله "وأنا أولى الناس بعيسى ابن مريم لأنه ليس بينى وبينه نبى" وقوله عن موسى "لا تخيرونى على موسى فان الناس يصعقون فأكون أول من يفيق فإذا موسى باطش بجانب العرش فلا أدرى أكان فيمن صعق فأفاق قبلى أم كان ممن استثنى الله " وقوله "ما ينبغى لعبد أن يقول : أنا خير من يونس" وماذا يقول فى قول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بعد ذكر الأنبياء فى سورة الأنعام : 90 ، {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } هل كانت لهم وصاية عليه صلى الله عليه وسلم ؟ .
ليس هناك وجه صحيح أبدا لرفض هذه المحادثة التى جرت بين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ، إن وجدنا فهما ممكنا وقريبا على وجه يبعد هذه الشبهة عن علاقة موسى بمحمد، وأخشى أن تتحكم بعض الأفهام فى النصوص الثابتة فترفضها لوجهة نظر قد غلبتها ظروف قائمة، مع أن مخارج الفهم الصحيح لها كثيرة، ولولا أن القرآن الكريم قطعى الثبوت لقال بعض الناس فى قوله تعالى : عن القرآن الكريم{وإنه لتنزيل رب العالمين . نزل به الروح الأمين . على قلبك لتكون من المنذرين .
بلسان عربى مبين . وإنه لفى زبر الأولين . أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بنى إسرائيل } الشعراء : 192 - 197 ، كيف يحيل الله التصديق بالقرآن أو بمحمد على علماء بنى إسرائيل ، أليس فى ذلك وصاية منهم على القرآن ومحمد؟ وكيف يجعل لهؤلاء سلطانا وشهادة على ذلك فى قوله تعالى {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحى إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } النحل : 43 ، ومهما قيل فى هؤلاء فإن المقصود بهم من آمنوا منهم بالرسول والقرآن ، فيكفى أن الله شهيد على صدق محمد فى رسالته ومعجزته ، ولا حاجة لهؤلاء .
إن حديث الإسراء والمعراج حديث الغرائب ، وهو صحيح فى جملته وتفصيله كما رواه البخارى ومسلم ، ولم يجرحه أحد من المحدثين لا فى متنه ولا فى سنده ، ولم يقل أحد من الشراح إن فيه تسللا إسرائيليا فى مشهد من مشاهده أو موقف من مواقفه بل إن إعجابهم بهذا الموقف جعلهم يكثرون من التعليق عليه بألوان شتى تؤكد صدقه وحكمته المقصودة من ورائه ليفهمها من يصعب عليهم الفهم بعد أربعة عشر قرنا وضع فيها هذا الحديث على بساط البحث أمام مئات وآلاف عباقرة الإسلام المتخصصين الغيورين ولم يدر بخلد واحد منهم ما يدور اليوم بخلد غيرهم ممن يعجزون عن إقامة الدليل الصحيح المقنع على ما يدعون {وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغنى من الحق شيئا} النجم : 28 .
لئن كان هذا فهما لغير مسلم لهان الأمر وقلنا "شنشنة أعرفها من أخزم " وجزء من حملة التشكيك فى ا لسنة ذريعة للتشكيك فى القرآن ، فكيف إذا كان هذا فهما لمسلم ؟ لئن كان القصد سليما فإن رد الفعل على عقول وأفهام الكثيرين رد يخشى منه على نظرة البسطاء للسنة وللدين بوجه عام {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } النمل : 64
*- عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ أُرْسِلَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَلَمَّا جَاءَهُ صَكَّهُ فَفَقَأَ عَيْنَهُ فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ فَقَالَ أَرْسَلْتَنِى إِلَى عَبْدٍ لاَ يُرِيدُ الْمَوْتَ - قَالَ - فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ عَيْنَهُ وَقَالَ ارْجِعْ إِلَيْهِ فَقُلْ لَهُ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ فَلَهُ بِمَا غَطَّتْ يَدُهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ قَالَ أَىْ رَبِّ ثُمَّ مَهْ قَالَ ثُمَّ الْمَوْتُ. قَالَ فَالآنَ فَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُدْنِيَهُ مِنَ الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « فَلَوْ كُنْتُ ثَمَّ لأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ تَحْتَ الْكَثِيبِ الأَحْمَرِ ».
قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : وَإِنَّمَا سَأَلَ الْإِدْنَاء ، وَلَمْ يَسْأَلْ نَفْس بَيْت الْمَقْدِس ، لِأَنَّهُ خَافَ أَنْ يَكُون قَبْره مَشْهُورًا عِنْدهمْ فَيَفْتَتِن بِهِ النَّاس وَفِي هَذَا اِسْتِحْبَاب الدَّفْن فِي الْمَوَاضِع الْفَاضِلَة وَالْمَوَاطِن الْمُبَارَكَة ، وَالْقُرْب مِنْ مَدَافِن الصَّالِحِينَ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ . قَالَ الْمَازِرِيّ : وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْض الْمَلَاحِدَة هَذَا الْحَدِيث ، وَأَنْكَرَ تَصَوُّره ، قَالُوا كَيْف يَجُوزُ عَلَى مُوسَى فَقْء عَيْن مَلَك الْمَوْت ؟ قَالَ : وَأَجَابَ الْعُلَمَاء عَنْ هَذَا بِأَجْوِبَةٍ : أَحَدهَا أَنَّهُ لَا يَمْتَنِع أَنْ يَكُونَ مُوسَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَذِنَ اللَّه تَعَالَى لَهُ فِي هَذِهِ اللَّطْمَة ، وَيَكُون ذَلِكَ اِمْتِحَانًا لِلْمَلْطُومِ ، وَاَللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى يَفْعَلُ فِي خَلْقه مَا شَاءَ ، وَيَمْتَحِنُهُمْ بِمَا أَرَادَ . وَالثَّانِي أَنَّ هَذَا عَلَى الْمَجَاز ، وَالْمُرَاد أَنَّ مُوسَى نَاظَرَهُ وَحَاجَّهُ فَغَلَبَهُ بِالْحُجَّةِ ، وَيُقَالُ : فَقَأَ فُلَان عَيْن فُلَان إِذَا غَالَبَهُ بِالْحُجَّةِ ، وَيُقَالُ : عَوَرْت الشَّيْء إِذَا أَدْخَلْت فِيهِ نَقْصًا قَالَ : وَفِي هَذَا ضَعْفٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فَرَدَّ اللَّه عَيْنه " فَإِنْ قِيلَ : أَرَادَ رَدّ حُجَّته كَانَ بَعِيدًا . وَالثَّالِث أَنَّ مُوسَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مَلَك مِنْ عِنْد اللَّه ، وَظَنَّ أَنَّهُ رَجُلٌ قَصَدَهُ يُرِيدُ نَفْسَهُ ، فَدَافَعَهُ عَنْهَا ، فَأَدَّتْ الْمُدَافَعَةُ إِلَى فَقْءِ عَيْنِهِ ، لَا أَنَّهُ قَصَدَهَا بِالْفَقْءِ ، وَتُؤَيِّدُهُ رِوَايَة ( صَكَّهُ ) ، وَهَذَا جَوَاب الْإِمَام أَبِي بَكْر بْن خُزَيْمَةَ وَغَيْره مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ ، وَاخْتَارَهُ الْمَازِرِيّ وَالْقَاضِي عِيَاض ، قَالُوا : وَلَيْسَ فِي الْحَدِيث تَصْرِيح بِأَنَّهُ تَعَمَّدَ فَقْء عَيْنه ، فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ اِعْتَرَفَ مُوسَى حِين جَاءَهُ ثَانِيًا بِأَنَّهُ مَلَك الْمَوْت ، فَالْجَوَاب أَنَّهُ أَتَاهُ فِي الْمَرَّة الثَّانِيَة بِعَلَامَةٍ عَلِمَ بِهَا أَنَّهُ مَلَك الْمَوْت ، فَاسْتَسْلَمَ بِخِلَافِ الْمَرَّة الْأُولَى . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. يتبع إن شاء الله... |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644
| موضوع: رد: الخلاصة في حياة الأنبياء (1) الجمعة 10 يونيو 2011, 11:09 pm | |
| موسى والخضرعليهما السلام
قال تعالى : {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82) } [الكهف /60 ، 82]
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ إِنَّا لَعِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِى بَيْتِهِ ، إِذْ قَالَ سَلُونِى قُلْتُ أَىْ أَبَا عَبَّاسٍ - جَعَلَنِى اللَّهُ فِدَاكَ - بِالْكُوفَةِ رَجُلٌ قَاصٌّ يُقَالُ لَهُ نَوْفٌ ، يَزْعُمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُوسَى بَنِى إِسْرَائِيلَ ، أَمَّا عَمْرٌو فَقَالَ لِى قَالَ قَدْ كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ ، وَأَمَّا يَعْلَى فَقَالَ لِى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنِى أُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مُوسَى رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - قَالَ ذَكَّرَ النَّاسَ يَوْمًا حَتَّى إِذَا فَاضَتِ الْعُيُونُ ، وَرَقَّتِ الْقُلُوبُ وَلَّى ، فَأَدْرَكَهُ رَجُلٌ ، فَقَالَ أَىْ رَسُولَ اللَّهِ هَلْ فِى الأَرْضِ أَحَدٌ أَعْلَمُ مِنْكَ قَالَ لاَ ، فَعَتَبَ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَى اللَّهِ قِيلَ بَلَى قَالَ أَىْ رَبِّ فَأَيْنَ قَالَ بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ قَالَ أَىْ رَبِّ اجْعَلْ لِى عَلَمًا أَعْلَمُ ذَلِكَ بِهِ » .
فَقَالَ لِى عَمْرٌو قَالَ « حَيْثُ يُفَارِقُكَ الْحُوتُ » . وَقَالَ لِى يَعْلَى قَالَ « خُذْ نُونًا مَيِّتًا حَيْثُ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ ، فَأَخَذَ حُوتًا فَجَعَلَهُ فِى مِكْتَلٍ فَقَالَ لِفَتَاهُ لاَ أُكَلِّفُكَ إِلاَّ أَنْ تُخْبِرَنِى بِحَيْثُ يُفَارِقُكَ الْحُوتُ . قَالَ مَا كَلَّفْتَ كَثِيرًا فَذَلِكَ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ ) يُوشَعَ بْنِ نُونٍ - لَيْسَتْ عَنْ سَعِيدٍ - قَالَ فَبَيْنَمَا هُوَ فِى ظِلِّ صَخْرَةٍ فِى مَكَانٍ ثَرْيَانَ ، إِذْ تَضَرَّبَ الْحُوتُ ، وَمُوسَى نَائِمٌ ، فَقَالَ فَتَاهُ لاَ أُوقِظُهُ حَتَّى إِذَا اسْتَيْقَظَ نَسِىَ أَنْ يُخْبِرَهُ ، وَتَضَرَّبَ الْحُوتُ ، حَتَّى دَخَلَ الْبَحْرَ فَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنْهُ جِرْيَةَ الْبَحْرِ حَتَّى كَأَنَّ أَثَرَهُ فِى حَجَرٍ - قَالَ لِى عَمْرٌو هَكَذَا كَأَنَّ أَثَرَهُ فِى حَجَرٍ ، وَحَلَّقَ بَيْنَ إِبْهَامَيْهِ وَاللَّتَيْنِ تَلِيانِهِمَا - لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا قَالَ قَدْ قَطَعَ اللَّهُ عَنْكَ النَّصَبَ - لَيْسَتْ هَذِهِ عَنْ سَعِيدٍ - أَخْبَرَهُ ، فَرَجَعَا فَوَجَدَا خَضِرًا - قَالَ لِى عُثْمَانُ بْنُ أَبِى سُلَيْمَانَ - عَلَى طِنْفِسَةٍ خَضْرَاءَ عَلَى كَبِدِ الْبَحْرِ - قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ - مُسَجًّى بِثَوْبِهِ قَدْ جَعَلَ طَرَفَهُ تَحْتَ رِجْلَيْهِ ، وَطَرَفَهُ تَحْتَ رَأْسِهِ ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى ، فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ ، وَقَالَ هَلْ بِأَرْضِى مِنْ سَلاَمٍ مَنْ أَنْتَ قَالَ أَنَا مُوسَى .
قَالَ مُوسَى بَنِى إِسْرَائِيلَ قَالَ نَعَمْ . قَالَ فَمَا شَأْنُكَ قَالَ جِئْتُ لِتُعَلِّمَنِى مِمَّا عُلِّمْتَ رَشَدًا . قَالَ أَمَا يَكْفِيكَ أَنَّ التَّوْرَاةَ بِيَدَيْكَ ، وَأَنَّ الْوَحْىَ يَأْتِيكَ ، يَا مُوسَى إِنَّ لِى عِلْمًا لاَ يَنْبَغِى لَكَ أَنْ تَعْلَمَهُ وَإِنَّ لَكَ عِلْمًا لاَ يَنْبَغِى لِى أَنْ أَعْلَمَهُ ، فَأَخَذَ طَائِرٌ بِمِنْقَارِهِ مِنَ الْبَحْرِ وَقَالَ وَاللَّهِ مَا عِلْمِى وَمَا عِلْمُكَ فِى جَنْبِ عِلْمِ اللَّهِ إِلاَّ كَمَا أَخَذَ هَذَا الطَّائِرُ بِمِنْقَارِهِ مِنَ الْبَحْرِ ، حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِى السَّفِينَةِ وَجَدَا مَعَابِرَ صِغَارًا تَحْمِلُ أَهْلَ هَذَا السَّاحِلِ إِلَى أَهْلِ هَذَا السَّاحِلِ الآخَرِ عَرَفُوهُ ، فَقَالُوا عَبْدُ اللَّهِ الصَّالِحُ - قَالَ قُلْنَا لِسَعِيدٍ خَضِرٌ قَالَ نَعَمْ - لاَ نَحْمِلُهُ بِأَجْرٍ ، فَخَرَقَهَا وَوَتَدَ فِيهَا وَتِدًا .
قَالَ مُوسَى أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا - قَالَ مُجَاهِدٌ مُنْكَرًا - قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِى صَبْرًا كَانَتِ الأُولَى نِسْيَانًا وَالْوُسْطَى شَرْطًا وَالثَّالِثَةُ عَمْدًا قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِى مِنْ أَمْرِى عُسْرًا ، لَقِيَا غُلاَمًا فَقَتَلَهُ - قَالَ يَعْلَى قَالَ سَعِيدٌ - وَجَدَ غِلْمَانًا يَلْعَبُونَ ، فَأَخَذَ غُلاَمًا كَافِرًا ظَرِيفًا فَأَضْجَعَهُ ، ثُمَّ ذَبَحَهُ بِالسِّكِّينِ .
قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَمْ تَعْمَلْ بِالْحِنْثِ - وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَرَأَهَا زَكِيَّةً زَاكِيَةً مُسْلِمَةً كَقَوْلِكَ غُلاَمًا زَكِيًّا - فَانْطَلَقَا ، فَوَجَدَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ - قَالَ سَعِيدٌ بِيَدِهِ هَكَذَا - وَرَفَعَ يَدَهُ فَاسْتَقَامَ - قَالَ يَعْلَى - حَسِبْتُ أَنَّ سَعِيدًا قَالَ فَمَسَحَهُ بِيَدِهِ فَاسْتَقَامَ ، لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا - قَالَ سَعِيدٌ أَجْرًا نَأْكُلُهُ - وَكَانَ وَرَاءَهُمْ ، وَكَانَ أَمَامَهُمْ - قَرَأَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ - يَزْعُمُونَ عَنْ غَيْرِ سَعِيدٍ أَنَّهُ هُدَدُ بْنُ بُدَدٍ ، وَالْغُلاَمُ الْمَقْتُولُ ، اسْمُهُ يَزْعُمُونَ جَيْسُورٌ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ، فَأَرَدْتُ إِذَا هِىَ مَرَّتْ بِهِ أَنْ يَدَعَهَا لِعَيْبِهَا ، فَإِذَا جَاوَزُوا أَصْلَحُوهَا فَانْتَفَعُوا بِهَا وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ سَدُّوهَا بِقَارُورَةٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِالْقَارِ ، كَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ ، وَكَانَ كَافِرًا فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا ، أَنْ يَحْمِلَهُمَا حُبُّهُ عَلَى أَنْ يُتَابِعَاهُ عَلَى دِينِهِ فَأَرَدْنَا أَنْ يُبَدِّلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً لِقَوْلِهِ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا هُمَا بِهِ أَرْحَمُ مِنْهُمَا بِالأَوَّلِ ، الَّذِى قَتَلَ خَضِرٌ وَزَعَمَ غَيْرُ سَعِيدٍ أَنَّهُمَا أُبْدِلاَ جَارِيَةً ، وَأَمَّا دَاوُدُ بْنُ أَبِى عَاصِمٍ فَقَالَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ إِنَّهَا جَارِيَةٌ . .[البخاري] .
وعن أُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ : « إِنَّهُ بَيْنَمَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ فِى قَوْمِهِ يُذَكِّرُهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ وَأَيَّامُ اللَّهِ نَعْمَاؤُهُ وَبَلاَؤُهُ إِذْ قَالَ مَا أَعْلَمُ فِى الأَرْضِ رَجُلاً خَيْرًا أَوْ أَعْلَمَ مِنِّى. قَالَ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ إِنِّى أَعْلَمُ بِالْخَيْرِ مِنْهُ أَوْ عِنْدَ مَنْ هُوَ إِنَّ فِى الأَرْضِ رَجُلاً هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ. قَالَ يَا رَبِّ فَدُلَّنِى عَلَيْهِ. قَالَ فَقِيلَ لَهُ تَزَوَّدْ حُوتًا مَالِحًا فَإِنَّهُ حَيْثُ تَفْقِدُ الْحُوتَ.
قَالَ فَانْطَلَقَ هُوَ وَفَتَاهُ حَتَّى انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَعُمِّىَ عَلَيْهِ فَانْطَلَقَ وَتَرَكَ فَتَاهُ فَاضْطَرَبَ الْحُوتُ فِى الْمَاءِ فَجَعَلَ لاَ يَلْتَئِمُ عَلَيْهِ صَارَ مِثْلَ الْكُوَّةِ قَالَ فَقَالَ فَتَاهُ أَلاَ أَلْحَقُ نَبِىَّ اللَّهِ فَأُخْبِرَهُ قَالَ فَنُسِّىَ. فَلَمَّا تَجَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا. قَالَ وَلَمْ يُصِبْهُمْ نَصَبٌ حَتَّى تَجَاوَزَا. قَالَ فَتَذَكَّرَ قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّى نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ عَجَبًا. قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِى. فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا فَأَرَاهُ مَكَانَ الْحُوتِ قَالَ هَا هُنَا وُصِفَ لِى.
قَالَ فَذَهَبَ يَلْتَمِسُ فَإِذَا هُوَ بِالْخَضِرِ مُسَجًّى ثَوْبًا مُسْتَلْقِيًا عَلَى الْقَفَا أَوْ قَالَ عَلَى حَلاَوَةِ الْقَفَا قَالَ السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ. فَكَشَفَ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ قَالَ وَعَلَيْكُمُ السَّلاَمُ مَنْ أَنْتَ قَالَ أَنَا مُوسَى. قَالَ وَمَنْ مُوسَى قَالَ مُوسَى بَنِى إِسْرَائِيلَ. قَالَ مَجِىءٌ مَا جَاءَ بِكَ قَالَ جِئْتُ لِتُعَلِّمَنِى مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا.
قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا. شَىْءٌ أُمِرْتُ بِهِ أَنْ أَفْعَلَهُ إِذَا رَأَيْتَهُ لَمْ تَصْبِرْ. قَالَ سَتَجِدُنِى إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِى لَكَ أَمْرًا. قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِى فَلاَ تَسْأَلْنِى عَنْ شَىْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا. فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِى السَّفِينَةِ خَرَقَهَا. قَالَ انْتَحَى عَلَيْهَا.
قَالَ لَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا. قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِى مِنْ أَمْرِى عُسْرًا. فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غِلْمَانًا يَلْعَبُونَ. قَالَ فَانْطَلَقَ إِلَى أَحَدِهِمْ بَادِىَ الرَّأْىِ فَقَتَلَهُ فَذُعِرَ عِنْدَهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ ذَعْرَةً مُنْكَرَةً. قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَاكِيَةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عِنْدَ هَذَا الْمَكَانِ « رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى مُوسَى لَوْلاَ أَنَّهُ عَجَّلَ لَرَأَى الْعَجَبَ وَلَكِنَّهُ أَخَذَتْهُ مِنْ صَاحِبِهِ ذَمَامَةٌ. قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَىْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِى قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّى عُذْرًا. وَلَوْ صَبَرَ لَرَأَى الْعَجَبَ - قَالَ وَكَانَ إِذَا ذَكَرَ أَحَدًا مِنَ الأَنْبِيَاءِ بَدَأَ بِنَفْسِهِ « رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى أَخِى كَذَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْنَا - « فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ لِئَامًا فَطَافَا فِى الْمَجَالِسِ فَاسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ. قَالَ لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا.
قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ وَأَخَذَ بِثَوْبِهِ. قَالَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِى الْبَحْرِ إِلَى آخِرِ الآيَةِ. فَإِذَا جَاءَ الَّذِى يُسَخِّرُهَا وَجَدَهَا مُنْخَرِقَةً فَتَجَاوَزَهَا فَأَصْلَحُوهَا بِخَشَبَةٍ وَأَمَّا الْغُلاَمُ فَطُبِعَ يَوْمَ طُبِعَ كَافِرًا وَكَانَ أَبَوَاهُ قَدْ عَطَفَا عَلَيْهِ فَلَوْ أَنَّهُ أَدْرَكَ أَرْهَقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَأَرَدْنَا أَنْ يُبَدِّلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا. وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِى الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ ». إِلَى آخِرِ الآيَةِ.
معنى الآيات
قِيلَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ : إِنَّ عَبْداً مِنْ عِبَادِ اللهِ مَوْجُوداً فِي مَجْمَعِ البَحْرِينِ ، عِنْدَهُ عِلْمٌ لَمْ تُحِطْ بِهِ أَنْتَ ، فَأَحَبَّ مُوسَى الرَّحِيلَ إِلَيْهِ لِيَسْمَعَ مِنْهُ . فَقَالَ لِفَتَاهُ ( وَقِيلَ إِنَّهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ وَهُوَ مِنْ نَسْلِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ) إِنَّي سَأَسِيرُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ ، وَأَلْتَقِي بِالرَّجُلِ ، وَلَوْ سِرْتُ أَمَداً طَوِيلاً .
وَكَانَ قِيلَ لِمُوسَى أَنْ يَحْمِلَ مَعَهُ حُوتاً مُمَلَّحاً ، وَفِي المَكَانِ الَّذِي يَفْقِدُ فِيهِ الحُوتَ فَإِنَّهُ يَلْتَقِي بِذَلِكَ الرَّجُلِ العَالِمِ .
فَسَارَ مَعَ فَتَاهُ حَتَّى بَلَغَا مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ ، فَسَقَطَ الحُوتُ فِي المَاءِ ، فَأَخَذَ يَسْبَحُ فِيهِ ، وَكَانَ يَشُقُّهُ شَقّاً ، وَيَتْرُكُ وَرَاءَهُ مِثْلَ السَّرَبِ ( النَّفَقِ ) .
فَلَمَّا جَاوَزَا المَكَانَ الَّذِي أَضَاعَا فِيهِ الحُوتَ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ : هَاتِ الغَدَاءَ ، فَقَدْ أَتْعَبَنَا المَسِيرُ .
فَقَالَ الفَتَى لِمُوسَى : لَقَدْ نَسِيتُ الحُوتَ حِينَمَا جَلَسْنَا نَرْتَاحُ إِلَى جَانِبِ الصَّخْرَةِ ( إِذْ أَوَيْنا الصَّخْرَة ) ، وَلَمْ أَذْكُرْ ذَلِكَ لَكَ لأَنَّ الشَّيْطَانَ أَنْسَانِيهِ ، فَاتَّخَذَ الحُوتُ طَرِيقَهُ فِي البَحْرِ بِصُورَةٍ عَجِيبَةٍ غَيْرِ مَأْلُوفَةٍ ، لأَنَّهُ حُوتٌ مَيِّتٌ ، وَكَانَ يَشُقُّ المَاءَ ، وَهُوَ يَسْبَحُ ، فَيَكُونُ المَاءُ فَوْقَهُ كَالنَّفَقِ ، أَوِ الشَّقِّ فِي الأَرْضِ ( السَّرَبِ ) .
فَقَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ : ذَلِكَ هُوَ الَّذِي كُنَّا نَبْغِيهِ وَنُرِيدُهُ مِنْ سَفَرِنَا - وَهُوَ فَقْدُ الحُوتِ - لأَنَّنَا وُعِدْنَا بِلِقَاءِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ فِي المَكَانِ الّذي نَفْقِدُ فِيهِ الحُوتَ ، فَرَجَعَا يَقُصَّانِ أَثَرَهُمَا فِي السَّيّرِ ، حَتَّى انْتَهَيَا إِلى الصَّخْرَةِ.
فَوَجَدَ مُوسَى وَفَتَاهُ رَجُلاً عِنْدَ الصَّخْرَةِ مُسَجًّى بِثَوْبٍ أَبْيَضَ ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ إِنَّ أَهْلَ أَرْضِكَ لاَ يَعْرِفُونَ السَّلاَمَ . وَيَصِفُ اللهُ تَعَالَى الرَّجُلَ بِأَنَّ اللهُ آتَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ ، وَعَلَّمَهُ مِنْ عِلْمِهِ .
قَالَ لَهُ مُوسَى: إِنَّهُ مُوسَى نَبِيُّ بَنِي إِسْرَائِيلَ ، وَإِنَّهُ جَاءَهُ لِيُعَلِّمَهُ مِمَّا عَلَّمَهُ اللهُ ، لِيَسْتَرْشِدَ بِهِ ، فَهَلْ يَسْمَحُ لَهُ بِمُرَافَقَتِهِ؟
فَقَالَ الرَّجُلُ : إِنَّهُ عَلَى عِلْمٍ مِنَ اللهِ لاَ يَعْلَمُهُ مُوسَى ، وَلاَ يَسْتَطِيعُ مُوسَى أَنْ يَصْبِرَ عَلَى مُرَافَقَتِهِ حَتَّى يَتَعَلَّمَهُ .
ثُمَّ قَالَ لَهُ : وَكَيْفَ تَسْتَطِيعُ الصَّبْرَ عَلَى أُمُورٍ لاَ تَعْرِفُ أَنْتَ خَفَايَاهَا ، وَالمَصْلَحَةُ البَاطِنَةُ فِيهَا ، التِي أَطْلَعَنِي اللهُ عَلَيْهَا؟
فَقَالَ لَهُ مُوسَى : سَتَجِدُنِي صَابِراً إِنْ شَاءَ اللهُ عَلَى مَا سَأَرَى مِنَ الأُمُورِ مِنْكَ ، وَلَنْ أَعْصِي أَمْراً لَكَ ، وَلَنْ أُخَالِفَكَ فِي شَيْءٍ .
فَقَالَ الرَّجُلُ لِمُوسَى : إِذَا أَرْدْتَ أَنْ تُرَافِقَنِي فَلاَ تَسْأَلْنِي عَنْ شَيءٍ يِبْدُو لَكَ غَرِيباً ، غَيْرَ مَفْهُومٍ ، مِنْ أَفْعَالِي ، حَتَّى أَبْدَأَكَ أَنَا بِالحَدِيثِ عَنْهُ ، وَأَشْرَحَهُ لَكَ .
وَبَعْدَ أَنِ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يُرَافِق مُوسَى الرَّجُلَ الصَّالِحَ لِيَتَعَلَّمَ مِنْهُ ، رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ فِي البَحْرِ ، فَانْطَلَقَتْ بِهِمْ تَمْخُرُ عَبَابَ البَحْرِ ، وَلَمَّا أَوْغَلَتِ السَّفِينَةُ فِي البَحْرِ ، قَامَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَخَرَقَ السَّفِينَةَ بِأَنِ اسْتَخْرَجَ لَوْحاً مِنْ أَلْوَاحِهَا ، ثُمَّ وَضَعَ مَكَانَهُ لَوْحاً آخَرَ ، فَأَصْبَحَتِ السَّفِينَةُ وَكَأَنَّهَا مَرْقُوعَةٌ ، فَلَمْ يَتَمَالَكْ مُوسَى نَفْسَهُ ، فَقَالَ مُنْكِراً : إِنْ خَرْقَكَ السَّفِينَةَ يُؤَدِّي إِلَى إِغْرَاقِ مَنْ فِيهَا ، لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً عَجِيباً مُنْكَراَ .
فَقَالَ الرَّجُلُ لِمُوسَى : أَلَمْ أَقُلْ لَكَ : إِنَّكَ لَنْ تَسَتَطِيعَ صَبْراً عَلَى مَا سَتَرَاهُ مِنْ فِعْلِي؟ وَإِنَّمَا أَنَا قُمْتُ بِمَا قُمْتُ بِهِ لِمَصْلَحَةٍ لاَ تَعْرِفُهَا أَنْتَ .
فَقَالَ لَهُ مُوسَى مُعْتَذِراً : إِنَّهُ نَسِيَ مَا كَانَ مِنِ اتِّفَاقٍ بَيْنَهُمَا ، وَرَجَاهُ أَنْ لاَ يَضِيقَ عَلَيْهِ ، وَلاَ يُرْهِقَهُ بِالمُؤَاخَذَةِ .
وَبَعْدَ أَنْ نَزَلاَ مِنَ السَّفِينَةِ ، سَارَا فِي سَبِيلِهِمَا فَوَجَدَا غُلاَماً فِي إِحْدَى القُرَى يَلْعَبُ مَعْ أَتْرَابِهِ ، فَأَخَذَهُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ مِنْ بَيْنِهِمْ وَقَتَلَهُ ، فَاسْتَنْكَرَ مُوسَى ذَلِكَ . وَقَالَ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ : إِنَّكَ قَدِ ارْتَكَبْتَ أَمْراً تُنْكِرُهُ العُقُولُ ( نُكْراً ) ، بِقَتْلِكَ نَفْساً زَكِيَّةً طَاهِرَةً ، بِدُونِ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا قَتْلٌ تَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ العُقُوبَةَ .
فَقَالَ الرَّجُلُ مُذَكِّراً بِمَا قَالَهُ فِي بِدْءِ الرِّحْلَةِ ، وَهُوَ أَنَّ مُوسَى لَنْ يَسْتَطِيعَ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى مَا يَرَاهُ مِنْهُ ، وَأَنَّهُ سَيَعْتَرِضُ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ الأَسَبَابَ الخَفِيَّةَ لِلْفِعْلِ؟
فَقَالَ لَهُ مُوسَى : إِنِ اعْتَرَضْتُ عَلَيْكَ فِي شَيءٍ بَعْدَ هَذِهِ المَرَّةِ ، فَلاَ تُصَاحِبْنِي لأَنَّكَ أَعْذَرْتَ إِلَيَّ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ .
فَسَارَا مُنْطَلِقَيْنِ فِي سَبِيلِهِمَا حَتَّى أَتَيَا قَرْيَةً ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمَا زَادٌ ، فَسَأَلاَ أَهْلَهَا الطَّعَامَ ، فَلَمْ يَقْبَلْ أَحَدٌ فِيهَا أَنْ يُطْعِمْهُمَا .
وَبَيْنَمَا كَانَا يَسِيرَانِ فِي القَرْيَةِ وَجَدَا جِدَاراً مُتَدَاعِياً لِلسُّقُوطِ ، فَقَامَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بِإِقَامَتِهِ وَتَدْعِيمِهِ . فَقَالَ لَهُ مُوسَى : إِنَّ أَهْلَ القَرْيَةِ لَمْ يُطْعِمُوهُمَا ، فَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ لاَ يَقُومَ لَهُمْ بِعَمَلٍ بِدًونِ أَجْرٍ .
فَقَالَ الرَّجُلُ لِمُوسَى : إِنَّكَ اشْتَرَطْتَ وَقْتَ قَتْلِ الغُلاَمِ أَنْ لاَ أُصَاحِبَكَ إِنْ سَأَلْتَنِي عَنْ شَيءٍ دُونَ أَنْ أُحَدِّثُكَ أَنَا بِأَمْرِهِ ، وَلِذَلِكَ فَإِنِّي أُفَارِقُكَ ، وَلَكِنَّنِي سَأخْبِرُكَ بِتَفْسِيرِ ( تَأْوِيلِ ) مَا قُمْتُ بِهِ مِنْ أَعْمَالٍ اسْتَنْكَرْتَهَا أَنْتَ ، وَاسْتَغْرَبْتَهَا ، وَلَمْ تَسْتَطِعْ صَبْراً عَلَيْهَا .
وَبَدَأَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بِشَرْحِ الأَسْبَابِ التِي حَمَلَتْهُ عَلَى خَرْقِ السَّفِينَةِ ، فَقَالَ: إِنَّهُ إِنَّمَا قَامَ بِخَرْقِ السَّفِينَةِ لِيُحْدِثَ فِيهَا عَيْباً ، لأَنَّهُمْ كَانُوا سَيَمُرُّونَ فِي طَرِيقِهِمْ عَلَى مَلِكٍ ظَالِمٍ ، يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ حَسَنَةِ المَنْظَرِ ، غَصْباً ، وَإِحْدَاثِ العَيْبِ فِي السَّفِينَةِ يُنْقِذُهَا مِنْ شَرِّ هَذَا المَلِكِ الظَّالِمِ ، وَالسَّفِينَةُ يَمْلِكُهَا جَمَاعَةٌ مَسَاكِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شَيءٌ غَيْرَهَا يَرْتَزِقُونَ مِنْهُ .
أَمَّا الغُلاَمُ الَّذِي قَتَلَهُ ، فَإِنَّهُ فِيمَا قَدَّرَ اللهُ ، قَدْ طُبِعَ عَلَى الكُفْرِ ، وَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنِينَ صَالِحَيْنِ ، فَخَشِيتُ أَنْ يَحْمِلَهُمَا حُبُّهُمَا لابْنِهِمَا عَلَى مُتَابَعَتِهِ عَلَى كُفْرِهِ ، فَيَكُونَ فِي ذَلِكَ هَلاَكُهُمَا .
فَأَرَادَ أَنْ يُبْدِلَهُمَا اللهُ بِهِ وَلَداً أَزْكَى مِنْهُ نَفْساً ( خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً ) ، وَأَكْثَرَ بِرّاً بِوَالِدَيْهِ .
أَمَّا الجِدَارُ الَّذِي أَقَامَهُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ ، وَدَعَّمَهُ دُونَ أَجْرٍ ، فَقَدْ كَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي القَرْيَةِ ، وَكَانَ أَبُوهُمَا رَجُلاً صَالِحاً ، وَكَانَ تَحْتَ الجِدَارِ المَائِلِ لِلانْهِدَامِ ، كَنْزٌ مَدْفُونٌ لاَ يَعْرِفُ مَكَانَهُ أَحَدٌ ، فَإِذَا انْهَارَ الجِدَارُ ، وَهُمَا صَغِيرَانِ ، فَقَدْ يَضِيعُ الكَنْزُ ، وَلاَ يَنْتَفِعَانِ بِهِ ، لِذَلِكَ أَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ أَنْ يُقِيمَ الجِدَارَ لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى الكَنْزِ الَّذِي تَحْتَهُ ، حَتَّى يَبْلُغَ الغُلاَمَانِ أَشُدَّهُمَا ، وَيَسْتَطِيعَا اسْتِخْرَاجَهُ وَالانْتِفَاعَ بِهِ.
وَأَضَافَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ قَائِلاً: إِنَّ الَّذِي فَعَلَهُ فِي الحَالاَتِ الثَّلاَثِ إِنَّمَا كَانَ رَحْمَةً مِنَ اللهِ بِأَصْحَابِ السَّفِينَةِ ، وَبِوَالِدَي الغُلاَمِ الَّذِي قَتَلَهُ ، وَباِليَتِمَينِ ، وَلَمْ يَفْعَلْهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ ، وَقَدْ فَعَلَهُ عَنْ أَمْرِ اللهِ وَوَحْيِهِ .
ثُمَّ قَالَ : إِنَّ هَذَا الَّذِي تَقَدَّمَ هُوَ تَفْسِيرٌ لَلأَفْعَالِ التِي لَمْ يَسْتَطِعْ مُوسَى الصَّبْرَ عَلَيْهَا
----------------
الدروس والعبر من قصة موسى والخضر عليهما السلام:
القصة هذه من بدايتها إلى نهايتها نبع ثرٌّ من المعاني التربوية القرآنية الرائعة . في كل كلمة منحى بديع ولفتة راقية .
فهلم إليها من بدايتها :
- " وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) " إن لموسى عليه السلام هدفاً محدداً يسعى لتحقيقه ..
ا- يريد أن يلقى معلماً يتعلم منه صلاح أمره في دنياه وآخرته . ب- في مكان محدد يلتقيان فيه . ج- في وقت ينتظره المعلم فيه .
*- وعلى التلميذ أن يسعى إلى العلم لا أن يسعى المعلم إليه:
فهذا أكرم للعلم والمعلم والمتعلم ، فالعلم إن جاء سهل المتناول زهد المتعلم فيه . وأعظم للمعلم في عين المتعلم أن يسعى الأخير إلى الأول ليعرف قدره وقدر ما يحمله ، فيتعلق بهما .
*- ونرى الإصرار العجيب على لقاء المعلم والنهل من علمه في قوله :
" لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا " فهو مصمم على بذل الجهد ليصل إلى مبتغاه - لقاء الأستاذ في المكان المنشود - ولو أمضى عمره يبحث عنه " أو أمضي حقباً " والحقبة أربعون سنة كما قال العلماء ، فما بالك بذكر الجمع " حقباً " ؟! إنه دليل على الهمة العالية والسعي الحثيث إلى العلم والعلماء . وما يزال العلم بخير مادام طالبوه يطلبونه في مجالسه ويوقرون حامليه . ألم يرد في الأثر :" نعم الأمراء على أبواب العلماء ، وبئس العلماء على أبواب الأمراء " ؟ ...
وهذا نبي كريم موسى عليه السلام على جلال قدره وعلوّ مكانته يسعى إلى الرجل الصالح حين علم أن لديه علماً يُستفاد لم يحزْه موسى " وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ " .
*- مصاحبة الكبيرِ الصغيرَ فائدة لكليهما فالأول يشرف على تربيته ، ويعلمه الحياة ويصوب أخطاءه ، ويسدد خطاه . والثاني يخدمه ، ويعينه على قضاء حوائجه . وقد أفلح موسى في تربية الفتى " يوشع بن نون " عليه السلام إذ بعثه الله تعالى نبياً، فقاد مسيرة المؤمنين وحمل لواء الدعوة بعد أستاذه ، وفتح الله على يديه القدس الشريف .
*- أن الإِنسان مهما أوتى من العلم ، فعليه أن يطلب المزيد ، وأن لا يعجب بعلمه ، فالله - تعالى - يقول : { وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلاً } وطلب من نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتضرع إليه بطلب الزيادة من العلم فقال : { وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً }
وكل إنسان - في تجاربه الخاصة - يستطيع حين يتأمل أن يجد في حياته مكروهات كثيرة كان من ورائهاالخير العميم . ولذات كثيرة كان من ورائها الشر العظيم . وكم من مطلوب كاد الإنسان يذهب نفسه حسرات على فوته ; ثم تبين له بعد فترة أنه كان إنقاذا من الله أن فوت عليه هذا المطلوب في حينه . وكم من محنة تجرعها الإنسان لاهثا يكاد يتقطع لفظاعتها . ثم ينظر بعد فترة فإذا هي تنشيء له في حياته من الخير ما لم ينشئه الرخاء الطويل .
إن الإنسان لا يعلم . والله وحده يعلم. فماذا على الإنسان لو يستسلم:
إن هذا هو المنهج التربوي الذي يأخذ القرآن به النفس البشرية . لتؤمن وتسلم وتستلم في أمر الغيب المخبوء , بعد أن تعمل ما تستطيع في محيط السعي المكشوف.
*- أن الرحلة فى طلب العلم من صفات العقلاء . فموسى - عليه السلام - وهو من أولى العزم من الرسل ، تجشم المشاق والمتاعب لكى يلتقى بالرجل الصالح؛ لينتفع بعلمه ، وصمم على ذلك مهما كانت العقبات بدليل قوله - تعالى - حكاية عنه : { لا أَبْرَحُ حتى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البحرين أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً } قال القرطبى عند تفسيره لهذه الآية : فى هذا من الفقه رحلة العالم فى طلب الازدياد من العلم ، والاستعانة على ذلك بالخادم والصاحب واغتنام لقاء الفضلاء والعلماء وإن بعدت أقطارهم . وذلك كان دأب السلف الصالح ، وبسبب ذلك وصل المرتحلون لطلب العلم إلى الحظ الراجح : وحصلوا على السعى الناجح ، فرسخت لهم فى العلوم أقدام . وصح لهم من الذكر والأجر والفضل أفضل الأقسام .
قال البخارى : ورحل جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس فى طلب حديث .
*- " فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا " وكلمة " مجمع بينهما " حار فيه كثير من المفسرين فمنهم من جعله الأرض الشاسعة بين بحر قزوين وخليج فارس !، ومنهم من قال : إنه بين خليج الإسكندرون وبحر إيجة ! ومنهم من ذكر أنها الأرض بين بحر غزة وخليج العقبة ! وقد ظنوا بكلمة " البحرين " المياه المالحة ، فتاهوا في أقوالهم ... إنه ليس من الممكن أن يلتقي أحد بمن يريد على مساحات ضخمة شاسعة تبلغ آلاف الكيلومترات تضيع فيها الجيوش والأمم !!
وهل من المعقول أن يُضْرَبَ موعدٌ لرجلين في صحراء سيناء الواسعة الشاسعة ، أو أن يشد موسى الرحال إلى إيران ، أو أسيا الوسطى وهو في فلسطين ؟! وقد غاب عن كثير منهم أن البحر يطلق على الماء المالح والماء الحلو في قوله تعالى : " {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا} (53) سورة الفرقان " والنهر يصب في البحر ، فهو مجمعهما .
أي : في قطعة من الأرض لا تتجاوز عشرات الأمتار، قريبة من مقام موسى عليه السلام يقطعها إن جدّ السيرَ بساعات قليلة أو ببعض يوم . وسياق الحديث يدل على ذلك . وهل يجوز لموسى عليه السلام أن يدع قومه – بني إسرائيل - أياماً وشهوراً وهم على ما هم عليه من ضعف الإيمان وشوائب العقيدة ، ويلتقي رجلاً مدة ليست باليسيرة ، قد تطول أياماً وشهوراً أيضاً فيعود ليجدهم قد تاهوا في الضلالة وهو العالم بشؤونهم الحريص على هدايتهم ؟!
*- جواز إخبار الإِنسان عما هو من مقتضى الطبيعة البشرية ، كالجوع والعطش والتعب والنسيان فقد قال موسى لفتاه : { آتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا نَصَباً } ورد عليه فتاه بقوله : { أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة فَإِنِّي نَسِيتُ الحوت وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ . . } وفي هذا الرد - أيضا - من الأدب ما فيه ، فقد نسب سبب النسيان إلى الشيطان ، وإن كان الكل بقضاء الله - تعالى - وقدره .
*- الإنسان ضعيف على الرغم من جلده في كثير من أموره ، ولو كان من أولي العزم .
وأول دليل على ذلك أنّ موسى عليه السلام أصرَّ على لقاء الرجل ولو طوى الأرض في سبيل هذا الهدف . لكنه إذ شعر بالجوع بعد السير الطويل واجتياز مكان اللقاء دون أن ينتبها إليه قال لفتاه " { آتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا نَصَباً " وكان غداؤُه السمكة المشوية التي تحركت بعد أن عادت إليها الروح بإذن الله تعالى حين استلقى نائماً على الصخرة التي كان من المفروض أن يلتقي صاحبه عليها وغابت في شقوقها عائدة إلى الماء بقدرة خالقها وبارئها الذي يعيد الخلق كما بدأه وقتما يشاء .
والدليل الثاني أن النسيان ضعف يضيّع على الإنسان كثيراً مما خطط ودبّر . فقد نام موسى عليه السلام على الصخرة حين سرب الحوت إلى الماء ولم يكن الفتى نائماً فرأى بأم عينه الأمر الغريب ، ولم يشأ أن يوقظ نبيه الكريم احتراماً وتقديراً ولسوف يخبره حين يستيقظ .
*- ولا بد أن نشير هنا إلى الأدب الذي ربّيَ عليه الصغير في التعامل مع الكبير، وإلى آفة النسيان التي ابتلي بها الإنسان للدلالة على ضعفه . فلما استيقظ موسى عليه السلام وسارا بحثاً عن الرجل الصالح نسي الفتى قصة السمكة على غرابتها وعجيب أمرها .
*- ومن الأدب أيضاً مع الله تعالى أنْ نسَب الفتى نسيانه أمر السمكة إلى الشيطان، واعتبر هذا النسيان عيباً. والعيب كله في الشيطان عدو الإنسان . مع أن الله تعالى كان أخبر نبيه موسى عليه السلام أنه سيلقى الرجل الصالح في المكان الذي يفقد فيه الحوت . فهو أمر مخطَّط له كي يحدد المكان فلا يخطئه .
*- والحقيقة أن موسى وفتاه نسيا المكان وسارا لأنهما لم يقولا " إن شاء الله " فيما عزما عليه ، فموسى أخبر فتاه عن عزمه على بلوغ مجمع البحرين دون أن يربط ذلك بمشيئة الله تعالى ، وكذلك فعل فتاه فدمجهما الله تعالى بذكرهما في النسيان " .... نسيا حوتهما ..." وكان النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن سأله عن الروح والفتية - أصحاب الكهف - وذي القرنين إنه سيعطيهم الجواب غداً دون أن يربط ذلك بمشيئة الله فتأخر الجواب خمسة عشر يوماً ثم نزل عليه قوله تعالى : " وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) [الكهف/23-25] " .
*- ومن الأدب التربوي في هذه القصة كذلك أن موسى حين علم بخطئه وخطأِ فتاه لم يشغل نفسه بلوم نفسه أو لوم صاحبه فهناك أمر مهم جداً عليهما تداركه قبل فواته . إنه لقاء الرجل المعلم . فماذا فعلا ؟ إنهما:
أ - عادا سريعاً لم يضيعا الوقت ، والدليل على ذلك قوله تعالى : " فارتدا ..." وهذه الكلمة مع الفاء - حرف العطف والترتيب والتعقيب - تدلان على سرعة الحركة والعزم على الوصول بقوة إلى الهدف .
ب- عادا من حيث جاءا ، يستهديان بآثار الخطوات التي مشياها كي لا ينحرفا عن الصخرة " ... على أثارهما قصصاً ..." . جـ - فكان عاقبة سرعتهما وجَدِّهما أن وصلا إلى الهدف فوراً " فوجدا عبداً من عبادنا ..." .
*- بعض صفات المعلم الرباني :
أ - هو عبد من عباد الله تعالى ، والعبودية لله أعلى مراتب الإنسانية ، لأن صلة العبد بربه تسمو به، وتفتح له مغاليق الأمور . وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا الرجل الصالح هو الخضر ، فقد روى عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : « إِنَّمَا سُمِّىَ الْخَضِرَ لأَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ فَاهْتَزَّتْ تَحْتَهُ خَضْرَاءَ » . ، والفروة هنا وجه الأرض . ... قيل : إنه عبد صالح غير نبي ، والآية تشهد بنبوته لأن بواطن أفعاله لا تكون إلا بوحي . والإنسان يتعلم عادة ممن فوقه ، ولا يتعلم نبي إلا من نبي ، ولا يجوز أن يكون فوق النبي من ليس بنبي . وقيل غير ذلك ، ولا يهمنا هذا الأمر بشيء ، وذكرناه للعلم به فقط .
ب - " آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا " قيل هي النبوة . وقيل النعمة أيضاً . فهو رحيم . والمعلم الرحيم بتلاميذه يعمل على تعليمهم برفق ، ويتقرب إليهم ، ويتحبب إليهم ليأنسوا إليه فيحبوه ويأخذوا عنه علمه .
جـ- كان علم موسى بظواهر الأحكام ، وعلم الخضر معرفة بواطنها . كما أن العلم اللدني من الله مباشرة ، ليس لأحد من البشر فضل تعليمه .
*- من أدب التعلم :
أ - التلطف في الطلب ، فلم يفرض موسى عليه السلام نفسه على الخضر عليه السلام على الرغم أن الله تعالى أخبر الخضر بلقائه ليتعلم منه . إنما تلطف في عرضه بصيغة الاستفهام التي تترك مجالاً للمسؤول أن يتنصل إن أراد .
ب - جعل نفسه تابعاً حين سأله " هل أتبعك .." فالتلميذ تابعٌ أستاذه مسلمٌ إليه قياده ، وهذا أدعى إلى التناغم بينهما .
ت - العلم يرفع صاحبه . وهذا ما أقرّ به موسى للخضر حين عرض عليه أن يتابعه شرط أن يعلمه " على أن تعلمن .. " وهذه التبعية ترفع المتعلم . أما التبعية من ذل أو لعاعة من دنيا يصيبها فسقوط للمتبوع ، وكبر للتابع .
ث - الواقعية في الطلب : فهو لم يطلب منه أن يعلمه كل شيء ، إنما طلب أن يعلمه شيئا مما علمه الله تعالى : " ... مما عُلّمْتَ .. " وهذا تواضع في الطلب فهو عليه السلام لم يكلف أستاذه شططاً ... لقد طلب العلم المفيد الذي تسمح به نفس معلمه .
ج - طلب النفيس من العلم : فالله تعالى علم الخضر علماً لدنياً نفيساً يريد موسى بعضه ، ولم يطلب العلم الدنيوي ، وإن كان مفيداً إنما طلب الهدى والرشاد الذي يبلغه المقام الأعلى في الدنيا والآخرة ، وحدد نوع العلم فقال :" مما علمت رشداً " وضد الرشد الهوى والضلال ، وهذا ما لا نريده .
ح - قوله تعالى " مما عُلّمْت رشداً " تذكير للمعلم أن الله تعالى أنعم عليه بالرشاد والهدى والسداد . ومن شُكْرِ النعم أن يعلّم عباد الله بعضاً مما أكرمه الله به ، فتزداد حظوته عند خالقه ، ويزيده علماً. ومن دل على خير كان له مثل أجر فاعله .
*- أن على المتعلم أن يخفض جناحه للمعلم ، وأن يخاطبه بأرق العبارات وألطفها ، حتى يحصل على ما عنده من علم بسرور وارتياح .
قال بعض العلماء ما ملخصه : وتأمل ما حكاه الله عن موسى فى قوله للخضر : { هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً }
فقد أخرج الكلام بصورة الملاطفة والمشاورة ، فكأنه يقول له : هل تأذن لى فى ذلك أو لا ، مع إقراره بأنه يتعلم منه ، بخلاف ما عليه أهل الجفاء أو الكبر ، الذى لا يظهر للمعلم افتقاره إلى علمه.
وبهذا الأدب اللائق بنبي , يستفهم ولا يجزم , ويطلب العلم الراشد من العبد الصالح العالم .
ولكن علم الرجل ليس هو العلم البشري الواضح الأسباب القريب النتائج , إنما هو جانب من العلم اللدني بالغيب أطلعه الله عليه بالقدر الذي أراده , للحكمة التي أرادها . ومن ثم فلا طاقة لموسى بالصبر على الرجل وتصرفاته ولو كان نبيا رسولا .
لأن هذه التصرفات حسب ظاهرها قد تصطدم بالمنطق العقلي , وبالأحكام الظاهرة , ولا بد من إدراك ما وراءها من الحكمة المغيبة ; وإلا بقيت عجيبة تثير الاستنكار . لذلك يخشى العبد الصالح الذي أوتي العلم اللدني على موسى ألا يصبر على صحبته وتصرفاته.
*- وقد يشترط المعلم على تلميذه أن لا يستعجل في السؤال عن أمر من الأمور إلى أن يحين الوقت المناسب لشرحه " قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا " . فقد لا يرغب بالتوضيح حتى يستكمل الأمر . وقد يرى المعلم اختبار تلميذه في الصبر . وقد يكون المعلم نفسه قليل الكلام . وقد يكون ممن يعتمدون في التعليم على الملاحظة ... ولكل شيخ طريقته ، إن جاريته فيها تعلمت منه ، وإن خالفته فارقك وفارقته .
*- أنه لا بأس على العالم ، إذا اعتذر للمتعلم عن تعليمه ، لأن المتعلم لا يطيق ذلك ، لجهله بالأسباب التى حملت العالم على فعل تلك الأمور التى ظاهرها يخالف الحق والعدل والمنطق العقلى ، وأن معرفة الأسباب تعين على الصبر .
فقد قال الخضر لموسى : { إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً } فقد جعل الموجب لعدم صبره عدم إحاطته خبرا بالأمر .
*- إن من علامات الإِيمان القوى ، أن يقدم الإِنسان المشيئة عند الإِقدام على الأعمال ، وأن العزم على فعل الشئ ليس بمنزلة فعله ، فقد قال موسى للخضر : { ستجدني إِن شَآءَ الله صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً } ومع ذلك فعندما رأى منه أفعالا يخالف ظاهرها الحق والصلاح ، لم يصبر .
وأنه لا بأس على العالم أن يشترط على المتعلم أمورا معينة قبل أن يبدأ فى تعليمه .
فقد قال الخضر لموسى : { إِنِ اتبعتني فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً }
*- أنه يجوز دفع الضرر الأكبر بارتكاب الضرر الأصغر ، فإن خرق السفينة فيه ضرر ولكنه أقل من أخذ الملك لها غصبا ، وإن قتل الغلام شر ، ولكنه أقل من الشر الذى سيترتب على بقائه . وهو إرهاقه لأبويه ، وحملهما على الكفر .
كما يجوز للإِنسان أن يعمل عملا فى ملك غيره بدون إذنه بشرط أن يكون هذا العمل فيه مصلحة لذلك الغير كأن يرى حريقا فى دار إنسان فيقدم على إطفائه بدون إذنه . ويدفع ضرر الحريق بضرر أقل منه ، فقد خرق الخضر السفينة ، لكى تبقى لأصحابها المساكين .
*- أن التأنى فى الأحكام . والتثبت من الأمور ، ومحاولة معرفة العلل والأسباب . . . كل ذلك يؤدى إلى صحة الحكم ، وإلى سلامة القول والعمل .
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول : " رحمة الله علينا وعلى موسى ، لو صبر على صاحبه لرأى العجب " .
*- أن من دأب العقلاء الصالحين . استعمال الأدب مع الله - تعالى - فى التعبير ، فالخضر قد أضاف خرقه للسفينة إلى نفسه فقال : { فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا . . } وأضاف الخير الذى فعله من أجل الغلامين اليتيمين إلى الله فقال : { فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } وشبيه بهذا ما حكاه الله - تعالى - عن صالحى الجن فى قولهم : { وَأَنَّا لاَ ندري أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأرض أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً }
*- لابد أن يخطئ الإنسان فقد خلق من عَجَل ، أي من النقصان فوجب أن يترك له فسحة يستدرك فيها خطأه فقد اتفق النبيان في صحبتهما على أن يرى موسى عليه السلام مايجري دون أن يتدخل مستنكراً أو معلقاً على ما يراه إلى أن يرى الأستاذ رأيه في توضيح بعض الأمور . لكن التلميذ لم يف بالوعد فقال في الأولى " لقد جئت شيئاً إمراً " وشدد النكير في الثانية حين قال : " لقد جئت شيئاً نكراً " وقال في الثالئة معترضاً ومقترحاً" لو شئت لاتخذت عليه أجراً " .
ونبهه أستاذه في الأولى " ألم أقل : إنك لن تستطيع عليه صبراً ؟ " وعاتبه في الثانية بزيادة " لك " في قوله : " ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً؟ " وأعلن في الثانية أن الفرصة الممنوحة انتهت فلا بد من الفراق لأنه استنفدها " هذا فراق بيني وبينك " .
ولكنه لم يشأ أن يتركه يجهل أسباب الحوادث فأخبره بها " سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً "
*- زيادة المبنى لزيادة المعنى : قبل أن يخبره بالأسباب اضاف للفعل تاء التعدية " تستطع " على وزن تفتعل وحين أخبره بها حذف التاء لأن المعنى انتهى " تسطع " على وزن تفعل .
وسوف نجد هذا في قصة ذي القرنين " فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً " فعلوّ الجدار على صعوبته أسهل من نقبه فحذف التاء مع علو الجدارفي قوله " فما اسطاعوا " وأثبتها في صعوبة النقب " وما استطاعوا " .
*- وانظر إلى أدب الأستاذ مع ربه فقد نسب عيب السفينة إلى نفسه " فأردت أن أعيبها " كما فعل إبراهيم عليه السلام ذلك في المرض وأسند الشفاء إلى الله تعالى تأدباً " وإذا مرضْتُ فهو يشفين " .
وفي قتل الغلام نسب الخير في البدلية إلى الله تعالى " فأردنا أن يبدلهما ربهماخيراً منه زكاة وأقرب رحماً " ولما كان العمل في الثالثة كله بناء وخيراً نسي تفسه وأفرد الله تعالى بالخير " فأراد ربك أن يبلغا أشدّهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك " مع أن الأمر كله من الله تعالى ، وهو لم يفعل إلا ما أمره الله به " وما فعلته عن أمري " .
*- قال القرطبى : قوله - تعالى - { يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ } أى : قرب أن يسقط . وهذا مجاز وتوسع . وقد فسره فى الحديث بقوله " مائل " فكان فيه دليل على وجود المجاز فى القرآن ، وهو مذهب الجمهور . وجميع الأفعال التى حقها أن تكون للحى الناطق إذا أسندت إلى جماد أو بهيمة ، فإنما هى استعارة . أى : لو كان مكانها إنسان لكان ممتثلا لذلك الفعل ، وهذا فى كلام العرب وأشعارهم كثير ، كقول الأعشى : أتنهون ولا يَنْهَى ذوى شطَط ... كالطّعن يذهب فيه الزيتُ والفُتُل
والشطط : الجور والظلم ، يقول : لا ينهى الظالم عن ظلمه إلا الطعن العميق الذى يغيب فيه الفتل - فأضاف النهى إلى الطعن .
وذهب قوم إلى منع المجاز فى القرآن فإن كلام الله عز وجل - وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم حمله على الحقيقة أولى بذى الفضل والدين ، لأنه يقص الحق كما أخبر الله - تعالى - فى كتابه . . .
وقد صرح صاحب أضواء البيان أنه لا مجاز فى القرآن فقال ما ملخصه : قوله - تعالى - : { فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ } هذه الآية من أكبر الأدلة التى يستدل بها القائلون : بأن المجاز فى القرآن ، زاعمين أن إرادة الجدار الانقضاض لا يمكن أن تكون حقيقة وإنما هى مجاز .
وقد دلت آيات من كتاب الله على أنه لا مانع من أن تكون إرادة الجدار حقيقة ، لأن الله - تعالى - يعلم للجمادات إرادات وأفعالا وأقوالا لا يدركها الخلق ، كما صرح - تعالى - بأنه يعلم من ذلك ما لا يعلمه خلقه فى قوله - سبحانه - { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ . . } فصرح بأننا لا نفقه تسبيحهم ، وتسبيحهم واقع عن إرادة لهم يعلمها - سبحانه - ونحن لا نعلمها .
ومن الأحاديث الدالة على ذلك ما ثبت فى صحيح مسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " إنى لأعرف حجرا كان يسلم على بمكة " وما ثبت فى صحيح البخارى من حنين الجذع الذى كان يخطب عليه صلى الله عليه وسلم حزنا لفراقه . يتبع إن شاء ا
عدل سابقا من قبل ahmad_laban في السبت 11 يونيو 2011, 4:04 am عدل 2 مرات |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644
| موضوع: رد: الخلاصة في حياة الأنبياء (1) الجمعة 10 يونيو 2011, 11:42 pm | |
| ومن الأحاديث الدالة على ذلك ما ثبت فى صحيح مسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " إنى لأعرف حجرا كان يسلم على بمكة " وما ثبت فى صحيح البخارى من حنين الجذع الذى كان يخطب عليه صلى الله عليه وسلم حزنا لفراقه.
فتسليم ذلك الحجر ، وحنين ذلك الجزع ، كلاهما بإرادة وإدراك يعلمه الله ونحن لا نعلمه . . . *- أن صلاح الأباء ينفع الأبناء . بدليل قوله تعالى: { وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً } .
قال الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية : فيه دليل على أن الرجل الصالح يحفظ فى ذريته وتشمل بركة عبادته ما ينفعهم فى الدنيا والآخرة ، بشفاعته فيهم ، ورفع درجتهم إلى أعلى درجة فى الجنة لتقر عينه بهم ، كما جاء فى القرآن ووردت السنة به .قال سعيد بن جبير عن ابن عباس : حفظا بصلاح أبيهما .
*- أن على الصاحب أن لا يفارق صاحبه حتى يتبين له الأسباب التى حملته على ذلك ، فأنت ترى أن الخضر قد قال لموسى : { هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً } أي : قبل مفارقتى لك سأخبرك عن الأسباب التى حملتنى على فعل ما فعلت مما لم تستطع معه صبرا .
*- قيل إن الخضر لما ذهب يفارق موسى قال له موسى : أوصني : قال : كن بسّاماً ولا تكن ضحّاكاً ، ودع اللجاجة ، ولا تمش في غير حاجة ، ولا تعِب على الخطّائين خطاياهم ، وابك على خطيئتك يابن عمران .
وقيل : إن موسى لما أنكر خرق السفينة نودي : يا موسى أين كان تدبيرك هذا وأنت في التابوت مطروحاً في اليم ؟! فلما أنكر قتل الغلام قيل له : أين إنكارك هذا من وكزك القبطي وقضائك عليه ؟! فلما أنكر الجدار نودي : أين هذا من رفعك حجر البئر لبنات شعيب دون أجر ؟! .. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " رحمة الله علينا وعلى موسى ، لو لبث مع صاحبه لأبصر العجب ، لكنه قال : " إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذراً " .
*- صلاح الآباء يُرى في الأبناء فقد حفظ الله تعالى الولدين بصلاح أبيهما " وكان أبوهما صالحاً " فأمر الخضر عليه السلام أن يرفعه إلى أن يكبرا فلا يأخذ الكنزَ أحدٌ وهما صغيران ، ويظل بعيداً عن أعين الآخرين حتى يشتد عودهما فيكون لهما .
وحين علم الله أن الولد خلق مطبوعاً على الكفر، وانه سيسيء إلى والديه المؤمنَيْن ويجعل حياتهما جحيماً أماته ، وأبدلهما خيراً منه فتاة مؤمنة طيبة كانت زوجة لنبي كريم .
*- ونرى التدرج في هذه القصة - وهو أسلوب تربوي راقٍ- في تعامل الخضر مع موسى ،فقد أبى موسى عليه السلام إلا أن يصاحب الخضر عليه السلام فكان التخلص من هذه الصحبة - إن جاز لنا هذا التعبير فصاحب الشريعة غير صاحب الحقيقة - على قول الصوفية - لا بد له من الوضوح والتعليل والتفكير المنطقي . والخضر يفعل اموراً غير مفهومة وغير معللة ، لا تعرف إلا بعد شرحها - ولا بد أن ينفرط عقد هذه الصحبة عاجلاً أم آجلاً ... فكانت اعتراضات موسى وتنبيه الخضر المتسلسلة في إيقاعاتها التي ذكرناها آنفاً تدرّجاً واضحاً في ذهاب كلٍّ منهما في سبيله الذي رسمه الله له في دورة الحياة المنتظمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
*- لماذا كان الملك وراءهم؟ " وكان وراءهم ملك " لقد كانت السفينة تحمل أصحابها ومعهم موسى والخضر إلى الميناء التالي .. كانوا متوجهين إلى " أمام " .. فقد كان الملك في الميناء الذي يقصدونه فهم متجهون إلى " الأمام " فلماذا قال القرآن الكريم " وكان وراءهم ملك ؟" .. أعتقد أن الجواب على شقين . أما الأول : فلأنهم متجهون إلى غيب لا يدرون ما ينتظرهم .
وكل غيب وإن كان أمامهم فهو " وراء " إن كان لا يُرى ، وأما الثاني فلأن الملك ظالم متجبر مغتصب لحقوق العباد " يأخذ كل سفينة غصباً " والملك ينبغي أن يكون رحيماً برعيته عطوفاً عليها ، يريد بها الخير ويسعى لصلاحها ن فإن كان على عكس ذلك فلا يستحق أن يكون في " الأمام " ومكانه الحقيقي في الخلف ، ولذا كان " وراء وراء " .
*- وفي قوله تعالى وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) ) . .
فهذا الغلام الذي لا يبدو في حاضره ومظهره أنه يستحق القتل , قد كشف ستر الغيب عن حقيقته للعبد الصالح , فإذا هو في طبيعته كافر طاغ , تكمن في نفسه بذور الكفر والطغيان , وتزيد على الزمن بروزا وتحققا . . فلو عاش لأرهق والديه المؤمنين بكفره وطغيانه , وقادهما بدافع حبهما له أن يتبعاه في طريقه . فأراد الله ووجه إرادة عبده الصالح إلى قتل هذا الغلام الذي يحمل طبيعة كافرة طاغية , وأن يبدلهما الله خلفا خيرا منه , وأرحم بوالديه .
ولو كان الأمر موكولا إلى العلم البشري الظاهر , لما كان له إلا الظاهر من أمر الغلام , ولما كان له عليه من سلطان , وهو لم يرتكب بعد ما يستحق عليه القتل شرعا . وليس لغير الله ولمن يطلعه من عباده على شيء من غيبه أن يحكم على الطبيعة المغيبة لفرد من الناس . ولا أن يرتب على هذا العلم حكما غير حكم الظاهر الذي تأخذ به الشريعة . ولكنه أمر الله القائم على علمه بالغيب البعيد .
(وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82) ) . .
فهذا الجدار الذي أتعب الرجل نفسه في إقامته , ولم يطلب عليه أجرا من أهل القرية - وهما جائعان وأهل القرية لا يضيفونهما - كان يخبى ء تحته كنزا , ويغيب وراءه مالا لغلامين يتيمين ضعيفين في المدينة . ولو ترك الجدار ينقض لظهر من تحته الكنز فلم يستطع الصغيران أن يدفعا عنه . . ولما كان أبوهما صالحا فقد نفعهما الله بصلاحه في طفولتهما وضعفهما , فأراد أن يكبرا ويشتد عودهما , ويستخرجا كنزهما وهما قادران على حمايته .
ثم ينفض الرجل يده من الأمر . فهي رحمة الله التي اقتضت هذا التصرف . وهو أمر الله لا أمره . فقد أطلعه على الغيب في هذه المسألة وفيما قبلها , ووجهه إلى التصرف فيها وفق ما أطلعه عليه من غيبه (رحمة من ربك وما فعلته عن أمري) . . فالآن ينكشف الستر عن حكمة ذلك التصرف , كما انكشف عن غيب الله الذي لا يطلع عليه أحدا إلا من ارتضى .
وفي دهشة السر المكشوف والستر المرفوع يختفي الرجل من السياق كما بدا . لقد مضى في المجهول كما خرج من المجهول . فالقصة تمثل الحكمة الكبرى . وهذه الحكمة لا تكشف عن نفسها إلا بمقدار . ثم تبقى مغيبة في علم الله وراء الأستار . يتبع إن شاء الله... |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644
| موضوع: رد: الخلاصة في حياة الأنبياء (1) السبت 11 يونيو 2011, 4:21 am | |
| قصةُ بقرة بني إسرائيل
قال تعالى :{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)} [البقرة/67-73]
كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائيِلَ رَجُلٌ كَثِيرُ المَالِ وَلاَ وَلَدَ لَهُ ، وَكَانَ وَارِثَهُ الَوحِيدَ ابْنُ أَخِيهِ ، فَاسْتَعْجَلَ ابْنُ الأَخِ المِيرَاثَ . وَقَتَلَ عَمَّهُ ، ثُمَّ حَمَلَهُ وَأَلْقَاهُ عَلَى بَابِ رَجُل مِنْهُمْ . وَادَّعَى عَلَى صَاحِبِ البَيْتِ أَنَّهُ قَاتِلُهُ ، وَتَسَلَّحَ النَّاسُ ، وَتَثَاوَرُوا حَتَّى كَادَ الشَّرُّ أَنْ يَقَعَ بَيْنَهُمْ .
فَدَعَاهُمْ ذَوُو الرَّأْيِ فِيهِمْ أَنْ يَذْهَبُوا إِلى مُوسَى يَسْأَلُونَهُ الرَّأْيَ ، فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى : إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً . فَقَالُوا لَهُ : أَتَسْخَرُ مِنَّا ، وَتَتَّخِذُنا مَوْضِعاً لِلْهٌزْءِ وَالسُّخْرِيَةِ؟ فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى : أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ الذِينَ يَسْخَرُونَ مِنَ النَّاسِ ، أَوْ يَأْمُرُونَ بِشَيءٍ لاَ فَائِدَةَ مِنْهُ .
وَفِي هذِهِ الآيَةِ وَالآيَاتِ التَّالِيَاتِ يُبيِّنُ اللهُ سُبْحَانَهُ مَدَى تَعَنُّتِ بَنِي إِسْرَائِيلَ ، وَكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ لِرَسُولِهِمْ ، فَضَيَّقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَضَيَّقَ اللهُ عَلَيْهِمْ .
قَالُوا لَهُ : ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ هذِهِ البَقَرَة ، وَأيُّ شَيءٍ وَصْفُها؟ فَقَالَ لَهمْ مُوسَى ، إِنَّ اللهَ يَقُولُ : إِنَّها بَقَرةٌ لا مُسِنَّةٌ هَرِمَةٌ انْقَطَعَتْ وِلاَدَتُها ( فَارِضٌ ) ، وَلاَ صَغِيرَةٌ لَمْ يَلْحًقْها الفَحْلُ بَعْدُ ، وَإِن ، َّما هِيَ نَصَفٌ بَيْنَ الكَبِيرَةِ والصَّغِيرَةِ ( عَوانٌ ) ، فَهذِهِ تَكُونُ أَحْسَنَ الدَّوَاب وَأَقْوَاهَا، فَاذْبَحُوها وَافْعَلُوا مَا أَمَرَكُمُ اللهُ .
- فَأَلَحُّوا فِي السُّؤالِ ، وَطَلبوا منه أَنْ يُبَيِّنَ اللهُ لَهُمْ لَوْنَهَا ، فَرَدَّ اللهُ عَلَيهِمْ قَائِلاً: إِنَّها بَقَرةُ صَفْراءُ صَافِيَةُ اللَّونِ ، تُعْجِبُ النَّاظِرِينَ إِلَيهَا ، وَتَسُرُّهُمْ بِحُسْنِ مَنْظَرِهَا .
فَعَادُوا إِلى السُّؤالِ ، وَطَلَبُوا مِنْ مُوسَى أَنْ يَسْأَلَ رَبَّهُ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ مَا هِيَ صِفَاتُ هذِهِ البَقَرَةِ ، لأَنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيهِمْ ، فَلَمْ يَعْرِفُوا أَيَّها المقصودَ ، وَإِنَّهُمْ سَيَهْتَدُونَ إِلَيهَا بِمَشِيئَةِ اللهِ .
فَرَدَّ عَلَيهِمْ مُوسَى قَائِلاَ : إِنَّ اللهً تَعَالَى يَقُولُ لَهُمْ : إِنَّها بَقَرَةٌ لَيْسَتْ مُذَلَّلَةً بِالحِرَاثَةِ ، وَلاَ مُعَدَّةً للسِّقَايَةِ ، وَهِيَ سَالِمَةٌ مِنَ العُيُوبِ والأَمْرَاضِ ، لَوْنُها وَاحِدٌ ، وَلَيْسَ فِيها لَوْنٌ آخَرُ .
فَقَالَ بَنُوا إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى : الآنَ قُلْتَ الحَقَّ وَبَيَّنْتَهُ ، فَبَحَثُوا عَنْها ، وَاشْتَرَوهَا مِنْ صَاحِبِها ، وَذّبَحُوهَا وَكَادُوا أنْ لا يَقُومُوا بِمَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ ذَبْحِهًا ، لِمَا لاَحَظُوهُ مِنْ غَلاَءِ ثَمنِهَا .
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَاخْتَلَفْتُمْ وَتَخَاصَمْتُمْ فِيها ، وَاللهُ مُظْهِرٌ مَا تَكْتُمُونَ فِي سَرَائِرِكُمْ مِنْ أَمْر حَادِثِ القَتْلِ ، وَمَعْرِفَة القَاتِلِ .
فَأَمَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِضَرْبِ المَيْتِ بِأَيِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ البَقَرَةِ التِي أَمَرَهُمُ اللهُ بِذَبْحِهَا فَفَعَلُوا ، وَحَصَلَتِ المُعْجِزَةُ بِخَرْقِ العَادَةِ ، فَأَحْيَا اللهُ المَيْتَ ، وَذَكَرَ اسْمَ قَاتِلِهِ ، ثَمَّ أَمَاتَهُ اللهُ فَسَكَنَتِ الفِتْنَةُ ، بَعْدَ أَنْ كَشَفَ اللهُ القَاتِلَ .
وَهَكَذَا يُحْيِي اللهُ المَوْتَى ، وَيُرِي بَنِي إِسْرِائِيلَ آيَاتِهِ ، لَعَلَّهُمْ يَعْقِلُونَ بِأَنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَى بَعْثِهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَأَنَّ عَلَيهِمْ إِطَاعَةَ أَوَامِرِ رَبِهِمْ ، وَالانْتِهَاءِ عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ ، وَحَرَّمَهُ عَلَيهِمْ . إن السمات الرئيسية لطبيعة بني إسرائيل تبدو واضحة في قصة البقرة هذه: انقطاع الصلة بين قلوبهم , وذلك النبع الشفيف الرقراق: نبع الإيمان بالغيب , والثقة بالله , والاستعداد لتصديق ما يأتيهم به الرسل .
ثم التلكؤ في الاستجابة للتكاليف , وتلمس الحجج والمعاذير , والسخرية المنبعثة من صفاقة القلب وسلاطة اللسان ! لقد قال لهم نبيهم: (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) . . وكان هذا القول بهذه الصيغة يكفي للاستجابة والتنفيذ .
فنبيهم هو زعيمهم الذي أنقذهم من العذاب المهين , برحمة من الله ورعاية وتعليم ; وهو ينبئهم أن هذا ليس أمره وليس رأيه , إنما هو أمر الله , الذي يسير بهم على هداه . . فماذا كان الجواب ?
لقد كان جوابهم سفاهة وسوء أدب , واتهاما لنبيهم الكريم بأنه يهزأ بهم ويسخر منهم ! كأنما يجوز لإنسان يعرف الله -فضلا على أن يكون رسول الله - أن يتخذ اسم الله وأمره مادة مزاح وسخرية بين الناس:(قالوا:أتتخذنا هزوا ?) .
وكان رد موسى على هذه السفاهة أن يستعيذ بالله ; وأن يردهم برفق , وعن طريق التعريض والتلميح , إلى جادة الأدب الواجب في جانب الخالق جل علاه ; وأن يبين لهم أن ما ظنوه به لا يليق إلا بجاهل بقدر الله , لا يعرف ذلك الأدب ولا يتوخاه:(قال:أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) . .
وكان في هذا التوجيه كفاية ليثوبوا إلى أنفسهم , ويرجعوا إلى ربهم , وينفذوا أمر نبيهم . . ولكنها إسرائيل ! نعم . لقد كان في وسعهم - وهم في سعة من الأمر - أن يمدوا أيديهم إلى أية بقرة فيذبحوها , فإذا هم مطيعون لأمر الله , منفذون لإشارة رسوله .
ولكن طبيعة التلكؤ والالتواء تدركهم , فإذا هم يسألون: (قالوا:ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ?) . . والسؤال بهذه الصيغة يشي بأنهم ما يزالون في شكهم أن يكون موسى هازئا فيما أنهى إليهم ! فهم أولا:يقولون: (ادع لنا ربك) . . فكانما هو ربه وحده لا ربهم كذلك !
وكأن المسألة لا تعنيهم هم إنما تعني موسى وربه ! وهم ثانيا:يطلبون منه أن يدعو ربه ليبين لهم: (ما هي ?) والسؤال عن الماهية في هذا المقام - وإن كان المقصود الصفة - إنكار واستهزاء . . ما هي ? إنها بقرة . وقد قال لهم هذا من أول الأمر بلا تحديد لصفة ولا سمة . بقرة وكفى !
هنا كذلك يردهم موسى إلى الجادة , بأن يسلك في الإجابة طريقا غير طريق السؤال . إنه لا يجبههم بانحرافهم في صيغة السؤال كي لا يدخل معهم في جدل شكلي . . إنما يجيبهم كما ينبغي أن يجيب المعلم المربي من يبتليه الله بهم من السفهاء المنحرفين .
يجيبهم عن صفة البقرة: قال: إنها بقرة لا فارض ولا بكر, عوان بين ذلك . .
إنها بقرة لا هي عجوز ولا هي شابة , وسط بين هذا وذاك . ثم يعقب على هذا البيان المجمل بنصيحة آمرة حازمة: (فافعلوا ما تؤمرون) . .
ولقد كان في هذا كفاية لمن يريد الكفاية ; وكان حسبهم وقد ردهم نبيهم إلى الجادة مرتين , ولمح لهم بالأدب الواجب في السؤال وفي التلقي . أن يعمدوا إلى أية بقرة من أبقارهم , لا عجوز ولا صغيرة , متوسطة السن , فيخلصوا بها ذمتهم , وينفذوا بذبحها أمر ربهم , ويعفوا أنفسهم من مشقة التعقيد والتضييق . . ولكن إسرائيل هي إسرائيل !
لقد راحوا يسألون:(قالوا:ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها ?) . . هكذا مرة أخرى: (ادع لنا ربك) ! ولم يكن بد - وقد شققوا الموضوع وطلبوا التفصيل - أن يأتيهم الجواب بالتفصيل:(قال:إنه يقول , إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين) . .
وهكذا ضيقوا على أنفسهم دائرة الاختيار - وكانوا من الأمر في سعة - فأصبحوا مكلفين أن يبحثوا لا عن بقرة . . مجرد بقرة . . بل عن بقرة متوسطة السن , لا عجوز ولا صغيرة , وهي بعد هذا صفراء فاقع لونها ; وهي بعد هذا وذلك ليست هزيلة ولا شوهاء: (تسر الناظرين) . . وسرور الناظرين لا يتم إلا أن تقع أبصارهم على فراهة وحيوية ونشاط والتماع في تلك البقرة المطلوبة ; فهذا هو الشائع في طباع الناس:أن يعجبوا بالحيوية والاستواء ويسروا , وأن ينفروا من الهزال والتشويه ويشمئزوا .
ولقد كان فيما تلكأوا كفاية , ولكنهم يمضون في طريقهم , يعقدون الأمور , ويشددون على أنفسهم , فيشدد الله عليهم . لقد عادوا مرة أخرى يسألون من الماهية:(قالوا:ادع لنا ربك يبين لنا ما هي) . .
ويعتذرون عن هذا السؤال وعن ذلك التلكؤ بأن الأمر مشكل:(إن البقر تشابه علينا) . .
وكأنما استشعروا لحاجتهم هذه المرة . فهم يقولون:(وإنا إن شاء الله لمهتدون) . .
ولم يكن بد كذلك أن يزيد الأمر عليهم مشقة وتعقيدا , وأن تزيد دائرة الاختيار المتاحة لهم حصرا وضيقا , بإضافة أوصاف جديدة للبقرة المطلوبة , كانوا في سعة منها وفي غنى عنها: (قال: إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث, مسلمة لا شية فيها).
وهكذا لم تعد بقرة متوسطة العمر . صفراء فاقع لونها فارهة فحسب . بل لم يعد بد أن تكون - مع هذا - بقرة غير مذللة ولا مدربة على حرث الأرض أو سقي الزرع ; وأن تكون كذلك خالصة اللون لا تشوبها علامة .
هنا فقط . . وبعد أن تعقد الأمر , وتضاعفت الشروط , وضاق مجال الاختيار: (قالوا:الآن جئت بالحق) . .
الآن ! كأنما كان كل ما مضى ليس حقا . أو كأنهم لم يستيقنوا أن ما جاءهم به هو الحق إلا اللحظة! (فذبحوها وما كادوا يفعلون)!!
عندئذ - وبعد تنفيذ الأمر والنهوض بالتكليف - كشف الله لهم عن الغاية من الأمر والتكليف:(وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها , والله مخرج ما كنتم تكتمون , فقلنا:اضربوه ببعضها . كذلك يحيي الله الموتى , ويريكم آياته لعلكم تعقلون) . .
وهنا نصل إلى الجانب الثاني من جوانب القصة . جانب دلالتها على قدرة الخالق , وحقيقة البعث , وطبيعة الموت والحياة .
وهنا يتغير السياق من الحكاية إلى الخطاب والمواجهة:
لقد كشف الله لقوم موسى عن الحكمة من ذبح البقرة . . لقد كانوا قد قتلوا نفسا منهم ; ثم جعل كل فريق يدرأ عن نفسه التهمة ويلحقها بسواه . ولم يكن هناك شاهد ; فأراد الله أن يظهر الحق على لسان القتيل ذاته ; وكان ذبح البقرة وسيلة إلى إحيائه , وذلك بضربه ببعض من تلك البقرة الذبيح . . وهكذا كان , فعادت إليه الحياة , ليخبر بنفسه عن قاتله , وليجلو الريب والشكوك التي أحاطت بمقتله; وليحق الحق ويبطل الباطل بأوثق البراهين.
ولكن . فيم كانت هذه الوسيلة , والله قادر على أن يحيي الموتى بلا وسيلة ? ثم ما مناسبة البقرة المذبوحة مع القتيل المبعوث ?
إن البقر يذبح قربانا كما كانت عادة بني إسرائيل . . وبضعة من جسد ذبيح ترد بها الحياة إلى جسد قتيل . وما في هذه البضعة حياة ولا قدرة على الأحياء . . إنما هي مجرد وسيلة ظاهرة تكشف لهم عن قدرة الله , التي لا يعرف البشر كيف تعمل .
فهم يشاهدون آثارها ولا يدركون كنهها ولا طريقتها في العمل و: (كذلك يحيي الله الموتى) . . كذلك بمثل هذا الذي ترونه واقعا ولا تدرون كيف وقع ; وبمثل هذا اليسر الذي لا مشقة فيه ولا عسر . إن المسافة بين طبيعة الموت وطبيعة الحياة مسافة هائلة تدير الرؤوس . ولكنها في حساب القدرة الإلهية أمر يسير . . كيف ?.
. هذا ما لا أحد يدريه . وما لا يمكن لأحد إدراكه . . إن إدراك الماهية والكيفية هنا سر من أسرار الألوهية , لا سبيل إليه في عالم الفانين ! وإن يكن في طوق العقل البشري إدراك دلالته والاتعاظ بها: (ويريكم آياته لعلكم تعقلون) . .
----------------
الدروس والعبر
*-جمهور المفسرين على أن واقعة قتل النفس وتنازعهم فيها ، حصلت قبل الأمر بذبح البقرة ، إلا أن القرآن الكريم أخرها في الذكر ليعدد على بني إسرائيل جناياتهم وليشوق النفوس إلى معرفة الحكمة من وراء الأمر بذبحها ، فتتقبلها بشغف واهتمام .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت فما للقصة لم تفص على ترتيبها ، وكان حقها أن يقدم ذكر القتيل والضرب ببعض البقرة على الأمر بذبحها ، وأن يقال : وإذ قتلتم نفساً فادارأتم فيها فقلنا اذبحوا بقرة واضربوه ببعضها؟ قلت : كل ما قص من قصص بني إسرائيل إنما قص تعديداً لما وجد منهم من الجنايات ، وتقريعاً لهم عليها ، ولما حدد فيهم من الآيات العظام ، وهاتان قصتان كل واحدة منهما مستقلة بنوع من التقريع وإن كانتا متصلتين متحدتين .
فالأولى : لتقريعهم على الاستهزاء وترك المسارعة وإلى الامتثال وما يتبع ذلك .
والثانية : للتقريع على قتل النفس المحرمة وما تبعه من الآية العظيمة ، وإنما قدم قصة الأمر بذبح البقرة على ذكر القتيل ، لأنه لو عمل على عكسه لكانت القصة واحدة ، ولذهب الغرض من تثنية التقريع ، ولقد روعيت نكتة بعد ما استؤنفت الثانية استئناف قصة برأسها ، أن وصلت بالأولى ، دلالة على اتحادهما ، بضمير البقرة لا باسمها الصريح في قوله : { اضربوه بِبَعْضِهَا } حتى تبين أنهما قصتان فيما يرجع إلى التقريع ونيته ، بإخراج الثانية مخرج الاستئناف مع تأخيرها ، وأنها قصة واحدة بالضمير الراجع إلى البقرة " .
وقد أسند القرآن الكريم القتل إلى جمعهم في قوله تعالى : { وَإِذْ قَتَلْتُمْ } مع أن القاتل بعضهم ، للإِشعار بأن الأمة في مجموعها وتكافلها كالشخص الواحد .
وأسند القتل - أيضاً - إلى اليهود المعاصرين للعهد النبوي ، لأنهم من سلالات أولئك الذين حدث فيهم القتل ، وكثيراً ما يستعمل القرآن الكريم هذا الأسلوب للتنبيه على أن الخلف قد سار على طريقة السلف في الانحراف والضلال .
وقوله تعالى : { فادارأتم فِيهَا } بيان لما حصل منهم بعد قتل النفس التي ذكرنا قصتها ومعنى ادارأتم فيها : اختلفتم وتخاصمتم في شأنها لأن المنخاصمين يدرأ بعضهم بعضا أي يدفعه ويزحمه ، أي تدافعتم بمعنى طرح قتلها بعضكم على بعض فدفع المطروح عليه الطارح ، ليدفع الجناية عن نفسه ويتهم غيره .
وقوله تعالى : { والله مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } معناه : والله - تعالى - مظهر ومعلن ما كنتم تسترونه من أمر القتيل الذي قتلتموه ، ثم تنازعتم في شأن قاتله ، وذلك ليتبين القاتل الحقيقي بدون أن يظلم غيره .
وهذه الجملة الكريمة { والله مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } معترضة بين قوله تعالى { فادارأتم } وبين قوله تعالى : { فَقُلْنَا اضربوه بِبَعْضِهَا } . وفائدته إشعار المخاطبين قبل أن يسمعوا ما أمروا بفعله ، بأن القاتل الحقيقي سنكشف أمره لا محالة .
قال صاحب تفسير التحرير والتنوير : " وإنما تعلقت إرادة الله بكشف حال من قتل هذا القتيل - مع أنه ، ليس أول قتيل طل دمه في الأمم - إكراماً لموسى - عليه السلام - أن يضيع دم في قومه وهو بين أظهرهم ، وبمرأى ومسمع منه ، لا سيما وقد قصد القاتلون استغفاله ودبروا المكيدة في إظهار المطالبة بدمه ، فلو لم يظهر الله - تعالى - هذا الدم ويبين سافكه - لضعف يقين القوم برسولهم موسى - عليه السلام - ولكان ذلك مما يزيد شكهم في صدقة فينقلبوا كافرين ، فكان إظهار القاتل الحقيقي إكراماً من الله تعالى - لموسى ، ورحمة بالقوم لئلا يضلوا " .
وقوله تعالى : { فَقُلْنَا اضربوه بِبَعْضِهَا } إرشاد لهم إلى الوسيلة التي عن طريقها سيهتدون إلى القاتل الحقيقي ، والضمير في قوله { اضربوه } يعود على النفس ، وتذكيره مراعى فيه معناها هو الشخص أو القتيل .
وضرب القتيل ببعضها - أيا كان ذلك البعض - دليل على كمال قدرة الله تعالى . وفيه تيسير عليهم . واسم الإِشارة في قوله تعالى : { كَذَلِكَ يُحْيِي الله الموتى } مشار به إلى محذوف دل عليه سياق الكلام .
والتقدير : فقلنا لقوم موسى الذيؤن تنازعوا في شأن القتيل اضربوه ببعض البقرة ليحيا ، فضربوه فأحياه الله ، وأخبر القتيل عن قاتله ، وكمثل إحيائه يحيى الله الموتى في الآخرة للثواب والعقاب . وبذلك تكون الآية ظاهرة في أن الذي ضرب ببعض البقرة قد صار حياً بعد موته .
قال الإِمام ابن جرير - رحمه الله - : فإن قيل : وما كان معنى الأمر بضرب القتيل ببعضها؟ قيل : ليحيا فينبئ نبى الله والذين ادارءوا فيه عن قاتله .
فإن قال : وأين الخبر عن أن الله - تعالى - أمرهم بذلك؟ قيل : ترك ذلك اكتفاء بدلالة ما ذكر من الكلام الدال عليه ، والمعنى : فقلنا اضربوه ببعضها ليحيا فضربوه فحيى ، يدل على ذلك قوله تعالى : { كَذَلِكَ يُحْيِي الله الموتى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } .
والمقصود بالآيات في قوله تعالى : { وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } الدلائل الدالة على أن الله على كل شيء قدير والتي منها ما شاهدوه بأعينهم من ترتب الحياة على ضرب القتيل بعضوميت ، وأخباره عن قاتله ، واهتدائهم بسبب ذلك إلى القاتل الحقيقي .
وذلك لكي تستعملوا عقولكم في الخير . وتوقنوا بأن من قدر على إحياء نفس ، واحدة فهو قادر على إحياء الأنفس جميعاً لأنه - سبحانه - لا يصعب عليه شيء .
1- بيان ما كان عليه قوم موسى من بنى اسرائيل من العجرفة وسوء الأخلاق ليتجنب مثلها المسلمون .
2- حرمة الاعتراض على الشارع ووجوب تسليم أمره أو نهيه ولو لم تعرف فائدة الأمر والنهى وعلتها .
3- الندب الى الأخذ بالمتيسر وكراهة التشدد فى الأمور .
4- بيان فائدة الاستثناء بقوله إن شاء الله ، إذ لو لم يقل اليهود ان شاء الله لمهتدون ما كانوا ليهتدوا إلى معرفة البقرة المطلوبة.
5- ينبغي تحاشي الكلمات التى قد يفهم منها نتقاص الأنبياء مثل قولهم الآن جئت بالحق ، اذ مفهومه أنه ما جاءهم بالحق إلا فى هذه المرة من عدة مرات سبقت!!
6- صدق نبوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وتقريرها أمام اليهود إذ يخبرهم بأمور جرت لأسلافهم لم يكن يعلمها غيرهم وذلك إقامة للحجة عليهم .
7- الكشف عن نفسيان اليهود وانهم يتوارثون الرعونات والمكر والخداع .
8- اليهود من أقسى البشر قلوباً الى اليوم ، اذ كل عام يرمون البشرية بقاصمة الظهر وهم ضاحكون . يتبع إن شاء الله... |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644
| موضوع: رد: الخلاصة في حياة الأنبياء (1) السبت 11 يونيو 2011, 4:38 am | |
| قصة قارون مع موسى
قال تعالى :{ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84) }[القصص/77-84]
يَلْفِتُ اللهُ تَعَالى نَظَرَ كُبَراءِ قُريشٍ ، الذِين اغتَرُّوا بأَمَوالِهِم ، واسْتَطَالُوا بِهَا عَلَى الرَّسُول صلى الله عليه وسلم ، وَعَلَى المُؤمنينَ ، إِلى أنَّ المَالَ عَرَضٌ زَائِلٌ ، وَأَنَّ المَالَ لاَ قِيمَةَ لهُ في مِيزَانِ اللهِ تَعَالى ، يَوْمَ الحِسَابِ في الآخِرَةِ ، وأَنَّ أمْوالَ هؤلاءِ الكُفَّارِ مِنْ قُريشٍ ، لا تُعَدُّ شيئاً مذكُوراً بالنِّسبةِ لِلمَالِ الذي آتاهُ اللهُ قَارُونَ ، ثُمَّ خَسَفَ اللهُ بهِ وبدَارِهِ الأَرْضَ لأَنَّهُ بَطِرَ وَأَشِرَ، واسْتَكْبَرَ ولم يَبْتَعِ بهذا المَالِ ثَوابَ اللهِ ، وجَزَاءَهُ في الدَّارِ الآخِرَةِ.
وَيَقُولُ تَعَالى إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ بَني إِسرائيلَ ( وَقَالَ بعضُ المُفَسِّرينَ إِنَّهُ كَانَ مِنْ أقرِباءِ مُوسَى عَليهِ السَّلامُ ) ، وَقَدْ آتاهُ اللهُ كثيراً منَ المَالِ ، حَتَّى إِنَّ مَفَاتَيِحَ خَزَائِنِ أمْوَالِهِ لَيَصْعُبُ عَلَى الجَمَاعَةِ حَمْلُها لِكَثْرَتِهَا ، وَثِقلِ وَزْنِها ، فَطَغَى وَبَغَى ، وَبَطِرَ ، وَتَكَّبرَ ، فَقَالَ لبهُ قَومُهُ ناصِحِينَ: لا تَبْطَرْ ، ولا تَفْرَحْ بمَا أَنتَ فيهِ من النَّعمَةِ والمَالِ، لأَنَّ اللهَ تَعَالى لاَ يُحب البَطرِينَ الأَشِرِين، الذين لا يَشكُرونَ اللهَ عَلَى نِعَمِهِ وآلائِهِ ، وَتَنْسِيهمُ الدُّنيا والآخِرَةَ.
واسْتَعْمِلْ مَا وَهَبكَ اللهُ مِنَ المَالِ الجَزيلِ ، والنَّعمَةِ الطَّائِلَةِ ، في طَاعَةِ رَبِّكَ ، والتَّقَرُّبِ إليهِ ، ولا تَنْسَ حَظَّكَ ( نَصِيبَكَ ) مِنَ الدُّنيا ، ممَّا أَبَاحَهُ اللهُ فيها لِعِبادِهِ ، مِنَ المَآكِلِ والمَشَارِبِ والمَلاَبِسِ وغَيرها . . فإِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيكَ حَقّاً ، وَلِنَفَسِكَ عَليكَ حَقّاً ، . . فَآتِ كُلِّ ذي حقٍّ حَقَّهُ .
وأحْسِنْ إِلى خَلْقِ اللهِ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ ولا يَكنْ هَمُّكَ الإِفسَادَ في الأَرضِ ، والإِساءَةَ إلى خَلْقِ اللهِ ، إنّ الله لاَ يُحِبُّ المُفْسِدِينَ .
فَأَجَابَ قَارُونَ نَاصِحِيهِ مِنْ قَومِهِ : إِنَّهُ لا يَفْتَقِرُ إلى مَا يَقُولُونَ ، فإِنَّ الله إِنَّما أعطَاهُ هذا المَالَ لِعلمِهِ بأَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ ، وَلأَنَّهُ يُحِبّهُ . ويَرُدّ اللهُ تَعَالى عَليهِ قائِلاً : إِنَّهُ كَانَ قَبلَ قَارُونَ أُناسٌ كثيرونَ أكثرُ منهُ مالاً ، إِلاَّ أَنهُ سُبحَانَهُ لَمْ يُعْطِهِمْ هذا المَالَ عَنْ مَحَبَّةٍ منهُ لهُمْ ، وَقَدْ أَهلكهم بِكُفْرِهِمْ ، وَعَدمِ شُكرِهِمْ ، وفي الآخِرَةِ لا يَسْأَلُ اللهُ تَعَالى المُجرِمينَ عَنْ ذُنُوبِهِمْ ، ومِقْدَارِهَا وَكُنْهِها . . وَلاَ يُعَاتِبُهُمْ عَلَيها ، وإِنِّما يُلْقِيهِمْ فِي جَهَّنَم دُونَ سُؤَالٍ .
وَخَرَجَ قَارُونَ ذَاتَ يومٍ عَلَى قَومِهِ ، وَهُوَ في زِينَةٍ عَظِيمَةٍ ، وتَجَمُّلٍ بَاهِرٍ ، فلما رَآه مَنْ يُريدُ الحَيَاةَ الدُّنيا ، وَيمَيلُ إلى زُخُرفِها وزِينَتِها مِنْ قَومِهِ ، تَمَنُّوا أَنْ لَوْ كَانُوا يُعطَوْنَ مِثْلِ ما أُعْطِيَ قَارُونُ مِنَ المَالِ ، فهوَ ذُو حَظٍّ عظيمٍ وافرٍ في الدُّنيا .
فَلَمَّا سَمِعَ أهلُ العِلْمِ النَّافِع مَقَالَةَ مَنْ تَمَنَّوا أَنْ يكُونَ لَهُمْ مِثلُ مَا أُوتِيَ قَارُونُ من المَالِ ، قَالُوا لَهُمْ : الوَيلُ والهَلاَكُ لَكُمْ عَلَى ما تَمَنِّيتُمْ ، فَما يدِّخِرُهُ اللهُ مِنْ جَزاءٍ وثَوَابٍ لِعبَادِهِ الصَّالِحينَ في الدَّارِ الآخِرَةِ خيرٌ ممَّا تَرَوْنَهُ ، ولا يَفُوزُ بالجَنَّةِ ونَعيمِها فِي الدَّارِ الآخِرَةِ إِلا الصَّابِرُونَ على مَحَبَّتِهِ ، الرَاغِبونَ في الدَّار الآخِرَةِ .
وَبينمَا كَانَ قَارُونَ يَخْتَالُ بِطِراً مُتَفَاخِراً عَلَى قَومِهِ ، وَهُوَ في حِلْيَتِهِ وزِينَتهِ ، إِذْ خَسَفَ اللهُ بهِ وبِدَارِهِ الأَرضَ ، فَأَصبَحَ هُوَ ودارُهُ وأموَالُهُ وخَزَائِنُهُ لا أثرَ لَهُمْ ، وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَنْصُرُهُ مِنْ بَطْشِ اللهِ وَعَذَابِهِ ، وَلَمْ يُغْنِ عَنْهُ مَالُهُ ولا جَمْعُهُ وَلا خَدَمُهُ، وَلَمْ يَدْفَعْ كُلُّ ذَلِكَ عَنْهُ نَقْمَةَ اللهِ وَعَذَابَهُ .
وَلَمَّا رَأَى الذينَ تَمَنَّوْا مَالَ قَارُونَ وكُنُوزَهُ ، مَا حَلَّ بهِ وبِمَالِهِ ، قالُوا : أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ؟ وَلولا لُطْفُ اللهِ بِنا لأَعْطَانَا مَا سَأَلنا ، ثُمَّ فَعَلَ بِنَا كَمَا فَعَلَ بقَارُونَ ، فَخَسَفَ بِنَا الأَرضَ ، لَقَدْ كَانَ قَارُونُ كَافِراً برَبِّهِ ، وَلاَ يُفْلِحُ الكَافِرُونَ في النَّجَاةِ مِنْ عَذابِ اللهِ تَعَالى .
تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ - الجَنَّةُ التي عَلِمْتَ مِمَّا تَقدَّمَ وَصْفَهَا - قَدْ جَعَلَها الله خَالِصَةً لِعِبَادِهِ المُؤمِنينَ المُتَواضِعِينَ ، الذينَ لاَ يُريدُونَ اسْتِكْبَاراً على خَلْقِ اللهِ ، وَلاَ تَعَاظُماً عَلَيهِمْ ، وَلاَ جبراً، وَلاَ فَسَاداً في الأَرضِ . وَالعَاقِبَةُ المَحْمُودَةُ ، وهيَ الجَنَّةُ ، جَعَلَها اللهُ لِمَنْ مَلأَتْ خَشْيَةُ اللهِ قَلَبْهُ ، واتَّقى عَذَابَه بِفعلِ الطَّاعَاتِ ، وَتَرْكِ المُحَرَّمَاتِ .
مَنْ جَاءَ يَومَ القِيَامَةِ وَلَهُ حَسَناتٌ اكْتَسَبَها في الدُّنيا ، ضَاعَفَ الله ثَوابَهُ ، فَضْلاً منهُ وكَرماً ، ومَنْ جَاءَ بالسيئة فَلاَ يُجزَى إِلاَّ مِثْلَها ، عَدلاً مِنَ اللهِ وَرَحْمَةً .
---------
فتح الله عليه أبواب النعيم، وسبل الرزق، وطرق الكسب، فعظمت أمواله، وكثرت كنوزه، وفاضت خزائنه، وأوتي بسطة في الرزق، ورخاء في العيش، وكثرة في المال؛ فعاش في ترف وبذخ، وكبرٍ وبطرٍ، وفخر وخيلاء.
طغى وتجبّر، فسق وتمرّد، تطاول وتمادى، زاد نهمه، وكثر خدمه، وعظم حشمه، حتى ظن أن لن يقدر عليه أحد، عميت بصيرته، وعظم زهوه، وزاد غروره، واغتر به كثير من الناس، ورنت إليه بعض الأبصار، وتمنت مكانه فئام من البشرية.
فلما بلغ الأمر مبلغه، والفتنة أشدّها، والتمادي منتهاه، حلت العقوبة، وكانت الفاجعة، ونزلت الكارثة، وعظمت العبرة.
فمن هو هذا الغني، ومن يكون ذلك الثري، وما هي قصته، وكيف كانت نهايته؟!!
استمع الآن إلى البيان المعجز، والخبر الصادق، والنبع الصافي، ليروي لك القصة، ويسرد لك الحكاية، ويُعلمك بالنهاية: قال الله تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ } (76) سورة القصص.
بدأت القصة بتحديد البطل؛ فبطل القصة: قارون، وحددت قومه من قوم موسى، ويقال ابن عم موسى عليه السلام، وقررت مسلكه مع قومه، فهو مسلك البغي، وقررت سبب ذلك البغي، وهو الثراء وكثرة الأموال.
فقارون موجود في زمن نبي من أنبياء الله وهو موسى عليه السلام، وهنا إشارة إلى أمرين مهمين:
الأمر الأول: أن قارون لم يستفد من وجود هذا النبي الكريم، ولم يتعظ بمواعظه، ولم يستجب لدعوته، ولم يتخلق بأخلاقه.
والأمر الثاني:
الإشارة إلى أن قرابته لموسى، وصلته به، لم تغن عنه شيئاً من عذاب الله تعالى.
فبغى عليهم فلم يحدد نوع ذلك البغي، وهذه إشارة على عظمته وشناعته وتنوعه. بغى عليهم بالكبر، بغى عليهم باغتصاب أموالهم، بغى عليهم بمنعهم حقوقهم في هذا المال، بغى عليهم بالظلم بغى عليهم بكل ما تحمله كلمة البغي من معانٍ.
وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة، آتيناه فالرزق من عندنا، والمال من لدنا، وليس بمهارة قارون، ولا بعلمه، ولا بأفضليته، فالأرزاق بيد الله، وهو الذي يقسم أرزاقه على عباده، وليس في إعطائه للعبد دلالة على رضاه عنه، وليس في منعه عن العبد دلالة على سخطه عليه، بل قد يكون الأمر على العكس من ذلك.
هو الرزق لا حل لديك ولا ربط … ولا قلم يجدي عليك ولا خط فطير يطوف الأرض شرقاً ومغرباً… وآخر يعطى الطيبات ولا يخطو
يقال: إن مفاتيح خزائن قارون إذا انتقل من مكان إلى مكان كانت تحمل على ستين بغلاً أغرّ محجلاً.
هذا هو المشهد الأول من مشاهد القصة
رجل من قوم موسى وصل إلى قمة الثراء، بغى على قومه.
المشهد الثاني:
مشهد أهل الخير الصلاح، والنصح والإرشاد، والعلم والهدى، قاموا بمسؤولية البلاغ، وواجب النصيحة، فحينما رأوا قارون تمادى في طغيانه، وزاد في بغيه، مع غرور واستئثار، وبطر واستكبار، حاولوا أن يثيروا فيه روح الخير، وينبهوه من غفلته، فنصحوه أن لا يغويه المال، ولا يغره الثراء، فيحول بينه وبين الإحسان إلى قومه، والمراقبة لربه، والأخذ من الدنيا بنصيب، ومن الآخرة بنصيب فإن لله حقاً، وللناس حقاً، وللنفس حقاً، وللزوجة حقاً، فيجب أن يعطى كل ذي حق حقه .
ونهوه عن الفرح الذي يدفع إلى الزهو والغرور، وبينوا له أن الله تعالى يمقت الفساد والمفسدين، وأن هذا المال ظلّ زائل ووديعة مستردة، فلا يفرح ولا يغتر، بل يجب أن يتخذه وسيلة لقضاء مآربه في الدنيا، وطريقاً لسعادته في الآخرة.
وقد أوجز القرآن لك الموعظة البليغة التي وعظ بها قارون، فقال تعالى: { إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (77) سورة القصص .
فماذا كانت ثمرة الموعظة ونتيجة النصيحة؟
أجابهم بجملة واحدة ولكنها تحمل شتى معاني الفساد والإفساد، جملة تحمل في طياتها الكبر والبغي والطغيان {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي ..} (78) سورة القصص.
أوتيته بعلمي، بمهارتي، بقدراتي، بأفضليتي واستحقاقي لهذا المال، فكان متطاولاً في كلامه، جافياً في رده، جريئاً في مقولته؛ مقولة المغرور المطموس الذي نسي مصدر النعمة، وتنكر لصاحب الفضل، وكفر بمن يستحق الشكر.
ولذلك جاء التهديد والإشارة بالوعيد، والرد على مقولته الفاجرة، جاء ذلك قبل تمام الآية، ونهاية القصة، فقال تعالى: {.. أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} (78) سورة القصص .
كانت المشاهد الأولى تحكي البغي والتطاول، والإعراض عن النصح، والتعالي عن العظة، والإصرار على الفساد، والاغترار بالمال، والبطر الذي يقعد بالنفس عن الشكران.
ثم يجيء بعد ذلك مشهد من مشاهد القصة، وهو المشهد الذي يخرج فيه قارون على قومه في زينته، وكأنه بذلك يكيد للذين نصحوه ويستخف بمشاعرهم، ويبالغ في إيلامهم، فيخرج في منتهى الزينة، وغاية الكبر، ونهاية الغرور، فتطير لذلك قلوب فريق من القوم، وتتهاوى أنفسهم لمثل ما أوتي قارون، ويرون أنه صاحب حظ عظيم، وخير عميم، وذلك لأنهم أصحاب نظرية مادية، وأفكار دنيوية.
{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (79) سورة القصص.
وهنا يتدخل أهل العلم والحكمة مرة أخرى، ويتأنقون في النصيحة، ويجتهدون في الموعظة، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} (80) سورة القصص.
فذكّروهم بالرجاء فيما عند الله، والاعتزاز بثوابه، والفرح بعبادته، فيجب أن يكونوا أعلى نفساً، وأكبر قلباً، ولا يلقاها إلا الصابرون، الصابرون على معايير الناس ومقاييسهم، الصابرون على فتنة الحياة وإغرائها، الصابرون على الفقر ومعاناته، الصابرون على شظف العيش ومقاساته، الصابرون على الحرمان من كثير من متع الدنيا، لأنهم علموا أن الصابرين يوفّون أجورهم بغير حساب.
ثم يجيء المشهد المرعب في القصة، مشهد الخاتمة المشينة، والمصرع الوخيم، والانتقام العظيم {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ} (81) سورة القصص.
فابتلعته وابتعلت داره , وهوى في بطن الأرض التي علا فيها واستطال فوقها جزاء وفاقا . وذهب ضعيفا عاجزا , لا ينصره أحد , ولا ينتصر بجاه أو مال. وهوت معه الفتنة الطاغية التي جرفت بعض الناس .
هكذا كانت النهاية بعد أن عظمت الفتنة، واشتدت المحنة.
هذه نتيجة الكبر والبطر والغرور والخيلاء، والجحود والإصرار، والتألي على عباد الله، ابتلعته الأرض، وساخت فيها أمواله وقصوره.
عَنْ أَبِى سَعِيدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « بَيْنَا رَجُلٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ خَرَجَ فِى بُرْدَيْنِ أَخْضَرَيْنِ يَخْتَالُ فِيهِمَا أَمْرَ اللَّهُ الأَرْضَ فَأَخَذَتْهُ وَإِنَّهُ لَيَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ » .
وبعد هذه النهاية الخاسرة، أصبح الذين تمنوا مكان قارون يحمدون الله أن منَّ عليهم ونجاهم من الخسف، قال تعالى: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (82) سورة القصص.
وقفوا يحمدون الله أن لم يستجب لهم ما تمنوه بالأمس , ولم يؤتهم ما آتى قارون . وهم يرون المصير البائس الذي انتهى إليه بين يوم وليلة . وصحوا إلى أن الثراء ليس آية على رضى الله .
فهو يوسع الرزق على من يشاء من عباده ويضيقه لأسباب أخرى غير الرضى والغضب . ولو كان دليل رضاه ما أخذ قارون هذا الأخذ الشديد العنيف . إنما هو الابتلاء الذي قد يعقبه البلاء .
وعلموا أن الكافرين لا يفلحون . وقارون لم يجهر بكلمة الكفر ولكن اغتراره بالمال , ونسبته إلى ما عنده من العلم جعلهم يسلكونه في عداد الكافرين , ويرون في نوع هلاكه أنه هلاك للكافرين .
ثم تختم القصة بهذا المقطع الجميل الذي يؤكد أن الفوز والفلاح هو في الدار الآخرة وأن الله تعالى يجعل جناتها ونعيمها، وأنسها وسرورها وأنهارها وحورها، لأهل الإيمان والتواضع والتقوى والإحسان، والبعد عن الفساد، قال سبحانه: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } (83) سورة القصص.
تلك الآخرة التي تحدث عنها الذين أوتوا العلم . العلم الحق الذي يقوم الأشياء قيمتها الحقيقية . تلك الدار الآخرة العالية الرتبة البعيدة الآفاق . تلك الدار الآخرة (نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا) . . فلا يقوم في نفوسهم خاطر الاستعلاء بأنفسهم لأنفسهم ; ولا يهجس في قلوبهم الاعتزاز بذواتهم والاعتزاز بأشخاصهم وما يتعلق بها .
إنما يتوارى شعورهم بأنفسهم ليملأها الشعور بالله , ومنهجه في الحياة . أولئك الذين لا يقيمون لهذه الأرض وأشيائها وأعراضها وقيمها وموازينها حسابا . ولا يبغون فيها كذلك فسادا . أولئك هم الذين جعل الله لهم الدار الآخرة . تلك الدار العالية السامية .
(والعاقبة للمتقين) الذين يخشون الله ويراقبونه ويتحرجون من غضبه ويبتغون رضاه وفي تلك الدار الآخرة يقع الجزاء كما كتب الله على نفسه .
الحسنة بأضعافها وبما هو خير منها . والسيئة بمثلها رحمة بضعف الخلق وتيسيرا:{مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (84) سورة القصص
--------------
بعض الدروس المستفادة من القصة:
1- أن نسب الإنسان وحسبه لا يغني عنه من الله شيئاً. فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ » .
2- أن الرزق هو من عند الله تعالى فهو مقدر الأقدار، ومقسم الأرزاق.
أما ترى البحر والصياد منتصبٌ … لرزقه ونجوم الليل محتبكه قد غاص في لُجة والموج يلطمه…… وعينه لم تزل في كلكل الشبكة حتى إذا بات مسروراً بليلته…… بالحوت قد شق سفّود الردى حنكه شراه منه الذي قد بات ليلته …… خِلْواً من البرد في خير من البركة سبحان ربي يعطي ذا ويحرم ذا …… هذا يصيد وهذا يأكل السمكة
3- عدم الفرح بالدنيا، فرح زهو وكبر وغرور، فإن هذه هي المهلكة الكبرى، والداهية العظمى، فالكبر والغرور عاقبتها وخيمة.
يقول أحد المتكبرين:
أتيه على جن البلاد وإنسها …… فلو لم أجد خلقاً لتهت على نفسي أتيه فما أدري من التيه من أنا…… سوى ما يقول الناس فيّ وفي جنسي
4- مقياس السعادة والسرور في الدنيا هو بطاعة الله تعالى والإحسان إلى عباده، وليست السعادة ولا الريادة بكثرة الغنى.
5- وفي قوله تعالى :(وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة , ولا تنس نصيبك من الدنيا) . يتمثل اعتدال المنهج الإلهي القويم .
المنهج الذي يعلق قلب واجد المال بالآخرة . ولا يحرمه أن يأخذ بقسط من المتاع في هذه الحياة . بل يحضه على هذا ويكلفه إياه تكليفا , كي لا يتزهد الزهد الذي يهمل الحياة ويضعفها .
لقد خلق الله طيبات الحياة ليستمتع بها الناس ; وليعملوا في الأرض لتوفيرها وتحصيلها , فتنمو الحياة وتتجدد , وتتحقق خلافة الإنسان في هذه الأرض .
ذلك على أن تكون وجهتهم في هذا المتاع هي الآخرة , فلا ينحرفون عن طريقها , ولا يشغلون بالمتاع عن تكاليفها . والمتاع في هذه الحالة لون من ألوان الشكر للمنعم , وتقبل لعطاياه , وانتفاع بها . فهو طاعة من الطاعات يجزي عليها الله بالحسنى
وهكذا يحقق هذا المنهج التعادل والتناسق في حياة الإنسان , ويمكنه من الارتقاء الروحي الدائم من خلال حياته الطبيعية المتعادلة , التي لا حرمان فيها , ولا إهدار لمقومات الحياة الفطرية البسيطة .
(وأحسن كما أحسن الله إليك) . . فهذا المال هبة من الله وإحسان . فليقابل بالإحسان فيه . إحسان التقبل وإحسان التصرف , والإحسان به إلى الخلق , وإحسان الشعور بالنعمة , وإحسان الشكران .
7- من الناس يظن أن علمه وكده هما وحدهما سبب غناه . ومن ثم فهو غير مسؤول عما ينفق وما يمسك , غير محاسب على ما يفسد بالمال وما يصلح , غير حاسب لله حسابا , ولا ناظر إلى غضبه ورضاه !
والإسلام يعترف بالملكية الفردية , ويقدر الجهد الفردي الذي بذل في تحصيلها من وجوه الحلال التي يشرعها ; ولا يهوِّن من شأن الجهد الفردي أو يلغيه .
ولكنه في الوقت ذاته يفرض منهجا معينا للتصرف في الملكية الفردية - كما يفرض منهجا لتحصيلها وتنميتها - وهو منهج متوازن متعادل , لا يحرم الفرد ثمرة جهده , ولا يطلق يده في الاستمتاع به حتى الترف ولا في إمساكه حتى التقتير ; ويفرض للجماعة حقوقها في هذا المال , ورقابتها على طرق تحصيله , وطرق تنميته . وطرق إنفاقه والاستمتاع به . وهو منهج خاص واضح الملامح متميز السمات .
7- في كل زمان ومكان تستهوي زينة الأرض بعض القلوب , وتبهر الذين يريدون الحياة الدنيا , ولا يتطلعون إلى ما هو أعلى وأكرم مها ; فلا يسألون بأي ثمن اشترى صاحب الزينة زينته ?
ولا بأي الوسائل نال ما نال من عرض الحياة ? من مال أو منصب أو جاه . ومن ثم تتهافت نفوسهم وتتهاوى , كما يتهافت الذباب على الحلوى ويتهاوى ! ويسيل لعابهم على ما في أيدي المحظوظين من متاع , غير ناظرين إلى الثمن الباهظ الذي أدوه , ولا إلى الطريق الدنس الذي خاضوه , ولا إلى الوسيلة الخسيسة التي اتخذوها .
8- المتصلون بالله لهم ميزان آخر يقيم الحياة , وفي نفوسهم قيم أخرى غير قيم المال والزينة والمتاع . وهم أعلى نفسا , وأكبر قلبا من أن يتهاووا ويتصاغروا أمام قيم الأرض جميعا . ولهم من استعلائهم بالله عاصم من التخاذل أمام جاه العباد .
وهؤلاء هم (الذين أوتوا العلم) . العلم الصحيح الذي يقومون به الحياة حق التقويم:{وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} (80) سورة القصص
ثواب الله خير من هذه الزينة , وما عند الله خير مما عند قارون . والشعور على هذا النحو درجة رفيعة لا يلقاها إلى الصابرون . . الصابرون على معايير الناس ومقاييسهم . الصابرون على فتنة الحياة وإغرائها . الصابرون على الحرمان مما يتشهاه الكثيرون .
وعندما يعلم الله منهم الصبر كذلك يرفعهم إلى تلك الدرجة . درجة الاستعلاء على كل ما في الأرض , والتطلع إلى ثواب الله في رضى وثقة واطمئنان .
9- أن الفساد وأهله ممقوتون بعيدون من محبة الله. فويل لمن سخّروا أموالهم لإفساد عباد الله، أين يذهب أصحاب الأموال الطائلة من ربهم، وقد سخروا أموالهم في إفساد الناس، ونشر الفاحشة، والدعوة إلى الرذيلة؟!
10- يجب على أهل العلم والخير أن يقوموا بمسؤولية الدعوة وواجب النصيحة.
11- أن الصبر سبب للخير والفلاح، والتوفيق والنجاح في الدنيا والآخرة.
12- أن العاقبة للمتقين، والفوز للصالحين، والآخرة للمؤمنين المجتهدين المتواضعين.
13- وهكذا يسوق لنا القرآن فى قصصه العبر والعظات ، لقوم يتذكرون ، فمن قصة قارون نرى أن كفران النعم يؤدى إلى زوالها ، وأن الغرور والبغى والتفاخر كل ذلك يؤدى إلى الهلاك ، وأن خير الناس من يبتغى فيما آتاه الله من نعم ثواب الآخرة ، دون أن يهمل نصيبه من الدنيا ، وأن العاقل هو من يستجيب لنصح الناصحين ، وأن الناس فى كل زمان ومكان ، منهم الذين يريدون زينة الحياة الدنيا ، ومنهم الأخيار الأبرار الذين يفضلون ثواب الآخرة ، على متع الحياة الدنيا ، وأن العاقبة الحسنة قد جعلها - سبحانه - لعباده المتقين ، وأنه - سبحانه - يجازى الذين أساءوا بما عملوا ، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى . يتبع إن شاء الله... |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644
| موضوع: رد: الخلاصة في حياة الأنبياء (1) السبت 11 يونيو 2011, 4:43 am | |
| إلياس (عليه السلام)
في منطقة تسمى بعلبك (موجودة حاليًا في لبنان) كان يعيش مجموعة من بني إسرائيل، أغواهم الشيطان فانحرفوا عن منهج الله، يُقَالُ إِنَّ إِلْيَاسَ هُوَ إِدْرِيسُ ، وَهُوَ نَبِيٌّ بَعَثَهُ اللهُ تَعَالَى إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ أَنْ عَبَدُوا الصَّنَمَ ( بَعْلاً ) ، فَدَعَاهُمْ نَبِيُّهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ ، وَنَهَاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ .
فَحَذَّرَ قَوْمَهُ بَأْسَ اللهِ ، وَقَالَ لَهُمْ : أَلاَ تَخَافُونَ اللهَ فَتَمْتَثِلُوا لأَوَامِرِهِ ، وَتَتْرُكُوا مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ؟
وَاللهُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ الآبَاءِ السَّالِفِينَ فَهُوَ الحَقِيقُ بِالعِبَادَةِ .
فَكَذَّبُوهُ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ ضَرُورَةِ عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَسَيَكُونُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنَ المُحْضَرِينَ فِي العَذَابِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ .إِلاَّ الذِين عَبَدُوا اللهَ مِنْ بَيْنِهِمْ ، وَأَخْلَصُوا العِبَادَةَ لَهُ ، فَهَؤُلاَءِ لاَ يَعذِّبُهُمْ اللهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ .
وَجَعَلَ اللهُ ذِكْراً حَسَناً بَيْنَ النَّاسِ تَتَنَاقَلُهُ الأَجْيَالُ ، وَجَعَلَهُ مُحَبَّباً إِلى النَّاسِ جَمِيعاً .
سَلاَمٌ مِنَ اللهِ عَلَى إِلْيَاسَ ( وَإِلْ يَاسِينَ لُغَةٌ فِي إِلْيَاسَ ) .وَمِثْلُ هَذَا الجَزَاءِ الحَسَنِ الذِي جَازَى اللهُ بِهِ نَبِيَّهُ إِلْيَاسَ ، يُجَازِي عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ السَّابِقِينَ المُحْسِنِينَ .
وَإِنَّ إِلْيَاسَ مِنْ عِبَادِ اللهِ المُؤْمِنِينَ المُخْلِصِينَ .
قال تعالى مبينا قصته: { وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) [الصافات: 123-132].
وقد مدح الله -سبحانه- إلياس -عليه السلام- وأثنى عليه ثناءً جميلاً، وذلك لأنه أخلص في العبادة، وأحسن في عمله، قال تعالى: {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ} (85) سورة الأنعام.
اليسع (عليه السلام)
نبي من أنبياء الله، ذكره الله في كتابه العزيز مرتين، وأثنى عليه، ولم يشر القرآن الكريم إلى قصة اليسع ولا إلى قومه، وروي أنه أرسل إلى بني إسرائيل بعد إلياس -عليه السلام- ومكث بينهم فترة يدعوهم إلى الله مستمسكًا بمنهاج إلياس وشريعته حتى توفاه الله -تعالى- وبعد وفاة اليسع -عليه السلام- كثرت ذنوب بني إسرائيل، وازدادت معاصيهم، وقتلوا من جاءهم من الأنبياء بعد ذلك فسلط الله عليهم ملوكًا جبارين يحكمونهم، وسلط الله عليهم الأعداء.
وقد بين الله -سبحانه- لنا فضل اليسع -عليه السلام- عندما ذكره مع إخوانه الأنبياء -صلوات الله عليهم- فقال تعالى: {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90) } [الأنعام/85-90]
أي وَهَدَى اللهُ مِنْ ذُرِّيَةِ نُوحٍ أَيْضاً : زَكَرِيّا وَابْنَهُ يَحْيِى وَعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ وَإِلْيَاسَ ، وَقَدْ جَعَلَهُمُ اللهُ جَمِيعاً مِنَ الصَّالِحِينَ . وَكَانَتْ لِهَؤُلاءِ الأَنْبِيَاءِ الكِرَامِ مِيزَةُ الزُّهْدِ وَالإِعْرَاضِ عَنِ الدُّنْيا وَلَذَّاتِها ، وَزِينَتِهَا ، لِذَلِكَ خَصَّهُمُ اللهُ تَعَالَى بِوَصْفِ الصَّالِحِينَ .
وَمِنْ ذُرِّيَةِ نُوحٍ ، مِمَّنْ هَدَاهُمُ اللهُ ، يَذْكُرُ تَعَالَى : إِسْمَاعِيلَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ ، وَاليَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوْطاً فَهَدَاهُمْ ، وَآتَاهُمُ النُّبُوَّة ، وَجَعَلَهُمْ مِنَ المُهْتَدِينَ ، وَفَضَّلَهُمْ عَلَى العَالَمِينَ مِنْ أَهْلِ زَمَانِهِمْ . وَهَدَى اللهُ بَعْضَ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ - لاَ كُلّهُمْ إذْ إِنَّ بَعْضَ هَؤُلاءِ الأَقْرَبِينَ لَمْ يَهْتَدِ بِهَدِي أَبِيهِ أَوْ ابْنِهِ ، كَآزَرَ أَبِي إِبْرَاهِيم ، وَابْنِ نُوحٍ وَزَوْجَةِ لُوطٍ - . وَيَقُولُ تَعَالَى إنَّهُ اخْتَارَهُمْ وَاصْطَفَاهُمْ وَهَدَاهُمُ الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ .
وَإِنَّمَا حَصَلَ لَهُمْ ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللهِ ، وَهِدَايَتِهِ إِيَّاهُمْ ، وَلَوْ أَنَّهُمْ أَشْرَكُوا بِعِبَادَةِ رَبِّهِمْ أَحَداً ، لَهَلَكَ عَمَلُهُمْ ، وَلَضَاعَ أَجْرُ أَعَمْالِ الخَيْرِ التِي عَمَلُوهَا، ( وَهَذا تَشْدِيدٌ لأَمْرِ الشِّرْكِ، وَتَغْلِيظٌ لِشَأْنِهِ ).
أُولَئِكَ الذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيهِمْ ، بِأنْ آتَاهُمُ الكِتَابَ ( صُحُفَ إِبْرَاهِيم ، وَتَوْرَاةِ مُوسَى وَزَبُورِ دَاوُدَ ، وَإِنْجِيلَ عِيسَى ) كَمَا آتَاهُمُ العِلْمَ وَالفِقْهَ فِي الدِّينِ ( الحُكْمَ ) ، وَآتَاهُمُ النُّبُوَّةَ لِيَهْدُوا النَّاسَ إلى اللهِ ، وَذَلِكَ رَحْمَةٌ مِنَ اللهِ بِعِبَادِهِ ، وَلَطْفٌ مِنْهٌ بِخَلْقِهِ ، فَإنْ يَكْفُرْ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ فِي الأَرْضِ مِنَ البَشَرِ ( هَؤلاءِ ) بِالكِتَابِ وَالحُكْمِ وَالنُّبُوَّةِ فَإنَّ اللهَ تَعَالَى وَكَّلَ بِرِعَايَتِهَا قَوماً مُؤْمِنِينَ ، لاَ يَجْحَدُونَ مِنْهَا شَيْئاً ، وَلاَ يَرُدُّونَ مِنْهَا حَرْفاً . ( وَهُمُ المُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَاُر وَالمُؤْمِنُونَ - عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ هَذَا المَقْطَعِ مِنَ الآيَةِ ) .
وَهَؤُلاءِ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ ، الذِينَ وَرَدَتْ أَسْمَاؤُهُمْ فِي الآيَاتِ السَّابِقَةِ ، وَالذِينَ وَصَفَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِأنَّهُ آتَاهُمُ الكِتَابَ وَالحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ، هُمُ الذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ هِدَايَةً كَامِلَةً ، فَاهْتَدِ ، يَا مُحَمَّدُ ، بِهُدَاهُمْ ، وَاقْتَدِ بِهِمْ ، فِي الأَخْلاَقِ الحَمِيدَةِ ، وَالصِّفَاتِ الرَّفِيعَةِ ، وَالصَّبْرِ عَلَى أَذَى السُّفَهَاءِ ، وَالعَفْوِ عَنْهُم ، وَقُلْ لِقَوْمِكَ إنَّنِي لاَ أَسْأَلُكُمْ أَجْراً عَلَى إِبْلاغِ رِسَالَةِ رَبِّي إلَيْكُمْ ، وَمَا أَنْزَلَهُ عَلَيَّ مِنَ القُرْآنِ ، فَهَذَا القُرْآنُ هُوَ تَذْكِيرٌ ( ذِكْرَى ) لِلْعَالَمِينَ الذِينَ يَتَذَكَّرُونَ فَيَرْشُدُونَ مِنَ الجَهَالَةِ وَالضَّلاَلَةِ .
ولقد أثنى الله على اليسع -عليه السلام- فقال: {وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنْ الْأَخْيَارِ} (48) سورة ص.
أي وَاذْكُر أَنْبِيَاءَ اللهِ إِسْمَاعِيلَ واليَسَعَ وَذَ الكِفْلِ الذِينَ شَرَّفَهُمُ اللهُ تَعَالَى ، وَجَعَلَهُمْ مِنَ المُصْطَفَيْن الأَخْيَارِ وَتَأَمَّلْ صَبْرَهُمْ ، وَرَحْمَةَ اللهِ بِهِمْ . يتبع إن شاء الله... |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644
| موضوع: رد: الخلاصة في حياة الأنبياء (1) السبت 11 يونيو 2011, 5:04 am | |
| داود(عليه السلام)
لقد ذكر الله لنا في القرآن قصصاً كثيرة، وهذه القصص جاءت متنوعة متكررة، بل ربما تكررت القصة الواحدة عشرات المرّات في عشرات السور، بعضها بشكل إجمالي وبعضه تفصيلي.
والقصص لم ترد في القرآن إلا لتدبرها والوقوف عندها، وكثير منها يعالج ما يستجد في حياة الناس من قضايا وأحداث، وهذا بعض معجزات القرآن. كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الاْلْبَابِ [ص:29]، قال الله تعالى: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24].
إن القرآن هو كتاب هذه الأمة الحي ورائدها الناصح وإنه هو مدرستها التي تتلقى فيه دروس حياتها وتستمع فيه إلى الإرشادات والتوجيهات.
إن هذا القرآن ليس مجرد كلام يتلى، ولا مجرد آيات تُحفظ وتردد، أو تعاويذ يتبرك بها، بل هو دستور شامل، دستور للتربية كما أنه دستور للحياة العملية، بل هو منهج الحياة، ومن ثم فقد تضمن عرض تجارب البشرية بصورة حية، على أهل الإسلام الذين يربيهم المولى جل وعلا بالأحداث والأقدار، فيُهرعون إلى القرآن فيجدونه غضاً طرياً كأنما أنزل البارحة في أحداثهم وشؤونهم، يقدم القرآن الزاد لأمة الإسلام في جميع أجيالها: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْانًا عَرَبِيّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَاذَا الْقُرْءانَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ [يوسف:2، 3].
ولهذا تتنوع القصص في كتاب الله ويكثر ضرب الأمثال للقياس والاعتبار كما قال سبحانه في إجلاء بني النضير فَاعْتَبِرُواْ ياأُوْلِى الأَبْصَارِ [الحشر:2].
ولهذا المعنى تجد في سرد القصص القرآني متعة إيمانية وحقائقَ وجودية تتكرر في الأمم والأجيال ما وجدت نفس تتحرك.
ومن أكثر القصص وروداً في القرآن قصص بني إسرائيل، ومن أهم أسباب ذلك أن الله سبحانه وتعالى يعلم أن هذه الأمة ستمرُّ في بعض أجيالها بالأدوار التي مر بها بنو إسرائيل، وتقف من دينها وعقيدتها مواقف مشابهة بمواقف بني إسرائيل، فلهذا عرض الله عليها مزالق الطريق مصورة في تاريخ بني إسرائيل، لتكون لها عظة وعبرة، ولترى صورتها في تلك المرآة المرفوعة في آيات القرآن، فتتجنب المزالق والنكبات.
ولن ننتفع بهذا القرآن حتى نقرأَه لنتلمس عنده توجيهات حياتنا المعاصرة في يومنا وغدنا، كما كان الصحابة الكرام تتلقاه، وحين نقرأ القرآن بهذا الوعي سنجد عنده ما نريد، وسنجد فيه عجائب لا تخطر على بال، سنجد كلماتِه وعباراتِه وتوجيهاته وقصصه حية نابضة، تنبض وتتحرك وتشير إلى طريق الخلاص والنجاة، وتقول لنا: هذا فافعلوه، وهذا لا تفعلوه، وتقول لنا: هذا عدو، وهذا صديق، وتقول لنا: كذا فاتخذوا من الحيطة، وكذا فاتخذوا من العدة، وتقول لنا حديثاً طويلاً مفصلاً دقيقاً في كل ما يعرض لنا من الشؤون، وسنجد عندئذ في القرآن متاعاً وحياة، وعندها سندرك معنى قول الله تعالى: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24]، فهي دعوة للحياة الدائمة المتجددة تحت ظلال آيات القرآن، لا لحياة تاريخية محدودة في صفحة عابرة من صفحات التاريخ.
ومن قصص القرآن ما قصه الله علينا في حادثة جرت لبني إسرائيل بعد موت موسى عليه الصلاة والسلام، بعدما ضاع ملكهم ونهبت مقدساتهم وذَلوا لأعدائهم، وذاقوا الويلات منهم بسبب ترك الوحي والتوراة، ثم انتفضت نفوسهم، انتفضت فيها العقيدة والإيمان، واشتاقوا للقتال في سبيل الله، وعلموا أنه لا عز لهم إلا بالجهاد في سبيله، فقالوا لنبيٍ لهم: {ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِى إِسْرءيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِىّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [البقرة:246]}.
لقد اجتمع ملأٌ من بني إسرائيل من أهل الرأي والمشورة فقالوا لأحد أنبيائهم: عيّن لنا ملكاً نقاتل تحت رايته في سبيل الله، لا في سبيل غيره، وهذا التحديد منهم لطبيعة القتال، وأنه في سبيل الله، فيه إشارة إلى انتفاضة العقيدة في قلوبهم ويقظة الإيمان في نفوسهم، وشعورهم بأنهم أهل دين وحق، وأن عدوهم على ضلال وكفر وباطل.
إن هذا الوضوح في انتفاضة العقيدة هو نصف الطريق إلى النصر، فلا بد للمؤمن أن يتضح في حسه أنه على الحق وأن عدوه على الباطل، وأنه مسلم، وعدوُه كافر، ولا بد أن يتجرد في حسه الهدف، وهو في سبيل الله، فلا يغشاه غبش أو ظلمة لا يدري معها أين يسير؟!
واستوثق منهم نبيهم، وهو يعلم حال أمته من خُلف الوعد ونقض العهد ونكث المواثيق فقال: هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ فأنتم في سعة الآن، فأما إذا استجبتم فتقرر القتال، فتلك فريضة مكتوبة، ولا يمكن أن ننكل عنها كلمة تليق بنبي صادق يخبر عن كوامن النفوس وضعفها، وههنا تُستثار الحماسة في نفوسهم فيقولون: وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا.
فالأمر واضح عندهم، أعداؤهم أعداء الله، وقد أخرجوهم من ديارهم وسبَوا أبناءهم، ولكن هذه الحماسة لم تدم، فها هو القرآن يقول: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمْ تذهب الحماسات التي انتفخت في ساعات الرخاء، وليست هذه سِمَة خاصة ببني إسرائيل وحدهم، بل هي سِمَة لكل جماعة أو طائفة لا تنضج تربيتها الإيمانية، فهي سمة وصفة بشرية عامة لا يغيرها إلاّ التربية الإيمانية العميقة، ولهذا عقب الله على فعلهم بقوله: { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ } وهو يشير بشيء من الإنكار ووصم الكثرة الكاثرة بالظلم، فهي ظالمة لنفسها، وظالمة لنبيها، وظالمة للحق الذي طالما تغنت به فخذلته، وهي تعرف أنه الحق وتخلت عنه للمبطلين. وكم من الناس في دنيا الناس اليوم من يعرف الحق، لكنه يخذله ولا ينصره {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}.
ثم يمضي السياق القرآني ليغور في النفس الإسرائيلية، ويقدم لنا تجارب حية نلمسها في حياتنا اليومية، وذلك بعد أن بين اختيار النبي لطالوت ملكاً عليهم، فأنكروا ذلك، وهم الذين طلبوا تعيينه ثم بيّن النبي لهم أن الله اصطفاه وزاده بسطة في العلم والجسم، فهو وحي من الله ولا بد من التسليم له، ثم أخبرهم عن آية ملكه وشرعيته بمجيء التابوت{ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُواْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِى مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ ءايَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مّن رَّبّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مّمَّا تَرَكَ ءالُ مُوسَى وَءالُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذالِكَ لأَيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [البقرة:247، 248]}.
وينتقل بنا السياق القرآني إلى أهم أحداث هذه القصة فيقول: { فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمْ [البقرة:249]}، ويتجلى في هذا المقطع مصداق حكمة الله في اصطفاء هذا الرجل "طالوت" إنه مُقدِمٌ على معركة، ومعه جيش من أمة مغلوبة عرفت الهزيمة والذل في تاريخها مرة بعد مرة، وهو يواجه جيش أمة قوية كثيرة العدد مدججة السلاح، فلا بد إذن من قوة كامنة يضيفها لأتباعه تقف بها أمام القوة الظاهرة الغالبة، وأدرك أن هذه القوة لا تكون إلا في الإرادة، الإرداة التي تضبط الشهوات والنزوات، الإرادة التي تصمد للحرمان والمشاق، وتستعلي على الضرورات والحاجات، الإرادة التي تُؤثر الطاعة وتحتمل تكاليفها، مهما كان ثمنها، فتجتاز بإرادتها الابتلاء بعد الابتلاء.
ولهذا أراد طالوت أن يختبر الأتباع والجنود فقال: { إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ } وصحت فراسة طالوت في أتباعه المتحمسين ويأتي الجواب بشربهم من النهر{ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمْ }فئة تُقاتل عدوها تُبتلى بالعطش!
ومن يأمرها به؟ الله من فوق سبع سماوات! أيّ تربية هذه؟ ما الغاية؟ وما الهدف؟
لقد سقط الضِّعاف في الاختبار وتمحّص الصف، وتخلف المتخلفون بعصيانهم{ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولاَوْضَعُواْ خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ [التوبة:47]}.
كان من الخير ومن الحزم أن ينفصلوا عن طالوت وأتباعه ،لأنهم بِذرة ضعف وخذلان وهزيمة، الجيوش ليست بالعدد الضخم ولا بالقوة المادية ولا بعابرات القارات ولا بالقنابل العنقودية والانشطارية، ولكن بالقلب الصامد والإرادة الجازمة وقبله الإيمان الثابت.
وكان ذلك النهر هو النهر الذي يفصل بين الأردن وفلسطين، قال السُّدي رحمه الله: كان الجيش ثمانين ألفاً فشرب من النهر ستة وسبعون ألفاً، وتبقى مع طالوت أربعة آلاف. قال ابن عباس رضي الله عنهما: (من اغترف غرفة بيده رَوَى، ومن شرب منه لم يروَ).
والثابت في صحيح البخارى (3958 ) عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: كُنَّا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - نَتَحَدَّثُ أَنَّ عِدَّةَ أَصْحَابِ بَدْرٍ عَلَى عِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ الَّذِينَ جَاوَزُوا مَعَهُ النَّهَرَ ، وَلَمْ يُجَاوِزْ مَعَهُ إِلاَّ مُؤْمِنٌ ، بِضْعَةَ عَشَرَ وَثَلاَثَمِائَةٍ ".
وهل انتهت الغربلة عند هذا الحد؟ لم تنتهِ التجارب بعد ذلك لأن النفس البشرية لا يمكن التنبؤ بمفاجآتها:{ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ [البقرة:249]}.
لم يكونوا يستشعرون أنهم قلة، فلما رأَوا الواقع رأَوا أنهم أضعف من مقاومته لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ إنهم مؤمنون لم ينكِصوا عن عهدهم مع نبيهم ولا ملكهم، ولكنهم أمام أعداد ضخمة وأسلحة متنوعة، وفي مثل هذه الحال لا يصمد إلاّ من كانت له موازين غير موازين الدنيا، برزت في هذه اللحظة الصعبة فئة قليلة من ثلاثمائة وبضعة عشر، صَفوة الصَّفوة ونخبة النخبة، برزت ههنا فئة مؤمنة متصلة بالموازين الربانية، فتكلموا من واقع إيمانهم وثقتهم بالله، أمام الجيوش الكبيرة والأعداد الغفيرة والأسلحة الثقيلة: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُواْ اللَّهِ كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}.
وتأمل اللفظ كَم مّن فِئَةٍ صيغة تكثير، وهذا يدل على أن من بين الثلاثمائة وبضعة عشر قوم استقرؤوا أحوال الأنبياء والرسل من قبلهم، واستحضروا نصر الله لهم في أصعب اللحظات:{ حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجّىَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [يوسف:110]}، وقال سبحانه في الآية الأخرى:{ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214]}.
إن المؤمن المتجرد من موازين الدنيا، والمتعلق بالموازين الربانية، يدرك قاعدة عظيمة من قواعد السنن الربانية، هذه القاعدة تقول: إن المنصورين قلة، وعادة ما يوصفون بأنهم فئة أو شرذمة، وقد قال هذا فرعون من قبل في موسى وأتباعه: {إِنَّ هَؤُلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ [الشعراء:54-56]}، هذه الفئة المؤمنة إذا ثبتت على إيمانها، رَقَت الدَّرج الشاق وصعِدت السلم الطويل، حتى تنتهي إلى مرتبة الاصطفاء والاختيار، لأنها اتصلت بالله الغالب على أمره، القاهر فوق عباده، محطم الجبارين، ومخزي الظالمين، وقاهر المتكبرين، وهي في كل ذلك تكِل النصر إلى الله فتقول: { كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:249]}، ويعللون نصرهم بعلته الحقيقية وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ فلولا صبرهم لما انتصروا.
ونمضي مع القصة لنرى فيها مزيداً من العبر والدروس، نشاهد فيها أن الفئة المؤمنة القليلة الصابرة، لم تزلزلها كثرة العدد، ولا قوته مع ضعفها وقلتها، بل في مثل هذه اللحظات هي التي تحدد وتقرر مصير المعركة، بعد أن تجردت لربها، وأخلصت له، وانقطعت عن الخلق، واتصلت بالخالق، واستغنت عن جميع الناس، هنا يقول الله تعالى عنهم:{ وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:250، 251]}، فبرزوا وظهروا للعيان أمام الأعداء وقالوا:{ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة:250]}.
إيمان أمام كفر، وحق أمام باطل، وتَمَنٍّ للشهادةِ والموت أمام حِرْص على الحياة، ماذا تكون النتيجة؟ {فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ }ويُعلّمَ القرآن المؤمنين أن النصر على الأعداء بإذن الله لا بإذن غيره، ليتضح التصور الكامل للوجود، ولما يجري في هذا الكون، ولطبيعة القوة التي تحركه.
إن المؤمنين ستار رقيق لقدرة الله، يفعل الله بهم ما يريد، ويُنفّذ بهم ما يختار بإذنه، ليس لهم من الأمر شيء، ولا حول لهم ولا قوة، ولكن الله يختارهم لتنفيذ مشيئته، فيكون منهم ما يريده بإذنه، وهي حقيقة خليقة بأن تملأ قلب المؤمن بالسلام والطمأنينة واليقين، إنه عبد الله، اختاره الله لدوره، وهذه مِنَّة من الله وفضل، وهو يؤدي هذا الدور المختار، ويحقق قَدَر الله النافذ، ثم يكرمه الله بعد كرامة الاختيار بفضل الثواب ولولا فضل الله ما فعل، ولولا فضل الله ما أُثيب.
ويستيقن المؤمن وهو يقاتل أعداء الله نبل الغاية، وطهارة القصد، ونظافة الطريق، فليس له في شيء من هذا كله مصلحة ذاتية، إنما هو منفذ لمشيئة الله الخيرة، قائم بما يريد، استحق هذا كله بالنية الطيبة، والعزم على الطاعة، والتوجه إلى الله في خلوص.
ويبرز في السياق داود عليه السلام فيقول الله تعالى: {وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ [البقرة:251]}، كان داود فتى صغيراً من بني إسرائيل، وجالوت كان ملكاً قوياً وقائداً مهيباً، ولكن الله شاء أن يرى القوم وقتذاك، أن الأمور لا تجري بظواهرها إنما تجري بحقائقِها، وحقائقُها لا يعلمها إلاّ هو، ومقاديرها في يده وحده، فليس عليهم إلا أن ينهضوا هم بواجبهم، ويفوا الله بعهدهم، ثم يكون ما يريده الله بالشكل الذي يريده، وقد أراد الله أن يجعل مصرع هذا الجبار الغشوم الظالم على يد هذا الفتى الصغير داود، ليريَ الناس أن الجبابرة الذين يرهبونهم إنما هم ضعاف، يغلبهم الفتية الصغار، حين يشاء الله أن يقتلهم.
ومن الحكم البليغة في هذه القصة: أن يكون داود هو الذي يتسلم الملك بعد طالوت، ويرثه ابنه سليمان، فيكون عهده هو العهد الذهبي لبني إسرائيل في تاريخهم الطويل، وكانت بدايات التمكين هي تلك الانتفاضة، انتفاضة العقيدة والايمان في نفوسهم، بعد الضلال والانتكاس والشرود.
وتصل بنا القصة إلى هذه الخاتمة، ويعلَن النصر الأخير للعقيدة الواثقة، لا للقوة المادية وللإرادة المستعلية، لا للكثرة العددية، حينئذ تأتي الآيات القرآنية مُعلنةً عن الغاية العليا من اصطراع تلك القوى، إنها ليست المغانم والأسلاب، وليست الأمجاد والهالات، إنما هو الصلاح في الأرض، وإنما هو التمكين للخير بالكفاح مع الشر {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الارْضُ وَلَاكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة:251]}.
وهنا تتوارى الأشخاص والأحداث والأسماء، لتبرز من خلال النص القصير حكمة الله العليا في الأرض، من اصطراع القوى وتنافس الطاقات، وانطلاق السعي في تيار الحياة المتدفق الصاخب الموَّار، وهنا تتكشف على مد البصر ساحة الحياة المترامية الأطراف، تموج بالناس في تدافع وتسابق وزحام إلى الغايات، ومن ورائها جميعاً قدرة الله تعالى، تقود الموكب المتزاحم المتصارع المتسابق إلى الخير والصلاح والنماء في نهاية المطاف.
وفي النهاية يكون الصلاح والخير والنماء، يكون بقيام الجماعة الخيرة المهتدية المتجردة، تعرف الحق الذي بينه الله لها، وتعرف طريقها إليه واضحاً، وتعرف أنها مكلفة بدفع الباطل وإقرار الحق في الأرض، وتعرف أن لا نجاة لها من عذاب الله، إلا أن تنهض بهذا الدور النبيل، وأن تحتمل في سبيله ما تحتمل في الأرض طاعة لله، وابتغاءً لرضاه، وهنا يُمضي الله أمره وينفذ قدره، ويجعل كلمة الحق والخير والصلاح هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى.
ومن هنا كانت الفئة القليلة المؤمنة الواثقة بالله، لا بد وأن تَغْلِبَ في النهاية وتنتصر، لأنها تمثل إرادة الله العليا في دفع الفساد عن الأرض، وتمكين الصلاح في الحياة. قال الله تعالى :{ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ [الروم:47]}، وقال سبحانه: {وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يتَّقُونَ [فصلت:18]}، وقال عز وجل: { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءامَنُواْ فِى الْحياةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51]}، وقال تعالى: { وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:139]} ..
وجمع الله لداود الملك والنبوة، فكان ملكًا نبيًّا، وأنزل عليه الزبور، وهو كتاب مقدس فيه كثير من المواعظ والحكم، قال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} (163) سورة النساء .
وأعطى الله لداود صوتًا جميلاً لم يعطه لأحد من قبله، فكان إذا قرأ كتابه الزبور، وسبح الله، وقف الطير في الهواء يسبح الله معه، وينصت لما يقرؤه وكذلك الجبال فإنها كانت تسبح معه في الصباح والمساء، قال تعالى: { إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20) } [ص :18-20] .
وأيد الله داود بمعجزات كثيرة دالة على نبوته، فألان له الحديد، حتى يسهل عليه صنع الدروع والمحاريب التي تستخدم في الحروب والقتال قال تعالى : {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) }سورة سبأ.
وقال تعالى في قصة اختبار وامتحان النبي داود عليه السلام : {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ (25) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) }[ص/21-26]
أي وَهَلْ جَاءَكَ يَا مُحَمَّدُ خَبَرُ ذَلِكَ النَّبَإِ العَجِيبِ، نَبَأ الخُصُومِ الذِينَ تَسَلَّقُوا سُورَ الغُرْفَةِ التِي كَانَ دَاوُدُ يَتَعَبَّدُ رَبَّهُ فِيهَا ( المِحْرَابَ ) ، وَدَخَلُوا عَلَيْهِ مِنَ السُّورِ ، لاَ مِنَ البَابِ ، وَهُوَ مُنْشَغِلٌ بِالعِبَادَةِ؟
وَقَدْ دَخَلَ الخَصْمَانِ عَلَى دَاوُدَ وَهُوَ مُنْشَغِلٌ بِالعِبَادَةِ فِي غَيْرِ وَقْتِ جُلُوسِهِ لِلْحُكْمِ ، وَكَانَ لاَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ أَحَدٌ حَتَّى يَخْرُجَ هُوَ إِلَى النَّاسِ ، فَخَافَ هُوَ مِنَ الدَّاخِلَيْنِ عَلَيْهِ بِالتَّسَوُّرِ لأَنَّهُ لاَ يَدْخُلُ بِالتَّسَوُّرِ إِلاَّ مَنْ أَرَادَ شَرّاً ، فَطَمْأَنَهُ الخَصْمَانِ ، وَقَالاَ لَهُ إِنَّهُمَا خَصْمَانِ تَجَاوَزَ أَحَدُهُمَا عَلَى الآخَرِ ، وَقَدْ جَاءَا إِلَيْهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمَا بِالحَقِّ والعَدْلِ ، وَطَلَبَا إِلَيْهِ أَنْ لاَ يَجُورَ فِي حُكْمِهِ ، وَأَنْ يَهْدِيَهُمَا إِلَى الحُكْمِ السَّوِيِّ العَادِلِ .
وَقَالَ أَحَدُ الخَصْمَينِ لِدَاوُدَ : إِنَّهُ يَمْلِكُ شَاةً وَاحِدَةً وَإِنَّ صَاحِبَهُ يَمْلِكُ تِسْعاً وَتِسْعِينَ شَاةً ( نَعْجَةً ) ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ مَالِكُ النِّعَاجِ الكَثِيرَةِ : أَعْطِنِي نَعْجَتَكَ لأَضُمَّهَا إِلَى نِعَاجِي ، وَأْكْفُلَهَا لَكَ ، وَغَلَبَنِي فِي المُحَاجَّةِ ، لأَنَّهُ جَاءَ بِحُجَجٍ - لَمْ أَسْتَطِعْ لَهَا دَفْعاً .
فَقَالَ دَاوُدُ لِلْمُتَكَلِّمِ مِنَ الخَصْمَين : إِنَّ صَاحِبَكَ قَدْ ظَلَمَكَ وَجَارَ عَلَيْكَ إِذْ طَلَبَ مِنْكَ نَعْجَتَكَ الوَحِيدَةَ لِيَضُمَّهَا إِلَى نِعَاجِهِ . وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ الذِينَ يَتَعَامَلُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ يَجورُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ أَثْنَاءَ التَعَامُلِ ، إِلاَّ المُتَقَّينَ الصَّالِحِينَ ، فَهؤُلاَءِ يُرَاقِبُونَ الله وَيَخْشَوْنَهُ ، وَيَمْتَنِعُونَ عَنِ الظُّلْمِ والجَورِ وَلكِنَّ هَؤُلاَءِ قَلِيلُونَ .
وَلَمَّا تَوَارَى الخَصْمَانِ أَدْرَكَ دَاوُدُ أَنَّ اللهَ أَرَادَ اخْتِبَارَهُ وَفِتْنَتَهُ ، فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ ، وَخَرَّ سَاجِداً تَائِباً .
فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ ، وَغَفَرَ لَهُ ، وَسَتَكُونُ لَهُ يَومَ القِيَامَةِ قُرْبَةٌ يُقَرِّبُهُ اللهُ بِهَا ، وَسَيَكُونُ لَهُ حُسْنُ مَرْجِعٍ ، لِتَوْبَتِهِ وَعَدْلِهِ التَّامِ فِي مُلْكِهِ .
وَقَالَ اللهُ تَعَالَى لِدَاوُدَ : إِنَّهُ جَعَلَهُ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ ، نَافِذَ الكَلِمَةِ والحُكْمِ بَينَ الرَّعِيَّةِ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَحْكُمَ بَينَ النَّاسِ بِالحَقِّ وَالعَدْلِ ، وَأَنْ لاَ يَتَّبعَ الهَوَى لأَنَّ اتِّبَاعَ الهَوَى يَكُونُ سَبَباً لِلضَّلاَلَةِ وَالجَوْرِ عَنِ الطَّرِيقِ القَويمِ الذِي شَرَعَهُ اللهُ تَعَالَى .
ثَمَّ يَقُولُ تَعَالَى : إِنَّ الذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَهُدَاهُ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ ( يَوْمَ الحِسَابِ ) عَذَابٌ شَدِيدٌ لِنِسْيَانِهِمْ ذَلِكَ اليَومَ ، وَإِنَّ الله سَيُحَاسِبُ العِبَادَ فِيهِ عَلَى أَعَمَالِهِمْ جَمِيعاً ، صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا .
وكان داود يتقرب إلى الله بالذكر والدعاء والصلاة، لذلك مدحه الله بقوله تعالى: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (17) سورة ص.
يُذَكِّرُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّ جَمِيعَ الرُّسُلِ والأَنْبِيَاء قَبْلَهُ كَذَّبَتْهُمْ أَقْوَامُهُمْ ، وَاسْتَهْزَأَتْ بِهِمْ ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْجَزَ لَهُمْ وَعْدَهُ بِأَنَّ النَّصْرَ والغَلَبَةَ سَتْكُونُ لَهُمْ ، وَأَنَّ الكَافِرِينَ الظَّالِمِينَ سَيَكُونُونَ هُمُ المَخْذُوِلِينَ الخَاسِرِينَ .
وَيَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ مُحَمَّداً بالصَّبْرِ عَلَى مَا يَقُولُهُ الكَفَرَةُ الطُّغَاةُ مِنْ قَوْمِهِ الذِين قَالُوا عَنْهُ مَرَّةً سَاحِرٌ ، وَمَرَّةً مَجْنُونٌ ، وَمَرَّةً كَذَابٌ.. وَقَالُوا عَنْهُ سَاخِرِينَ: أَأُنْزِلَ القُرْآنُ عَلَيْهِ مِنْ دُونِنَا .
وَيُذَكِّرُ اللهُ رَسُولَهُ بِقِصَّةِ نَبِيِّ اللهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، الذِي حَبَاهُ اللهُ بالقُوَّةِ والسُّلْطَانِ ( ذَا الأَيْدِ )، وَلَكِنَّهُ جَعَلَهُ أَوَّاباً كَثِيرَ الرُّجُوعِ إِلَى رَبِّهِ ، طَائِعاً تَائِباً َذَاكِراً ، وَكَانَ دَاوُدُ يَصُومُ يَوْماً وَيُفْطِرُ يَوْماً ، وَكَانَ يَقُومُ ثُلُثَ الليلِ مُتَعَبِّداً رَبَّهُ .
وعَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« كَانَ مِنْ دُعَاءِ دَاوُدَ يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ وَالْعَمَلَ الَّذِى يُبَلِّغُنِى حُبَّكَ اللَّهُمَّ اجْعَلْ حُبَّكَ أَحَبَّ إِلَىَّ مِنْ نَفْسِى وَأَهْلِى وَمِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ ». قَالَ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا ذَكَرَ دَاوُدَ يُحَدِّثُ عَنْهُ قَالَ « كَانَ أَعْبَدَ الْبَشَرِ ».. [الترمذي].
وعَنْ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ الثَّقَفِىِّ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو قَالَ قَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « أَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ ، كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا ، وَأَحَبُّ الصَّلاَةِ إِلَى اللَّهِ صَلاَةُ دَاوُدَ ، كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ » أخرجه البخاري .
وكان داود لا يأكل إلا من عمل يده، لأنه يعلم أن أفضل الكسب هو ما يكسبه الإنسان من صنع يده، عَنِ الْمِقْدَامِ - رضى الله عنه - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم – قَالَ: « مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ ، وَإِنَّ نَبِىَّ اللَّهِ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ » [البخارى]
وقد مات داود -عليه الصلاة والسلام- وتولى من بعده ابنه سليمان -عليه السلام- الحكم وجعله الله نبيًّا، قال تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} (16) سورة النمل.
---------------
الدروس والعبر
1- تجليات فضل اللَّه على عباده.
ترادف نعم اللَّه على عباده عامة وعلى أنبيائه وأوليائه خاصة لا ينكره إلا جاحد، وقد خصَّ اللَّه نبيه داود بمزيد من فضله وظهر ذلك واضحًا في المظاهر الآتية:
سخر اللَّه له الجبال والطير تردد معه ذكره وتسبيحه. ألان في يده الحديد فصار كالعجينة يصنع منه ما يشاء. يسَّر له تلاوة الزبور، وآتاه الملك فجمع له الخيرين خير الدنيا والآخرة. أنعم عليه بالقوة في البدن والحكمة في الرأس والعدل في الحكم. أنعم عليه بالذرية الصالحة: "وورث سليمان داود".
2- الشكر قيد النعمة:
شكر النعمة يمنعها من الزوال ويجلب المزيد، ويمنع النقمة، وبهذا قضى العزيز الحميد، فقال سبحانه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (7) سورة إبراهيم، وقليل من الناس من يعرف النعمة فيقرُّ بها للمنعم سبحانه ويشكره عليها بوضعها فيما أمر سبحانه، وكان داود عليه السلام من هذا القليل الشاكر، فاستحق من اللَّه الثناء: { اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (13) سورة سبأ.
3- بنو إسرائيل لم يشكروا نعمة اللَّه عليهم:
لم يشكر اليهود نعمة اللَّه عليهم بإنزال التوارة، فحرفوها وبدلوها ولم يعملوا بما فيها، ولم يشكروا نعمة اللَّه عليهم بتتابع الأنبياء فيهم، فآذوا أنبياء اللَّه حال حياتهم وبعد مماتهم، ومنهم من قتلوه، ومن ذلك ما فعلوه مع نبي اللَّه داود عليه السلام وهو المبجل فيهم، فوصفوه بالثائر السفاح الذي يحب سفك الدماء وإقامة الملك على جماجم البشر.
وإن شئت التفاصيل فراجع العهد القديم، سفر الملوك الثاني الفصول من (5- 20)، وكذلك ما نسبوا إلى نبيهم داود زورًا وبهتانًا أن داود عليه السلام قد رأى امرأة جاره وهي تغتسل فأحبَّها حبًا شديدًا، فأرسل زوجها في إحدى المعارك، وأمر القائد أن يجعله في المقدمة لعله يقتل فيتزوج امرأته، وتوراة اليهود التي كتبوها بأيديهم- وليست التوراة التي أنزلها اللَّه على موسى- تمتلئ بهذه السفاهات التي أنزه سمع القارئ وبصره عنها.
فهم لم يتركوا نبيّا إلا أساءوا إليه، بل لم يسلم اللَّه سبحانه وتعالى من افتراءاتهم، فتعالى اللَّه عما يقولون علوًا كبيرًا. ومن هنا فقد حذرنا اللَّه أن نكون مثلهم، وذكر ذلك في كتابه الكريم تصريحًا وتلميحًا.
4- أفضل ما أكل الإنسان من عمل يده:
هذا أيضًا مما تعلمناه من قصة داود عليه السلام، فعلى الرغم من كونه خليفة في الأرض وملكًا على أمة امتد ملكها، إلا أنه كان يأكل من عمل يده:{ وألنا له الحديد (10) أن اعمل سابغات وقدر في السرد}، فكان عليه السلام يصنع الدروع ويبيعها ويأكل من ثمنها.
وهكذا الأنبياء والصالحون، فمنهم من كان يرعى الغنم، ومنهم من كان نجارًا؛ كزكريا عليه السلام، ومنهم من عمل بالنجارة زمنًا مثل نوح عليه السلام، ومنهم من عمل بالتجارة فكان يبيع ويشتري في الأسواق، وكبار الصحابة رضي اللَّه عنهم كان الواحد منهم يعمل بيده ويحمل على ظهره ليكتسب قوته ويتصدق من عمل يده.
فقد أرشدهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى العمل وكسب القوت، حتى ولو كان العمل في الاحتطاب، فلا غضاضة في ذلك، فهذا خيرٌ من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم متواترة في ذلك، وأعمال الصحابة كذلك شاهدة على ذلك، فكانوا يتناوبون فيما بينهم في سماع النبي صلى الله عليه وسلم والجلوس عنده وفي طلب الرزق، ومن عجب أن يخفى ذلك على كثير من شبابنا ممن يدعون طلب العلم ويتخذونه حرفة لهم، حتى أصبحوا عالة على غيرهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
5- من المعجزات المحسوسة
أن ألان اللَّه الحديد لداود عليه السلام فجعله مطاوعًا له يشكله كما يشاء، وهذه آية من آيات اللَّه الكونية ودليل على قدرة اللَّه سبحانه، فهو الذي جعل النار بردًا وسلامًا على إبراهيم، وجعل الماء سلاحًا أغرق فرعون، ونجا موسى، وألان الحديد لداود، وهكذا فلله جنود السماوات والأرض يفعل ما يشاء ويختار؛ ولكن أكثر الناس يجهلون هذه الحقيقة.
6- وفي قوله تعالى :
{اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (17) سورة ص إنها الإشارة إلى الطريق المطروق في حياة الرسل - عليهم صلوات الله - الطريق الذي يضمهم أجمعين . فكلهم سار في هذا الطريق . كلهم عانى . وكلهم ابتلي . وكلهم صبر . وكان الصبر هو زادهم جميعاً وطابعهم جميعاً . كل حسب درجته في سلم الأنبياء . . لقد كانت حياتهم كلها تجربة مفعمة بالابتلاءات ; مفعمة بالآلام ; وحتى السراء كانت ابتلاء وكانت محكاً للصبر على النعماء بعد الصبر على الضراء. وكلتاهما في حاجة إلى الصبر والاحتمال.
ونستعرض حياة الرسل جميعاً - كما قصها علينا القرآن الكريم - فنرى الصبر كان قوامها , وكان العنصر البارز فيها . ونرى الابتلاء والامتحان كان مادتها وماءها . .
لكأنما كانت تلك الحياة المختارة - بل إنها لكذلك - صفحات من الابتلاء والصبر معروضة للبشرية , لتسجل كيف تنتصر الروح الإنسانية على الآلام والضرورات ; وكيف تستعلي على كل ما تعتز به في الأرض ; وتتجرد من الشهوات والمغريات ; وتخلص لله وتنجح في امتحانه , وتختاره على كل شيء سواه . . ثم لتقول للبشرية في النهاية:هذا هو الطريق . هذا هو الطريق إلى الاستعلاء , وإلى الارتفاع . هذا هو الطريق إلى الله .
7- وهذا التسبيح من الجبال لله - تعالى -
إنما هو على سبيل الحقيقة ولكن بكيفية لا يعلمها إلا هو - عز وجل - بدليل قوله - سبحانه - : { تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } والقول بأن تسبيح الجبال كان بلسان الحال ضعيف لأمور منها : المخالفة لظاهر ما تدل عليه الآية من أن هناك تسبيحا حقيقيا بلسان المقال ، ومنها : أن تقييد التسبيح بكونه بالعشى والإِشراق .
وبكونه مع داود ، يدل على أنه تسبيح بلسان المقال ، إذ التسبيح بلسان الحال موجود منها فى كل وقت ، ولا يختص بكونه فى هذين الوقتين أو مع داود . وخص - سبحانه - وقتي العشي والإِشراق بالذكر . للإِشارة إلى مزيد شرفهما ، وسمو درجة العبادة فيهما .
8- قال القرطبى في تفسيره:
فإن قيل : لِم فزع داود وهو نبيّ ، وقد قويت نفسه بالنبوّة ، واطمأنت بالوحي ، ووثقت بما آتاه الله من المنزلة ، وأظهر على يديه من الآيات ، وكان من الشجاعة في غاية المكانة؟ قيل له : ذلك سبيل الأنبياء قبله ، لم يأمنوا القتل والأذِية ومنهما كان يخاف . ألا ترى إلى موسى وهارون عليهما السلام كيف قالا : { إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يطغى } [ طه : 45 ] فقال الله عز وجل : «لاَ تَخَافا» . وقالت الرسل للوط : { لاَ تَخَفْ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يصلوا إِلَيْكَ } [ هود : 81 ].
ألا ترى إلى موسى وهارون - عليهما السلام - كيف قالا : { إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يطغى } - أى : فرعون - ، فقال الله لهما : { لاَ تَخَافَآ إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وأرى } ثم بين - سبحانه - ما قاله أولئك الخصوم لداود عندما شاهدوا عليه أمارات الوجل والفزع ، فقال : { قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بغى بَعْضُنَا على بَعْضٍ فاحكم بَيْنَنَا بالحق وَلاَ تُشْطِطْ واهدنآ إلى سَوَآءِ الصراط }.
9- أن قصة الخصمين اللذين تسورا على داود المحراب
قصة حقيقية ، وأن الخصومة كانت بين اثنين من الناس فى شأن غنم لهما ، وأنهما حين دخلا عليه بتلك الطريقة الغريبة التى حكاها القرآن الكريم ، فزع منهما داود - عليه السلام - وظن أنهما يريدان الاعتداء عليه ، وأن الله - تعالى - يريد امتحانه وثباته أمام أمثال هذه الأحداث .
فلما تبين لداود بعد ذلك أن الخصمين لا يريدان الاعتداء عليه ، وإنما يريدان التحاكم إليه فى مسألة معينة ، استغفر ربه من ذلك الظن السابق - أى ظن الاعتداء عليه فغفر الله -تعالى- له ، والذى يتدبر الآيات الكريمة يراها واضحة وضوحا جليا فى تأييد هذا المعنى.
قال أبو حيان ما ملخصه - بعد أن ذكر جملة من الآراء - : والذى أذهب إليه ما دل عليه ظاهر الآية من أن المتسورين للمحراب كانوا من الإِنس ، دخلوا عليه من غير المدخل ، وفى غير وقت جلوسه للحكم وأنه فزع منهم ظانا أنهم يغتالونه ، إذ كان منفردا فى محرابه لعبادة ربه ، فلما اتضح له أنهم جاءوا فى حكومته ، وبرز منهم اثنان للتحاكم . . .
وأن ما ظنه غير واقع ، استغفر من ذلك الظن ، حيث اختلف ولم يقع مظنونة ، وخر ساجدا منيبا إلى الله - تعالى - فغفر الله له ذلك الظن ، ولذلك أشار بقوله : { فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ } ولم يتقدم سوى قوله - تعالى - : { وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ } ويعلم قطعا أن الأنبياء معصومون من الخطايا ، ولا يمكن وقوعهم فى شئ منها ، ضرورة أننا لو جوزنا عليهم شيئا من ذلك لبطلت الشرائع ، ولم نثق بشئ مما يذكرون أنه أوحى الله به إليهم ، فما حكى الله - تعالى - فى كتابه . يمر على ما أراده - تعالى - ، وما حكى القصاص مما فيه غض من منصب النبوة ، طرحناه .
والخلاصة :
أن كل ما قيل عند تفسير هذه الآيات ، مما يتصل بزواج داود بتلك المرأة أو بزوجها لا أساس له من الصحة . لأنه لم يقم عليه دليل أو ما يشبه الدليل . بل قام الدليل على عدم صحته إطلاقا . لأنه يتنافى مع عصمة الأنبياء . الذين صانهم الله - تعالى - من ارتكاب ما يخدش الشرف والمروءة قبل النبوة وبعدها .
قال الإِمام ابن حزم ما ملخصه : " ما حكاه الله - تعالى - عن داود قول صادق صحيح . لا يدل على شئ مما قاله المستهزئون الكاذبون المتعلقون بخرافات ولَّدها اليهود . وإنما كان ذلك الخصم قوما من بنى آدم بلا شك . مختصيمن فى نعاج من الغنم .
ومن قال إنهم كانوا ملائكة معرضين بأمر النساء . فقد كذب الله - تعالى - ما لم يقل ، وزاد فى القرآن ما ليس فيه . . لأن الله - تعالى - يقول : { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخصم } فقال لهو : لم يكونوا خصمين . ولا بغى بعهضم على بعض . ولا كان لأحدهما تسع وتسعون نعجة . ولا كان للآخر نعجة واحدة ولا قال له : { أَكْفِلْنِيهَا . . } .
10- هناك أقوال أخرى ذكرها المفسرون عند تفسيرهم لهذه الآيات . منها :
أن استغفار داود - عليه السلام - إنما كان سببه أنه قضى لأحد الخصمين قبل أن يسمع حجة الآخر .
قال الإِمام الرازى ما ملخصه :
لم لا يجوز أن يقال إن تلك الزالة التى جعلت داود يستغفر ربه - إنما حصلت لأنه قضى لأحد الخصمين ، قبل أن يسمع كلام الخصم الآخر ، فإنه لما قال له : { لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعَاجِهِ . . } فحكم عليه بكونه ظالما بمجرد دعوى الخصم بغير بينة لكون هذا الخصم مخالفا للصواب ، فعند هذا اشتغل داود بالاستغفار والتوبة ، إلا أن هذا من باب ترك الأولى والأفضل .
والذى نراه أن هذا القول بعيد عن الصواب ، ولا يتناسب مع منزلة داود - عليه السلام - الذى آتاه الله الحكمة وفصل الخطاب ، وذلك لأن من أصول القضاء وأولياته ، أن لا يحكم القاضى بين الخصمين أو الخصوم إلا بعد سماع حججهم جميعا ، فكيف يقال بعد ذلك أن داود قضى لأحد الخصمين قبل أن يستمع إلى كلام آخر .
قال صاحب الكشاف :
فإن قلت : كيف سارع داود إلى تصديق أحد الخصمين ، حتى ظلم الآخر قبل استماع كلامه؟ قلت : ما قال داود ذلك إلا بعد اعتراف صاحبه ، ولكنه لم يحك فى القرآن لأنه معلوم ، ويروى أنه قال : أريد أخذها منه وأكمل نعاجى مائة فقال داود : إن رمت ذلك ضربنا منك هذا وهذا . وأشار إلى طرف الأنف والجبهة . .
والخلاصة أن الخصومة حقيقية بين اثنين من البشر
واستغفار داود - عليه السلام - سببه أنه ظن أنهم جاءوا لاغتياله ولإِيذائه ، وأن هذا ابتلاء من الله - تعالى - ابتلاه به ، ثم تبين له بعد ذلك أنهم ما جاءوا للاعتداء عليه وإنما جاءوا ليقضى بينهم فى خصومة ، فاستغفر ربه من ذلك الظن . فغفر الله - تعالى - له . يتبع إن شاء الله... |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644
| موضوع: رد: الخلاصة في حياة الأنبياء (1) السبت 11 يونيو 2011, 5:19 am | |
| سليمانُ(عليه السلام)
نبي من أنبياء الله، أرسله الله إلى بني إسرائيل، وتولَّى الملك بعد وفاة والده داود -عليهما السلام- وكان حاكمًا عادلاً بين الناس، يقضي بينهم بما أنزل الله، وسخر الله له أشياء كثيرة: كالإنس والجن والطير والرياح... وغير ذلك، يعملون له ما يشاء بإذن ربه، ولا يخرجون عن طاعته، وإن خرج منهم أحدٌ وعصاه ولم ينفذ أمره عذبه عذابًا شديدًا، وألان له النحاس، وسخر الله له الشياطين، يأتون له بكل شيء يطلبه، ويعملون له المحاريب والتماثيل والأحواض التي ينبع منها الماء.
قال تعالى: { وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) [سبأ/12-14] } .
وعلم الله -سبحانه- سليمان لغة الطيور والحيوانات، وكان له جيش عظيم قوى يتكون من البشر والجن والطير، قال تعالى: { وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) } [النحل:17].
وَجُمِعَ لِسُلَيمانَ جُنودُهُ مِنَ الجنِّ والإِنسِ والطَّيرِ في صَعِيدٍ وَاحِدٍ ، فَرَكِبَ فيهمْ في أُبَّهةٍ عظيمةٍ ليُحَارِبَ بهِمْ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ في طَاعَةِ اللهِ ، وَكَانَ يَتَولَّى أَمرَ كُلِّ فِئةٍ وازِعُونَ مِنْهُمْ يُلْزِمُونَ كلَّ واحدٍ مَكَانَهُ ، لكيْلا يَتَقَدَّمَ عنْهُ في الموْكِبِ ، أثْنَاءَ السَّيْرِ .
وكان سليمان دائم الذكر والشكر لله على هذه النعم، كثير الصلوات والتسابيح والاستغفار، وقد منح الله عز وجل سليمان -عليه السلام- الذكاء منذ صباه، فذات يوم ذهب كعادته مع أبيه داود -عليه السلام- إلى دار القضاء فدخل اثنان من الرجال، أحدهما كان صاحب أرض فيها زرع، والآخر كان راعيًا للغنم، وذلك للفصل في قضيتهما، فقال صاحب الأرض: إن هذا الرجل له غنم ترعى فدخلت أرضى ليلاً، وأفسدت ما فيها من زرع، فاحكم بيننا بالعدل، ولم يحكم داود في هذه القضية حتى سمع حجة الآخر، عندها تأكد من صدق ما قاله صاحب الأرض، فحكم له بأن يأخذ الغنم مقابل الخسائر التي لحقت بحديقته، لكن سليمان -عليه السلام- رغم صغر سنه، كان له حكم آخر، فاستأذن من أبيه أن يعرضه، فأذن له، فحكم سليمان بأن يأخذ صاحب الغنم الأرض ليصلحها، ويأخذ صاحب الأرض الغنم لينتفع بلبنها وصوفها، فإذا ما انتهى صاحب الغنم من إصلاح الأرض أخذ غنمه، وأخذ صاحب الحديقة حديقته.
وكان هذا الحكم هو الحكم الصحيح والرأي الأفضل، فوافقوا على ذلك الحكم وقبلوه بارتياح، وأعجب داود -عليه السلام- بفهم ابنه سليمان لهذه القضية مع كونه صغيرًا، ووافق على حكم ابنه، وقد حكى الله -عز وجل- ذلك في القرآن قال تعالى: { وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) [الأنبياء/78-81] }.
موقف سليمان عليه السلام مع النملة فيقول الله عز وجل: { وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) } [النمل/17-20].
إن الله سبحانه وتعالى آتى سليمان خير ما يؤتى الإنسان من فضل وإحسان، وهو العلم الذي من ملكه، ملك أقوى ما على هذه الأرض من قوة، ومع هذا فقد أعطى عليه الصلاة والسلام، ملكاً عظيماً وسلطاناً واسعاً، ومع هذا العلم الذي أعطى سليمان، ومع هذا الملك أيضاً، لم يمنعه كل هذا، أن يأخذ درساً من أصغر مخلوقات الله، وهي النملة، ويستفيد منها، ولم يغتر بملكه ولا بعلمه عليه الصلاة والسلام، كما هو شأن بعض حاملي الشهادات في زماننا هذا، والله المستعان.
يقف سليمان عليه السلام، وينظر من خلال ملكها إلى ملكه العريض، فيرى أن لها سلطاناً كسلطانه، وملكاً كملكه، وسياسة رفيقة رحيمة، أروع وأعظم من سياسته، فلا يملك إلا أن يخشع لسلطان الله، بين يديها، ويسبح بحمده وجلاله، فيقول في محراب ملكها، الذي يسبح فيه بحمد الله: رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى وَالِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل:19].
لقد أراد الله سبحانه وتعالى، أن يصغر في عيني سليمان هذا الملك العريض، الذي بين يديه، وأن يكسر من حدة هذا السلطان المندفع، كالشهاب الذي لا يمسكه شيء، ولا يعترض سبيله معترض، وذلك كي لا يدخل على نفسه شيء، من العجب والزهو، فتقف له النملة، هذا الموقف، الذي يرى منه عجباً، فيرى سليمان عليه السلام من النملة، ما لم ير أحد من جنده، ويسمع منها، ما لم يسمع أحد غير النمل، الذي يعيش معها: ياأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ [النمل:18].
والدرس الذي نود أن نأخذه من موقف سليمان عليه السلام مع النملة، هو صوت النذير، الذي أنذرت به النملة جماعتها. إن الهلاك مقبل على جماعة النمل، من هذه الحشود الحاشدة، التي تسير في ركب سليمان، فلتأخذ جماعة النمل حذرها، ولتدخل مساكنها، ولتنجحر في مساربها، وإلا فالهلاك المحقق، ومن أين هذا الهلاك؟
من جماعة غالباً، لا تنظر إلى ما تحتها، ولا تلتفت إلى مواطن أقدامها، ولا تشعر بما تصيب أو تقتل، من تلك الكائنات الضعيفة، فهل يشعر من يسكن البيوت الفارهة، بما يعاني عباد الله من ساكني العشش والخيام، وكم في دنيا الناس، من المستضعفين ممن تطؤهم أقدام الأقوياء، دون أن يشعروا بهم، وهم في طريقهم إلى التمكين لسلطانهم، والاستزادة من جاههم وقوتهم. وكم من مجتمعات بشرية، جرفها تيار عاتٍ من تيارات الظلم والاستبداد، وكم من مدن عامرة دمرتها رحى الحروب، التي يوقد نارها من يملكون الحطب والوقود، وكم وكم، إنها والله لحكمة بالغة، ودرس عظيم، تلقيه النملة، حيوان ضئيل من مخلوقات الله، وأقلها شأناً تلقيه على الإنسانية كلها، في أحسن أحوالها، وأعدل أزمانها، وأقوى سلطانها.
ولكن أين من يتعظ ويعتبر؟ ولقد أخذ سليمان العبرة والعظة، فحاد بركبه عن وادي النمل، وهو يضع ابتسامة على فمه، ويرسل ضحكة رقيقة واعية من صدره، ويحرك لسانه بكلمات شاكرة، ذاكرة فضل الله ونعمته، فيقول: رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى وَالِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل:19].
إن للنملة سلطاناً كسلطان سليمان، ودولة كدولته، وجنداً كجنده، ثم إنها تقوم على هذه الدولة، وترعاها رعاية الأم لأبنائها، وإنها لتضع عينها دائماً على مواقع الخير، ترتاده لرعايتها، وإلى مواطن الشر، فتدفعها عنها، فهل تجد رعايا سليمان في ظله، مثل هذه الرعاية التي تجدها جماعة النمل في ظل السلطان الحكيم، وهل تنال رعيته مثل هذا العطف والحنو، الذي تناله جماعة النمل من ملكتها؟ نعم كان النبي سليمان عليه السلام كذلك .
وما يكاد سليمان يخرج من هذا الموقف الذي وقفه مع النملة، حتى يلقاه موقف آخر، مع طائر وديع لطيف، أقرب إلى النملة في لطفها، وحسن مدخلها للأمور التي تعالجها، وهو الهدهد. قال تعالى: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ لاعَذّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لاَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنّى بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنّى وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الَّذِى يُخْرِجُ الْخَبْء فِى السَّمَاواتِ وَالأرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لاَ اله إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ [النمل:20-27].
حشد سليمان عليه السلام جموعه ورعيته، فنظر فلم ير الهدهد قد حضر هذا الحفل، فتوعده سليمان عليه السلام بأشد العذاب والنقمة،{ لاعَذّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لاَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنّى بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ }[النمل:21].
أما كان للهدهد عذر يمكن أن يقدمه لتخلفه هذا، ويدفع عنه هذا العذاب، ألا يجوز أن يكون مريضاً، ألا يصح أن يكون قد وقع في شباك صائد؟ وماذا يغني الهدهد في هذا الجمع العظيم، وماذا يجدي أو يضير إذا هو حضر أو تخلف، لكنه الانضباط التام، والملاحظة العجيبة عند سليمان الملك، وكيف أنه يتفقد رعيته كاملاً، ويهمه حضورهم ووجودهم حتى لو كان مخلوقاً ضعيفاً كالهدهد.
وفي قول سليمان عليه السلام: {مَالِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ }درس عظيم، لابد من الوقوف عنده، فسليمان عليه السلام حين نظر ولم ير الهدهد، اتهم نفسه أولاً، فقال: مَالِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ، ولم يقل أين الهدهد، ولم يقل: إن الهدهد غائب.
لأنه يحتمل أن يكون موجوداً، لكنه هو عليه السلام ما رآه، وهذا هو شأن أصحاب العلم، إذا هم التمسوا حقيقة من الحقائق، فلم يجدوها في أيديهم، تشككوا واتهموا أولاً أسلوب تفكيرهم، الذي لم يصل بهم إلى الحقيقة، ثم أعادوا البحث والنظر مرةً بعد مرة، حتى يجدوا ما يطلبون، أما إذا التمس المرء الحقيقة، ثم لم يجدها، ثم كان ذلك مدعاة إلى إنكارها، فذلك ليس من أسلوب العلماء، ولا من طرق تحصيل العلم. فلينتبه لهذه القضية.
درس آخر، يعلمنا هذا الهدهد، وهو أنه في تأخره الحضور، مع سليمان، بماذا كان منشغلاً، وما الذي أخره عن الحضور، لقد كان منشغلاً بالدعوة إلى الله عز وجل، والإنكار على المشركين شركهم، وتسفيه أحلامهم، وتحقير آلهتهم التي يعبدونها من دون الله،{ وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ }[النمل:24].
لقد فاق هذا الهدهد، كثيراً من الدعاة إلى الله في هذا الزمان، حيث إنهم محسوبين على الدعوة، يشاهدون المنكرات في مجتمعهم، ويشاهدون المخالفات الشرعية الواضحة، ومع هذا لا ينكرون على أقوامهم ذلك، ولا يمنعهم ذلك أن يؤاكلوهم، أو يجالسوهم، أو يشاربوهم، فهل لنا في هذا الهدهد أسوة حسنة، حيث إنه أنكر على ملكة دولة في زمانها وهي ملكة سبأ.
وأما عن القصة الثالثة، لنبي الله سليمان عليه السلام، فكانت مع ملكة سبأ، وتسمى بلقيس، وأرض سبأ باليمن، وسميت كذلك نسبة إلى سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحان، وسمي هو سبأ، لأنه أول من سبي السبي من ملوك العرب، وأدخل السبايا إلى اليمن.
فبعد ما رجع الهدهد، وأخبر سليمان عليه السلام بما رآه وشاهده في أرض اليمن، من وجود امرأة تحكمهم، وأن لها دولة، أرسل سليمان عليه السلام الهدهد، إلى أرض سبأ وأعطاه رسالة إلى ملكة سبأ، طار الهدهد برسالة سليمان إلى بلقيس، وألقاها بين يديها، تناولت بلقيس الرسالة، وقرأت ما فيها، ثم جمعت أشراف قومها، وقواد مملكتها، وأخبرتهم بالرسالة، وقرأت نصها عليهم، ثم طلبت المشورة، فأجابها الحاضرون بأنهم على استعداد للقتال، مع جند سليمان, وأنهم أصحاب قوة، لكنهم أرجعوا الأمر لها، وإلى هذا تشير الآيات القرآنية:{ اذْهَب بّكِتَابِى هَاذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ قَالَتْ ياأَيُّهَا الْمَلا إِنّى أُلْقِىَ إِلَىَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَىَّ وَأْتُونِى مُسْلِمِينَ قَالَتْ ياأَيُّهَا الْمَلاَ أَفْتُونِى فِى أَمْرِى مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُواْ قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِى مَاذَا تَأْمُرِينَ }[النمل:28-33].
ولنا وقفة مع قول بلقيس، في قول الله عز وجل: {قَالَتْ ياأَيُّهَا الْمَلاَ أَفْتُونِى فِى أَمْرِى مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ }[النمل:32]، إن هذه المرأة تكلمت بصراحة، وإنها الفطرة، ومتى كانت النساء يفتون في الأمور ويقطعونها خصوصاً ما يتعلق بأمور الدولة، فهذه المرأة مع أنها كانت ملكة سبأ، لكن عند حدوث بعض المواقف، يتبين ضعف المرأة، وأنها لا تستطيع أن تسوس الأمور، فاستشارت الملأ، ياأَيُّهَا الْمَلاَ أَفْتُونِى فِى أَمْرِى مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ [النمل:32]
عند ذلك عزمت بلقيس على إرسال هدية عظيمة لسليمان عليه السلام، فإن من عادة الملوك أن الهدايا تقع في نفوسهم موقعاً حسناً، فقالت إن قبلها سليمان عرفت أنه ملك يرضيه ما يرضي الملوك، وإن كان نبياً أبى إلا أن نتبع دينه.
ذهب وفد بلقيس إلى فلسطين، يحملون الهدايا لسليمان عليه السلام، فلما رأى ذلك عليه السلام، أنكر عليهم، ورفض الهدية، وقال: إن بقوا على كفرهم، فلنأتينهم بجنود لا طاقة لهم بمقاومتها، ولنخرجنهم من مدينة سبأ أسرى أذلاء مستعبدين، قال تعالى:{ قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذالِكَ يَفْعَلُونَ وَإِنّى مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا ءاتَانِى اللَّهُ خَيْرٌ مّمَّا ءاتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ [النمل:34-37]}.
رجع الوفد أدراجه، وأخبر ملكته بما رأى من قوة سليمان، أدركت بلقيس أن سليمان نبي مرسل، وأنها لا طاقة لها بمخالفة أمره، فتجهزت للسير إليه مع أشراف قومها.
عرف سليمان بمسيرة بلقيس إليه، فأراد أن يريها بعض ما خصه الله به من معجزات، ليكون دليلاً على نبوته، فقال لمن حوله من الجن، أيكم يأتيني بعرش بلقيس، قبل أن تصل إليّ مع قومها، ليروا قدرة الله عز وجل، فقال أحد العفاريت من الجن، أنا آتيك به قبل أن تقوم من مجلسك الذي تقضي وتحكم فيه، وكان سليمان يجلس من الصباح إلى الظهر في كل يوم للحكم بين الناس، وما هي إلا لحظات إلا وعرش بلقيس مستقراً في مجلسه، قال تعالى: { قَالَ ياأَيُّهَا الْمَلاَ أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِى مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْرِيتٌ مّن الْجِنّ أَنَاْ ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنّى عَلَيْهِ لَقَوِىٌّ أَمِينٌ قَالَ الَّذِى عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الْكِتَابِ أَنَاْ ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَءاهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَاذَا مِن فَضْلِ رَبّى لِيَبْلُوَنِى أَءشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبّى غَنِىٌّ كَرِيمٌ [النمل:38-40]}.
فأمَرَ سُلَيمانُ بأَنْ يُجْرُوا بَعْضَ التَّغْيِيرِ في هَيئَةِ عَرْشِ بلْقِيسَ ليخْتَبِرَ مَعْرَفَتَهَا ، وَثَبَاتَها ، عِنْدَ رُؤْيَتِهِ ، وَهَلْ تَستطيعُ أنْ تعرِفَ عَرْشَهَا إذا بُدِّلَ فِيهِ وَنُكِّرَ ، أمْ لا تَسْتَطيعُ ذَلِكَ .
فَلَما وصلتْ بِلقيسُ إِلى سُلَيمانَ ، عَرَضَ عليهَا عَرْشَهَا وَقَد غُيِّرَ فيهِ ، ونُكِّرَ ، وزِيْدَ فيهِ ، فَسَأَلها أهَكَذا عرشُكِ؟ ولكِنَّها اسْتَبْعَدَتْ أن يُحْمَلَ عرشُهَا مِنْ تلكَ المَسافاتِ البَعيدةِ ، فقالتْ كأَنَّهُ هُوَ ، فهُوَ يُشْبِهُهُ ويُقَارِبُه وقيل إِنَّ جَوَابَها هَذا دَليلٌ على رَجَاحَةِ عَقْلِهَا ، وفِطْنَتِها وَدَهَائِها ، وثباتِ قَلْبَهَا .
وَقَالَ سليمانُ إِنَّهُ أُوتِيَ العِلمَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَهُ بِلْقِيسُ ، وإِنَّهُ كَانَ مِنَ المسلِمينَ أَيضاً .
أمَّا هيَ فَقَدْ صَدَّها عنِ الإِيمانِ باللهِ ، وعَنِ الإِسْلامِ إليهِ ، ما كَانَتْ هِيَ وقَومُها يَعْبُدونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ ، وَكَانوا كَافرين قال سبحانه: {قَالَ نَكّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِى أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لاَ يَهْتَدُونَ فَلَمَّا جَاءتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ [النمل:41-43]}.
كانَ سليمانُ عليهِ السلامُ قد أمَرَ الشَّياطينَ فَبَنَوْا لَها قَصْراً ( صَرْحاً ) عَظيماً من زُجَاجٍ ، أُجِريَ الماءُ من تحتِهِ ، فمَنْ لا يَعْرِفُ أَمْرَهُ يَظُنُّ أَنَّهُ ماءٌ ، ولكنَّ الزُّجَاجَ يَحُولُ بينَ الماءِ وبينَ الماشي .
ثمَّ قالَ لها سليمانُ : ادْخُلِي الصَّرْحَ لِيُرِيَها مُلْكاً أعَزَّ من مُلْكِها ، وسُلْطَاناً أعْظَمَ من سُلْطَانِها ، فَلَمّا رأتِ الماءَ تَحْتَ الزُّجَاجِ ظَنَّتْ أنَّهَا سَتَخُوضُ فيهِ ، فَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْها لِتَخُوضُ فقَالَ لَها سُليمانُ إِنَّهُ زُجَاجُ ، وليسَ ماء ، فلَمَّا وقَفَتْ عَلَى سليمانَ عَاتَبهَا على عِبَادَةِ الشَّمسِ مِنْ دُونِ اللهِ ، وَدَعَاهَا إِلى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ ، فأسْلَمَتْ وحَسُنَ إسِلامُها ، واتَّبعَتْ دينَ سُليمانَ ، وَقَالَتْ : رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي بعِبَادَةِ الشَّمسِ ، وبِاغْتِرَارِي بِمُلْكِي ، وأسْلَمْتُ مَعَ سُليمانَ للهِ ربِّ العالمينَ ، وخالقِ كلِّ شيءٍ .
{ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)}سورة النمل وقد أراد سليمان -عليه السلام- أن يبني بيتًا كبيرًا يُعْبد الله فيه، فكلف الجن بعمل هذا البيت، فاستجابوا له، لأنهم مسخرون له بأمر الله، فكانوا لا يعصون له أمرًا، وكان من عادة سليمان أن يقف أمام الجن وهم يعملون، حتى لا يتكاسلوا .
وَلَمّا قَضَى اللهُ تَعَالى عَليهِ المَوتَ ، اتَّكَأَ عَلَى عَصَاهُ وَهُوَ وَاقِفٌ ، وَلَبِثَ فَتْرَةً وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الحَالِ ، وَالجِنُّ يَعْمَلُونَ بَيْنَ يَدِيهِ ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُ حَيٌّ يَنْظُرُ إِليهِمْ فَلا يَتَوقفُونَ عَنِ العَمَلِ فِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ . ثُمَّ يَحْسَبُونَ أَنَّهُ حَيٌّ إِليهِمُ فَلاَ يَتَوقفُونَ عَنِ العَمَلِ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ . ثُمَّ سَخَّرَ اللهُ حَشَرَةً صَغِيرةً أَخَذَتْ تَنْخُرُ عَصَاهُ حَتَّى ضَعُفَتْ فانْكَسَرَتْ وَسَقَطَ سُلَيْمَانُ عَلَى الأَرضِ ، فَعَلِمَتِ الجِنُّ أَنَّهُ مَاتَ مُنْذُ زَمَنٍ وَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ . وَتَبَيَّنَ مِنْ ذَلِكَ لِلنَّاسِ وَلِلْجِنِّ أَنَّ الجِنَّ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ لَعَلِمُوا بِمَوْتِ سُلَيْمَانَ سَاعَةَ حُدُوثِهِ ، وَلَم يَنْتَظِرُوا حَتَّى تَأْكُلَ دَابَّةٌ الأَرْضِ 'َصَاهُ التِي كَانَ يَتَوَكَّأُ عَلَيها فَيَسْقُطَ عَلى الأَرضِ ، وَلَمْ يَسْتَمرُّوا فِي الأَعمَالِ الشَّاقَةِ التِي كَلَّفَهُم بِهِا سُلَيْمَانُ ( العَذَابِ المُهِينِ ) .
قال تعالى: { فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِى الْعَذَابِ الْمُهِينِ [سبأ:14]}.
وادعى بعض اليهود أن سليمان كان ساحرًا، ويسخر كل الكائنات بسحره، فنفي الله عنه ذلك في قوله تعالى: قال تعالى :{ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)}سورة البقرة.
وَلَقَدْ صَدَّقُوا مَا تَتَقَوَّلُه الشَّيَاطِينُ وَالفَجَرَةُ مِنُهُمْ عَلَى مَلْكِ سُلَيْمَانَ ، إِذْ زَعَمُوا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيّاً وَلاَ رَسُولاً يَنْزِلُ عَلَيهِ الوَحْيُ مِنَ اللهِ ، بَلْ كَانَ سَاحِراً يَسْتَمِدُّ العَوْنَ مِن سِحْرِهِ ، وَأنَّ سِحْرَهُ هَذا هُوَ الذِي وَطَّدَ لَهُ المُلْكَ ، وَجَعَلَهُ يُسَيْطِرُ عَلَى الجِنِّ وَالطَّيْرِ وَالرِّيَاحِ ، فَنَسَبُوا بِذَلِكَ الكُفْرَ لِسُلَيْمَانَ ، وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ، وَلَكِنَّ هَؤُلاءِ الشَّيَاطِينَ الفَجَرَةَ هُمُ الذِينَ كَفَرُوا ، إِذْ تَقَوَّلُوا عَلَيْهِ الأَقَاوِيلَ ، وَأَخَذُوا يُعَلِمُونَ النَّاسَ السِحْرَ مِنْ عِنْدِهِمْ ، وَمِنْ آثَارِ مَا أُنْزِلَ بِبَابِلَ عَلَى المَلَكِين هَارُوتَ وَمَارُوتَ .
مَعَ أنَّ هذينِ المَلَكِينِ مَا كَانَا يُعَلِّمَانِ أَحَداً حَتَّى يَقُولا لَهُ : إِنَّمَا نُعَلِّمُكَ مَا يُؤَدِّي إلَى الفِتْنَةِ وَالكُفْرِ فَاعْرِفْهُ وَاحْذَرْهُ ، وَتَوَقَّ العَمَلَ بِهِ، وَلَكِنَّ النّاس لَمْ يَأْخُذُوا بِهَذِهِ النَّصِيِحَةِ ، فَاسْتَخْدَمُوا ، مِمَّا تَعَلَّمُوهُ مِنْهُمَا ، مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المْرِءِ وَزَوْجِهِ .
لَقَدْ كَفَرَ هَؤُلاءِ الشَّياطِينُ الفَجَرَةُ إِذْ تَقَوَّلُوا هَذِهِ الأقَاوِيلَ ، وَاتَّخَذُوا مِنْ أَقَاوِيلِهِمْ وَأَسَاطِيرِهِمْ ذَرِيعَةً لِتَعْلِيمِ اليَهُودِ السِّحْرَ ، وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِسِحْرِهِمْ هذا أحَداً ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الذِي يَأْذَنُ بِالضَّرَرِ إنْ شَاءَ ، وَأنَّ مَا يُؤَخَذُ عَنْهُمْ مِنْ سِحْرٍ لَيَضُرُّ مَنْ تَعَلَّمَهُ في دِينِهِ وَدُنْيَاهُ ، وَلاَ يُفِيدُهُ شَيْئاً ، وَهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَعْلَمُونَ حَقَّ العِلْمِ أَنَّ مَنِ اتَّجَهَ هذا الاتِّجَاهَ لَنْ يَكُونَ لَهُ حَظٌّ أوْ نَصِيبٌ فِي نَعِيمِ الآخِرَةِ ، وَلَبِئْسَ مَا اخْتَارَهُ هُؤُلاءِ لأنْفُسِهِمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ .
وَأَنْعَمَ اللهُ تَعَالَى عَلَى دَاوُدَ بِأَنْ وَهَبَهُ وَلَدَهُ سُلَيْمَانَ ، وَكَانَ عَبداً مُحْسِناً مُطِيعاً للهِ ، حَسَنَ الاعْتِقَادِ والإِيْمَانِ ، كَثِيرَ الإِنَابَةِ والرُّجُوعِ إِلَى اللهِ تَعَالَى ، قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } (30) سورة ص.
--------------
الدروس والعبر
بين داود وسليمان عليهما السلام
أولاً: قال تعالى:{ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81)} [الأنبياء/78-81].
ومعنى الآيات الكريمة: اذكر- يا رسولنا - لقومك خاصة وللناس كافة قصة داود وسليمان عليهما السلام: إذ يحكمان في الحرث- أي حال كونها يحكمان في الزرع، قيل إنه كان عناقيد تدلت، إذ نفشت فيه غنم القوم أي انتشرت وتفرقت فيه ليلاً بلا راعٍ فرعته وأفسدته.
قال ابن كثير - رحمه الله - عند تفسير هذه الآيات نقلاً عن أبي إسحاق عن مرة عن ابن مسعود رضي الله عنه في قوله: وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم، قال كرْم قد أنبتت عناقيده فأفسدته، قال: فقضى داود بالغنم لصاحب الكرم، فقال سليمان: غير هذا يا نبي الله، قال: وما ذاك؟ قال: تدفع الكرْم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان وتدفع الغنم إلى صاحب الكرْم (العنب) فيصيب منها حتى إذا كان الكرْم كما كان دفعت الكرم إلى صاحبه ودفعت الغنم إلى صاحبها فذلك قوله: ففهمناها سليمان. اهـ.
وحتى لا يفهم القارئ من العبارة السابقة تقليلاً من شأن داود عليه السلام عقَّب ربنا سبحانه وتعالى بعدها مباشرة بقوله: {وكلاً آتينا حكماً وعلماً}، فداود عليه السلام حكم بالعدل وسليمان عليه السلام حكم بالفضل، وقد أثنى الله على حكمه الذي وفقه إليه لأنه يحب الرفق في الأمر كله كما جاء عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتِ: اسْتَأْذَنَ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكَ . فَقُلْتُ بَلْ عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ . فَقَالَ « يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِى الأَمْرِ كُلِّهِ » . قُلْتُ أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا قَالَ « قُلْتُ وَعَلَيْكُمْ ».
ثم استمرت الآيات الكريمة في بيان ما مَنَّ الله سبحانه به على كل من داود وسليمان فقال تعالى: { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82) .
وقد تناولنا ذلك فيما سبق بما يغني عن إعادته، وخلاصة القول: أن الله سبحانه قد خصَّ كلا من النبيين بما يناسبه من فضل ومنِّة، وإن تميز أحدهما بشيء عن الآخر فليس في ذلك انتقاص من فضل الآخر، وهذا أمر مقرر في الشريعة ولولا خشية الإطالة لأوردنا أدلة كثيرة على ذلك.
يجب ألا ننسى أن سليمان قد ورث داود وهو ابنه وكلما نُسب فضلٌ إلى سليمان عليه السلام فهو فضل لداود عليه السلام.
ثانيًا: القصة الثانية كما جاء في صحيح عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « كَانَتِ امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا ، جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا فَقَالَتْ لِصَاحِبَتِهَا إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ . وَقَالَتِ الأُخْرَى إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ .
فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى ، فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ - عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ - فَأَخْبَرَتَاهُ فَقَالَ ائْتُونِى بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَهُمَا . فَقَالَتِ الصُّغْرَى لاَ تَفْعَلْ يَرْحَمُكَ اللَّهُ . هُوَ ابْنُهَا . فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى » . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَاللَّهِ إِنْ سَمِعْتُ بِالسِّكِّينِ قَطُّ إِلاَّ يَوْمَئِذٍ ، وَمَا كُنَّا نَقُولُ إِلاَّ الْمُدْيَةَ . » .
قَالَ الْعُلَمَاء : يَحْتَمِل أَنَّ دَاوُدَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى لِشَبَهٍ رَآهُ فِيهَا ، أَوْ أَنَّهُ كَانَ فِي شَرِيعَته التَّرْجِيح بِالْكَبِيرِ ، أَوْ لِكَوْنِهِ كَانَ فِي يَدهَا ، وَكَانَ ذَلِكَ مُرَجِّحًا فِي شَرْعه .
وَأَمَّا سُلَيْمَان فَتَوَصَّلَ بِطَرِيقٍ مِنْ الْحِيلَة وَالْمُلَاطَفَة إِلَى مَعْرِفَة بَاطِن الْقَضِيَّة ، فَأَوْهَمَهُمَا أَنَّهُ يُرِيد قَطْعه لِيَعْرِف مَنْ يَشُقّ عَلَيْهَا قَطْعه فَتَكُون هِيَ أُمّه ، فَلَمَّا أَرَادَتْ الْكُبْرَى قَطْعه ، عَرَفَ أَنَّهَا لَيْسَتْ أُمّه ، فَلَمَّا قَالَتْ الصُّغْرَى مَا قَالَتْ عَرَفَ أَنَّهَا أُمّه ، وَلَمْ يَكُنْ مُرَاده أَنَّهُ يَقْطَعهُ حَقِيقَة ، وَإِنَّمَا أَرَادَ اِخْتِبَار شَفَقَتهمَا ؛ لِتَتَمَيَّز لَهُ الْأُمّ ، فَلَمَّا تَمَيَّزَتْ بِمَا ذَكَرْت عَرَفَهَا ، وَلَعَلَّهُ اِسْتَقَرَّ الْكُبْرَى فَأَقَرَّتْ بَعْد ذَلِكَ بِهِ لِلصُّغْرَى ، فَحَكَمَ لِلصُّغْرَى بِالْإِقْرَارِ لَا بِمُجَرَّدِ الشَّفَقَة الْمَذْكُورَة ، قَالَ الْعُلَمَاء : وَمِثْل هَذَا يَفْعَلهُ الْحُكَّام لِيَتَوَصَّلُوا بِهِ إِلَى حَقِيقَة الصَّوَاب ، بِحَيْثُ إِذَا اِنْفَرَدَ ذَلِكَ لَمْ يَتَعَلَّق بِهِ حُكْم ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْف حَكَمَ سُلَيْمَان بَعْد حُكْم دَاوُدَ فِي الْقِصَّة الْوَاحِدَة وَنَقَضَ حُكْمه ، وَالْمُجْتَهِد لَا يَنْقُض حُكْم الْمُجْتَهِد ؟
فَالْجَوَاب مِنْ أَوْجُه مَذْكُورَة :
أَحَدهَا : أَنَّ دَاوُدَ لَمْ يَكُنْ جَزَمَ بِالْحُكْمِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُون ذَلِكَ فَتْوَى مِنْ دَاوُدَ لَا حُكْمًا .
وَالثَّالِث : لَعَلَّهُ كَانَ فِي شَرْعهمْ فَسْخ الْحُكْم إِذَا رَفَعَهُ الْخَصْم إِلَى حَاكِم آخَر يَرَى خِلَافه.
وَالرَّابِع : أَنَّ سُلَيْمَان فَعَلَ ذَلِكَ حِيلَة إِلَى إِظْهَار الْحَقّ وَظُهُور الصِّدْق ، فَلَمَّا أَقَرَّتْ بِهِ الْكُبْرَى عَمِلَ بِإِقْرَارِهَا ، وَإِنْ كَانَ بَعْد الْحُكْم كَمَا إِذَا اِعْتَرَفَ الْمَحْكُوم لَهُ بَعْد الْحُكْم أَنَّ الْحَقّ هُنَا لِخَصْمِهِ.
ثالثًا: من المقرر في الشريعة أن القاضي إذا اجتهد وأخطأ فله أجر وإن اجتهد وأصاب فله أجران كما صحَّ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ: « إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ » ..[رواه البخاري]
الأنبياء في النهاية بشر كانوا يحكمون فيما يعرض عليهم من قضايا باجتهادهم الخاص وليس بوحي، ومن هنا جاء عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ ، وَأَقْضِىَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا ، فَلاَ يَأْخُذْ ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ » .
فالحاكم مثاب أصاب أو أخطأ، وعلى القاضي أن يجتهد ما استطاع، والفضل أولاً وآخرًا لله يؤتيه من يشاء . يتبع إن شاء الله... |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الخلاصة في حياة الأنبياء (1) السبت 11 يونيو 2011, 5:25 am | |
| زكريا (عليه السلام)
قال تعالى : {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41) [آل عمران /35 -41]
قِيلَ إنَّ امْرَأَةَ عِمرَانَ كَانَتْ عَاقِراً ، فَرَأتْ طَائِراً يَزُقُّ فَرْخَهُ فَتَمَنَّتْ أنْ يَكُونَ لَهَا وَلَدٌ ، فَدَعَتِ اللهَ أنْ يَرْزُقَها وَلَداً فَحَمَلَتْ .
وَلَمَّا شَعَرَتْ بِالحَمْلِ نَذَرَتْ أنْ يَكُونَ حَمْلُها خَالِصاً مُتَفرِّغاً لِعِبَادَةِ اللهِ ، وَخِدْمَةِ المَعْبَدِ . وَدَعَتِ اللهَ أنْ يَتَقَبَّلَ مِنْهَا نَذْرَها ، فَإنَّهُ تَعَالَى هُوَ السَّميعُ لِدُعَائِها ، العَلِيمُ بِنِيَّتِها .
فَلَمَّا وَضَعَتِ امْرَأةُ عِمْرَانَ حَمْلَها ، وَرَأتْ أنَّهُ أُنثَى ، تَحَسَّرَتْ عَلَى مَا رَأنْ مِنْ خَيْبَةِ رَجَائِها ، فَإنَّهَا نَذَرَتْ أنْ تُحَرِّرَ مَا فِي بَطْنِهَا لِخِدْمَةِ المَعْبَدِ ، وَالانْقِطَاعِ لِلعِبادَةِ ، وَالأنْثَى لاَ تُصْلُحُ لِذَلِكَ .
وَقَالَتْ رَبِّ إنّي وَضَعْتُها أنْثَى ، وَاللهُ أعْلَمُ بِمَكَانَةِ الأنثَى التِي وَضَعتَها ، وَأنَّها خَيْبرٌ مِنَ الذُّكُورِ . وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأنْثَى فِي القُوَّةِ وَالجَلدِ فِي العِبَادَةِ ، وَفِي احْتِمَالِ خِدْمَةِ المَعْبَدِ ، وَقَالَتْ إني سَمَّيْتُها مَرْيَمَ ، وَإني عَوَّذْتُها بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ .
فَتَقَبَّلَهَا رَبُهَا نَذِيرَةً مُحَرَّرَةً لِلْعِبَادَةِ وَخِدْمَةِ بَيْتِهِ ، وَأحَسَنَ نَشْأَتَهَا وَنَباتَها ، وَقَرَنَها بِالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِهِ ، تَتَعَلَّمُ مِنْهُمُ العِلْمَ وَالخَيْرَ وَالدِّينَ .
وَجَعَلَ زَكَريَا كَافِلاً لَهَا ، إتْمَاماً لِسَعَادَتِهَا ، لِتَقْتَبِسَ مِنْهُ العِلْمَ وَالعَمَلَ الصَّالِحَ . وَكُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيّا مَكَانَ مُصلاَّهَا ( المِحْرَابَ ) وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً ، فَكَانَ زَكَرِيّا يَسْأَلُهَا مِنْ أَيْنَ لَكِ هَذَا الرِّزْقُ يَا مَرْيَمُ؟ فَتَرُدُّ عَلَيهِ قَائلةً إنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ الذِي يَرْزُقُ النَّاسَ جَمِيعاً بِتَسْخِيرِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ وَهُوَ تَعَالَى يَرزقُ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ رِزْقاً كَثِيراً بِلاَ حُدُودٍ؟
فَلَمَّا رَأى زَكَرِيَّا مِنْ كَرَامَاتِ مَرْيَمَ ، وَكَانَ قَدِ اشْتَعَلَ رَأسُهُ شَيْباً ، وَأصْبَحَ شَيْخاً طَاعِناً فِي السِّنِّ ، طَمِعَ فِي أنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ صَالِحٌ مِثْلُهَا هِبَةً وَفَضْلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ ، وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ عَاقِراً ، فَسَأَلَ رَبَّهُ وَنَادَاهُ نِداءً خَفِيّاً ، وَقَالَ : يَا رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ، إنَّكَ تَسْمَعُ دُعَاءَ الصَّالِحينَ ، وَأنْتَ القَدِيرُ عَلَى الإِجَابَةِ .
فَخَاطَبَتْهُ المَلاَئِكَةُ خِطَاباً سَمِعَهُ ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي مِحْرَابِهِ ، وَمَحلِّ خَلْوَتِهِ وَعِبَادَتِهِ ، وَقَالَتْ لَهُ إن اللهَ يُبَشِّرُكَ بِوَلدٍ يُولَدُ لَكَ اسْمُهُ يَحْيَى ، يَكُونُ أوَّلَ مَنْ يُصَدِّقُ بِعِيسَى الذِي خُلِقَ بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ ، إِذْ قَالَ لَهُ كُنْ فَكَانَ ، وَيَكُونُ حَلِيماً وَسَيِّداً يَفُوقُ قَوْمَهُ فِي الشَّرَفِ وَالعِبَادَةِ وَالعِلْمِ ، وَيَكُونُ حَصُوراً يَمْنَعُ نَفْسَهُ مِنِ اتِّبَاعِ شَهَواتِها ، وَيَكُونُ مَعْصُوماً عَنِ الفَوَاحِشِ ، وَسَيَكُونُ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ حِينَمَا يَبْلُغُ سِنَّ النُّبُوَّةِ .
فَلَمَّا تَحَقَّقَ زَكَرِيَا مِنَ البِشَارَةِ ، أخَذَ يَتَعَجَّبُ مِنْ وِلاَدَةِ وَلَدٍ لَهُ بَعْدَ الكِبَرِ ، فَقَالَ كَيْفَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ ، وَقَدْ كَبِرْتُ وامْرأتِي عَاقِرٌ لاَ تَلِدُ ، فَرَدَّ عَلَيهِ المَلَكُ قَائِلاً : إنَّ اللهَ يَفْعَل مَا يَشَاءُ وَيُرِيدُ ، لاَ يُعْجِزُه شَيْءٌ ، وَلا يَتَعَاظَمُهُ أَمْرٌ ، وَلاَ يَحُولُ دُونَ نَفَاذِ مَشِيئَتِهِ حَائِلٌ .
قَالَ زَكَرِيَّا : رَبِّ اجْعَلْ لِي عَلامَةً ( آيةً ) أَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَى وُجُودِ الوَلَدِ مِنَّي. قَالَ: العَلاَمَةُ عَلَى ذَلِكَ هِيَ أَنَّكَ لاَ تَسْتَطِيعُ النُّطْقَ مَعَ اسْتِواءِ صِحَّتِكَ مُدَّةَ ثَلاثَةِ أيَّامٍ كَامِلَةٍ . ثُمّ أَمَرَهُ بِكَثْرَةِ ذِكْرِ اللهِ وَتَكْبِيرِهِ وَتَسْبِيحِهِ في الصَّباحِ وَالمَسَاءِ حِينَمَا تَعْرِضُ لَهُ هذِهِ الحَالَةُ .
وقال تعالى : {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) } [مريم/2-11]
هذَا ذِكْرُ رَحْمَةِ اللهِ لِعَبْدِهِ زَكَرِيَّا نَقُصُّهُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ . ( وَزَكَرِيَّا نَبِيٌّ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) .
حِينَ دَعَا رَبَّهُ خفْيَةً عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ ( لأَنَّ الدُّعَاءَ الخَفِيَّ أَحَبُّ إِلَى اللهِ لِدَلاَلَتِهِ عَلَى الإِخْلاَصِ ، وَالْبُعْد عَنِ الرِّياءِ ) .
فَقَالَ : يَا رَبِّ إِنِّي كَبِرْتُ وَضَعُفْتُ ، وَخَارَتْ قُوَايَ ( وَهَنَ العَظْمُ مِنِّي ) ، وَشَابَ رَأْسِي وَلَمْ أَعْهَدْ مِنْكَ إِلاَّ الإِجَابَةَ لِدُعَائِي ، وَلَمْ تَرُدَّنِي قَطُّ خَائِباً فِيمَا سَأَلْتُكَ .
وَإِنِّي خِفْتُ إِذَا مِتُّ بِلا خَلَفٍ وَلاَ وَلَدٍ أَنْ تَتَصَرَّفَ عُصْبَتِي بِالنَّاسِ تَصَرُّفاً سَيِّئاً ، وَأَنْ تَخْرُجَ بِهِمْ عَنْ طَرِيقِ الحَقِّ وَالْهُدَى ، وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ لاَ تَلِدُ ، فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلَداً ( وَلِيّاً ) ، يَكُونُ نَبِيّاً فَيَخْلُفُنِي فِي قَوْمِي ، وَيَسُوسُهُمْ بِمَا يُوحَى إِلَيْهِ .
فَيَرِثُ هَذا الوَلَدُ مِنِّي الْعِلْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَالحِكْمَةَ ، وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ المُلْكَ ، وَاجْعَلْهُ يَا رَبِّ مَرْضِيّاً عِنْدَكَ ، وَعِنْدَ خَلْقِكَ ، تُحِبُّهُ أَنْتَ ، وَتُحَبِّبُهُ إِلَى الخَلْقِ فِي دِينِهِ وَخُلُقِهِ .
فَاسْتَجَابَ اللهُ تَعَالَى لِدُعَاءِ زَكَرِيّا ، وَقَالَ لَهُ ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المِحْرَابِ : إِنَّنَا نُبَشِّرُكَ بِوَلَدٍ يُولَدُ لَكَ ، وَيَكُونُ اسْمُهُ يَحْيَى ، يَكُونُ نَبِيّاً وَصَالِحَاً وَمُصَدِّقاً بِالمَسِيحِ ( كَمَا جَاءَ فِي آيَةٍ أُخْرَى ) ، وَلَمْ نَجْعَلْ لاسْمِهِ مُمَاثِلاً مِنْ قَبْلُ .
فَتَعَجَّبَ زَكَرِيَّا حِينَ بُشِّرَ بِالْوَلَدِ ، فَقَالَ : يَا رَبِّ كَيْفَ يُوْلَدُ لِي وَلَدٌ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ ، وَأَنَا قَدْ تَقَدَّمَتْ بِيَ السِّنُّ كَثِيراً وَكَبِرْتُ ، وَقَحِلَ عَظْمِي ، وَلَمْ تَبْقَ فِيَّ قُوَّةٌ؟
فَرَدَّ اللهُ عَلَيْهِ قَائِلاً ( أَوْ رَدَّ عَلَيْهِ المَلَكُ الَّذِي أَبْلَغَهُ البُشْرَى بِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى ) إِنَّ جَعْلَكَ وَزَوْجَكَ تُنْجِبَانِ وَلَداً وَأَنْتَ هَرِمٌ ، وَامْرَأَتُكَ عَاقِرٌ هُوَ أَمْرٌ هَيِّنٌ يَسِيرٌ عَلَيَّ ، وَقَدْ خَلَقْتُكَ أَنْتَ مِنْ قَبْلُ ، وَلَمْ تَكُنْ شَيْئاً ، وَالْخَلْقُ أَصْعَبُ مِنْ تَبْدِيلِ الصِّفَاتِ ، كَجَعْلِ العَاقِرِ وَلُوداً .
قَالَ زَكَرِيَّا : يَا رَبِّ اجْعَلْ لِي عَلاَمَةً وَدَلاَلَةً ( آيَةً ) عَلَى وُجُودِ مَا وَعَدْتَنِي بِهِ مِنْ حَمْلِ زَوْجَتِي ، لِتَسْتَقَرَّ نَفْسِي ، وَيَطْمَئِنَّ قَلْبِي بِمَا وَعَدْتَنِي؟
قَالَ الرَبُّ : العَلاَمَةُ هِيَ أَنْ يَنْحَبِسَ لِسَانُكَ ثَلاَثَ لَيَالٍ وَأَنْتَ صَحِيحٌ مُعَافَى ( سَوِيّاً ) ، وَلَيْسَ بِكَ عِلَّةٌ ، وَلاَ أَنْتَ تَشْكُو مَرَضاً ، فَلاَ تَسْتَطِيعَ تَكْلِيمَ النَّاسِ وَمُحَاوَرَتَهُمْ . وَخِلاَلَ هَذِهِ اللَّيَالِي تَسْتَطِيعُ القِيَامَ بِعِبَادَاتِكَ ، وَتَسْبِيحَ رَبِّكَ .
وَبَعْدَ أَنْ أَعْلَمَ اللهُ تَعَالَى زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلاَمُ بِهَذِهِ العَلاَمَةِ ، خَرَجَ زَكَرِيَّا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ مُصَلاَّهُ ، أَوْ مَحَلِّ عِبَادَتِهِ ( المِحْرَابِ ) ، وَهُوَ لاَ يَسْتَطِيعُ الكَلاَمَ ، وَقَدِ انْطَلَقَ لِسَانُهُ بِتَسْبِيحِ اللهِ ، فَسَأَلُوهُ عَمَّا بِهِ ، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ لِيُسَبِّحُوا رَبَّهُمْ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً ، وَلِيُشَارِكُوهُ الشُّكْرَ للهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ ، إِذْ جَعَلَ فِيهِمْ نَبِيّاً يَخْلُفُهُ مِنْ بَعْدِهِ . يتبع إن شاء الله... |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الخلاصة في حياة الأنبياء (1) السبت 11 يونيو 2011, 5:29 am | |
| يحيى(عليه السلام)
يحيى -عليه السلام- نبي من أنبياء بني إسرائيل، ظهرت آية الله وقدرته فيه حين خلقه، حيث كان أبوه نبي الله زكريا -عليه السلام- شيخًا كبيرًا، وكانت أمه عاقرًا لا تلد، وكان يحيى -عليه السلام- محبًّا للعلم والمعرفة منذ صغره، وقد أمره الله تعالى بأن يأخذ التوراة بجد واجتهاد، فاستوعبها وحفظها وعمل بما فيها، والتزم بأوامر الله سبحانه وابتعد عن نواهيه، قال تعالى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} (12) سورة مريم.
وقد ابتعد يحيى عن لهو الأطفال، فيحكى أنه كان يسير وهو صغير إذ أقبل على بعض الأطفال وهم يلعبون فقالوا له: يا يحيى تعال معنا نلعب؛ فرد عليهم يحيى -عليه السلام- ردًّا بليغًا فقال: ما للعب خلقنا، وإنما خلقنا لعبادة الله، وكان يحيى متواضعًا شديد الحنان والشفقة والرحمة وخاصة تجاه والديه، فقد كان مثالاً للبر والرحمة والعطف بهما، قال تعالى عن يحيى: {وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13)وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا} [مريم:13-14].
وحمل يحيى لواء الدعوة مع أبيه، وكان مباركًا يدعو الناس إلى نور التوحيد ليخرجهم من ظلمات الكفر والضلال إلى نور الإسلام، وكان شديد الحر على أن ينصح قومه ويعظهم بالبعد عن الانحرافات التي كانت سائدة حين ذاك.
عَنْ زَيْدِ بْنِ سَلاَّمٍ أَنَّ أَبَا سَلاَّمٍ حَدَّثَهُ أَنَّ الْحَارِثَ الأَشْعَرِىَّ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ : « إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا وَيَأْمُرَ بَنِى إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهَا وَإِنَّهُ كَادَ أَنْ يُبْطِئَ بِهَا فَقَالَ عِيسَى إِنَّ اللَّهَ أَمَرَكَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ لِتَعْمَلَ بِهَا وَتَأْمُرَ بَنِى إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهَا فَإِمَّا أَنْ تَأْمُرَهُمْ وَإِمَّا أَنَا آمُرُهُمْ. فَقَالَ يَحْيَى أَخْشَى إِنْ سَبَقْتَنِى بِهَا أَنْ يُخْسَفَ بِى أَوْ أُعَذَّبَ فَجَمَعَ النَّاسَ فِى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَامْتَلأَ الْمَسْجِدُ وَقَعَدُوا عَلَى الشُّرَفِ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِى بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ أَعْمَلَ بِهِنَّ وَآمُرَكُمْ أَنْ تَعْمَلُوا بِهِنَّ أَوَّلُهُنَّ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَإِنَّ مَثَلَ مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اشْتَرَى عَبْدًا مِنْ خَالِصِ مَالِهِ بِذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ فَقَالَ هَذِهِ دَارِى وَهَذَا عَمَلِى فَاعْمَلْ وَأَدِّ إِلَىَّ فَكَانَ يَعْمَلُ وَيُؤَدِّى إِلَى غَيْرِ سَيِّدِهِ فَأَيُّكُمْ يَرْضَى أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ كَذَلِكَ وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَكُمْ بِالصَّلاَةِ فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فَلاَ تَلْتَفِتُوا فَإِنَّ اللَّهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ فِى صَلاَتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ وَآمُرُكُمْ بِالصِّيَامِ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ فِى عِصَابَةٍ مَعَهُ صُرَّةٌ فِيهَا مِسْكٌ فَكُلُّهُمْ يَعْجَبُ أَوْ يُعْجِبُهُ رِيحُهَا وَإِنَّ رِيحَ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ وَآمُرُكُمْ بِالصَّدَقَةِ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَسَرَهُ الْعَدُوُّ فَأَوْثَقُوا يَدَهُ إِلَى عُنُقِهِ وَقَدَّمُوهُ لِيَضْرِبُوا عُنُقَهُ فَقَالَ أَنَا أَفْدِيهِ مِنْكُمْ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. فَفَدَى نَفْسَهُ مِنْهُمْ وَآمُرُكُمْ أَنْ تَذْكُرُوا اللَّهَ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ خَرَجَ الْعَدُوُّ فِى أَثَرِهِ سِرَاعًا حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى حِصْنٍ حَصِينٍ فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ مِنْهُمْ كَذَلِكَ الْعَبْدُ لاَ يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِنَ الشَّيْطَانِ إِلاَّ بِذِكْرِ اللَّهِ ».
قَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « وَأَنَا آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ اللَّهُ أَمَرَنِى بِهِنَّ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ وَالْجِهَادُ وَالْهِجْرَةُ وَالْجَمَاعَةُ فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإِسْلاَمِ مِنْ عُنُقِهِ إِلاَّ أَنْ يَرْجِعَ وَمَنِ ادَّعَى دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مِنْ جُثَا جَهَنَّمَ ». فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ قَالَ « وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ فَادْعُوا بِدَعْوَى اللَّهِ الَّذِى سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ اللَّهِ » [الترمذي] .
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , قَالَ:" كُنَّا فِي حَلْقَةٍ فِي الْمَسْجِدِ نَتَذَاكَرُ فَضَائِلَ الأَنْبِيَاءِ , أَيُّهُمْ أَفْضَلُ؟ فَذَكَرْنَا نُوحًا وَطُولَ عِبَادَتِهِ رَبَّهُ , وَذَكَرْنَا إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ , وَذَكَرْنَا مُوسَى كَلِيمَ اللَّهِ , وَذَكَرْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ , وَذَكَرْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالَ: مَا تَذاكُرُونَ بَيْنَكُمْ؟ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهُ , تَذَاكَرْنَا فَضَائِلَ الأَنْبِيَاءِ , أَيُّهُمْ أَفْضَلُ؟ ذَكَرْنَا نُوحًا وَطُولَ عِبَادَتِهِ , وَذَكَرْنَا إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ , وَذَكَرْنَا مُوسَى كَلِيمَ اللَّهِ , وَذَكَرْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ , وَذَكَرْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ , قَالَ:فَمَنْ فَضَّلْتُمْ؟ قُلْنَا: فَضَلَّنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ , بَعَثَكَ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً , وَغَفَرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ , وَأَنْتَ خَاتَمُ الأَنْبِيَاءِ , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:أَمَا إِنَّهُ لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ يَحْيَى بن زَكَرِيَّا, قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ , وَمِنْ أَيْنَ ذَاكَ؟ قَالَ:أَمَا سَمِعْتُمُ اللَّهَ كَيْفَ وَصَفَهُ فِي الْقُرْآنِ , فَقَالَ: "يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا"[مريم آية 12] , فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ: "سَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ"[آل عمران آية 39] لَمْ يَعْمَلْ سَيِّئَةً قَطُّ , وَلَمْ يَهُمَّ بِهَا."
و عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم :" لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا مَا هُمَّ بِخَطِيئَةٍ أَحْسِبُهُ قَالَ وَلاَ عَمِلَهُمَا."
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ أَنَّ نَبِىَّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَدَّثَهُمْ عَنْ لَيْلَةَ أُسْرِىَ : « ثُمَّ صَعِدَ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ فَاسْتَفْتَحَ ، قِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ. قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ . قِيلَ وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ قَالَ نَعَمْ، فَلَمَّا خَلَصْتُ ، فَإِذَا يَحْيَى وَعِيسَى وَهُمَا ابْنَا خَالَةٍ . قَالَ هَذَا يَحْيَى وَعِيسَى فَسَلِّمْ عَلَيْهِمَا . فَسَلَّمْتُ فَرَدَّا ثُمَّ قَالاَ مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِىِّ الصَّالِحِ » . [البخاري] وروي أنه مات قتيلاً على يد بني إسرائيل. يتبع إن شاء الله... |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الخلاصة في حياة الأنبياء (1) السبت 11 يونيو 2011, 5:44 am | |
| عيسى(عليه السلام)
ذهبت امرأة عمران بمريم إلى المسجد الأقصى وفاءً بنذرها، لتنشأ فيه نشأة طيبة وتتعلم أصول دينها، وتتربى على مكارم الأخلاق، وتكفَّل زكريا برعاية مريم وكان زكريا زوجًا لخالتها، فقام بتربيتها وكفالتها ورعايتها حتى كبرت على الأخلاق الحميدة.
عاشت مريم في محرابها تعبد الله وتسبحه وتقدِّسه، وذات يوم دخل عليها مجموعة من الملائكة على هيئة البشر، وأبلغوها ثناء الله -عز وجل- عليها، وحثوها على مزيد من الطاعة والعبادة والصلاة، فقالوا لها: { وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) [آل عمران/42-44] } ،ثم بشَّروها بولد منها سيكون نبيًّا كريمًا مؤيدًا بالمعجزات، فقالوا: { إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) } [آل عمران:45-46]
فتعجبت مريم، إذ كيف يكون لها ولد وليست متزوجة، ولم يمسسها أي رجل!! فأخبرتها ملائكة الله أن هذه هي إرادة الله سبحانه القادر على كل شيء، ولم تملك مريم -عليها السلام- في هذا الأمر إلا أن تستسلم لله عز وجل، وتتحصن به في هذا المقام، لعل الله سبحانه أن يجعل لها مخرجًا.
ذات يوم وبينما هي وحدها، أرسل الله إليها الروح الأمين جبريل -عليه السلام- على هيئة بشرية وفي صورة حسنة، فلما رأته خافت وفزعت منه، فلم يكن يدخل عليها المحراب أحد غير زكريا، فتعوذت بالله من هذا الشخص الذي دخل عليها.
فطمئنها جبريل أنه رسول الله إليها، ليهب لها غلامًا طيبًا مباركًا، ونفخ فيها نفخة، فحملت على الفور، ثم اختفى جبريل -عليه السلام-.
ومرت الأيام، وأحست مريم بآلام الحمل، فذهبت إلى مكان بعيد خوفًا من كلام الناس في حقها، وجلست تحت ظل نخلة تفكر في أمرها وما سيكون عليه حالها بعد ولادتها، واقتربت ساعة الولادة، فتمنت أن لو كانت قد ماتت قبل أن يحدث لها ما حدث، ووضعت مريم عيسى -عليه السلام- واحتاجت إلى طعام وشراب حتى تستعيد قوتها ونشاطها، فقد أصابها الضعف بعد الولادة، وفجأة.. سمعت صوتًا يناديها ويأمرها أن تهز جذع النخلة التى تجلس تحتها، وسوف يتساقط عليها الرطب، فتأكل منها حتى تشبع.{ فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) } [مريم/22-25]
وظل هذا الصوت يتكلم، وكأنه يعلم ما يدور في صدر مريم من مخاوف حينما تدخل على أهلها وعلى الناس، وهي تحمل بين ذراعيها طفلاً رضيعًا هي أمه، مع أنها لم تتزوج ولم تعاشر الرجال، فقال لها ذلك الصوت: { فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) [مريم/26] }.
وأخذت تتلفت يمينًا ويسارًا لتتعرف على مصدر الصوت الذي يناديها، لكنها لم تجد أحدًا سوى ابنها الذي ولدته منذ لحظات، فتعجبت من ذلك تعجبًا شديدًا، وأدركت على الفور أنها أمام معجزة من معجزات الله العظيمة، ففرحت بابنها فرحًا كبيرًا، وعلمت أن الله سوف يجعل لها بعد هذا الضيق فرجا و مخرجا.
وتوكلت مريم على ربها، وحملت ابنها الصغير عيسى -عليه السلام- عائدة إلى قومها، وبينما هي تسير، رآها قومها من اليهود فتعجبوا من ذلك وأقبلوا عليها لائمين ومعنفين، وقالوا: { يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا(27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)} سورة مريم .
{ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا 29 قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا 30وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا 31وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا 32 وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا } [سورة مريم ، الآية :29- 33]
ولم تسلم مريم من إشاعات اليهود واتهاماتهم، ولما خافت على نفسها وولدها من غدر اليهود أخذت ابنها، وسارت به إلى مكان بعيد عن قومها، حتى لا يؤذوه ولما كبرت عادت به مرة أخرى إلى بيت لحم في فلسطين موطن ولادة عيسى، ولما عاد عيسى -عليه السلام- إلى قومه رأى أنهم قد انحرفوا عن المنهج الذي جاء به موسى من قبل، ومن انحرافهم أنهم كانوا يتحرجون من عمل الخير يوم السبت باعتباره يوم عطلة لا يجوز العمل فيه، فيمر عليهم اليوم دون أن يقدموا عملاً صالحًا يتقربون به إلى الله.
وأقبلوا على حب المال، فسيطر على نفوسهم وتفكيرهم، وأجبر الكهنةُ الفقراء على النذر للمعبد، ليأخذوه لهم مع علمهم أن الفقراء والمحتاجين في أشد الحاجة إليه، وكان بعضهم ينكر يوم القيامة، ويقولون: لا حساب ولا عقاب في الآخرة، وفئة أخرى طغت عليها الحياة وحب الدنيا، فأخذوا في ابتزاز أموال الناس بأي شكل وبأية حال، فكانت حاجة المجتمع إلى الإصلاح والهداية شديدة، فأرسل الله إليهم المسيح عيسى -عليه السلام- لهدايتهم إلى المنهج الصحيح، فذهب إليهم يدعوهم إلى عبادة الله، وترك ما هم فيه من جهل وضلال.
وأيد الله تعالى عيسى بالمعجزات العظيمة التي تتناسب مع أهل زمانه، لتكون دليلاً على أنه رسول من ربه، فأعطاه الله القدرة على إحياء الموتى، وشفاء المرضى الذين عجز الأطباء والحكماء عن شفائهم، وأعلمه الله بعض الغيب، فكان يعرف ما يأكل الناس وما يدخرون في بيوتهم، فأخذ عيسى -عليه السلام- يدعو قومه إلى الطريق المستقيم، ويبين لهم المعجزات التي أيده الله بها، فقال: { أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) [آل عمران/49-51] }.
ومع هذه العجائب والمعجزات الخارقة التى جاء بها عيسى إلى بني إسرائيل لم يؤمن به إلا القليل، واستمر أكثرهم على كفرهم وعنادهم بالإضافة إلى أنهم رموه بالسحر، ولم ييأس عيسى -عليه السلام- بل استمر يدعوهم إلى عبادة الله عسى أن يؤمنوا بالله وحده، وطلب عيسى -عليه السلام- من قومه النصرة لدين الله فهدى الله مجموعة من الفقراء والمساكين إلى الإيمان، فكان هؤلاء هم الحواريون الذين اصطفاهم الله؛ ليحملوا دعوة الحق، ويناصروا عيسى، وكان عددهم لا يزيد عن اثني عشر رجلاً.
وذات يوم أمر عيسى -عليه السلام- جميع من معه بصيام ثلاثين يومًا فصاموا، ولما أتموها طلبوا منه أن يدعو الله أن ينزل عليهم مائدة من السماء، فنصحهم عيسى أن يتقوا الله في هذا الأمر، فردَّ الحواريون: {قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} (113) سورة المائدة.
ولما رأى عيسى إصرار الحواريين ومن معهم من بني إسرائيل على طلب مائدة من الرحمن، قام إلى مصلاه، يدعو الله قائلاً: { اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115) } [سورة المائدة]
وبعد لحظات، أنزل الله المائدة من السماء، والناس ينظرون إليها وهي تقترب شيئًا فشيئًا، وكلما دنت كان عيسى يسأل ربه عز وجل أن يجعلها بركة وسلامًا لا نقمة وعذابًا، ولم تزل تقترب حتى استقرت أمام عيسى، فسجد عيسى ومن معه لله شاكرين على استجابة طلبهم، ثم كشف عيسى الغطاء عن تلك المائدة، فإذا عليها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين؛ وأكل الحواريون من هذه المائدة، وأكل معهم آلاف الناس الذين جاءوا لعيسى من أجل أن يشفيهم بإذن الله من أمراضهم، وصار يوم نزول هذه المائدة عيدًا للحواريين وأتباع عيسى لفترة طويلة.
وانتشر خبر عيسى في البلاد، وآمن به كثير من الفقراء والمساكين، فحقد عليه الكهنة والأغنياء من اليهود وكرهوه، وأرادوا التخلص منه، فدبروا له حيلة ماكرة، حيث ذهبوا إلى الحاكم الرومانى وأخبروه بأن عيسى رجل ثائر يحرض الناس عليهم، ويدبر مؤامرة ضد الدولة الرومانية، وظلوا يحرضون الحاكم على عيسى حتى أصدر حكمًا بإعدامه وصلبه، وبحثوا عن عيسى طويلاً فلم يجدوه، حيث أوحى الله إليه بما دبره اليهود والكفرة، فاختبأ عيسى والحواريون في الجبال يعبدون الله بعيدًا عنهم.
وفي خلال تلك الأحداث قال الله لعيسى: {إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (55) سورة آل عمران.
واجتمع الحاكم بكبار رجال الدولة يرافقهم الكفرة من اليهود ليتشاورا في أمر عيسى وأين ذهب وما الذي يجب صنعه تجاهه؟ وظلوا يبحثون عن نبي الله عيسى في كل مكان ليقتلوه، لكن الله سبحانه حفظه ورعاه ورفعه إلى السماء، وألقى شبهه على رجل منهم، فأخذوه ظنًّا منهم أنه عيسى فصلبوه وقتلوه.
وودَّع عيسى الحواريين، وبشرهم برسول يأتي من بعده يُكْمِلُ ما بدأه، وبه تتم نعمة الله على الخلائق فقال لهم: { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) [الصف/6] }
وَاذْكُرْ لِقَوْمِكَ إِذْ قَالَ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ : إِنَّهُ رَسُولُ اللهِ إِليْهِمْ ، وَإِنَّهُ مُصَدِّقٌ بِالتَّوْرَاةِ وَبِكُتُبِ اللهِ وَأَنْبِيَائِهِ جَمِيعاً ، وَإِنَّهُ جَاءَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي بَعْدهُ اسْمُهُ أَحْمَدُ ، وَدَاعِياً إِلَى التَّصْدِيقِ بِهَذَا الرَّسُولِ . فَلَمَّا جَاءَهُمْ أَحْمَدُ المُبَشَّرُ بِهِ بِالأَدْلةِ الوَاضِحَةِ ، وَالمُعْجِزَاتِ البَاهِرَةِ كَذَّبُوهُ ، وَقَالُوا عَمَّا جَاءَهُمْ : إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ وَاضِحٌ بَيِّنٌ .
( وَقَدْ جَاءَ فِي الفَصْلِ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنَ السَّفْرِ الخَامِسِ مِنَ التَّورَاةِ البِشَارَةُ بِمُحَمَّدٍ عَلَيهِ السَّلاَمُ عَلَى الشَّكْلِ التَّالِي : ( يَا مُوسَى إِنِّي سَأُقِيمُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ نَبِيّاً مِنَ إِخْوَتِهِمْ مِثْلَكَ أَجْعَلُ كَلاَمِي فِي فَمِهِ ، وَيَقُولُ لَهُمْ مَا آمُرُهُ بِهِ ، وَالذِي لاَ يَقْبَلُ ذَلِكَ النَّبِيَّ الذِي يَتَكَلَّمُ بِاسْمِي ، أَنَا أَنْتَقِمُ مِنْهُ وَمِنْ سِبْطِهِ ) .
وَجَاءَ فِي الإِصْحَاحِ 21 مِنْ سِفَرِ أَشْعِيا بِشَارَةٌ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عَلَى الشَّكْلِ التَّالِي:
" وَحْيٌ مِنْ جِهَةَ بِلاَدِ العَرَبِ: فِي الوَعْرِ مِنْ بِلاَدِ العَرَبِ تَبَيتينَ يَا قَوَافِلَ الدَّدَانِيِّينَ . هَاتُوا مَاءً لِمُلاَقَاةِ العَطْشَانِ يَا سَكَّانَ أَرْضِ تِيمَاءَ وَافُوا الهَارِبَ بِخُبْزِهِ . فإِنَّهُمْ مِنْ أَمَامِ السُّيُوفِ قَدْ هَرَبُوا ، مِنْ أَمَامِ السَّيْفِ المَسْلُولِ وَمِنْ أَمَامِ القَوْسِ المَشْدُودَةِ وَمِنْ أَمَامِ شِدَّةِ الحَرْبِ . فَإِنَّهُ هَكَذَا قَالَ السَّيِّدُ فِي مُدَّةِ سَنَةٍ كَسَنَةِ الأَجِيرِ يَفْنَى كُلُّ مَجْدِ قِيدَارٍ وَبَقِيَّةُ عَدَدِ قِسيِّ أَبْطَالِ بَنِي قِيدَارٍ تَقِلُّ لأَنَّ الرَّبَّ إِلَهَ إِسْرَائِيلَ قَدْ تَكَلَّمَ " .
" وَهَذِهِ النُّبُوءَةُ إِشَارَةٌ وَاضِحَةٌ إِلَى هِجْرَةِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَكَّةَ إِلَى يَثْرِبَ ، بَعْدَ أَنْ تَزَايَدَ إِيذَاءُ قُرَيشٍ لَهُ وَلِلمُسْلِمِينَ .
ثُمَّ إِنَّهَا إِشَارَةٌ إِلَى نَصْرِ رَسُولِ اللهِ وَأَصْحَابِهِ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ فِي مَعْرَكَةِ بَدْرٍ عَلَى قُرَيشٍ أَحْفَادِ عَدْنَانَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ ( وَعَدْنَانُ هُوَ قِيدَارُ ) وَتَحْطِيمِ جَبُرُوتِ قُرَيشٍ وَسُلْطَانِهَا بِقْتَلِ كُبَرَائِهَا ، وَأَسْرِ أَعْدَادٍ مِنْهُمْ ، وَقَدْ جَرَتْ مَعْرَكَةُ بَدْرٍ بَعْدَ عَامٍ مِنْ هِجْرَةِ رَسُولِ اللهِ إِلَى يَثْرِبَ " .
وَجَاءَتِ البِشَارَةُ بِمُحَمَّدٍ فِي الإِنْجِيلِ عَلَى الشَّكْلِ التَّالِي :
( قَالَ يَسُوعُ : إِنَّ الفَارْقَليط رُوحَ الحَقِّ الذِي يُرْسِلُهُ أَبِي يَعْلِّمُكُمْ كُلَّ شَيءٍ ) ( إِنْجِيلُ يُوحَنَّا - الفَصْلُ 15 - وَالفَارْقَلِيط لَفْظٌ يَعْنِي الحَمْدَ ، وَقَدْ فَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِالحَامِدِ وَالحَمَّادِ ) .
وظن اليهود أن عيسى هو الذي قتل، ففرحوا بذلك، لكن القرآن الكريم يؤكد لنا أنه لم يقتل، وأنه نجا من أيديهم، حيث إن الله -سبحانه- رفعه إليه، قال تعالى:
{ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) [النساء/157-159] }
وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ لأَنَّهُمْ قَالُوا سَاخِرِينَ مُسْتَهْزِئِينَ : إِنَّهُمْ قَتَلُوا المَسِيحَ عَلَيهِ السَّلاَمُ ، وَفِي الحَقِيقَةِ إِنَّهُمْ لَمْ يَقْتُلُوهُ ، وَلَمْ يَصْلُبُوهُ ، وَإِنَّمَا صَلَبُوا شَخْصاً آخَرَ غَيْرَهُ فَاشْتَبَهَ الأَمْرُ عَلَيْهِمْ وَالْتَبَسَ ، وَلَمْ يَتَيَّقَنُوا مِنْ أَنَّهُ هُوَ المَسِيحُ بِعَيْنِهِ ، إِذْ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَهُ حَقَّ المَعْرِفَةِ . وَالأَنَاجِيلُ تَقُولُ إنَّ الذِي أَسْلَمَهُ إلى الجُنْدِ هُوَ يَهُوذا الأَسْخَرْيوطِيُّ ، وَقَدْ جَعَلَ لَهُمْ عَلاَمَةً هِيَ أنَّ مَنْ قَبَّلَهُ يَكُونُ هُوَ المَسِيحَ ، فَلَمَّا قَبَّلَهُ قَبَضُوا عَلَيْهِ .
وَانْجِيلُ بِرْنَابَا يَقُولُ إنَّ الجُنُوَد أَخَذُوا يَهُوذَا الأسْخَرْيُوطِيَّ نَفْسَهُ ظَنّاً مِنْهُمْ أنَّهُ المَسِيحُ ، لأنَّ اللهَ أَلْقَى عَلَيهِ شَبَهَهُ . وَالذِينَ اخْتَلَفُوا فِي شَأْنِ عِيسَى مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَفِي شَكٍّ وَتَرَدُّدٍ مِنْ حَقِيقَةِ أَمْرِ قَتْلِهِ وَصَلْبِهِ ، إذْ لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ قَطْعِيُّ الثُّبُوتِ ، وَإِنَّمَا هُمْ يَتْبَعُونَ الظَّنَّ وَالقَرَائِنَ التِي تُرَجِّحُ بَعْضَ الآرَاءِ عَلَى بَعْضٍ .
وَالذِي تَمَّ فِعْلاً هُوَ أنَّ اللهَ أَنْجَاهُ مِنْ كَيْدِ اليَهُودِ ، وَرَفَعَهُ إلَيْهِ (وهوَ أنَّ اللهَ تَعَالَى رَفَعَهُ بِرُوحِهِ وَجَسَدِهِ إلى السَّمَاءِ )، وَاللهُ سَبْحَانَهُ عَزِيزُ الجَانِبِ ، لاَ يُرَامُ جنابُهُ ، وَلا يُضَامُ مَنْ لاَذَ بِبَابِهِ الكَرِيمِ ، وَهُوَ حَكِيمٌ فِي جَمِيعِ مَا يُقَدِّرُهُ وَيَقْضِيهِ مِنَ الأُمُورِ .
وقد أنزل الله -عز وجل- الإنجيل على عيسى، وأمرنا بالإيمان به، قال تعالى: { قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) [البقرة/136، 137] } وَقُولُوا يَا أَيُّها المُؤْمِنُونَ لِهؤُلاءِ وَهؤُلاءِ : إِنّنا نُؤْمِنُ بمَا أُنزِلَ مِنْ عِنْدِ اللهِ عَلَى جَميعِ الأَنبياءِ وَالمُرْسَلِينَ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ ، وَنَحْنُ مُسْلِمُونَ لِرَبِّنا .
( كَانَ أَهْلُ الكِتَابِ مِنَ اليَهُودِ يَقْرَؤُونَ التَّورَاةَ بِالعِبْرَانِيَّةِ وَيُفَسِّرُونَها لِلمُسْلِمينَ بِالعَرَبِيَّةِ ، فَقَالَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم : " لا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الكِتَابِ وَلا تُكَذِّبُوهُمْ ، وَقُولُوا : آمَنَّا باللهِ وَمَا أُنزِلَ مِنْ عِنْدِ اللهِ " .
فَإِن آمَنَ الكُفَّارُ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ يَا أَيُّها المُؤْمِنُونَ ، أي بِجَمِيعِ كُتُبِ اللهِ ، وَبِجَمِيعِ رُسُلِهِ ، وَلَم يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ ، فَقَدِ اهْتَدَوْا لِلْحَقِّ ، وَإِنْ تَوَلّوْا عَنِ الحَقِّ بَعْدَ قِيَامِ الحُجَّةِ عَلَيهِمْ ، وَاتَّبَعُوا البَاطِلَ ، فَإِنَّهُمْ مُشَاقُّونَ مُخَالِفُونَ ، وَسَيَنْصُرُكَ اللهُ عَلَيهِمْ يَا مُحَمَّدٌ ، وَيُظْفِرُكَ بِهِمْ ، وَهُوَ الذِي يَسْمَعُ مَا يَقُولُونَ وَيَعْلَمُ مَا يُدَبِّرُونَ .
ولكن أهل الكتاب حرفوا الإنجيل وبدلوا كثيرًا في آياته وأحكامه، وكان عيسى آخر أنبياء بني إسرائيل، ولم يأت من بعده سوى خاتم الأنبياء والمرسلين محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وأخبرنا النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- أن عيسى -عليه السلام- سوف ينزل إلى الأرض مرة أخرى في نهاية الزمان، ويدعو الناس إلى شريعة محمد -صلى الله عليه وسلم- ويكسر الصليب الذي اتخذه النصارى شعارًا لهم.
قال تعالى :{ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159) [النساء/159، 160] }
لاَ يَبْقَى أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ ، بَعْدَ نُزُولِ عِيسَى عَلَيهِ السَّلاَمُ إلى الأَرْضِ ، بَعْدَ أنْ رَفَعَهُ اللهُ إلَى السَّمَاءِ ، إلاَّ آمَنَ بِهِ قَبْلَ أنْ يَقْضِيَ اللهُ عَلَيهِ بِالمَوْتِ ، وَيَكُونُ عِيسَى عَلَيهِ السَّلاَمُ يَوْمَ القِيَامَةِ شَاهِداً عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ أَبْلَغَهُمْ رِسَالَةَ رَبِّهِ ، وَأَقَرَّ بِعُبُودِيَّتِهِ للهِ .
بل وروى ابن جرير بسند صحيح أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: وَإِنَّهُ لَعلمُ لِلسَاعَةِ أى خروج عيسى عليه السلام، فإن نزل فهذه علامة كبرى تدل على قرب قيام الساعة.
وقد بينت السنة الصحيحة المتواترة نزول عيسى عليه السلام إلى الأرض من السماء.
ففى الصحيحين عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ ، وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ ، وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أَحَدٌ ».
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ : « لَيْسَ بَيْنِى وَبَيْنَهُ نَبِىٌّ - يَعْنِى عِيسَى - وَإِنَّهُ نَازِلٌ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَاعْرِفُوهُ رَجُلٌ مَرْبُوعٌ إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ بَيْنَ مُمَصَّرَتَيْنِ كَأَنَّ رَأْسَهُ يَقْطُرُ وَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ بَلَلٌ فَيُقَاتِلُ النَّاسَ عَلَى الإِسْلاَمِ فَيَدُقُّ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ وَيُهْلِكُ اللَّهُ فِى زَمَانِهِ الْمِلَلَ كُلَّهَا إِلاَّ الإِسْلاَمَ وَيُهْلِكُ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ فَيَمْكُثُ فِى الأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً ثُمَّ يُتَوَفَّى فَيُصَلِّى عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ » ..
و عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ قَالَ ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الدَّجَّالَ ذَاتَ غَدَاةٍ فَخَفَّضَ فِيهِ وَرَفَّعَ حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِى طَائِفَةِ النَّخْلِ فَلَمَّا رُحْنَا إِلَيْهِ عَرَفَ ذَلِكَ فِينَا فَقَالَ « مَا شَأْنُكُمْ ».
قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَكَرْتَ الدَّجَّالَ غَدَاةً فَخَفَّضْتَ فِيهِ وَرَفَّعْتَ حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِى طَائِفَةِ النَّخْلِ. فَقَالَ « غَيْرُ الدَّجَّالِ أَخْوَفُنِى عَلَيْكُمْ إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ فَأَنَا حَجِيجُهُ دُونَكُمْ وَإِنْ يَخْرُجْ وَلَسْتُ فِيكُمْ فَامْرُؤٌ حَجِيجُ نَفْسِهِ وَاللَّهُ خَلِيفَتِى عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ إِنَّهُ شَابٌّ قَطَطٌ عَيْنُهُ طَافِئَةٌ كَأَنِّى أُشَبِّهُهُ بِعَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قَطَنٍ فَمَنْ أَدْرَكَهُ مِنْكُمْ فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ فَوَاتِحَ سُورَةِ الْكَهْفِ إِنَّهُ خَارِجٌ خَلَّةً بَيْنَ الشَّأْمِ وَالْعِرَاقِ فَعَاثَ يَمِينًا وَعَاثَ شِمَالاً يَا عِبَادَ اللَّهِ فَاثْبُتُوا ».
قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا لَبْثُهُ فِى الأَرْضِ قَالَ « أَرْبَعُونَ يَوْمًا يَوْمٌ كَسَنَةٍ وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ ». قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِى كَسَنَةٍ أَتَكْفِينَا فِيهِ صَلاَةُ يَوْمٍ قَالَ « لاَ اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ ». قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا إِسْرَاعُهُ فِى الأَرْضِ قَالَ « كَالْغَيْثِ اسْتَدْبَرَتْهُ الرِّيحُ فَيَأْتِى عَلَى الْقَوْمِ فَيَدْعُوهُمْ فَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَجِيبُونَ لَهُ فَيَأْمُرُ السَّمَاءَ فَتُمْطِرُ وَالأَرْضَ فَتُنْبِتُ فَتَرُوحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَتُهُمْ أَطْوَلَ مَا كَانَتْ ذُرًا وَأَسْبَغَهُ ضُرُوعًا وَأَمَدَّهُ خَوَاصِرَ ثُمَّ يَأْتِى الْقَوْمَ فَيَدْعُوهُمْ فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ فَيَنْصَرِفُ عَنْهُمْ فَيُصْبِحُونَ مُمْحِلِينَ لَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَىْءٌ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَيَمُرُّ بِالْخَرِبَةِ فَيَقُولُ لَهَا أَخْرِجِى كُنُوزَكِ. فَتَتْبَعُهُ كُنُوزُهَا كَيَعَاسِيبِ النَّحْلِ ثُمَّ يَدْعُو رَجُلاً مُمْتَلِئًا شَبَابًا فَيَضْرِبُهُ بِالسَّيْفِ فَيَقْطَعُهُ جَزْلَتَيْنِ رَمْيَةَ الْغَرَضِ ثُمَّ يَدْعُوهُ فَيُقْبِلُ وَيَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ يَضْحَكُ فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِىَّ دِمَشْقَ بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ إِذَا طَأْطَأَ رَأَسَهُ قَطَرَ وَإِذَا رَفَعَهُ تَحَدَّرَ مِنْهُ جُمَانٌ كَاللُّؤْلُؤِ فَلاَ يَحِلُّ لِكَافِرٍ يَجِدُ رِيحَ نَفَسِهِ إِلاَّ مَاتَ وَنَفَسُهُ يَنْتَهِى حَيْثُ يَنْتَهِى طَرْفُهُ فَيَطْلُبُهُ حَتَّى يُدْرِكَهُ بِبَابِ لُدٍّ فَيَقْتُلُهُ ثُمَّ يَأْتِى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ قَوْمٌ قَدْ عَصَمَهُمُ اللَّهُ مِنْهُ فَيَمْسَحُ عَنْ وُجُوهِهِمْ وَيُحَدِّثُهُمْ بِدَرَجَاتِهِمْ فِى الْجَنَّةِ فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى عِيسَى إِنِّى قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِى لاَ يَدَانِ لأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ فَحَرِّزْ عِبَادِى إِلَى الطُّورِ. وَيَبْعَثُ اللَّهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ فَيَمُرُّ أَوَائِلُهُمْ عَلَى بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ فَيَشْرَبُونَ مَا فِيهَا وَيَمُرُّ آخِرُهُمْ فَيَقُولُونَ لَقَدْ كَانَ بِهَذِهِ مَرَّةً مَاءٌ.
وَيُحْصَرُ نَبِىُّ اللَّهُ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ حَتَّى يَكُونَ رَأْسُ الثَّوْرِ لأَحَدِهِمْ خَيْرًا مِنْ مِائَةِ دِينَارٍ لأَحَدِكُمُ الْيَوْمَ فَيَرْغَبُ نَبِىُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ فَيُرْسِلُ اللَّهُ عَلَيْهُمُ النَّغَفَ فِى رِقَابِهِمْ فَيُصْبِحُونَ فَرْسَى كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ يَهْبِطُ نَبِىُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى الأَرْضِ فَلاَ يَجِدُونَ فِى الأَرْضِ مَوْضِعَ شِبْرٍ إِلاَّ مَلأَهُ زَهَمُهُمْ وَنَتْنُهُمْ فَيَرْغَبُ نَبِىُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى اللَّهِ فَيُرْسِلُ اللَّهُ طَيْرًا كَأَعْنَاقِ الْبُخْتِ فَتَحْمِلُهُمْ فَتَطْرَحُهُمْ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ مَطَرًا لاَ يَكُنُّ مِنْهُ بَيْتُ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ فَيَغْسِلُ الأَرْضَ حَتَّى يَتْرُكَهَا كَالزَّلَفَةِ ثُمَّ يُقَالُ لِلأَرْضِ أَنْبِتِى ثَمَرَتَكِ وَرُدِّى بَرَكَتَكِ.
فَيَوْمَئِذٍ تَأْكُلُ الْعِصَابَةُ مِنَ الرُّمَّانَةِ وَيَسْتَظِلُّونَ بِقِحْفِهَا وَيُبَارَكُ فِى الرِّسْلِ حَتَّى أَنَّ اللِّقْحَةَ مِنَ الإِبِلِ لَتَكْفِى الْفِئَامَ مِنَ النَّاسِ وَاللِّقْحَةَ مِنَ الْبَقَرِ لَتَكْفِى الْقَبِيلَةَ مِنَ النَّاسِ وَاللِّقْحَةَ مِنَ الْغَنَمِ لَتَكْفِى الْفَخِذَ مِنَ النَّاسِ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ رِيحًا طَيِّبَةً فَتَأْخُذُهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ فَتَقْبِضُ رُوحَ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَكُلِّ مُسْلِمٍ وَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ يَتَهَارَجُونَ فِيهَا تَهَارُجَ الْحُمُرِ فَعَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ ».
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ : « الأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلاَّتٍ أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ وَأَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنِى وَبَيْنَهُ نَبِىٌّ وَإِنَّهُ نَازِلٌ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَاعْرِفُوهُ رَجُلاً مَرْبُوعاً إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ عَلَيْهِ ثَوْبَانِ مُمَصَّرَانِ كَأَنَّ رَأْسَهُ يَقْطِرُ وَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ بَلَلٌ فَيَدُقُّ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ وَيَدْعُو النَّاسَ إِلَى الإِسْلاَمِ فَيُهْلِكُ اللَّهُ فِى زَمَانِهِ الْمِلَلَ كُلَّهَا إِلاَّ الإِسْلاَمَ وَيُهْلِكُ اللَّهُ فِى زَمَانِهِ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ وَتَقَعُ الأَمَنَةُ عَلَى الأَرْضِ حَتَّى تَرْتَعَ الأُسُودُ مَعَ الإِبِلِ وَالنِّمَارُ مَعَ الْبَقَرِ وَالذِّئَابُ مَعَ الْغَنَمِ وَيَلْعَبَ الصِّبْيَانُ بِالْحَيَّاتِ لاَ تَضُرُّهُمْ فَيَمْكُثُ أَرْبَعِينَ سَنَةً ثُمَّ يُتَوَفَّى وَيُصَلِّى عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ » .
وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ ، لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلاً ، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ ، وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ ، وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أَحَدٌ ، حَتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ الْوَاحِدَةُ خَيْرًا مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ». ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} (159) سورة النساء.
وقد ضلَّ النصارى من بعد عيسى حيث اعتقدوا أن عيسى هو ابن الله، كما اعتقد اليهود أن عزيرًا ابن الله، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، ولقد نفى الله ما قاله هؤلاء الكفرة، قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (59) سورة آل عمران .
إنَّ خَلْقَ الله لعيسى من غير أب مثَلُه كمثل خلق الله لآدم من غير أب ولا أم، إذ خلقه من تراب الأرض، ثم قال له: "كن بشرًا" فكان. فدعوى إلهية عيسى لكونه خلق من غير أب دعوى باطلة; فآدم عليه السلام خلق من غير أب ولا أم، واتفق الجميع على أنه عَبْد من عباد الله.
وسوف يحاسبهم الله -عز وجل- على قولهم ذلك، ويعاقبهم عليه عقابًا شديدًا، قال تعالى: { وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) [التوبة/30، 31] } .
لقد أشرك اليهود بالله عندما زعموا أن عزيرًا ابن الله. وأشرك النصارى بالله عندما ادَّعوا أن المسيح ابن الله.
وهذا القول اختلقوه من عند أنفسهم، وهم بذلك لا يشابهون قول المشركين من قبلهم. قَاتَلَ الله المشركين جميعًا كيف يعدلون عن الحق إلى الباطل؟
اتخذ اليهودُ والنصارى العلماءَ والعُبَّادَ أربابًا يُشَرِّعون لهم الأحكام، فيلتزمون بها ويتركون شرائع الله، واتخذوا المسيح عيسى ابن مريم إلهًا فعبدوه، وقد أمرهم الله بعبادته وحده دون غيره، فهو الإله الحق لا إله إلا هو. تنزَّه وتقدَّس عما يفتريه أهل الشرك والضلال.
ويوم القيامة سوف يسأل الله -عز وجل- نبيه عيسى عن ضلال قومه وما فعلوه بعده من تأليههم له وقولهم إنه ابن الله، قال تعالى: { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120) [المائدة/116-120] }.
وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ لِلنَّاسِ مَا يَقُولُهُ رَبُّكَ لِعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ ، يَوْمَ يَجْمَعُ الرُّسُلَ ، فَيَسْأَلُهُمْ عَمَّا أَجَابَتْهُمْ بِهِ أُمَمُهُمْ ، ثُمَّ يُذكِّر عِيسَى بِأَفْضَالِهِ عَلَيْهِ وَعَلَى وَالِدَتِهِ ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ بِحُضُورِ مَنِ اتَّخَذُوهُ وَأُمَّهُ إلهِيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ : هَلْ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إلهِيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ؟ - أَيْ مُتَجَاوِزَيْنِ بِذَلِكَ تَوْحِيدِ اللهِ وَإِفْرَادِهِ بِالعُبُودِيَّةِ؟ فَيُنْكِرُ عِيسَى أنْ يَكُونَ قَالَ ذَلِكَ ، وَيَقُولُ للهِ تَعَالَى : سُبْحَانَكَ! وَتَنَزَّهَ اسْمُكَ ، لَيْسَ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي حَقٌّ بِقَوْلِهِ ، فَإِذَا كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ أَنْتَ ، لأَنَّكَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ ، وَتَعْلَمُ مَا تُخْفِي العِبَادُ وَمَا تُعْلِنُ ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي ، لأنَّكَ رَبِّي وَخَالِقِي ، وَأَنَا عَبْدُكَ لاَ أَعْرِفُ مَا فِي نَفْسِكَ .
إِنَّنِي لَمْ أَقُلْ لَهُمْ فِي أَمْرِ الإِيْمَانِ ، وَأَسَاسِ الدِّينِ إلاَّ الذِي أَرْسَلْتَنِي بِهِ ، وَأَمَرْتَنِي بِإِبْلاَغِهِ ، وَهُوَ أنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ، وَكُنْتُ شَهِيداً عَلَى أَعْمَالِهِمْ حِينَ كُنْتُ حَيّاً بَيْنَهُمْ ، فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الشَّاهِدَ الرقِيبَ عَلَيْهِمْ ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ شَهِيدٌ .
يَرُدُّ عِيسَى ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، الأمْرَ وَالمَشِيئَةَ إلَى اللهِ تَعَالَى ، فَهُوَ الفَعَّالُ لِمَا يُريدُ ، لاَ يُسْألُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ . وَيَقُولُ : إنَّ أَمْرَ العِبَادِ مَوْكُولٌ إلَى اللهِ تَعَالَى ، فَإِنْ عَذَّبَهُمْ فَبِذُنُوبِهِمْ ، فَهُوَ رَبُّهُمْ وَهُمْ عِبَادُهُ ، وَإِنْ يَغْفِرْ لَهُمْ فَإنَّهُ تَعَالَى الغَفَّارُ الحَكِيمُ فِي شَرْعِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَحُكْمِهِ .
وَحِينَ تَبَرَّأَ عِيسَى ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، مِنْ عِباَدَةِ مَنْ عَبَدُوهُ ، وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِصِدْقِهِ ، قَالَ تَعَالَى : هَذَا هُوَ اليَوْمُ الذِي يَنْفَعُ فِيهِ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ، وَالمُوَحِّدِينَ تَوْحِيدُهُمْ ، وَسَتَكُونُ للصَّادِقِينَ جَنَّاتٌ تَجْرِي الأَنْهَارُ فِي جَنَبَاتِهَا ، جَزَاءً وَفَاقاً لَهُمْ ، وَسَيَكُونُونَ فِيهَا خَالِدِينَ أَبَداً ، وَلَقَدْ فَازُوا بِرِضَا رَبِّهِمْ وَرِضَوَانِهِ ، وَرَضُوا عَمَّا أَكْرَمَهُمْ بِهِ رَبُّهُمْ ، وَأَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ ، وَهَذَا هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ الذِي لاَ أَعْظَمَ مِنْهُ .
اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ ، وَهُوَ المَالِكُ المُتَصَرِّفُ بِجَمِيعِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُنَّ ، وَالقَادِرُ عَلَيْهِ ، وَالجَمِيعُ مُلْكُهُ وَتَحْتَ قَهْرِهِ ، وَالمَسِيحُ وَأمُّهُ اللَّذَانِ عَبَدَهُمَا الكَافِرُونَ ، مِنْ دُونِ اللهِ ، دَاخِلاَنِ تَحْتَ قَبْضَتِهِ ، فَلاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ أنْ يَتَّكِلَ عَلَى شَفَاعَتِهَا فِيهِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى .
--------------
الدروس والعبر
1-كم حملت أم عيسى عليه السلام؟
لم يرد نص قطعي من كتاب ولا من سنة في تحديد فترة حمل مريم بعيسى عليه الصلاة والسلام، وما ورد في ذلك إنما هو مجرد حكايات لا تستند إلى دليل صالح للاحتجاج، مثل ما قيل عن عكرمة من أنها حملت به ثمانية أشهر، وما قيل من أن مدة حملها ستة أشهر أو تسعة، كل هذا لا دليل عليه، ولعل أقرب الأقوال هو قول ابن عباس رضي الله عنهما: ما هو إلا أن حملت فوضعت في الحال، فهذا هو الظاهر لأن الله تعالى ذكر الانتباذ عقب الحمل، انظر القرطبي عند كلامه على قصة مريم في سورة مريم. والله أعلم. ومع الجزء الخاص بسيرة خير خلق الله محمد -صلى الله عليه وسلم-. |
| | | | الخلاصة في حياة الأنبياء (1) | |
|
مواضيع مماثلة | |
|
| صلاحيات هذا المنتدى: | لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
| |
| |
| |