قال الفيلسوف توماس كارليل في كتابه الأبطال عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد مُتمدين من أبناء هذا العصر؛ أن يُصْغِي إلى ما يظن من أنَّ دِينَ الإسلام كَذِبٌ، وأنَّ مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- خَدَّاعٌ مُزُوِّرٌ، وآنَ لنا أنْ نُحارب ما يُشَاعُ من مثل هذه الأقوال السَّخيفة المُخْجِلَةِ؛ فإنَّ الرِّسَالة التي أدَّاهَا ذلك الرَّسُولُ ما زالت السِّراج المُنير مُدَّةَ اثني عشر قرناً، لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا، خلقهم اللهُ الذي خلقنا، (وقت كتابة الفيلسوف توماس كارليل لهذا الكتاب)، إقرأ بقية كتاب الفيلسوف توماس كارليل عن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، على هذا الرابط: محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.
يقول المستشرق الإسباني جان ليك في كتاب (العرب):"لا يمكن أن توصف حياة محمد بأحسن مما وصفها الله بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين)فكان محمدٌ رحمة حقيقية، وإني أصلي عليه بلهفة وشوق".
فَضَّلَ اللهُمِصْرَعلى سائر البُلدان، كما فَضَّلَ بعض الناس على بعض والأيام والليالي بعضها على بعض،والفضلُ على ضربين: في دِينٍ أو دُنْيَا، أو فيهما جميعاً، وقد فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ وشَهِدَ لها في كتابهِ بالكَرَمِ وعِظَم المَنزلة وذَكَرَهَا باسمها وخَصَّهَا دُونَ غيرها، وكَرَّرَ ذِكْرَهَا، وأبَانَ فضلها في آياتٍ تُتْلَى من القرآن العظيم.
المهندس حسن فتحيفيلسوف العمارة ومهندس الفقراء:هو معماري مصري بارز، من مواليد مدينة الأسكندرية،وتخرَّجَ من المُهندس خانة بجامعة فؤاد الأول،اشْتُهِرَ بطرازهِ المعماري الفريد الذي استمَدَّ مَصَادِرَهُ مِنَ العِمَارَةِ الريفية النوبية المَبنية بالطوب اللبن،ومن البيوت والقصور بالقاهرة القديمة في العصرين المملوكي والعُثماني.
رُبَّ ضَارَّةٍ نَافِعَةٍ.. فوائدُ فيروس كوروناغير المتوقعة للبشريةأنَّه لم يكن يَخطرُ على بال أحَدِنَا منذ أن ظهر وباءفيروس كورونا المُستجد، أنْ يكونَ لهذه الجائحة فوائدُ وإيجابيات ملموسة أفادَت كوكب الأرض..فكيف حدث ذلك؟!...
تخليص الإبريز في تلخيص باريز: هو الكتاب الذي ألّفَهُ الشيخ "رفاعة رافع الطهطاوي"رائد التنوير في العصر الحديث كما يُلَقَّب، ويُمَثِّلُ هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث.
الشيخ علي الجرجاوي(رحمه الله)قَامَ برحلةٍ إلى اليابان العام 1906م لحُضُورِ مؤتمر الأديان بطوكيو، الذي دعا إليه الإمبراطور الياباني عُلَمَاءَ الأديان لعرض عقائد دينهم على الشعب الياباني،وقد أنفق على رحلته الشَّاقَّةِ من مَالِهِ الخاص، وكان رُكُوبُ البحر وسيلته؛ مِمَّا أتَاحَ لَهُ مُشَاهَدَةَ العَدِيدِ مِنَ المُدُنِ السَّاحِلِيَّةِ في أنحاء العالم، ويُعَدُّ أوَّلَ دَاعِيَةٍ للإسلام في بلاد اليابان في العصر الحديث.
موضوع: مُحَمَّد (صلى الله عليه وسلم) الإثنين 13 ديسمبر 2021, 11:44 pm
قصة مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- المحتويات: المبحث الأول: أحوال الجزيرة العربية قبل مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم-. المبحث الثاني: من مولده -صلى الله عليه وسلم- حتى زواجه من خديجة. المبحث الثالث: من زواجه -صلى الله عليه وسلم- حتى رحلة الإسراء والمعراج. المبحث الرابع: الهجرة إلى المدينة وبناء الدولة الإسلامية. المبحث الخامس: من صلح الحديبية حتى فتح مكة. المبحث السادس: مرض الرسول مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- ووفاته.
أحوال الجزيرة العربية قبل مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- أولاً: النظام الاجتماعي في شبه الجزيرة العربية 1. يقول ابن هشام: إن العرب في الأصل هم أبناء إسماعيل -عليه السلام- وقحطان، ويقول بعض أهل اليمن أن أصل العرب من إسماعيل -عليه السلام-، وأن قحطان من ولد إسماعيل -عليه السلام-، ويقول الحافظ ابن كثير في تفسيره: أن إسماعيل -عليه السلام- هو أبو العرب كلها. 2. وكان النظام الاجتماعي في شبه الجزيرة العربية كان نظاماً بدويا قبلياً، حيث الطبيعة البدوية التي لا تستريح بالبقاء أو الاستقرار في أرض واحدة، فهم لا يعرفون سوى الترحال الدائم، فهذه هي طبيعة البدو، فلا قانون عندهم كالذي نعرفه، ولا نظام حكومي كالنظام الذى نخضع له، فهم ليسوا كأهل الحضر الذين يمكنهم التنازل عن بعض حريتهم تحت قانون النظام والسلطة، والبدوي لا يضحي بحريته على الإطلاق، فالكل سواء في القبيلة الواحدة، بل إنهم لا يرضون إلا بالمساواة الكاملة بينهم وبين مَنْ يجاورهم من القبائل الأخرى، ولم يكن في الجزيرة العربية نظام سياسي بالمعنى الذي نعرفه سوى في اليمن، حيث كان النظام السياسي مجهولا في ربوع تهامة والحجاز ونجد، فأرض الجزيرة العربية ذات مساحات شاسعة، لا يستطيع العيش فيها سوى القبائل الرحل، ولا يحكمها نظام سياسي واضح، بل تحكمها الأعراف السائدة في تلك المجتمعات البدوية. 3. أمَّا اليمن فقد كانت ذات موضع خاص، وكانت ذات حضارة ليس لكونها متاخمة للخليج الفارسي أو المحيط الهندي فحسب، بل لأن طبيعتها ليست كطبيعة شبه الجزيرة العربية الصحراوية الجرداء (اُنظر خريطة الوضع السياسي قبل البعثة)، فاليمن تتمتع بخصوبة أراضيها، لأن المطر ينزل عليها في فصول منتظمة بعكس باقي أجزاء الجزيرة العربية، ما جعلها موطن حضارة عامرة، ومدائن ومعابد رائعة، وبنايات قوية تميزها عن باقي شبه الجزيرة العربية، لقد كان أهلها من بني حِمْير يتمتعون بالفطنة والذكاء، يشهد لهم التاريخ ببنائهم لسد مَأرب (اُنظر خريطة ممالك اليمن) بهدف حجز الأمطار التي كانت تذهب هباء كل عام، حين تنزل من مرتفعات اليمن الجبلية فتنحدر إلى البحار، ما جعلهم يفكرون بذكائهم وفطنتهم وحضارتهم أن يشيدوا هذا السد بالحجارة ليكون سداً قوياً، ثم جعلوا لهذا السد فتحات تخرج المياه من خلالها، وتوزع بانتظام حسب حاجات الناس لري أراضيهم وزراعتها. (اُنظر صورة آثار سد مأرب). 4. وكانت خصوبة أرض اليمن وحضارتها مطمعاً للغرباء، فقد جلبت هذه الخصوبة وتلك الحضارة على اليمن كثيراً من المشاكل والأذى، ولقد ظل مُلك اليمن يتوارثه الحميريون جيلاً بعد جيل، حتى تولى "ذو نواس الحميري" صاحب قصة أصحاب الأخدود المعروفة التي يذكرها المؤرخون، وأشار إليها القرآن الكريم في سورة البروج، هذه القصة تقول أن "قيميون" كان رجلاً صالحاً من أتباع عيسى -عليه السلام- كان في بلاد الروم، ثم هاجر إلى اليمن، واستقر بنجران، فلمَّا لمس أهل نجران تدينه وورعه وصلاحه، أخذوا في إتباعه وصار عددهم يزيد يوماً بعد يوم، حتى وصل إلى عشرين ألفاً، كما تقول كتب السيرة، وهذا ما جعل "ذو نواس" يتوعد أهل نجران بالقتل والحرق إن لم يدخلوا في اليهودية التي يدين بها، هو ويتركوا المسيحية ذلك الدين الجديد، الذي يدعو إليه "قيميون" الغريب على أرضه وفى بلاده التي هو مليكها.
5. استشاط "ذو نواس" غضباً على أتباع "قيميون" فشق أخدوداً لهم وأوقد فيه النيران، وألقى بكل من أبى أن يتبع دينه في هذا الأخدود المشتعل، واستطاع أحد النصارى، خلال تلك الأحداث، الفرار من "ذي نواس" إلى قيصر الروم الذي يدعى "جوستنيان" فر إليه يستنصره على "ذي نواس"، ولمَّا كانت الروم بعيدة عن اليمن بمسافات كبيرة (اُنظر خريطة الوضع السياسي قبل البعثة)، فقد أرسل قيصر الروم إلى"النجاشي" ملك الحبشة رسالة بوصفه حليفاً للإمبراطورية الرومانية، وكان فحواها أن يغزو "النجاشي" ملك الحبشة اليمن ويأخذ بالثأر من "ذي نواس".
6. أرسل النجاشي جيشاً على رأسه القائد "أرياط" وفى جنده أبرهة الأشرم (صاحب الفيل)، وغزا "أرياط" اليمن وحكمها باسم عاهل الحبشة، وظل كذلك حتى قتله "أبرهة" واستولى على الحكم من بعده، وظل يتوارث الحكم في اليمن أبناء أبرهة الذين تفشى استبدادهم ومساوئهم في تلك البلاد، حتى خرج "سيف بن ذي يزن" من اليمن متوجها إلى قيصر الروم ليشكو إليه حال البلاد التي ظهر فيها الفساد، لكن القيصر لم يلق بالا لمَّا يقول "سيف بن ذي يزن".
7. ذهب" سيف بن ذي يزن" إلى كسري ومعه "النعمان بن المنذر"، عامل كسري على الحيرة في ذلك الوقت، فلمَّا رأى "سيف بن ذي يزن" إيوان كسري أخذته الهيبة، ووقف مشدوها من هذا المكان العظيم، ولمَّا طمأنه "كسري" في مجلسه قص عليه" سيف بن ذي يزن" ما آلت إليه أحوال اليمن تحت حكم الأحباش، ومدى الظلم الذي يعانيه أهل اليمن هناك تحت ظل هذا الحكم، فأرسل كسري جيشاً بقيادة "وَهْرِز" ذلك القائد الفارس الشجاع الذي نجح في هزيمة الأحباش في اليمن، وأجلاهم عنها أخيراً بعد حكم ظل اثنتين وسبعين سنة.
8. ظل حكم الفرس لليمن حتى دخل الإسلام ربوع البلاد، وانتشر في كل مكان، وبرغم أن حكم فارس قد آل إلى "شيرويه" بعد أن قتل أبيه "كسري أبرويز" ملك الفرس، وبرغم ترف وفساد ولهو "شيرويه" إلا أن الإمبراطورية الفارسية كانت المنافس القوى لسلطان بيزنطية وانتشار المسيحية، وعلى ذلك فإن شبه الجزيرة العربية باستثناء اليمن، قد أثرت الطبائع البدوية في نظامها الاجتماعي هناك، فبلاد مَكَّة والطائف ويثرب وأشباهها من الواحات المتناثرة بين الجبال والصحراء الواسعة الممدودة تأثرت بطبائع البادية، وكانت أقرب للبداوة منها إلى الحضارة فيما يتعلق بنظام الطوائف والقبائل، وأيضاً فيما يتعلق بالأخلاق والعادات والتقاليد، وكل ما يعتاد عليه أهل البادية من سبل العيش والحياة. 9. هنا نتوقف عند مَكَّة (اُنظر صورة مَكَّة المكرمة) فقد كانت مَكَّة دون سائر بلدان الجزيرة العربية بما فيها اليمن ذات مكانة عظمى، وكانت كعبتها مثابة للحاج، وهى التي يشد لها الرحال، وتشخص لها الأبصار، وكانت مَكَّة تمتاز عن سائر البلدان الأخرى المحيطة بها بمراعاتها حرمة الأشهر الحُرم، فهي عاصمة شبه الجزيرة العربية بلا منازع، على الرغم من أن اليمن كانت أرقى بلاد شبه الجزيرة العربية حضارة في ذلك الوقت (اُنظر خريطة شبه الجزيرة العربية)، ويشاء الله سبحانه أن تكون مَكَّة هي مسقط رأس مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم-، وتبقى لِقريش المكانة السامية، ولبيتها العتيق كل التقديس والاحترام. 10. اجتمعت لقُصي بن كِلاب في منتصف القرن الخامس الميلادي المناصب الآتية: أ. الحِجابة: أي (سدانة البيت وهي تولي مفاتيح الكعبة). ب. السقاية: أي (إسقاء الحجيج الماء العذب الذي كان نادراً في هذا المكان). ج. الرفادة: (كان أول من فرضها قصي على قريش، حيث يجمعون المال ويسلمونه إليه ليصنع به طعاماً للحجيج). د. الندوة: أي (رئاسة الاجتماعات طوال العام). ه-. اللواء: هو (راية يثبتونها على رمح وينصبونها علامة للعسكر إذا توجّهوا إلى عدو). و. القيادة: أي (إمارة الجيش عند الخروج للقتال).
ولقد نشأت تلك المناصب لتدل على مكانة الكعبة والقائمين برعايتها والإشراف عليها، نشأت تلك المناصب الواحدة بعد الأخرى ولم تنشأ دفعة واحدة.
11. منذ بناء الكعبة لم يكن هناك قبائل سوى العماليق وجُرهم، فلمَّا رفع إبراهيم وإسماعيل -عليه السلام- قواعد البيت حدث تطور في مكة، وأصبحت شبيهة بالحضر بعد أن كانت أقرب إلى البدو منها إلى الحضر، وبعد أن غلبت جُرهم العماليق صار الأمر لجُرهم، وراجت التجارة في عهد "جُرهم"، وانغمس أهلها في الترف واللهو واللعب، وأهملوا كل شيء حتى نضب ماء زمزم، فلمَّا تولى "مُضاض بن عمرو بن الحارث" بعد جُرهم، حذر قومه من عاقبة ما هم فيه من ترف ولهو، وقام بتعميق زمزم وأتى بغزالتين مصنوعتين من الذهب كانتا بالكعبة، ودفعهما في البئر، كما دفع معهما بعض المال وغوَّر البئر وقرر الخروج من مكة، ومعه بنو إسماعيل -عليه السلام- أملا في العودة مرة أخرى إلى مكة، واستخراج تلك الكنوز والأموال.
12. لمَّا خرج "مُضاض بن عمرو بن الحارث" ومن معه من مكة، تولى أمر مَكَّة من بعده "خُزاعة"، التي ظلت تتوارث الولاية حتى تولى "قُصي بن كِلاب" الجد الخامس لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر مكة، وقد كان "قصي" موضع تقدير واحترام من أهله وأهل مكة، لمَّا كان يتمتع به من حسن الرأي وحسن الخلق، واستمر "قصي" في السعي والتجارة حتى كثرت أمواله وكثر أولاده، فلمَّا رأت "خزاعة" أن أمر "قصي" قد أصبح قويا، أنكروا ذلك، وأرادوا استعادة مكانتهم مرة أخرى، ومحاولة تولي أمر البيت بدلاً منه.
13. لمَّا شعر "قُصي بن كِلاب" بذلك استنفر قريش، وانضم إليهم بعض القبائل وأجْلوا "خزاعة" عن مكة، وبدأ "قُصي بن كِلاب" في بناء دار الندوة ليجتمع فيها كبراء مَكَّة للتشاور في أمورهم تحت إمرته، فقد كان من عادتهم وتقاليدهم ألا يتم أي أمر إلا باتفاقهم جميعاً، ومن المعروف أنه هو الذي فرض الرفادة على قريش كما تقدم حين قال: (يا معشر قريش! إنكم جيران الله وأهل بيته وأهل حرمه، وإن الحاج ضيف الله وزوار بيته، وهم أحق الأضياف بالكرامة، فاجعلوا لهم طعاماً وشراباً أيام الحج حتى يصدروا عنكم).
14. بعد أن كَبُر "قُصي" وضعف بدنه أعطى أكبر أبنائه وهو "عبد الدار" مناصب الكعبة، ولمَّا كان أبناء "عبد مناف" هم أعظم مكانة في قومهم فقد أجمع كل من "هاشم وعبد شمس والمطلب ونوفل بنو عبد مناف" على تولى هذه الأمر بدلا من "عبد الدار"، وتصالح الفريقان بعد أن أوشكا أن يقتتلا، تصالحا على الآتي: أن تكون السقاية والرفادة لبنى عبد مناف ويتسلمها "هاشم" لكبره في قومه ويسره، وهو أيضاً الذي سن رحلتي الشتاء والصيف إلى اليمن وإلى الشام، على أن يتولى بنو "عبد الدار" الحجابة واللواء والندوة، وظل الفريقان على هذا الأمر حتى جاء الإسلام.
15. كان "هاشم" قد تزوج من "سلمى بنت عمرو الخزرجية" أثناء عودته من رحلة الشام، وأنجب منها ولداً يدعى" شيبة" فلمَّا مات عاش "شيبة" مع أمه في يثرب بعد موت أبيه، ثم خلف "المطلب" أخوه "هاشم" على الرغم من صغره عن أخيه "عبد شمس" وذلك نظراً لمكانته وشرفه في قومه، حتى لقد أطلقت عليه قريش أسم "الفيض" لسماحته وفضله وكرمه، وفكر "المطلب" أن يُحضِر ابن أخيه من يثرب، حيث يعيش مع أمه هناك، ولمَّا جاء به من يثرب، وأقبل به على قريش ظنوه عبداً له أي عبداً "للمطلب"، لذا سمى "شيبة" بعبد المطلب، ونسي الناس "شيبة" ذلك الاسم الذي دعي به منذ ولادته، وأصبحوا يطلقون عليه "عبد المطلب" بعد ذلك.
16. قام "عبد المطلب" بتولي مناصب السقاية والرفادة من بعد عمه "المطلب" وقد وجد مشقة في هذين المنصبين لعدم وجود أبناء له سوى "الحارث"، كما أن السقاية بنوع خاص كانت مجهدة له بسبب نضب زمزم، وجمع المياه من عدة أبار مبعثرة تحتاج إلى مشقة وجهد في جمعها ووضعها في أحواض حول الكعبة، وهذا الأمر جعله يفكر في حفر زمزم مرة أخرى مستعيناً بابنه "الحارث"، فلمَّا حفر البئر وجد غزالتي الذهب وأسياف "مُضاض الجرهمي" الذي ردم البئر عليها من قبل على أمل العودة مرة أخرى واستخراجها منه، فلمَّا أرادت قريش مشاركة "عبد المطلب" فيما استخرجه من بئر زمزم، اقترح عليهم أن يضربوا القداح، جعل للكعبة قدحين، وله قدحين، ولقريش قدحين، ثم جعل لمن خرج قدحاه على شيء أن يكون له، فلمَّا ضربوا القداح عند هُبل في جوف الكعبة، خرجت الأسياف لعبد المطلب، والغزالتان للكعبة، وتخلف قدحا قريش، وبناء على ذلك وضع الأسياف والغزالتين حلية بباب الكعبة.
ثانياً: الفرق المسيحية كانت المسيحية واليهودية تتجاوران في محيط حوضي البحر الأبيض(بحر الروم) والبحر الأحمر (بحر القُلْزُم) (اُنظر خريطة الوضع السياسي قبل البعثة)، لكن اليهود كانوا يعملون في الخفاء لصد تيار المسيحية المنتشر في هذا الوقت قبل ظهور الإسلام، وكان لليهود جاليات كبيرة في بلاد العرب، يقيم أكثرها في اليمن وفى يثرب، وفى نفس الوقت كان الفرس المجوس يقفون في وجه هذا التيار المسيحي حتى لا يصل إليهم، وكان لسقوط روما، ثم انتقال حضارة العالم إلى بيزنطية، قد أكثر من التشيع وانتشار الفرق المسيحية، تلك الفرق التي أخذت تتناحر وتتقاتل وتتهاوى، ويكثر بينها الجدل والخلاف، فبينما تقدس فئة منهم مريم وتقدمها على المسيح، وترى فرق أخرى تقديم المسيح عليها، ليس هذا فحسب، بل كان جدل النصارى في بلاد الشام يختلف عن الجدل الدائر بين نصارى الحيرة على سبيل المثال.
لم يُفَوِتَ اليهود تلك الفرصة من أيديهم، وأخذوا في إشعال نار الفتنة والتفرقة، والعمل على نشر الجدل واستشرائه بين الفرق المسيحية، وظل العرب المتصلين بنصارى الشام ونصارى اليمن على الحياد، فلا ينتصرون لفريق على آخر معجبين بوثنيتهم التي كانوا عليها، وبعبادتهم لتلك الأصنام التي لا تضر ولا تنفع، مطمئنين لتلك الوثنية التي ألفوا عليها آباءهم، لهذا السبب ظلت عبادة الأصنام هي عقيدتهم، التي لا غنى لهم عنها في ظل هذا الصراع بين الفرق المسيحية المختلفة، لقد وصل الأمر بجيرانهم من نصارى نجران أن تأثروا بتلك الوثنية، كما تأثر بها بعض يهود يثرب فاعتقدوا في تلك العبادة، أي (عبادة الأصنام) التي جعلوها صلة من صلات التجارة الحسنة بينهم لتقربهم إلى الله زلفى.
ثالثاً: انتشار الوثنية وعبادة الأصنام 1. لقد كان للعرب أفانين وأساليب في عبادة الأوثان، كان لكل قبيلة صنم تدين له بالعبادة، فقد كان لعبادة الأوثان قبل الإسلام مكانة كبيرة وجليلة عند الناس، وكانت تتفاوت درجات تقديسها عندهم، ونعلم أن المعبودات في الجاهلية كانت مختلفة الأشكال، فما بين عبادة صنم (وهو ما كان على شكل إنسان مصنوع من معدن أو خشب أو مأكولات في بعض الأحيان كالتمر وغيره)، وما بين عبادة وثن (وهو ما كان من حجر لكن له شكلاً مميزاً أو نادراً وجوده) وما بين عبادة نصُب (وهو صخرة ليست لها صورة معينة، غير أنهم كانوا يزعمون أن أصلها سماوي، أي: حجراً بركانياً أو نيزكياً، ساقطاً من السماء).
2. كانت كل قبيلة من القبائل تتفاخر بما تعبده، ولعل أدق الأصنام التي صنعت في هذا الوقت هي الأصنام التي كان يصنعها أهل اليمن، نظراً لتقدمهم وحضارتهم، التي تؤهلهم لصنع تلك الأشياء بدقة عمن سواهم من سكان الجزيرة العربية؛ ولقد كان "هُبل" هو أكبر أصنام العرب وكبير ألهتهم، كان من العقيق على صورة إنسان، فلمَّا كسرت زراعة بدلها القرشيون بذراع أخرى من ذهب، وكانوا يحجون إليه، إذ هو أكبر الآلهة عندهم في ذلك الوقت، ولم يكن "هبل" وحده، عند العرب، بل كان للعرب أصناماً أخرى صغيرة الحجم سهلة الحمل، كانوا يتخذون منها آلهة في بيوتهم يطوفون بها قبل خروجهم من ديارهم، وعند عودتهم إليها، بل كانوا يأخذونها أحياناً في أسفارهم لتجلب لهم البركة والحظ.
3. قال بن هشام: (أن أصل عبادة الأصنام في الجزيرة العربية يرجع إلى "عمرو بن لُحيّ" الذي خرج من مَكَّة إلى الشام فلمَّا قدم على "مآب" من أرض البلقاء وكان بها العماليق يعبدون الأصنام يومئذ، فلمَّا سألهم عنها قالوا هي أصنام نعبدها نستمطرها فتمطرنا ونستنصرها فتنصرنا، فقال لهم: هل لي في صنم آخذه إلى أرض العرب، فيعبدونه كما تعبدون، ويستمطرونه كما تستمطرون، فأعطوه صنما يسمى "هُبل" قدم به إلى مكة، ونصبه هناك، وأمر الناس بعبادته فعبدوه).
4. أصنام قوم نوح كان لقوم نوح أصنام يعكفون عليها، ورد ذكرها في القرآن الكريم في سورة نوح قال تعالى: (وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ ءَالِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا) (نوح: الآية 23).
واتخذت قبائل العرب من ولد إسماعيل هذه الأصنام آلهة لهم يعبدونها من بعد قوم نوح وهى: أ. وَد: بدومة الجندل، اتخذته قبيلة كلب بنوبرة من قضاعة إلهاً لها. ب. سُواع: برهاط (وهى منطقة بأرض ينبع) اتخذته قبيلة هذيل بن مُدركة بن الياس بن مًضر إلهاً لها. ج. يغوث: بجرش اتخذته قبيلة أنعم من (طي) وأهل جرش من (مدحج) إلهاً لهم من دون الله. د. يعوق: بأرض همدان باليمن، اتخذته قبيلة خيوان (بطن من همدان) إلهاً لها. ه-. نسر: بأرض حمير اتخذته ذو الكلاع من (حمير) إلهاً لها.
5. أصنام أخرى في الجزيرة العربية أ. عميانيس كان لقبيلة "الأديم" ببطن من (خولان) كانوا يقسمون له من أنعامهم وحروثهم نصيباً بينه وبين الله، فيما كانوا يزعمون، فما كان لحق "عميانيس" تركوه "لعميانيس" ولا يصل منه إلى الله، وما كان لحق الله حسب اعتقادهم فهو يصل أيضا "لعميانيس"، وقد أنزل الله في كتابه عن هذه الواقعة فقال تعالى: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنْ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ( (الأنعام: الآية 136).
ب. هُبل صنم اتخذته قريش على بئر في جوف الكعبة، وهو الذي أتى به "عمرو بن لُحيّ" من الشام ووضعه في هذا المكان، وقد سبق الحديث عنه.
ج. إساف ونائلة صنمان على موضع من زمزم ينحرون عندهما، وهذان الصنمان في الأصل كانا لرجل وامرأة من "جُرهم"، فوقع "أساف" على "نائلة" في الكعبة فمسخهما الله حجرين، وضِعا في الصفا والمروة ثم نقلهما " عمرو بن لحي" إلى زمزم عند الكعبة، فطاف الناس بالكعبة وبهما أيضاً، ثم عبدوهما مع الوقت من دون الله هذا (والله أعلم).
د. اللات صنم بالطائف، كانت لثقيف، وكان سدنتها وحجابها بنو معتب من ثقيف.
ه-. العُزى صنم بنخلة، كانت لقريش وبني كنانة، وكان سدنتها وحجابها بنو شيبان من سليم (حلفاء بني هاشم).
و. مناة صنم على ساحل البحر من ناحية المُشَلَّل بقُديد، كانت للأوس والخزرج ومن دان بدينهم من أهل يثرب.
ز. قِلس صنم كانت لطيئ ومن يليها بجبلي طيء (سَلٌمى، وأجا)، بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علَّى بن أبى طالب -رضي الله عنه- فهدمها، فوجد فيها سيفين (الرسوب، المِخْذَم)، أعطاهما للرسول -صلى الله عليه وسلم- فوهبهما إيَّاه فهما سيفا علَّى -رضي الله عنه-.
ح. رئام هو بيت بصنعاء، كان لحمير وأهل اليمن.
ط. رضاء هو بيت لبني ربيعة بن كعب بن سعد بن زياد بن مناة بن تميم.
ي. ذو الكعبات: هو بيت لبكر وتغلب ابني وائل وإياد بسنداد.
6. الطواغيت اتخذ العرب مع الكعبة طواغيت، وهى عبارة عن بيوت كانت تُعظمها العرب كتعظيمها الكعبة، وكان لهذه الطواغيت سدنتها وحجابها، يُهدى لها كما كان يُهدى إلى الكعبة، وينحرون عندها كما كانوا ينحرون عند الكعبة، وأيضاً يطوفون بها، كما كانوا يطوفون بالكعبة، غير أنهم كانوا يعلمون تمام العلم أن الكعبة مفضلة على هذه الطواغيت، فهم يعلمون أن الكعبة هي بيت إبراهيم-عليه السلام- ومسجده.
7. البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي: أ. السائبة: هي الناقة، إذا تابعت بين عشر إناث، ليس بينهن ذكر، سيبت لا يركب ظهرها، ولا يَشرب لبنها إلا الضيف، كما لا يُجزّ وبرها. ب. البحيرة: هي الأنثى بنت السائبة، التي تأتي بعد عشر إناث، ليس بينهن ذكر، فتسمى (بحيرة)، وتشق أذنها، ويفعل بها كما فعل بأمها. ج. الوصيلة: هي الشاة التي أتمت عشر إناث متتابعات في خمسة أبطن، ليس بينهن ذكر، فما يولد بعد ذلك يحل للذكور أكله دون الإناث، فإذا مات منها شيء يشترك الذكور والإناث في أكله. د. الحامي: هو الفحل الذي ينتج عشر إناث متتابعات، ليس بينهن ذكر، فيحُمى ظهره، فلا يركب، ولا يُجزّ وبره وخُلَّي في إبله، يضرب فيها، ولا ينتفع منه بغير ذلك.
هذا قول ابن إسحاق، عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي.
أمَّا قول ابن هشام فيختلف معه في السائبة حيث يقول: (أن السائبة هي التي ينذر الرجل أن يسيبها إن برئ من مرضه أو نحو ذلك، فإذا برئ أساب ناقة من إبله أو جملاً للآلهة، فيسيبها ترعى، ولا ينتفع بها)، ويختلف أيضا معه في الوصيلة حيث يقول: (الوصيلة: هي التي تلد أمها اثنين في كل بطن، فيجعل صاحبها لآلهته الإناث منها، ولنفسه الذكور: فتلدها أمها أنثى، ومعها ذكر في بطن واحدة فيقولون: وصلت أخاها فيسيب أخوها معها فلا ينتفع به).
8. هكذا كانت الوثنية منتشرة في شبه الجزيرة العربية في الجاهلية (اُنظر خريطة ممالك اليمن)، أصنام وطواغيت، وتحليل وتحريم ما أنزل الله بهما من سلطان، كما فعلوا بالإبل والغنم وغيرها فيما سموه (البحيرة والسائبة والوصيلة والحام) وقد نهى الله عن ذلك في كتابه العزيز في قوله تعالى: (مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ) (المائدة: الآية 103).
رابعاً: أبرهة ومحاولة هدم الكعبة 1. لمَّا أقام "أرياط" بأرض اليمن عدة سنين، نازعه في ملك اليمن "أبرهة"، وكان أبرهة رجلاً قصيراً لحيماً، نصرانياً، وكان أرياط رجلاً جميلاً عظيماً طويلاً، أرسل "أبرهة" إلى "أرياط" بأن يبرز إليه، فإن أصاب أحداً صاحبه انصرف جنده إلى الآخر المنتصر، فوافقه "أرياط" على ذلك، ولمَّا واجه كل منهما الآخر، ضرب "أرياط" "أبرهة" بحربة على جبهته فشرمت حاجبه وأنفه وعينه وشفته، فبذلك سمي بأبرهة "الأشرم"، ثم قتل "عتودة" وهو من جنود أبرهة أرياط، فانضم جنود أرياط لأبرهة، وتحمل "أبرهة" دية "أرياط"، وغضب "النجاشي" ملك الحبشة من "أبرهة" غضباً شديداً، وحلف ألا يدع "أبرهة" حتى يطأ بلاده ويجُز ناصيته، فحلق أبرهة رأسه، وملأ جراباً من تراب اليمن، وبعث به إلى النجاشي مع كتاب قال فيه: (أيها الملك إنما كان أرياط عبدك، وأنا عبدك، فاختلفنا في أمرك، وكلٌ طاعته لك، إلا أنى كنت أقوى على أمر الحبشة، وأضبط لها، وأسوس منه، وقد حلقت شعري كلَّه حين بلغني قسم الملك، وبعثت إليه بجراب تراب من أرضي ليضعه تحت قدميه، فيبر بقسمه فيَّ). 2. فلمَّا قرأ "النجاشي" كتاب "أبرهة" قال له: (اثبت بأرض اليمن حتى يأتيك أمري) فأقام "أبرهة" باليمن، وكان "أبرهة" حاذقاً وخبيراً في اكتساب ثقة ملوكه، فبنى كنيسة سماها " القُليس" بصنعاء لم ير في زمانه مثلها، ثم بعث بكتاب إلى "النجاشي" يقول: (أنى قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك، ولست بمنتهٍ حتى أصرف إليها حج العرب)، فلمَّا تحدثت العرب بكتاب أبرهة هذا، غضبيات العرب، وذهب كناني من العرب إلى كنيسة" القليس" وأحدث فيها، ثم عاد إلى مكة، فلمَّا علم "أبرهة" بذلك غضب غضباً شديداً، وحلف ليهدمن البيت الحرام الذي يحج إليه العرب في مكة، وجهز جيشه وخرج بالفيل، وسمعت العرب بذلك فأعظموه وفظعوا به، وقام أشراف من أهل اليمن بزعامة "ذي نفر" وتعرضوا لجيش أبرهة فهزمهم وأسر "ذا نفر"، واستمر في طريقه إلى الكعبة حتى أتى أرض خثعم (اُنظر خريطة حادث الفيل) فقاتله " نفيل بن حبيب الخثعمي" ومن تبعه من قبائل العرب فهزمهم أبرهة أيضاً وأسر "نفيل" واتخذه دليلاً له بأرض العرب.
3. ولمَّا بلغ "أبرهة" ثقيف هادنته وقالت له: (أيها الملك إنما نحن عبيدك، سامعون لك مطيعون، ليس عندنا لك خلاف، وليس بيتنا هذا البيت الذي تريده، إنما تريد البيت الذي بمكة، ونحن نبعث معك من يدلك عليه)، وبعثوا معه رجل دليلا له يسمى "أبو رغال" فتجاوز عنهم وتركهم، حتى إذا نزل "المُغَّمس" مات أبو رغال ودفن هناك، وهذا القبر يرجمه العرب كلمَّا مروا به.
4. لمَّا بلغ أبرهة "المُغَّمس" (اُنظر خريطة حادث الفيل) أرسل "الأسود بن مقصود" وهو حبشي إلى مَكَّة ليهاجمها، فعاد إلى أبرهة، ومعه أموال تهامة وغيرهم، ومائتي بعير "لعبد المطلب بن هشام"، وكان "عبد المطلب" سيد قومه، ثم أرسل أبرهة رسولاً إلى مَكَّة يسأل عن كبيرها وشريفها، فلمَّا قابل رسوله "عبد المطلب" قرأ عليه كتاب أبرهة وفيه يقول: (إني لم آت لحربكم، إنما جئت لهدم هذا البيت، فإن لم تتعرضوا دونه بحرب، فلا حاجة لي بدمائكم، فإن هو لم يرد حربي فأتني به)، فقال "عبد المطلب": (والله ما نريد حربه، وما لنا بذلك من طاقة، هذا بيت الله الحرام، وبيت خليله إبراهيم-عليه السلام-، فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه، وإن يُخَلّ بينه وبينه فوالله ما عندنا دفع عنه)، وانطلق "عبد المطلب" معه إلى "أبرهة"، ومعه "يعمر بن نُفاثة بن عَدى" من بني بكر، و" خويلد بن واثلة الهُذلى" سيد هذيل، وعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة ليرجع عن هدم البيت فأبى عليهم.
5. لمَّا دخل "عبد المطلب" على "أبرهة" وكان أجمل الناس وأعظمهم، أجله "أبرهة" وأكرمه وأعظمه، ونزل من على سريره وجلس على بساطه وأجلسه بجانبه، وسأل "عبد المطلب" عن حاجته، فقال "عبد المطلب": (أريد آن يرد علىَّ الملك مائتي بعير أصابها وهي لي)، فتعجب "أبرهة" من ذلك وقال: (قد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني، أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك، وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه، ولا تكلمني فيه؟)، فرد "عبد المطلب": (إني أنا رب الإبل، وإن للبيت رباً سيمنعه)، قال "أبرهة": (ما كان ليمتنع مني)، قال "عبد المطلب": (أنت وذاك)، كلمتان خفيفتان فيها خلاصة القول لو فهمهما "أبرهة" في ذلك الوقت، ما أقدم على هدم البيت بعدها أبداً. 6. أعطى "أبرهة" "عبد المطلب" مائتي الناقة، وأنصرف عبد المطلب إلى قريش، وأمرهم بالخروج من مكة، واللجوء إلى الجبال والشعاب خوفا عليهم من بطش جيش أبرهة، وأخذ هو ونفر من قريش يمسكون بحلقة باب الكعبة يستنصرون الله على أبرهة وجنده، ثم توجه هو ومن معه إلى شعب الجبال ينتظرون ما يفعل أبرهة بمكة، ولمَّا تهيأ أبرهة لدخول الكعبة (اُنظر صورة الكعبة المشرفة) بجيشه وأفياله، أرسل الله طيراً أبابيل (متتابعة)، تحمل حجارة من سجيل صغيرة، في مثل حبة الحمص والعدس، لكنها حجارة مدمرة لا تصيب منهم أحداً إلا هلك، فخرجوا من مَكَّة يتساقطون بكل طريق، ويهلكون بكل مهلك، وأصيب أبرهة في جسده، وخرجوا به معهم، وهو يسقط منهم أنملة، أنملة يتقيَّح جسده دماً حتى بلغ صنعاء، فمات هناك، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه، قال تعالى لمُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- يخبره بأمر أصحاب الفيل: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)( (الفيل: الآيات 1-5).
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
موضوع: رد: مُحَمَّد (صلى الله عليه وسلم) الإثنين 13 ديسمبر 2021, 11:55 pm
المبحث الثاني من مولده -صلى الله عليه وسلم- حتى زواجه من خديجة أولاً: نسبه، وهيئته، ومولده
1. نسبه هو مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قُصى بن كِلاب بن مُرة بن كعب بن لُؤِى بن غالب بن فِهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خُزيمة بن مُدرِكة بن الياس بن مُضر بن نِزار بن مَعَدّ بن عدنان بن أُدّ بن مُقَوَّم بن ناحور بن تيرح بن يَعٌرُب بن يشجب بن نابت بن إسماعيل -عليه السلام- بن إبراهيم-عليه السلام-.
2. هيئته أ. كان وسيم الطلعة، ربعة (وسيط القامة) في الرجال، ليس بالطويل البائن ولا بالقصير المتردد، ضخم الرأس، ذا شعر رَجٌلٍ (لا جعد ولا مسترسل) شديد سواده، مبسوط الجبين، فوق حاجبين سابغين (ضخمين) منونين متصلين، واسع العينين أدعجهما (أسودهما)، تشوب بياضهما في الجوانب حمرة خفيفة، وتزيد في قوة جاذبيتهما وذكاء نظرتهما أهداب طوال حوالك، مستوي الأنف دقيقة، مفلج الأسنان، كث اللحية، طويل العنق جميله، عريض الصدر، رحب الساحتين، أزهر اللون، شثن الكفين والقدمين (غليظهما)، يسير ملقيا جسمه للأمام مسرع الخطو ثابتة، على ملامحه سيما التفكير والتأمل، وفى نظرته سلطان الآمر الذي يخضع الناس لأمره.
ب. وصف علىَّ -رضي الله عنه- رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: (لم يكن بالطويل الممغَّط (الممتد)، ولا القصير المتردد، وكان ربعة من القوم، ولم يكن بالجعد القطط ( الشديد خشونة الشعر) ولا بالسبط، كان جعدا رجلا (مسرح الشعر)، ولم يكن بالمطهَّم (كثير اللحم)، ولا المكلثم (المستدير الوجه)، وكان أبيض مشرباً بحمرة، أدعج العينين (أسود العينين)، أهدب الأشفار (طويلها)، جليل المُشاش (عظام رؤوس المفاصل) والكتد (ما بين الكتفين) دقيق المَسْرُبة (الشعر الممتد من الصدر إلى السرة)، أجرد (قليل شعر الجسم)، شثن (غليظ) الكفين والقدمين، إذا مشى تقلّع (لم يثبت قدمه)، كأنما يمشي في صبب، وإذا التفت، التفت معاً، بين كتفيه خاتم النبوة، وهو خاتم النبيين، أجود الناس كفاً، وأجرأ الناس صدراً، وأصدق الناس لهجة، وأوفى الناس ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، من رآه بديهةً هابه، ومن خالطه أحبه، لم أر قبله ولا بعده مثله -صلى الله عليه وسلم-).
3. مولده -صلى الله عليه وسلم- يرتبط حديث مولد مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- بالحديث عن زواج أبيه "عبد الله" بأمه "آمنة بنت وهب"، ونعود بالسنين إلى الوراء قبل مولد مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم-، حيث أحس "عبد المطلب" قلة حوله في قومه، فهو قليل المال والأولاد، فنذر نذراً إن وُلد له عشرة بنين وبلغوا أشدهم، لينحرن أحدهم لله عند الكعبة، وتحقق نذره حيث وهبه الله عشرة أبناء، ولم يبق إلا الوفاء به، فذهب "عبد المطلب" إلى صاحب القِدَاح، وهو الرجل الذي يرمي بالقدح ليستفتي به كبير الأصنام، وهى عادة كانت عند العرب، كلمَّا اشتدت بهم الحيرة في أمر ذهبوا إليه ليرمي لهم بالقداح، وكتب "عبد المطلب" اسم كل ابن من أبنائه على قدح، فلمَّا ضرب صاحب القداح بقداحه، وبها أسماؤهم، خرج قدح "عبدالله"، وكان "عبدالله"، أصغر أبناء عبد المطلب وأحبهم إليه، فأخذ عبد المطلب ابنه "عبدالله" إلى هُبل ليوفي بنذره، ويذبحه هناك عند زمزم، بين صنمي إساف ونائلة، ولمَّا علمت قريش بذلك هرعت إليه لتثنيه عن هذا الفعل.
وتحيَّر "عبد المطلب" في هذا الأمر ماذا يفعل؟..، واقترح "المغيرة بن عبدالله المخزومي" اقتراحاً حسناً أن يذهب "عبد المطلب" إلى عرافة "بيثرب" تعرف تلك الأمور، ولها فيها رأى، ثم تشاور القوم، واستقر رأيهم على الذهاب إلى تلك العرافة، فلمَّا ذهبوا إليها، وقصوا عليها قصتهم، استمهلتهم إلى الغد، وسألتهم عن الدية (أي دية القتيل التي عادة ما يدفعونها في القتلى)، قالوا: عشر من الإبل.
وفى اليوم التالي أشارت عليهم أن يضربوا على "عبدالله" القداح وعلى الإبل، فإن أصابت الإبل نحروها فدية له، وإن أصابت القداح "عبدالله" فعليهم أن يزيدوا عشراً من الإبل، وهكذا حتى ترضى الآلهة.
وقبلوا ما قالته العرافة، وذهبوا مرة أخرى إلى القداح، وظلت القداح تخرج على "عبدالله" في كل مرة، فيزيدون في الإبل حتى بلغت مائة، وأخيراً خرجت القداح على الإبل، ولم تخرج على عبد الله، وقالت قريش لعبد المطلب: (لقد رضي ربك يا عبد المطلب)، ولمَّا اطمأن "عبد المطلب" إلى رضاء ربه نحر الإبل المائة، وتركها لا يُصدُ عنها إنسان أو حيوان، هكذا أراد الله أن يبقى "عبد الله" حياً ليكون له شأن عظيم في مولد رسول كريم، أرسله الله رحمة للعالمين، هو مُحَمَّد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.
حين جاوز "عبد المطلب" السبعين كان "عبد الله" قد بلغ الرابعة والعشرين، فرأى "عبد المطلب" أن يزوجه، واختار له "آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زُهرة"، وذهب به إلى منازل زهرة، ودخل بيت "وهب" وهو إذ ذاك سيد بني زهرة سناً وشرفاً ليخطبها له (بعض المؤرخين قالوا انه خطبها من عمها "أهيب" التي كانت في كفالته بعد موت أبيها "وهب")، وفى اليوم الذي تزوج فيه عبد الله من آمنة، تزوج عبد المطلب أيضا من عمة آمنة وكان اسمها" هالة"، وأنجبت له "حمزة" عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونده.
وكان من عادة العرب عند الزواج أن يقيم الزوج عند بيت العروس ثلاثة أيام، فلمَّا انقضت تلك الأيام انتقل عبد الله وآمنة إلى منازل بني عبد المطلب، وتشاء الأقدار ألا يقيم طويلا معها، فقد ذهب في تجارة إلى الشام، وهى حامل بِمُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم-، ومكث في رحلته هذه عدة أشهر، وحين قفل عائداً من الشام قاصداً مكة، عرج على أخواله بالمدينة، ليستريح عندهم من وعثاء السفر ومشقته، لكنه مرض هناك، ولم يتابع رحلة العودة مع القافلة، وبقي "عبدالله" عند أخواله حتى مات، ودفن بالمدينة بعد شهر من مسيرة القافلة إلى مكة، ولمَّا علم عبد المطلب بمرض "عبد الله" أرسل إليه أكبر بنيه وهو "الحارث"، ليحضره من هناك إلى مكة، لكن "الحارث" حين بلغ المدينة علم بموت أخيه "عبدالله" فعاد حزيناً إلى مَكَّة ليثير في قلب أبيه و"آمنة" زوجته الحزن والأسى لفراقه، فعبد المطلب لم تدم فرحته بفدائه من آلهته حين نذر نذره، وآمنة لم تنل ما كانت تحلم به من حياة هانئة وسعيدة معه، فقد مات من قريب، وترك لها خمساً من الإبل، وقطيعاً من الغنم، وجارية تسمى" أم أيمن" التي كانت حاضنة للنبي -صلى الله عليه وسلم- من بعدُ.
ومرَّت أشهر الحمل بآمنة حتى وضعت، فلمَّا ولدت مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- فرحت به فرحاً كبيراً، وأرسلت إلى جده عبد المطلب لتخبره، واستقبل عبد المطلب هذا الخبر العظيم وهو عند الكعبة، وفاضت عيناه من الفرح والسرور، وأسرع إلى آمنة، ليرى هذا الطفل ليقبله ويأخذه بين يديه، ويدخل به الكعبة، ويسميه "مُحَمَّداً" -صلى الله عليه وسلم-، وكان هذا الاسم غير متداول بين العرب في ذلك الوقت، ثم رد "عبد المطلب" الطفل إلى أمِّهِ مرة أخرى؛ لينتظرا المراضع من بني سعد على عادة أشراف العرب في مكة. ولد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في عام 570 ميلادية وهو عام الفيل كما ذكر أكثر المؤرخون، واختلف المؤرخون في اليوم والشهر اللذين ولد فيهما -صلى الله عليه وسلم-، والجمهور على أنه ولد في الثاني عشر من شهر ربيع الأول، وقد اختُلف في وقت ولادته أيضاً هل كان نهاراً أم ليلاً، وكذلك في مكان ولادته في أي مكان ولد بمكة؟، ويقول الكاتب "كُوسَّان دبِرٌسِفَال" في كتابه عن العرب، أن مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- ولد في أغسطس سنة 570م، أي في عام الفيل، وأنه ولد بمكة (اُنظر صورة مَكَّة المكرمة) بدار جده عبد المطلب، وفى اليوم السابع لولادته نحر "عبد المطلب" الجزور، ودعا إليها رجال قريش، ليطعموا منها، ويباركوا له.
ثانياً: حليمة السعدية مرضعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- هي حليمة بنت أبي ذؤيب، من بني سعد أبوها هو "عبد الله بن الحارث بن شِجنة بن جابر بن ناصرة بن قُصية بن نصر بن سعد بن بكر بن هوازن بن منصور بن عِكرمة بن خَصفة بن قيس بن عَيلان، وزوجها " الحارث بن عبد العُزى بن رفاعة بن مَلان بن ناصرة بن قُصية، وأولاد حليمة هم أخوات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الرضاعة وهم: عبد الله بن الحارث، وأنيسة وخِذامة (الشيماء) بنت الحارث، استرضعها عبد المطلب لمُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم-.
خرجت حليمة مع زوجها من بلدها في نسوة بني سعد تلتمس الرضعاء، وكان ذلك في سنة قحط وجدب، خرجت على أتان قمراء (شديدة البياض)، ومعها شارف (ناقة مسنة)، وكان معها صغير لها ترضعه، وكانت لا تنام من صراخه من الجوع، فليس في صدرها ما يغنيه، ولا في بيتها ما يغذيه، ترجو من الله الغيث والفرج، فلمَّا وصلت مَكَّة تلتمس الرضعاء لم تجد أحداً يرجو مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- ليُتمه، فما بقيت مرضعة من بني سعد إلا أخذت معها رضيعاً، غير مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- لم يجد من يأخذه، ولمَّا همُّوا بالعودة إلى بني سعد، كرهت أن تعود من دون أن تأخذ معها رضيعاً كسائر نساء بني سعد ولم تجد أمامها سوى مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم-، فاحتملته على الرغم من أنها لم تكن ترجو أجراً كبيراً على رضاعته من أمه آمنة، التي مات زوجها، وقد حملها على ذلك أنها لم تجد غيره كي ترضعه.
فلمَّا أخذته معها وأرضعته وجدته لا يُقبل إلا على ثدي واحد، وكانت تعرض عليه الثدي الآخر فيأباه، كأنه كان يشعر بفطرته العادلة أن معه شريكاً له في لبنها، وذهب زوج حليمة في تلك الليلة ليحلب الشارف (الناقة المسنة) فوجدها حافلة باللبن (غزيرة)، فشربوا من لبنها حتى ارتووا وشبعوا، وتقول حليمة إنها منذ أن أخذت مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- لترضعه حلت عليها البركات، وجاءها رزقها من كل مكان، حتى أن بني سعد كانوا يقولون لرعيانهم: اسرحوا حيث يسرح راعى بنت أبي ذؤيب (يقصدون راعي حليمة)، لقد شعرت حليمة بالخير والسعادة من بعد رضاعتها لمُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- فسمنت غنمها، وزادت ألبانُها وبارك الله في كل ما عندها.
أقام مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- في الصحراء في بني سعد لمدة سنتين، كانت حليمة خلال هذه الفترة ترضعه بينما تحتضنه الشيماء، وأثرت الأجواء المحيطة به في تلك البادية، فزادت في نموه وحسن تكوينه، حتى إذا أتم سنتين، وآن موعد فصاله، ذهبت حليمة به إلى أمه آمنة، ثم لم تلبث كثيراً هناك، وعادت به مرة أخرى، حتى يغلظ عوده ويشتد، وبقي مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- في بني سعد سنتين أخريين وقبل أن يبلغ الثالثة ذهب مع أخيه من الرضاعة ليلعبا، فإذا بأخيه يسرع في عدوه حتى أتى أبواه فقال: (ذاك أخي القرشي، قد أخذه رجلان، عليهما ثياب بيض، فأضجعاه فشقا بطنه، فهما يسوطانه (أي يضربون بعضه ببعض))، فلمَّا سمعا منه ذلك ذهبا ليريا ما قال، فوجدا مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- قائماً ممتقعا وجهه، فالتزماه، وسألاه: (مالك يا بني؟)، قال -صلى الله عليه وسلم-: ((جاءني رجلان عليهما ثياب بيض، فأضجعاني وشقا بطني، فالتمسا شيئاً لا أدرى ما هو!!))، ثم رجعا به إلى بيتهما.
لمَّا سمع زوج حليمة هذا الحدث لم ينم، وقال لها أخشى أن يكون الغلام قد أصيب بشيء، فألحقيه بأهله قبل أن يظهر ذلك به، فأعادته حليمة إلى أمه، فلمَّا قصت عليها هذا الحادث، قالت آمنة: (أتخوفت عليه من الشيطان؟)، قالت: (نعم!)، قالت آمنة: (والله ما للشيطان عليه من سبيل، وإن له لشأناً، لقد رأيت حين حملت به أنه خرج مني نور أضاء قصور بُصرى من أرض الشام، فو الله ما رأيت من حملٍ قط كان أخف ولا أيسر منه)، وقد سُئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن نفسه فقال: ((أنا دعوة أبي إبراهيم، وبُشرى أخي عيسى، ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاء لها قصور الشام، واسترضعت في بني سعد بن بكر)).
ثالثاً: مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- في كفالة جده ثم عمه بعد خمس سنوات قضاها مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- في بني سعد عاد مرة أخرى إلى أمه، وبقيت حليمة وأهلها موضع محبته طوال حياته، حتى أنه كلمَّا جاءته حليمة بعد زواجه من خديجة كان يعطيها الهدايا، ويجزل لها العطاء، ويُذكر أنه أعطاها بعد زواجه من خديجة بعيراً وأربعين رأساً من الغنم، وكان يمد لها طرف ردائه لتجلس عليه كلمَّا قدمت إليه.
أخذته "آمنة" ذات يوم إلى المدينة لزيارة أخواله من بني النجار، وأخذت معها جاريتها "أم أيمن" التي خلفها زوجها "عبد الله" لها من بعده، ومكثت به عند أخواله بيثرب شهراً، ثم عزمت على الرحيل والعودة إلى مكة، وفى طريق العودة مرضت بالأبواء، وماتت، ودفنت بها، وهو في السادسة من عمره، وعادت "أم أيمن" بمُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- لتسلمه يتيماً إلى جده "عبد المطلب" ليكفله، ولمَّا بلغ مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- الثامنة مات جده "عبد المطلب" بعد أن بلغ الثمانين من عمره، وحزن مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- حزناً شديداً لموت جده، وكان موت عبد المطلب ضربة قاسية على بني هاشم كلها، فلم يكن في أبناء عبد المطلب من يأخذ مكانته من بعده، فقد كان عبد المطلب ذا مكانة، وذا عزم وقوة، وأصالة وكرم، وأثر موته أيضاً في العرب جميعاً فهو الذي كان يطعم الحجيج ويسقيهم، ويبر أهل مكة، ويدفع عنهم الشر والأذى.
وبعد موت عبد المطلب كفله عمه "أبو طالب"، وعلى الرغم من أن أبا طالب لم يكن أكبر أخوته سناً، ولا أيسرهم حالاً، إلا أنه كان أنبلهم وأكرمهم في قريش، فقد كان "الحارث" أكبرهم سناً، وكان "العباس" أكثرهم مالاً، ومع ذلك فقد كفل أبو طالب مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- بل وأحبه حباً شديداً، حتى كان يقدمه على أبنائه، وازداد تعلقاً بمُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- يوماً بعد يوم لنجابته وذكائه وبره، وطيبة نفسه -صلى الله عليه وسلم-. رابعاً: رحلته الأولى إلى الشام وحرب الفجار تروي كتب السيرة أن مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- خرج مع عمه أبي طالب في تجارة إلى الشام، وكان في الثانية عشرة من عمره، والتقى أثناء هذه الرحلة براهب يدعى "بحيرى"، هذا الراهب رأى في مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- علامات النبوة التي أتت في أنباء النصرانية، ونصح "بحيرى" الذين مع مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- ألا يوغلوا في بلاد الشام خوفاً عليه من اليهود، فهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، فذلك مكتوب عندهم في التوراة، خشي "بحيرى" عليه من أن يعرفوه فينالوا منه، فأنذرهم ونصحهم، وفى هذه الرحلة مر مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- على مدين ووادي القرى وديار ثمود (اُنظر خريطة رحلة مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- إلى الشام) التي سمع عن أخبارها وماضيها من أهل البادية، كما عرف في الشام من أخبار الروم ونصرانيتهم، ومناوئتهم للفرس وعبادتهم للنار.
عاد مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- مع عمه إلى مَكَّة بعد رحلته إلى الشام، فإذا جاءت الأشهر الحرم كان يظل بمكة، أو يذهب إلى أسواق عكاظ، ومجنة، وذي المجاز يستمع هناك إلى أصحاب المذهبات والمعلقات، ويستمع إلى خطب الخطباء بما فيهم خطب اليهود والنصارى ضد العرب ووثنيتهم، وقد وقف مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- مع أعمامه في حرب الفجار، وهو في الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة من عمره، تلك الحرب التي كان سببها أن "النعمان بن المنذر" كان يرسل كل عام قافلة تأتي من الحيرة إلى أكثر أسواق العرب شهرة وهو سوق عكاظ، تحمل المسك، وتعود بالجلود، والحبال، وأنسجة اليمن المزركشة.
وعرض كل من "البَرَّاض بن قيس الكنانى"، و "عُروة الرحال بن عُتبة الهوازنى" نفسه على "النعمان" ليقود قافلته، فلمَّا اختار النعمان "عروة الهوازنى"، كتم البَرَّاض ذلك في نفسه، وتربص "بعروة" وقتله في الشهر الحرام، ولم يكتف بذلك بل أخذ قافلته أيضاً، لذا سميت بحرب الفجار لحدوثها في الشهر الحرام، ولمَّا علمت هوازن بذلك لحقت بقريش قبل أن يدخلوا البيت الحرام واقتتلوا فيما بينهم، وتراجعت قريش، وأنذرتها هوازن بالحرب في عكاظ في العام القادم، وظلت هذه الحرب المعروفة بحرب الفجار بين هوازن وقريش لأربع سنوات متتابعة، إلى أن عقد الصلح بينهم بأن دفعت قريش دية العدد الزائد على قتلاهم إلى هوازن، وهى دية عشرين رجلاً من هوازن، وقد اختلف فيما قام به مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- في تلك الحرب، ففريق قال إنه كان يجمع السهام من هوازن ويدفعها إلى أعمامه، وفريق آخر يقول أنه اشترك في الحرب فعلاً، ورمى بالسهام على هوازن، ونظراً لأن الحرب امتدت بين الفريقين أربع سنوات، فليس ما يمنع حدوث ما جاء في الروايتين.
كانت حرب الفجار لا تستغرق سوى أيام من كل عام، أمَّا باقي العام فكانوا يزاولون أعمالهم وتجارتهم، من دون أن تترك الحرب بينهما أي أثر في نفوسهم، ولمَّا شعرت قريش بعد هذه الحرب أن مَكَّة قد تفرقت كلمتها خاصة بعد موت هاشم وعبد المطلب، ما أطمع العرب فيها من بعد موتهما، رأت أن توحد صفوفها مرة أخرى، فقام "الزبير بن عبد المطلب" ودعا إلى اجتماع بني هاشم وزهرة وتيم في دار عبدالله بن جدعان، وصنع لهم طعاماً، وتعاهدوا في هذا اليوم على أن يكونوا مع المظلوم حتى يؤدوا إليه حقه، وحضر مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- هذا الحلف الذي سماه العرب "حلف الفضول".
خامساً: حياة تأمُّل وتدبُّر إن اشتغال مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- بالرعي زاده تأملاً وتدبراً، كان يقول: ((ما بعث الله نبياً إلا راعي غنم)) وكان يقول أيضاً: ((بُعث موسى وهو راعي غنم، وبُعث داود وهو راعي غنم، وبعثت وأنا أرعى غنم أهلي بأجياد))، ففسحة الوقت عنده، وفسحة المكان، وصفاء السماء، جعلت مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- ينظر إلى الكون نظرة لم يعرفها عبّاد الأصنام ولا الأوثان من حوله، فهم في غفلة من هذه الأنوار والإشراقات، كان ينظر إلى ولوج الليل في النهار، وولوج النهار في الليل، يراقب حركة الشمس التي تشرق بالنهار من مشرقها، ويراقبها وهى تغرب في مغربها، ثم يراقب دخول الليل، وهو يعسعس، فيرى نجوماً وكواكب تزين السماء تدريجياً، تسير وفق نظام دقيق ومحكم، فمن الذي يسيطر على تلك الكائنات السماوية، ومن الذي يتحكم في نظامها، فالشمس تشرق دائما من المشرق، ما انفلت هذا النظام، ولا اختل لحظة واحدة، وهى تغرب أيضاً في اتجاه الغرب، ما انفلت هذا النظام، ولا اختل لحظة واحدة، إن مدبر أمر هذه الكائنات هو الله، خالق تلك الأشياء كلها، ومدبر أمرها.
إن هذا التفكير والتأمل صرف مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- عن شهوات الحياة الدنيا وزخرفها، لقد كان مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- أشد الناس زهداً في المادة، ورغبة عنها، كان لا يحتاج من الحياة إلى أكثر مما يقيم صلبه، كان يقول: ((نحن قومُ لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع))، كانت لذة مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- هي التأمل في هذا الكون، والتفكر والتدبر في أمره، ولقد ساعده على ذلك اشتغاله بالرعي. سادساً: زواجه -صلى الله عليه وسلم- من خديجة هي خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العُزى بن قصي بن كِلاب بن مُرة بن كعب بن لُؤى بن غالب، كانت تسمى الطاهرة في الجاهلية وفي الإسلام، وكانت تسمى أيضا سيدة نساء قريش، أمها فاطمة بنت زائدة بنت الأصم بن رواحة بن حجر بن عبد بن معيص بن عامر بن لُؤي بن غالب بن فهر (اُنظر شكل نسب الرسول -صلى الله عليه وسلم-)، أراد أبو طالب عم الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يجد لمُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- سبيلاً أوسع للرزق بدلاً من رعي الغنم، فعلم أن خديجة بنت خويلد تستأجر رجالاً من قريش يديرون تجارتها، وكانت خديجة امرأة ذات مال وشرف، تزوجت مرتين في بني مخزوم، وأصبحت أوفر أهل مَكَّة غنى، وكان أبوها "خويلد" وآخرون من ذوى الثقة يعاونونها على إدارة أموالها، وكانت ترد خطبة من أراد خطبتها من كبار رجال قريش، لاعتقادها أنهم يطمعون في مالها.
سارع أبو طالب إلى خديجة حين علم أنها تجهز لتجارة الشام، وعرض عليها أن تستأجر مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- لقيادة القافلة، وهو حينئذ في الخامسة والعشرين من عمره، فوافقت خديجة وخرج "ميسرة" غلام خديجة معه -صلى الله عليه وسلم- في هذه التجارة، ولمَّا انطلقت القافلة إلى الشام، وبلغت بُصرى، اتصل مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- بنصارى الشام، وتحدث إلى الرهبان والأحبار هناك، وسمع عن عقائدهم وعباداتهم، وخلال رحلته هذه استظل بظل شجرة قريباً من صومعة أحد الرهبان، وبصحبته ميسرة، فلمَّا سأل الراهب ميسرة عن مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- قائلاً: (من هذا الرجل الذي نزل تحت هذه الشجرة؟) قال ميسرة: (هذا رجل من قريش من أهل الحرم)، فقال له الراهب: (ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبي)، واستطاع مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- بأمانته وحلو شمائله، وجمال عواطفه، أن يكسب محبة ميسرة خلال هذه الرحلة، وأن يحقق أرباحاً وفيرة، لم تعهدها خديجة في تجارتها من قبل.
ولمَّا آن لهم أن يعودوا من تجارتهم إلى مكة، ابتاع مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- لخديجة كل ما رغبت فيه من تجارة الشام، ولمَّا اقتربت القافلة من مَكَّة قال ميسرة لمُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم-: (أسرع إلى خديجة فأخبرها بما صنع الله لها على وجهك فإنها تعرف لك ذلك)، ولمَّا دخل مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- مكة، وكان في ساعة الظهيرة، رأته خديجة، واستبشرت به، واستقبلته في دارها، وأخذ -صلى الله عليه وسلم- يقص عليها رحلته إلى الشام، وما حقق لها من أرباح في هذه التجارة، وما أحضره لها أيضاً من أِشياء، أوصته أن يحضرها معه من الشام، وسرت بذلك كثيراً، وأقبل ميسرة على خديجة، وروى لها عما رآه من مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- ومدى صدقه وأمانته، ورقة شمائله، وزهده، وجمال نفسه.
انقلبت غبطتها بعد سماع هذه الأخبار الطيبة عن تجارتها، وعن مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- إلى حب لمُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم-، وودت لو تزوجها، وأسرت ذلك إلى "نفيسة" بنت منية صديقتها؛ لتستكشف لها رأي مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- في الزواج منها، فقالت "نفيسة": (يا مُحَمَّد ما يمنعك من أن تتزوج؟)، قال -صلى الله عليه وسلم-: ((ما بيدي ما أتزوج به))، قالت: (فإن كُفيت ذلك، ودُعيت إلى الجمال والمال والشرف والكفاءة ألا تجيب؟) قال -صلى الله عليه وسلم-: ((فمن هي؟))، قالت: (خديجة بنت خويلد)، قال مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم-: ((كيف لي بذلك؟)) فاقترحت عليه اقتراحاً فأعلن قبوله بعد أن وافقها عليه، وذهبت نفيسة إلى خديجة وأخبرتها بما تم مع مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- فسُرت خديجة لذلك، وحددت موعداً عندها في بيتها، يحضره مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- وأعمامه، على أن تحضر هي أهلها فيتم الزواج بينهما.
جاء في السيرة النبوية لأبن هشام، أن خديجة لمَّا أعجبت بمُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم-، ورغبت في الزواج منه حين أخبرها ميسرة بخلق مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- أثناء رحلته معه إلى الشام، بعثت إليه فقالت له: (يا بن عم، إني قد رغبت فيك لقرابتك، وسِيطَتِك في قومك وأمانتك، وحسن خلقك، وصدق حديثك) ثم عرضت عليه نفسها، وهي أوسط نساء قريش نسباً وأعظمهن شرفاً، وأكثرهن مالاً.
وتقول كتب السيرة أن مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- ذهب معه عمه أبو طالب، وقيل ذهب معه "حمزة بن عبد المطلب" ليخطبها له -صلى الله عليه وسلم- من أبيها خويلد بن أسد، وقيل أيضاً ليخطبها من عمها (عمرو بن أسد) نظراً لهلاك خويلد قبل حرب الفُجّار.
وكان صداق خديجة عشرين بكرة، وحين قام أبو طالب مع مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- ليخطب له خديجة من أهلها بدأ بالكلام بقوله: (أمَّا بعد: فإن مُحَمَّداً ممن لا يوازن به فتى من قريش إلا رجح به شرفاً ونبلاً وفضلاً وعقلاً، وإن كان في المال قل، فإنما المال ظل زائل، وعارية مسترجعة، وله في خديجة بنت خويلد رغبة، ولها فيه مثل ذلك).
وهى أول امرأة تزوجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكانت في الأربعين من عمرها، بينما هو في الخامسة والعشرين من عمره (اُنظر ملحق زوجات الرسول -صلى الله عليه وسلم-)، ولم يتزوج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غيرها حتى ماتت (رضي الله عنها).
وقد أنجب منها أولاده كلهم إلا إبراهيم وهم: (القاسم، الطيب، الطاهر) وكلهم هلكوا قبل الإسلام، وكان يُكَنَّى -صلى الله عليه وسلم- بالقاسم أكبر أولاده الذكور، وولدت خديجة -رضي الله عنها- لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أربع بنات هن: (رقية، زينب، أم كلثوم، فاطمة) وكلهن أدركن الإسلام وهاجرن معه -صلى الله عليه وسلم-. (اُنظر ملحق أبناء وبنات الرسول -صلى الله عليه وسلم-). و(شكل نسب الرسول -صلى الله عليه وسلم-).
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الثلاثاء 14 ديسمبر 2021, 5:49 pm عدل 1 مرات
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
موضوع: رد: مُحَمَّد (صلى الله عليه وسلم) الثلاثاء 14 ديسمبر 2021, 12:06 am
المبحث الثالث
من زواجه -صلى الله عليه وسلم- حتى رحلة الإسراء والمعراج أولاً: نزول الوحي على مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- ثم فتوره قبل نزول الوحي كان لمُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- شأن عظيم في قومه، فقد كانت قريش تسميه "الأمين" لمَّا عُرف عنه من أمانة وسمو خلق، وقد كان له مكانة سامية في نفوس أهل مكة، وكان يتمتع بتقدير القبائل جميعها لمَّا عرفوه عنه من سمو النفس، ونزاهة القصد، وعدالة الحكم، ورجاحة الرأي عند المشورة، ولعل خير دليل على ذلك قصة تحكيم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رفع الحجر الأسود، ووضعه في مكانه بالكعبة، بعد إعادة بنائها مرة أخرى، وذلك حين اشتد الخلاف بين القبائل في نيل هذا الشرف الكبير.
فحين بلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خمساً وثلاثين سنة، اجتمعت قريش لبناء الكعبة، وكانت الكعبة في ذلك الوقت غير مسقوفة وكان ارتفاعها لا يتعدى فوق القامة، وكانت رضماً أي (الحجارة الموضوعة بعضها فوق بعض ومنضوضة دون ملاط)، فأرادوا رفعها ثم سقفها صيانة لكنوزها من اللصوص، وكان البحر قد رمى بسفينة لرجل من تجار الروم، فتحطمت في جدة، فأخذوا خشبها واعدوه لتسقيفها، وعاونهم في ذلك نجار من مَكَّة يدعى "باقوم"، وكان الناس يهابون هدمها، حتى جاء الوليدة بن المغيرة فقال: (أنا أبدؤكم هدمها)، ثم قام بمعوله فهدم من ناحية الركنين (الأسود، واليمانى)، وتربص الناس تلك الليلة ليروا ما يحل بالوليد بن المغيرة، فلمَّا أصبحوا ولم يحدُث شيء للوليد، قاموا معه فهدموها حتى الأساس، أي (أساس إبراهيم-عليه السلام-) وتوقفوا عنده.
وجمعت القبائل الحجارة وأعادوا البناء، حتى إذا بلغ البنيان موضع الركن، اختصمت القبائل واختلفت فيما بينها، كل قبيلة تريد أن تنال هذا الشرف العظيم، شرف وضع الحجر الأسود في مكانه بالكعبة، فكل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى لتنال هي هذا الشرف، وحدها دون غيرها، لقد بلغ حد الخلاف فيما بينهم على هذا الأمر أن أعدوا أنفسهم للقتال، ولقد بلغ من الأمر أن تحالف بنو عبد الدار وبنو عدى ليحوُلوُا بين أي قبيلة تحاول أن تنال هذا الشرف دونهم، وعقد الاثنان عهدا بذلك، وأحضرت بنو عبد الدار جفنة مملوءة بالدم، وأدخلوا أيديهم فيها، هم وبنو عدى توكيدا لهذا العهد الذي قطعوه بينهم، لذلك سُموا هذا العهد بعهد "لعقة الدم".
لمَّا رأى "أبو أمية ابن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم" ما وصلت إليه القبائل من شر، اقترح حلا لحقن الدماء فيما بينهم، وكان أسن قريش كلها، وله مكانته فيهم، فقال: (يا معشر قريش! اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد، يقضي بينكم فيه)، فوافقوه على هذا الاقتراح.
فلمَّا رأوا مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- هو أول من دخل عليهم من باب الصفا، قالوا: (هذا الأمين رضينا بحكمه)، فلمَّا حضر مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- قصوا قصتهم عليه -صلى الله عليه وسلم-، وانتظروا ماذا عساه أن يقول لهم في هذا الموقف المعقد، فقام مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- فأتى بثوب فنشره ووضع الحجر الأسود بيده الشريفة على هذا الثوب، ثم قال: ((ليأخذ كبير كل قبيلة بطرف من أطراف هذا الثوب))، فحملوه جميعاً حتى حاذوا موضع الركن، فأخذه مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- بيده ووضعه في موضعه، وتعجب الجميع من هذا الحل العبقري الذي حسم الخلاف بينهم، وفض الشر الذي كاد يعصف بالقبائل لو تقاتلوا بينهم على نيل هذا الشرف العظيم، كلٌ على حسب رأيه، وبعد أن وضع مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- الحجر الأسود في مكانه بالكعبة، رفعت قريش بناء الكعبة، حتى بلغ ارتفاعها ثمانية عشر ذراعاً.
كان من عادة العرب التحنُّف والتحنث، وهو الانقطاع زمناً كل عام بعيداً عن الناس في خلوة يتقربون فيها إلى آلهتهم بالدعاء والزهد وانقطاع للعبادة، ينشدون السكينة والهدوء، ويلتمسون من الآلهة الخير والحكمة، وكان مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- كثير التفكر وطويل التدبر والتأمل، وفى نفس الوقت كان قليل الإفضاء عما يجيش في صدره للآخرين، وقد وجد -صلى الله عليه وسلم- في التحنث والانقطاع للعبادة بعيداً عن الناس طمأنينة في النفس، وشفاء للصدر مما يحدث من حوله من وثنية وعبادة غير منطقية؛ فهم يعبدون تماثيل وأحجار لا تنفع ولا تضر، كان -صلى الله عليه وسلم- يتحنَّث في غار بجبل حراء شمال مكة، يتأمل هذا الكون، وينشد المعرفة والحقيقة الغائبة عن قريش.
كان مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- يذهب كل سنة إلى هذا الجبل للتحنث في شهر رمضان، وكان يحمل معه قليلاً من الزاد، مركزاً همه كله في الإمعان والتأمل والتدبر والتفكر في هذا الملكوت العجيب، وفى خالق هذا الملكوت الواسع الشاسع الذي ليس له أول ولا آخر، كما كان -صلى الله عليه وسلم- يفكر فيما يفعله الناس من حوله باحثاً عن الحقيقة الغائبة، ينظر إلى السماء بالليل، ويراقب كواكبها ونجومها، ويتساءل من الذي يسيرها بهذا النظام المحكم المبدع؟ ثم ينظر إلى السماء بالنهار فيرى شمساً حارقة بلهيبها، تدفئ الناس في الشتاء وتضئ الكون طوال النهار من حين شروقها وحتى غروبها، ثبات ونظام يبهر الأبصار، ويجعل العقول في حالة من الانبهار، ماذا لو لم تطلع هذه الشمس يوماً علينا وتواصل الليل بالنهار، وماذا لو حدث فجأة أن تغير اتجاه شروق الشمس فأشرقت من الغرب، وماذا لو جعل الله الليل سرمدا إلى يوم القيامة؟ فعاش الناس في ظلام دائم ومتواصل، كيف يَدُخل هذا الليل المظلم في هذا النهار المشرق المضئ؟ ثم كيف يَدُخل النهار في الليل في تعاقب دائم ومستمر؟.
لابد أن وراء هذا النظام المتقن الدقيق إله قادر، له مقاليد هذا الملكوت، فكيف والأمر كذلك يلجأ الناس من حوله إلى عبادة تلك التماثيل، وتلك الأصنام، يطلبون منها العون والمساعدة، وهي لا تتحرك ولا تبالي، كيف يتباركون بها قبل سفرهم، وعند عودتهم من السفر، ثم يجدون منها المصائب والكوارث بعد هذا التبارك وبعد تلك العبودية، هكذا كان يفكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في منْ حوله، فإذا انقضى شهر رمضان عاد إلى خديجة (رضي الله عنها)، وهو متغير وفي نفسه شيء ما، لا يفصح عنه، حتى كانت خديجة تسأله عن حاله؛ لتطمئن عليه أنه مازال بخير وعافية، كلمَّا عاد من حراء.
وكلمَّا استدار العام وجاء شهر رمضان ذهب مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- إلى حراء، يلتمس هناك الإجابة على ما يدور بخاطره من أسئلة، حول ما يدور من حوله من وثنية وشرك، وظل سنوات على هذا الحال حتى نضجت الأفكار، وتجلت الحقائق أمامه، وحتى أصبح يرى في نومه الرؤيا الصادقة التي كانت تتحقق كفلق الصبح، قال ابن إسحاق عن عائشة (رضي الله عنها): (أول ما بدىء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من النبوة، حين أراد الله كرامته ورحمة العباد به، الرؤيا الصادقة، لا يرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رؤيا في نومه إلا جاءت كفلق الصبح)، وقالت خديجة (رضي الله عنها): (حَبَّبَ اللهُ -سبحانه وتعالى- إليه الخَلوة، فلم يكن شيء أحب إليه من أن يخلو وحده).
وفي يوم وبينما هو نائم بالغار، إذ جاءه ملك، وفي يده صحيفة، فقال لمُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم-: ((اقرأ)). فقال مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم-: ((ما أنا بقارئ)) فقال له الملك: ((اقرأ)). قال مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم-: ((ما أنا بقارئ))، قال له الملك مرة ثالثة: ((اقرأ))، فأجاب مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- متعجباً: ((ما أقرأ؟!))، قال الملك: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَق (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق: 1-5).
تلفت مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- يميناً ويساراً فلم ير شيئاً، فأصابته رعدة وخوف، وانطلق هائماً في شعاب الجبال، فقد كان يرى من قبل الرؤية الصادقة فتتحقق كفلق الصبح، أمَّا الآن فهو أمام حدث حقيقي جلل، ولقد زاد من فزعه وروعه أنه سمع صوتاً يناديه في الأفق، فرفع رأسه، فإذا بجبريل في آفاق السماء يتقدم ويتأخر فلا تنصرف صورته من أمامه، فلمَّا اختفت صورة الملك من أمامه، رجع إلى خديجة، وهو ممتلئ بما أوحى إليه من سورة العلق، وكان قلبه في نفس الوقت يضطرب خوفاً وهلعاً، فلمَّا دخل على خديجة وهو في هذه الحالة قائلاً: ((زملوني زملوني))، قامت إليه خديجة فزملته، وهو يرتعد، كأن حمى أصابته، فلمَّا ذهب عنه الروع نظر إلى خديجة وسألها: ((مالي يا خديجة!؟))، فطمأنته، ثم أخذ يقص عليها ما حدث له في الغار، وأفضى إليها بمشاعره ومخاوفه، لقد كانت خديجة له بمنزلة ملك الرحمة، وملاذ السلام والأمان، أخذت تستمع إليه في حب وحنان، فلمَّا انتهى قالت: ((ابشر يا بن عم واثبت، فوالذي نفس خديجة بيده، إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة، ووالله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكَلَّ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق))، فلمَّا سمع مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- هذا الكلام العذب اطمأن وهدأ ونظر إلى خديجة نظرة شكر ومودة، فقد أصبح الآن يحمل رسالة من الله إلى الناس في جو معقد ملئ بالوثنية والجهل. (اُنظر شكل من مولد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى إرهاصات النبوة)
ظلت خديجة تفكر في أمر مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم-، حيث هز قلبها ما يحدث له، وأثار هواجسها ما يشعر به ويحسه، ولم تطق خديجة البقاء تفكر في هذا الأمر وحدها، فذهبت إلى ابن عمها "ورقة بن نوفل" الذي تنصر، وعرف الإنجيل وقرأ ما فيه، فلمَّا أخبرته بما سمعت من مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم-، صمت برهة ثم قال: (قدوس قدوس، والذي نفس ورقة بيده لئن كنت صَدقتِني يا خديجة، لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، وإنه لنبي هذه الأمة، فقولي له فليثْبُت)، وعادت خديجة إلى بيتها فوجدت مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- نائماً، فنظرت إليه، وحدقت فيه، وكلها إشفاق وأمل، وإذ هو كذلك إذا به يهتز جسده ويرتعش، ويثقل تنفسه ويُبَلل عرقاً حتى تصبب على جبينه، ثم يقوم من نومه فجأة على صوت جبريل يوحى إليه: "يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّر (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُر (5) وَلاَ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)( (المدثر: الآيات 1-7).
وأحسَّت خديجة، وهي بجواره، بما يحدث له من تغيُّر، وحاولت طمأنته، ودعته أن يستريح وينام في فراشه، فقال لها -صلى الله عليه وسلم-: "انقضى يا خديجة عهد النوم والرَّاحة، فقد أمرني جبريل أن أنذر الناس وأن أدعوهم إلى الله وإلى عبادته، فمَنْ ذا أدعو ومَنْ ذا يستجيب؟"، وبذلت خديجة قصارى جهدها لتهون عليه من الأمر، ثم لم تلبث أن أعلنت إسلامها، فكانت هي أول من أسلم وآمن بنبوته.
طلبت خديجة من مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- أن يبلغها بأمر الملك متى جاءه، وظل مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- على هذا الحال حتى خرج يوماً للطواف بالكعبة، فلقيه ورقة بن نوفل، فقص مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- عليه قصته، فقال ورقة: (والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى، ولتُكَذَّبن، ولَتُؤذَينَّ، ولتُخرَجَنَّ، ولتُقَاتَلنَّ، ولئن أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصراً يعلمه)، ثم قَبَّل ورقة رأس مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم-، هنالك شعر مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- بعظم ما ألقي عليه من الأمر، وأخذ يفكر كيف يدعو قومه؛ وهم أحرص ما يكونون على ما هم عليه من الضلال والشرك والوثنية.
وبدأ مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- في دعوة قومه غلاظ القلوب، عبدة الحجارة والأصنام، أخذ يدعوهم إلى عبادة الله وحده، والسمو بقلوبهم وأرواحهم لتتصل بالله الذي خلقهم، والذين من قبلهم لعلهم يتقون، أخذ ينهاهم عن الربا، وأكل مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، وترك الخمر والميسر، أخذ يهيب بهم أن ينظروا إلى آيات الله في الكون، أن ينظروا إلى ما في السماوات والأرض من آيات، فيعظموا بذلك خلق الله، ثم يعظموا خالق هذا الوجود كله الذي لا خالق سواه، لكنه كان يخاطب قلوباً قاسية، فهي كالحجارة أو أشد قسوة، لقد يبست قلوبهم، واعتادت على عبادة ما كان يعبد آباؤهم من قبل.
أيتركون دين آبائهم وأجدادهم؟، أيتركون عبادة الأصنام التي هي مصدر رزقهم وتجارتهم للحجيج (عُبَّاد الأصنام والأوثان) الذين يأتون إلى مَكَّة للتجارة والحج كل عام، كيف تتطهر تلك القلوب من أوزارها وشهواتها، وبينما هو على هذا الحال من دعوته لقومه، إذ فتر الوحي فجأة!!، وإذا بجبريل يتوقف، ولا ينزل بوحي من السماء على مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- كما كان يحدث من قبل، لقد قطع الوحي عنه حتى ظن أن ربه قد قلاه، وتملك مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- الخوف وأخذ يذهب إلى حراء، وينقطع بها فترة ابتغاء أن يهبط عليه الوحي مرة أخرى، وإنه لكذلك تساوره المخاوف، إذ جاءه جبريل بوحي من الله ليوحيه إليه مرة أخرى بعد طول فتور، ونزل بقول الله عز وجل: (وَالضُّحَى (1) وَالَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلأَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنْ الأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى(5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَأوى(6) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلاًّ فَأَغْنَى (8) فَأمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ (9) وأمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ (10) وأمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)) (الضحى: الآيات 1-11).
زال الرَّوع وزالت المخاوف عن مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- مرة أخرى بعد طول غياب، وارتسمت البسمة على ثغره وظهرت علامات السرور والرضا على وجهه الشريف -صلى الله عليه وسلم-، فلم يقلِهِ الله ولم يتركه، بل تولاه الله برحمته، فأضاء الحق بنوره روحه -صلى الله عليه وسلم- من جديد بعد أن غاب عنه الوحي وفتر، حسبه أن الله وجده يتيماً فأواه، ووجده ضالا فهداه برسالته، ووجده فقيراً فأغناه بأمانته وتجارته مع زوجته خديجة، وعلَّم الله نبيه الصلاة، فكان يصلي، وتصلي خديجة معه في بيتها.
كان عليَّ بن أبى طالب -رضي الله عنه- أيضاً يعيش مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيته من قبل البعثة، فقد كان أبوه أبو طالب، كما ذكرنا من قبل كثير العيال، فلمَّا أصابت قريش أزمة شديدة وقحط، ذهب مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- إلى عمه العباس، الذي كان أكثر بني هاشم مالاًً، فقال له مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم-: "إن أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ما ترى، فانطلق بنا لنخفف من عياله، آخذ أنا من بنيه رجلاً، وتأخذ أنت رجلاً، فنكفلهما عنه"، ووافق العباس وكفل "جعفراً"، بينما كفل مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- "علياً" وكان علىٌّ هو أول من أسلم بعد خديجة (رضي الله عنها).
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الثلاثاء 14 ديسمبر 2021, 5:52 pm عدل 1 مرات
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
موضوع: رد: مُحَمَّد (صلى الله عليه وسلم) الثلاثاء 14 ديسمبر 2021, 12:13 am
ثانياً: أوائل مَنْ أسلموا من الصحابة 1.إسلام على بن أبى طالب -رضي الله عنه- (اُنظر ملحق العشرة المبَشَرون بالجنة) هو علي بن أبى طالب بن عبد المطلب بن هشام بن عبد مناف القرشي الهاشمي ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كنيته أبو الحسن أخو رسول الله، صهر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأمه فاطمة بنت أسد، فهو أبو السبطين الحسن والحسين، زوج فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، هو أول من أسلم بعد خديجة، أسلم بعدها بيومين، وهو في العاشرة من عمره (وهو قول مجاهد)، وتقول كتب السيرة إنه رأى خديجة -رضي الله عنها- تصلي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسأل مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك وقال: (ما هذا؟)، فقال مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم-: ((هذا دين الله الذي اصطفى، وبعث به رسله، وإني أدعوك إلى الله وعبادته، وأن تكفر باللات والعزى))، قال علي -رضي الله عنه-: (هذا أمر لم أسمع به من قبل، ولست بقاض أمرا حتى أُحدِث أبا طالب)، فاستجاب له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وحذّره من إفشاء هذا السِّر، خوفاً عليه من قريش، وقال له -صلى الله عليه وسلم-: ((يا عليَّ إن لم تُسلِم فاكتم))، فمكث عليَّ -رضي الله عنه- ليلة يفكر حتى وقع الإسلام في قلبه، فذهب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الصباح وقال له: (ماذا عرضت علىَّ يا مُحَمَّد؟)، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وتكفر باللات والعزى، وتتبرَّأ من الأنداد"، فأسلم عليَّ -رضي الله عنه- على الفور، وكتم إسلامه عن الناس، وقد شهد جميع الغزوات مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما عدا غزوة تبوك، فقد استبقاه مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- على أهله في هذه الغزوة.
2.إسلام أبى بكر -رضي الله عنه- هو أبو بكر عبدالله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر، يكنى والده بأبي قُحافة، ويكنى هو بأبي بكر وبابن أبي قحافة، ويلقب بالصديق وبعتيق، فقد قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أنت عتيق من النار"، أمه هي أم الخير" سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة وهى بنت عم أبي قحافة، له ثلاثة أولاد هم: (عبدالله، وعبدالرحمن، ومُحَمَّد) وله ثلاث بنات هن: (أسماء والتي تلقب "بذات النطاقين"، عائشة، أم كلثوم".
سُمِّىَ بأبي بكر الصديق حين أسرى برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكذبه الناس، وارتد بعض من آمن به، لكن أبو بكر قال: (إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء غدوة أو روحة)، فقد أظهر إسلامه دون تردد منذ اللحظة الأولي، لذا سُمي بأبي بكر الصديق، قال عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت فيه عنده كبوة (أي تأخير في الإجابة) ونظر وتردد، إلا ما كان من أبي بكر بن أبي قحافة ماعكم عنه حين ذكرته له وما تردَّد"، ولم يكتف بتصديق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بل كان يدعو إلى الله ورسوله أيضاً.
وأسلم بدعوته كل من: أ.عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قُصي بن كِلاب. ب.الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العُزى بن قصي بن كِلاب. ج.عبدالرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد ابن الحارث بن مُرة بن كِلاب. د.سعد بن أبي وقاص بن أهيب بن عبد مناف بن زُهرة بن مُرة بن كِلاب. ه-.طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مُرة بن كعب بن لُؤَيٌ.
لقد كان أبو بكر الصديق رجلاً سهلاً، محبوباً، كان أنسب قرشي لقريش، وكان أعلم بقريش من قريش نفسها، وكان تاجراً ذا خلق، حسن المعاملة والمجالسة، يتنقل بتجارته على نطاق واسع خلال رحلتي الشتاء والصيف، بين اليمن والشام، كان صديقاً حميماً لمُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم-، لم يعهد عليه كذباً ولا زيفاً ولا انحرافاً قط.
3.إسلام عُمر بن الخطاب -رضي الله عنه- هو: عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بن نفيل القرشي العدوي، كنيته أبو حفص، أمه حنتمة بنت هاشم بن المغيرة بن نفيل، ولد بعد عام الفيل بثلاث عشرة سنة، هو من أشراف قريش وسفيرهم، فإذا وقعت حرب بين قريش وغيرها من القبائل بعثوا بعمر بن الخطاب إليهم سفيراً لهم.
كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أبيض أمهق تعلوه حمرة، طوالا أصلع أجلح، شديد حمرة العين في عارضه خفة، استخلفه أبو بكر حين مرض وأملى عثمان بن عفان وقال له في هذه الخلافة: (اكتب باسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجاً منها، وعند أول عهده بالآخرة داخلا فيها، حيث يؤمن الكافر، ويوقن الفاجر، ويصدق الكاذب، أنني استخلفت عليكم من بعدي عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فاسمعوا له وأطيعوا، وأني لم آل الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم خيراً، فإن عدل فذلك ظني به، وعلمي فيه، وإن بدل فلكل امرئ ما اكتسب، والخير أردت، ولا أعلم الغيب، وليعلم الذين ظلموا أيَّ منقلب ينقلبون، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته).
ثم ختم كتابه هذا، ونادى عثمان بن عفان في الناس وقال: (أيها الناس أتبايعون لمن في هذا الكتاب؟) قالوا: (نعم)، وقال بعضهم: (قد علمنا به) أي علموا أن من بالكتاب هو عمر بن الخطاب، فأقروا به جميعاً وبايعوه.
هو أول مَنْ أُطلِق عليه لفظ: "أمير المؤمنين"، وهو صاحب القلب النقي والعقل المتأمل، وفي الوقت نفسه كان رضوان الله عليه يتسم بالعنف، وكان -رضي الله عنه- إذا اقتنع بشيء حارب من أجله، تقول بعض كتب السيرة أنه أسلم بعد أربعين رجلاً وإحدى عشرة امرأة، وقيل هو الذي أتم المسلمين الأربعين، وقد أسلم في مَكَّة بعد الهجرة إلى الحبشة، وقبل الهجرة إلى المدينة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم أعز الإسلام بأحب العُمرَين إليك عمر بن الخطاب، وعمرو بن هشام"، وهو الذي سماه الرسول -صلى الله عليه وسلم- (الفاروق)، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه، وهو الفاروق، فرق الله به بين الحق والباطل".
قال عُمر بن الخطاب عن إسلامه: (خرجت أتعرض لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوجدته قد سبقني إلى المسجد، فتوقفت خلفه أراقبه فاستفتح بسورة "الحاقة" فتعجبت من هذا القرآن، فقلت: والله إنه لشاعر كما قالت قريش)، فقرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- :"إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ (41)) (الحاقة: الآيتان 40، 41)، فقال عمر -رضي الله عنه-: (إنه لكاهن) فقرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- :"وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاويلِ (44)لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)( (الحاقة: الآيات 42-47).
هكذا وقع الإسلام في قلبه حين سمع كلام الله، لكنه لم يسلم على الفور، فلمَّا علم أن أخته "فاطمة" وزوجها "سعيد بن زيد" قد أسلما، ذهب إليهما حتى إذا اقترب من دارهما سمع قرآناً يتلى، وكان يقرئهما خباب بن الأرت، فلمَّا أحسوا باقترابه إليهم اختفى القارئ، وأخفت فاطمة الصحيفة، فلمَّا دخل عمر على أخته قال: (لقد علمت أنكما تابعتما مُحَمَّداً على دينه)، ثم بطش بزوجها، فلمَّا قامت لتحمي زوجها ضربها ضربة على رأسها فشجها، ولمَّا سألهما عن حقيقة إسلامهما هي وزوجها، قالا: (نعم لقد أسلمنا فافعل ما تريد)، فنظر لأخته والدماء تسيل على وجهها فغلبه العطف عليها، وأمرها أن تناوله الصحيفة، فلمَّا ناولته الصحيفة وقرأ منها بعض الآيات تغير وجهه وأحس بالندم، واهتز قلبه لمَّا يقرأ من قرآن وخرج من عندها وقد لان قلبه، واطمأنت نفسه، ثم قصد مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- وكان في جمع من الصحابة بدار الأرقم بن أبي الأرقم عند الصفا، فاستأذنه عمر وأعلن إسلامه أمامهم، لقد عزز إسلام عمر المسلمين أمام قريش، فغيرت من موقفها في إيذاء المسلمين، فلم تعد تبطش بهم كما كانت تفعل من قبل. 4.إسلام عثمان بن عفان -رضي الله عنه- هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن عبد شمس بن عبد مناف، هو قرشي أموي، يكنى (أبا عبدالله)، فقد كان عبدالله ابنه من "رقية" بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والتي تزوجها في الإسلام، وأمه هي أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، أسلم عثمان قبل دخول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دار الأرقم بن أبى الأرقم، وكان يقول: (إني لرابع أربعة في الإسلام)، فقد دعاه أبو بكر إلى الإسلام فأسلم، ولقد هاجر عثمان إلى الحبشة مرتين، وهاجر إلى المدينة أيضاً – وهو الذي كتب المصحف بدعوة من "حذيفة بن اليمان"، حيث قال: (يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى)، ففزع عثمان -رضي الله عنه- وأرسل إلى "حفصة" أم المؤمنين، لترسل له جميع الصحف التي لديها كي يجمعها في كتاب واحد، ثم جمع عثمان -رضي الله عنه- "زيد بن ثابت الأنصاري، وعبدالله بن الزبير بن العوام، وسعيد بن العاص بن أمية، وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام"، ثم أمرهم بكتابة القرآن نسخاً، فإذا اختلفوا في موضع منه رجعوا إلى عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، وهكذا جُمع القرآن في عهد عثمان ليكون شاهدا له يوم القيامة. (اُنظر صورة مصحف عثمان).
5.إسلام حمزة بن عبد المطلب -رضي الله عنه- هو حمزة بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي، أمه "هالة بنت عم آمنة بنت وهب أم النبي -صلى الله عليه وسلم-، وحمزة -رضي الله عنه- هو أخو النبي -صلى الله عليه وسلم- في الرضاعة، وأكبر منه بسنتين، وفى قول آخر أربع سنوات، أسلم في السنة الثانية من البعثة، هو سيد الشهداء، استشهد في أُحُد، في شوال من السنة الثالثة من الهجرة وكان عمره سبعاً وخمسين وقيل تسعاً وخمسين وقيل أربعاً وخمسين سنة، له ولدان أكبرهما يسمى "يعلى" وكان يكنى به، والأصغر "عامر" ومات وهو صغير، وكان له بنت اسمها "أُمامة"، وكان حمزة -رضي الله عنه- فتىً قوياً شجاعاً، كان مولعاً بالصيد، ويُخشى بأسه.
مَرَّ أبو جهل بمُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- يوماً فسبَّهُ وآذاهُ، فأعرض مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- عنه وانصرف، فلمَّا عاد حمزة من الصيد ورأته مولاة لعبد الله بن جدعان استوقفته وقالت: (هّلاَّ رأيت ما حدث لابن أخيك مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- آنفا من أبي الحكم بن هشام؟، لقد وجده هنا جالساً فآذاه، وبلغه منه ما يكره، سبه في نفسه ودينه فلم يرد عليه -صلى الله عليه وسلم-، ثم انصرف عنه وذهب إلى بيته)، فلمَّا سمع حمزة ذلك ثارت الدماء في رأسه، ونفرت الدماء في عروقه حين سمع ذلك، فكيف يسيء أبو جهل إلى ابن أخيه، وهو الذي لم يسئ لأحد قط من قبل، وانطلق حمزة إلى الكعبة، فوجد أبا جهل جالساً، يضحك مع رجال من بني مخزوم، فترجل عن فرسه، وأخذ قوسه وهوى به على رأس أبي الحكم (أبي جهل) فشج رأسه شجة منكرة وقال له: (ما شأنك بمُحَمَّد؟، ولماذا تؤذيه يا أبا الحكم؟)، فلمَّا قام بعض رجال من بني مخزوم لنصرة أبي الحكم، قال لهم أبو الحكم محاولا تهدئته من ثورته منعاً للشر وخوفاً من استفحاله: (نعم لقد سببت مُحَمَّداً سباً قبيحاً)، وقال حمزة: (ماذا تعيبون على مُحَمَّد؟ وهو لا يقول منكراً، وأنا على دينه، أقول ما يقول)، وهنا تجمَّدت أوصالهم، وتوقّف الكلام في حلقهم، ولمَّا جاء الصباح ذهب حمزة إلى مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- وقال له: (يا ابن أخي إني قد وقعت في أمر لا أعرف المخرج منه، وأني قد اشتهيت يا بن أخي أن تُحدِّثَنِي، (لأنه قال أمام جمع من بني مخزوم أنا على دين مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم-)، وهو في الحقيقة لا يعلم عن الإسلام شيئاً، وأراد أن يعرف من مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- شيئاً عن هذا الدِّين، فأقبل رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- على حمزة، وذَكَّرَهُ ووعظه، وخوَّفهُ وبشَّرَهُ، فألقى اللهُ في قلبه الإيمان، وضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على كتف حمزة في حُنُوٍّ بالغ وقبَّلهُ، وسالت دموعهما حمداً وشكراً لله على نعمة الإسلام التي منَّ اللهُ بها على حمزة، فبإسلام حمزة -رضي الله عنه- أعز الله الإسلام، وعرفت قريش أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد عَزَّ، فكفت قريش بعضاً من أذاها عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- من بعد إسلام حمزة بن عبد المطلب الملقب (بأسد الله).
6.إسلام زيد بن حارثة -رضي الله عنه- هو زيد بن حارثة بن شُرحبيل بن كعب بن عبد العزى بن امرئ القيس الكلبي مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كان حكيم بن حزام بن خُويلد قد جاء برقيق من الشام وكان منهم "زيد" فدخلت عليهم عمته "خديجة بنت خويلد" فقال لها: (اختاري يا عمتي غلاماً من هؤلاء، فمن تختارين منهم فهو لك)، فاختارت زيداً من بينهم، فرآه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندها، فاستوهبه منها، فوهبته له، فأعتقه -صلى الله عليه وسلم- وتبناه قبل أن يأتيه الوحي، ثم قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن شئت فأقم عندي، وأن شئت فانطلق مع أبيك"، فقال: (بل أقيم عندك)، فلم يزل زيد بن حارثة عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى بعثه الله فصدقه وأسلم، وصلى معه.
وجدير بالذكر أن ممن أسلموا أيضاً: النجاشي ملك الحبشة فقد أسلم وصلى عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمَّا مات، فقد اجتمعت الحبشة حين رأوا النجاشي يعامل المسلمين الذين هاجروا إلى بلاده معاملة حسنة وقالوا له: (إنك قد فارقت ديننا) وخرجوا عليه، فلمَّا رأى النجاشي منهم ذلك، هيأ سفناً لجعفر وأصحابه وقال لهم: (اركبوا فيها، وكونوا كما أنتم، فإن هُزمت فامضوا حتى تلحقوا بحيث شئتم، وإن ظفرت فاثبتوا)، ثم كتب كتاباً فيه: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأن مُحَمَّداً عبده ورسوله، وأشهد أن عيسى بن مريم عبده ورسوله وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم)، ثم وضع هذا الكتاب في قبائه عند المنكب الأيمن، فلمَّا صفوا له قال لهم: (يا معشر الحبشة، ألست أحق الناس بكم؟)، قالوا: (نعم)، قال: (فكيف رأيتم سيرتي؟)، قالوا: (خير سيرة)، قال: (فما بالكم؟) قالوا: (فارقت ديننا، وزعمت أن عيسى عبدالله)، قال: (فما تقولون أنتم في عيسى؟)، قالوا نقول: (هو ابن الله)، فقال النجاشي، وقد وضع يده على صدره على قبائه: (أشهد بأنه عيسى بن مريم)، ولم يزد على ذلك شيئاً، فانصرفوا جميعاً، وبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلمَّا مات النجاشي صلى عليه مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم-، واستغفر له.
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الثلاثاء 14 ديسمبر 2021, 5:54 pm عدل 1 مرات
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
موضوع: رد: مُحَمَّد (صلى الله عليه وسلم) الثلاثاء 14 ديسمبر 2021, 12:17 am
ثالثاً: إيذاء قريش للمسلمين بدأت دعوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سراً حتى أمره الله بإظهار دينه بعد ما يقرب من ثلاث سنوات، وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- والذين معه يذهبون إلى الصلاة في الشعاب مستخفين من قومهم، وبينما كان "سعد بن أبي وقاص" يصلي مع نفر من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الشعاب بمكة، إذ تعرض لهم نفر من المشركين عابوهم وقاتلوهم وهم يصلون، فضرب "سعد بن أبي وقاص" رجلاً منهم فشجه، وكان ذلك أول دم هُريق في الإسلام.
لمَّا بدأ الإسلام يفشو في بيوت الناس من الرجال والنساء، ولمَّا أخذوا يتحدثون به في كل مكان، وبدأ الرسول يعيب آلهتهم، ازدادت عداوتهم له وللصحابة، غير أن عمه أبا طالب كان يدافع عنه ويحميه، فذهب إليه أشراف من قريش وهم: "عتبة وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، وأبى سفيان بن حرب بن أمية (صخر)، والعاص بن هشام بن الحارث بن أسد بن عبد العزى (أبو البختري)، والأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العُزى، وأبو جهل بن هشام بن المغيرة (أبو الحكم)، والوليد بن المغيرة، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج بن عامر بن حذيفة، والعاص بن وائل" فقالوا: (يا أبا طالب)، إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا، وسفه أحلامنا، وضلل آبناءنا، فأمَّا أن تكفه عنَّا، وأمَّا أن تُخلي بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافة، فسنكفيكه، فقال لهم أبو طالب قولا رفيقاً، وردهم ردا جميلاً.
لم يتوقف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوما واحداً عن الجهر بدعوته حتى استشرى الأمر بينهم، وأكثرت قريش ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حتى حرض بعضهم بعضاً على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعاد وفد من قريش مرة أخرى إلى أبي طالب فقالوا: (يا أبا طالب، إن لك فينا سناً وشرفاً ومنزلة، وإنا قد استنهيناك ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب ألهتنا حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين)، ثم انصرفوا عنه، فعز عليه فراق قومه له، ولكنه لم يطب نفساً بتسليم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لهم ولا خذلانه، فبعث إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال له: (يا بن أخي، إن قومك قد جاءوني فقالوا لي كذا وكذا، فابق علىَّ وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر مالا أطيق)، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- له: "يا عمّ، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر، ما تركته، حتى يظهره الله أو أهلك دونه"، فبكى أبو طالب وقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلمَّا ولى عنه، ناداه أبو طالب وقال: (أقبل يا بن أخي)، فأقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال أبو طالب: (أذهب يا بن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبداً).
كان لهذه النصرة تأثيرها على قريش، لمَّا علمت قريش بنصرة أبى طالب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأنه لن يخذله ولن يسلمه إليهم أبداً، عرضوا عليه "عمارة بن الوليد بن المغيرة" على أن يسلمهم بدلاً منه مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- فقال لهم أبو طالب: (والله لبئس ما تسومونني، أتعطوني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابنى تقتلونه؟! هذا والله مالا يكون أبداً، والله ما أنصفتموني، ولكنكم قد أجمعتم على خذلاني، ومظاهرة القوم علىّ، فاصنعوا ما بدا لكم)، أو كما قال.
بدأت قريش تظهر عداوتها للمسلمين، فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين، يفتنونهم، ويعذبونهم، وتصدى لهم عمه أبو طالب، حين رأى ما تصنعه قريش في بني هاشم وبني المطلب، فدعاهم أن يمتنعوا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وشدد عليهم فأجابوه إلى ما دعاهم إليه، إلا أن أبا لهب الملعون لم يستجيب لمَّا دعاه إليه أبو طالب، واجتمع نفر من قريش بالوليد بن المغيرة وكان أسنهم فقال لهم: (يا معشر قريش، ستقدم عليكم وفود العرب في هذا الموسم، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأياً واحداً، ولا تختلفوا فيكذب بعضُكم بعضاً)، فقالوا: (أقم لنا رأياً نقول به)، قال: (بل أنتم)، قالوا: (نقول كاهن)، قال: (لا والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكُهَّان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه)، قالوا: (نقول مجنون)، قال: (ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته)، قالوا: (نقول شاعر)، قال: (ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر)، قالوا: (نقول ساحر)، قال: (ما هو بساحر، لقد رأينا السُحّاَر وسحرهم، فما هو بنفثهم ولا عقدهم)، قالوا: (فماذا نقول؟)، قال: (والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعذق، وإن فرعه لجناة، وما انتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل، وأقرب القول أن تقولوا جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء وعشيرته)، فجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم يحذرونهم منه -صلى الله عليه وسلم-، فأنزل الله تعالى في الوليد بن المغيرة هذه الآيات مخاطباً مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم-: "ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُودًا(12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا (16)) (المدثر: الآيات 11-16).
بلغ تعذيب المسلمين مداه على يد قريش، حتى لقد ألقى أمية بن خلف بلالاً العبد الحبشي على الرمل تحت الشمس المحرقة، ووضع حجراً على صدره، وتركه حتى يلاقي الموت، لا لشيء سوى أنه أصر على الإسلام، وكان بلال يتحمل هذا الأذى وهو يقول ويكرر: (أحدُ أحدُ)، فلمَّا رآه أبو بكر اشتراه واعتقه، واشترى أيضا كثيراً ممن كانوا يعَذَّبُون، وكان من بين هؤلاء جارية لعمر بن الخطاب اشتراها منه قبل الإسلام، كما عُذبت امرأة حتى الموت لأنها تمسكت بالإسلام، ولم ترض الرجوع إلى دين آبائها، وكان القرشيون يضربون المسلمين يسومونهم أشد أنواع العذاب والمهانة.
لم يسلم مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- من الأذى برغم منعة بني هاشم وعبد المطلب له، كانت "أم جميل" زوج أبي لهب تلقي النجس أمام بيته، وكان أبو جهل يلقي رحم الشاة المذبوحة عليه -صلى الله عليه وسلم- وهو يصلي، هذا بخلاف السب والقول الفاحش، وقد أنزل الله هذه الآيات للتسرية عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- في قوله تعالى: "قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِى الْمُرْسَلِينَ (34)) (الأنعام: الآيتان 33، 34).
تعاقدت قريش على حصار مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وسجّل هذا التعاقد في صحيفة علقت في جوف الكعبة، وظلوا يحاصرون المسلمين ثلاث سنوات متتابعة، احتمى مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- وأهله وأصحابه خلال هذه السنوات في شِعاب الجبال بمكة، وظلوا يعانون ألوان الحرمان، سواء من قلة الطعام والشراب، أو من عدم رؤية الأهل والأصحاب، أو من السعي للتجارة أو غير ذلك من ضروريات العيش، فلم يكن يسمح لهم بالاختلاط بالناس إلا في الأشهر الحرم فقط، حين يفد الناس من كل مكان إلى مَكَّة للحجيج في كل عام، ففي الأشهر الحرم لا مكان للتعذيب ولا للاعتداء ولا للانتقام، وخلال ذلك كان مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- يدعو الناس إلى الله، وترك عبادة الأوثان، غير أن طول فترة الحصار والتعذيب وما أصاب المسلمين من عنت قريش، جعل بعض القلوب القاسية تلين وتعطف على المسلمين، فكانوا يحملون إليهم الطعام والشراب في الشعاب، وكان أبرز الناس عطفاً على المسلمين "هشام بن عمرو"، فقد كان يأتي بالبعير محملاً بالطعام ويسير به في جوف الليل ليوصل الطعام إلى المسلمين هناك في الشعاب، ولمَّا ضاق هشام بما يعانيه مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه ذهب إلى "الزهير بن أبى أمية" وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب، فقال له: (يا زهير، أقد رضيت أن تأكل الطعام وتلبث الثياب وتنكح النساء، وأخوالك حيث قد علمت لا يبتاعون ولا يُبتاع منهم، ولا ينكحون ولا يُنكح إليهم؟! أمَّا إني أحلف بالله أن لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام، ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه أبداً)، وتعاهدا على نقض الصحيفة في ذلك اليوم، وانضم إليهم" المطعم بن عَدِى، وأبو البَختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، هؤلاء الخمسة تعاهدوا على نقض الصحيفة التي تنص على حصار المسلمين وتجويعهم.
وطاف الزهير بالبيت ثم نادى في الناس وقال: (يا أهل مَكَّة أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى؟ لايبتاعون ولا يبتاع منهم!، والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة الظالمة)، فلمَّا سمعه أبو جهل قال: (كذبت والله لاتُشقَّ)، وصاح "المطعم، وأبو البختري، وزمعة، وهشام" يكذبون أبا جهل، ويؤيدون زهيراً، وأدرك أبو جهل أن الأمر قد خرج عنه، وأن الأمر قد دبر ليلاً، فتراجع وأوجس خيفة منهم، ثم قام" المطعم" لشق الصحيفة، فوجدها قد هلكت إلا فاتحتها "باسمك اللهم"، وبذلك بطلت الصحيفة، واستطاع مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه العودة إلى مَكَّة مرة أخرى، يبتاعون من قريش، وتبتاع قريش منهم، برغم تحفز كل فريق إلى الآخر.
رابعاً: هجرة بعض المسلمين إلى الحبشة كانت الهجرة إلى الحبشة هي أول هجرة للمسلمين في الإسلام، وذلك لمَّا زاد أذى قريش على المسلمين من تعذيب، وقتل، وتمثيل، فقد رأى مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- أن يتفرق المسلمون في الأرض، خشية عليهم من شدة الأذى الذي يلاقونه في مكة، ونصحهم أن يذهبوا إلى الحبشة، لأن فيها ملكاً لا يظلم أحداً، والحبشة أرض صدق، وقال لهم -صلى الله عليه وسلم-: "اذهبوا إلى هناك حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه".
فخرج فريق من المسلمين في هجرتين: 1.الهجرة الأولي: هاجر فيها أحد عشر رجلاً وأربع نساء، ظلوا هناك حتى علموا أن المسلمين في مَكَّة قد أصبحوا في مأمن فعادوا إليها. 2.الهجرة الثانية: حين رأى المسلمون أن عنت قريش وأذاهم أصبح أكبر من ذي قبل، فعادوا مرة أخرى إلى الحبشة، لكنهم كانوا في هذه المرة أكثر عددا من الهجرة الأولي، فقد هاجر ثمانون رجلاً مع نسائهم وأطفالهم، وظلوا فيها حتى بعد هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصحابته إلى يثرب.
وقصة هاتين الهجرتين تبدأ حين هاجر بعض المسلمين إلى الحبشة بإذن الرسول -صلى الله عليه وسلم- فلم يسترح أهل مَكَّة لهذه الهجرة، فبعثوا برجلين إلى النجاشي ملك الحبشة، وهما "عمرو بن العاص، وعبدالله بن أبي ربيعة"، وأخذوا معهم الهدايا النفيسة ليحاولوا بها إقناع النجاشي برد المسلمين المهاجرين معهم إلى مكة، وقالوا: (أيها الملك إنه قد ضوى (أي أتى) إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت، ولقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم، من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه)، فلمَّا سمع النجاشي هذا القول أبى أن يردهم إليهم، قبل أن يسمع من المهاجرين ما يقولون في هذا الأمر.
لمَّا حضر المسلمون المهاجرون إلى النجاشي سألهم: (ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا به في ديني، ولا دين أحد من هذه الملل؟)، فرد جعفر بن أبى طالب -رضي الله عنه- وقال: (أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونُسِيءَ الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وإباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، وعدَّد عليه أمور الإسلام - فصدقناه واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده لا نشرك به شيئاً، وحرمنا ما حُرم علينا، وأحللنا ما أحل الله لنا، فعدا علينا قومنا، وعذبونا، وفتنونا عن ديننا؛ ليردونا إلى عبدة الأوثان، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلمَّا قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك)، فلمَّا سمع النجاشي هذا القول قال: (وهل معك مما جاء به عن الله من شيء تقرؤه علي)، قال جعفر: (نعم!) وتلا عليه سورة مريم من أولها إلى قوله تعالى: "فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ ءاَتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا(33)) (مريم: من الآية 29- 33).
لقد أيد البطارقة قول جعفر وقالوا: (إن هذا الكلام يصدر من نبع واحد، هو الذي أتى به سيدنا يسوع المسيح، وقال النجاشي: (إن الذي سمعته والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة)، ورفض تسليم المسلمين المهاجرين إلى ابن العاص، وأراد ابن العاص إثناء النجاشي عن هذا القرار، فأشار إلى النجاشي بأن يسألهم عما يقول الإسلام في عيسى -عليه السلام-، فلمَّا أجاب جعفر ابن أبى طالب، وأخبره عما يقوله الإسلام في عيسى -عليه السلام- سُرَّ سرورا كبيراً من ذلك، ورسم خطاً وقال: (ليس بين دينكم وديننا أكثر من هذا الخط)، وهكذا عاد "عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة" إلى مَكَّة خالِيين الوفاض دون المهاجرين الذين ظلوا في حماية النجاشي ملك الحبشة، إلى أن سمعوا أن الأمور قد هدأت في مَكَّة فرجعوا إليها، فلمَّا وجدوا أن قريش قد عادت لعداوتهم وإلحاق الأذى بهم، عادوا مرة أخرى إلى الحبشة، في ثمانين رجلاً غير نسائهم وأولادهم.
خامساً: موت خديجة وأبي طالب لم تمض شهور على نقض الصحيفة التي بسببها حوصر المسلمون ثلاث سنوات في شعاب مكة، حتى حدثت فاجعتان لمُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- الأولى: موت عمه أبي طالب، حيث مات، والأمر بين مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- وقريش أشد مما كان عليه من قبل، وهو الذي كان الحِمى والملاذ لمُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- عند خصومة أعدائه، والثانية: موت خديجة (رضي الله عنها) التي كانت ملك الرحمة، وسنداً له في المحن والشدائد، طاهرة القلب قوية الإيمان، كانت تهون عليه كل شدة، وتزيل من نفسه الخشية والغمة، ولقد تركت تلكما الفاجعتان أثراً بليغاً في نفس مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- بعد أن فقد هذين النصيرين، وأصبح -صلى الله عليه وسلم- في أسى وحزن على فراقهما حتى كان يقول -صلى الله عليه وسلم-: "والله ما نالت مني قريش شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب".
إن هاتان الفاجعتان اللتان أصابتا مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- جعلتاه عرضه للسفهاء من قريش، فكانوا يلقون التراب على رأسه، وكانت ابنته فاطمة تزيل عنه التراب كلمَّا ألقوه عليه، وهى تبكي، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتأثر ببكائها فيخفف عنها ويقول: "لا تبكي يا بنية، فإن الله مانعٌ أباك"، فلمَّا زاد أذى قريش لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج إلى الطائف وحيداً يلتمس من ثقيف النصرة والمنعة، وفى الوقت نفسه كان يرجو إسلامهم، لكنه لم يجد ما كان يرجو منهم، ولقي منهم ما لم يكن يحتسبه، لقد أبوا أن ينصروه، وسلطوا عليه سفهاءهم يسبونه ويؤذونه، فلمَّا أيس منهم رجاهم ألا يذكروا لأحد لجوءه إليهم، واستنصاره بهم؛ كي لا يشمت به الأعداء؛ لكنهم أبوا عليه.
لقد توقع -صلى الله عليه وسلم- منهم الخير!!!، فلاقوه بالشر، وبالإهانة والاستخفاف، فلمَّا وجد منهم ما يكره، لجأ إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة، احتمى به هناك حتى يرجع عنه السفهاء، واستظل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بظل شجرة، ورفع يده إلى السماء يتضرع إلى الله ويشكو همه إليه ويقول: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني! إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب علىّ فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تُنزل بي غضبك، أو تحل علىّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك".
تحركت عاطفة ابني ربيعة فأرسلوا إلى مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- غلاماً نصرانياً يسمى "عداساً" ومعه قطف من عنب ليعطيه إياه، فلمَّا قال مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم-: "بسم الله" قبل أن يأكل قال عداس: (هذا ليس بكلام أهل هذه البلاد!)، فسأله مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- عن بلده ودينه فقال: (أنا نصراني من "نينوى")، قال -صلى الله عليه وسلم-: "أمِن قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟" قال: (نعم، وما يدريك ما يونس بن متى؟)، قال مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم-: "ذاك أخي كان نبياً وأنا نبي"، فأخذ عداس يقبل رأس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويقبل يديه وقدميه، ولمَّا شاهد ابنا ربيعة ذلك تعجبا مما رأياه، ومع ذلك فقد أخذا يحذران عداس من مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- ويقولان: (لا يصرفنك هذا الرجل عن دينك فهو خير من دينه). لم يثن مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- إيذاء قريش له، ولا خروجه إلى الطائف، فأخذ يعرض نفسه على القبائل في المواسم، ويذهب إلى القبائل في منازلهم، يخبرهم بأنه نبي مرسل من عند الله، ويدعوهم إلى دين الله، وكان عمه أبو لهب وهو "عبد العُزى بن عبد المطلب" يراقبه، ويحرض الناس عليه ليكذبوه، وكانت القبائل تصر على عنادها وعتوها، مما زاد من عزلة مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم-، وزادت قريش من أذاها لأصحابه أيضاً، وفكر مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- في الزواج لعله يجد ما يضمد جراحه، كما كانت تضمده خديجة من قبل، فذهب إلى أبي بكر فخطب ابنته "عائشة" (اُنظر ملحق زوجات الرسول -صلى الله عليه وسلم-) فعقد عليها وهى في السابعة من عمرها، وتزوجها بعد ذلك وهى في التاسعة من عمرها. (اُنظر شكل نسب الرسول -صلى الله عليه وسلم-)
سادساً: رحلة الإسراء والمعراج قالت "هند" وهى "أم هانئ بنت أبى طالب" رضى الله عنها عن رحلة الإسراء: (أسري برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في بيتها، ونام عندها بعد أن صلى العشاء)، وقبيل الفجر أيقظوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من نومه، فلمَّا صلى الصبح قال: ((يا أم هانئ، لقد صليت معكم العشاء الآخرة كما رأيت بهذا الوادي، ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه، ثم صليت صلاة الغداة معكم الآن كما ترين))، فلمَّا قام ليخرج أخذت بطرف ردائه وقالت: (يا نبي الله، لا تحدث بهذا الناس فيكذبوك ويؤذوك)، قال -صلى الله عليه وسلم-: ((والله لأحدثنهموه))، فقالت لجارية حبشية لها: (اتبعي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى تسمعي ما يقول للناس، وما يقولون له).
فلمَّا خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأخبر الناس، عجبوا وقالوا: (ما آية ذلك يا مُحَمَّد فإنا لم نسمع بمثل هذا قط، قال -صلى الله عليه وسلم-: ((آية ذلك أنى مررت بعير بني فلان بوادي كذا وكذا، فأنفرهم حسّ الدابة، فندّ لهم بعير، فدللتهم عليه وأنا متوجه إلى الشام، ثم أقبلت حتى إذا كنت بضنجان وهو (جبل يبعد عن مَكَّة حوالي 40 كم)، مررت بعير بني فلان فوجدت القوم نياماً ولهم إناء فيه ماء قد غطوا عليه بشيء، فكشفت غطاءه وشربت ما فيه ثم غطيت عليه كما كان، وآية ذلك أن عيرهم الآن يصوب أي (ينزل) من البيضاء: ثنية التنعيم يقدمها جمل أورق عليه غرارتان: إحداهما سوداء والأخرى برقاء))، ثم قالت هند: (بادر القوم إلى الثنية فلم يلقهم أول من الجمل كما وصف لهم، وسألوهم عن الإناء، فأخبروهم أنهم وضعوه مملوءاً ماءً ثم غطوه، وأنهم هبوا فوجدوه مغطى كما غطوه ولم يجدوا فيه ماء)، وسألوا الآخرين وهم بمكة فقالوا: (صدق والله، لقد أنفرنا في الوادي الذي ذكر، وندّ لنا بعير فسمعنا صوت رجل يدعونا إليه حتى أخذناه).
قال ابن إسحاق في رحلة المعراج، عن أبي سعيد الخُدْريّ، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((لمَّا فرغت مما كان في بيت المقدس، أُتي بالمعراج، ولم أر شيئاً قط أحسن منه، وهو الذي يمد إليه ميتكم عينيه إذا حضر، فأصعدني صاحبي فيه حتى انتهى بي إلى باب من أبواب السماء، يقال له باب الحفظة، عليه ملك من الملائكة يقال له إسماعيل، تحت يديه اثنا عشر ألف ملك، تحت يدي كل ملك منهم اثنا عشر ألف ملك))، قال: يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين حدّث بهذا الحديث: ((وما يعلم جنود ربك إلا هو))، فلمَّا دخل بي قال: (من هذا يا جبريل؟) قال: (مُحَمَّد)، قال: (أو قد بُعث؟) قال: (نعم)، قال: (فدعا لي بخير)).
وقال ابن إسحاق حدثني بعض أهل العلم، عمن حدثه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((تلقتني الملائكة حين دخلت السماء الدنيا، فلم يلقني ملك إلا ضاحكاً مستبشراً، يقول خيراً ويدعو به، حتى لقيني ملك من الملائكة فقال مثل ما قالوا، ودعا بمثل ما دعوا به إلا انه لم يضحك، ولم أر مثل ما رأيت من غيره، فقلت لجبريل: يا جبريل من هذا الملك الذي قال لي كما قالت الملائكة ولم يضحك، ولم أر منه من البشر مثل الذي رأيت من غيره؟ قال: فقال لي جبريل: أمَّا إنه لو ضحك إلى أحد كان قبلك أو كان ضاحكاً إلى أحد بعدك، لضحك إليك ولكنه لا يضحك، هذا مالك صاحب النار، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فقلت لجبريل وهو من الله تعالى بالمكان الذي وصف لكم (مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) (التَّكوير: 21) ألا تأمره أن يريني النار؟ فقال بلى، يا مالك، أر مُحَمَّداً النار. قال: فكشف عنها غطاءها، فقال ففارت وارتفعت، حتى ظننت لتأخذن ما أرى. قال: فقلت لجبريل: يا جبريل، مره فليردها إلى مكانها. قال: فأمره فقال لها: اخبي، فرجعت إلى مكانها الذي خرجت منه، فما شبهت رجوعها إلا وقوع الظل، حتى إذا دخلت من حيث خرجت ردّ عليها غطاءها)).
وقال أبو سعيد الخُدْريّ: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لمَّا دخلت السماء الدنيا رأيت بها رجلاً جالساً تُعرض عليه أرواح بني آدم، فيقول لبعضها إذا عُرضت عليه خيراً ويُسَرّ به، ويقول: روح طيبة خرجت من جسد طيب، ويقول لبعضها إذا عُرضت عليه: أُفّ، ويعبس بوجهه ويقول: روح خبيثة خرجت من جسد خبيث.
قال: قلت من هذا يا جبريل؟ قال هذا أبوك آدم، تُعرض عليه أرواح ذريته، فإذا مرت به روح المؤمن منهم سُر بها وقال: روح طيبة خرجت من جسد طيب، وإذا مرت به روح الكافر منهم أنِف منها وكرهها، وساءه ذلك، وقال: روح خبيثة خرجت من جسد خبيث.
قال: ثم رأيت رجالاً لهم مشا فر كمشا فر الإبل، في يديهم قطع من نار كالأفهار يقذفونها في أفواههم، فتخرج من أدبارهم.
فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة أموال اليتامى ظلماً.
قال: ثم رأيت رجالاً لهم بطون لم أر مثلها قط بسبيل آل فرعون يمرون عليهم كالإبل المهيومة (أي العطاش) حين يعرضون على النار، يطؤونهم لا يقدرون على أن يتحولوا من مكانهم ذلك.قال: قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة الربا.
قال ثم رأيت رجالاً بين أيديهم لحم ثمين طيب، إلى جنبه لحم غث مُنتِن، يأكلون من الغث المنتن ويتركون السمين الطيب، قال: قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يتركون ما أحل الله لهم من النساء، ويذهبون إلى ما حرم الله عليهم منهن.قال: ثم رأيت نساء معلقات بثديهنّ، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء اللاتي أدخلن على الرجال من ليس من أولادهم)).
قال -صلى الله عليه وسلم-: ((ثم أصعدني إلى السماء الثانية، فإذا بها ابنا الخالة: عيسى بن مريم، ويحي بن زكريا، قال: ثم أصعدني إلى السماء الثالثة، فإذا فيها رجل صورته كصورة القمر ليلة البدر، قال: قلت: من هذا يا جبريل؟ قال: هذا أخوك يوسف بن يعقوب.
قال: ثم أصعدني إلى السماء الرابعة، فإذا فيها رجل فسألته: من هو؟ قال: هذا إدريس، قال: يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورفعناه مكاناً علياً، قال: ثم أصعدني إلى السماء الخامسة فإذا فيها كهل أبيض الرأس واللحية، عظيم العثنون (أي اللحية) لم أر كهلاً أجمل منه، قال: قلت: من هذا يا جبريل؟ قال: هذا المحبب في قومه هارون بن عمران.
قال: ثم أصعدني إلى السماء السادسة، فإذا فيها رجل آدم (أي أسود) طويل اقني (أي مرتفع قصبة الأنف) كأنه من رجال شَنُوءة؛ فقلت له: من هذا يا جبريل؟ قال هذا أخوك موسى بن عمران، ثم أصعدني إلى السماء السابعة، فإذا فيها كهل جالس على كرسى إلى باب البيت المعمور، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يرجعون فيه إلى يوم القيامة، لم أر رجلاً أشبه بصاحبكم، ولا صاحبكم أشبه به منه؛ قال: قلت: من هذا يا جبريل؟ قال هذا أبوك إبراهيم.
قال: ثم دخل بي الجنة فرأيت فيها جارية لعساء (أي لها حُمرة في شفتيها تضرب إلى السواد) فسألتها: لمن أنت؟ وقد أعجبتني حين رأيتها؛ فقالت لزيد بن حارثة، فبشر بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زيد بن حارثة)).
والإجماع على أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسرى به بالروح والجسد معاً وليس بالروح وحدها.
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الثلاثاء 14 ديسمبر 2021, 5:55 pm عدل 1 مرات
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
موضوع: رد: مُحَمَّد (صلى الله عليه وسلم) الثلاثاء 14 ديسمبر 2021, 12:22 am
المبحث الرابع
الهجرة إلى المدينة وبناء الدولة الإسلامية أولاً: بيعتا العقبة الأولي والثانية خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعرض نفسه على القبائل في الموسم، فلقيه رهط من الخزرج عند العقبة، قال ابن إسحاق هؤلاء الرهط هم: "تيم الله" من بني النجار، و"أسعد بن زُرارة، وعوف بن الحارث" من بني مالك، و"رافع بن مالك بن العجلان" من بني زُريق، و"قطبة بن عامر بن حَديدة" من بني سلمة، و"عُقبة بن عامر بن نابي بن زيد" من بني حرام، و"جابر بن عبدالله بن رئاب بن النعمان" من بني عبيد.
فلمَّا عادوا إلى المدينة ذكروا لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودعوا قومهم إلى الإسلام، فلم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
1.بيعة العقبة الأولي حين جاء العام التالي لقي اثنا عشر رجلاً من الأنصار مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- في العقبة، فبايعوه قبل أن تفترض عليهم الحرب، وكان منهم رهط من الخزرج من الذين لقوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في العام السابق عند العقبة، وكلهم بايعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعن عُبادة بن الصامت أحد الذين بايعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في العقبة الأولي، قال: (بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ما نصت عليه البيعة: أن لا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف، فإن وفينا فلنا الجنة، وإن غشينا من ذلك شيئاً فأمرنا إلى الله عز وجل، إن شاء عذبنا وإن شاء غفر لنا).
ولمَّا انصرفوا إلى المدينة أرسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معهم "مصعب بن عمير" وأمره أن يقرئهم القرآن، وأن يعلمهم الإسلام، وأن يفقههم في الدين، فكانوا يسمون مصعب بن عمير مقرئ المدينة، وكان يصلي بهم في المدينة دون أحد من الأوس أو الخزرج، لأن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤم أحدهم الأخر، وازداد الإسلام بعد هذه البيعة بيثرب، وكان مصعب بن عمير مسرورا لازدياد الأنصار فى المدينة، وظهور كلمة الحق ودين الله هناك، فلمَّا جاءت الأشهر الحرم عاد مصعب إلى مكة، وقص على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خبر المسلمين بالمدينة، وما أصبحوا عليه من قوة، كما أخبره أنهم سيأتون إلى مَكَّة هذا العام في موسم الحج، وهم أكثر عدداً وأعظم إيماناً.
لمَّا سمع مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- تلك الأخبار عن المسلمين في المدينة، ورأى أن أتباعه بالمدينة يزداد عددهم يوماً بعد يوم، وأن يثرب أكثر رخاء من مكة، بينما المسلمون في مَكَّة يلاقون الأذى والفتنة من قريش، وأنه لا يستطيع مواجهة هذا الأذى؛ إذ المسلمون هم الطرف الأضعف في هذه المعادلة في ذلك الوقت، لذا فكر مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- في الهجرة إلى المدينة حلاً لتلك المعادلة، وكيف لا ؟، وقد هاجر المسلمون من قبل إلى الحبشة، حين اشتد الأذى عليهم من قريش، فأولى بالمسلمين أن يهاجروا إلى يثرب ليلتقوا بأصحابهم من المسلمين هناك، ويتآزروا معاً لنجاح الدعوة، بعيداً عن هذا الشر الذي يلاقونه كل يوم في مكة، لكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قرر ألا يأمر المسلمين بالهجرة إلا في الوقت المناسب.
2.بيعة العقبة الثانية(الكبرى) بعد عودة "مصعب بن عمير" إلى مَكَّة في هذا العام 622م قادماً من المدينة، أتى خلفه من يثرب كثيرون إلى مَكَّة للحج، وكان بينهم ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان؛ وفكر مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- في بيعة ثانية، لا تقف عند الدعوة إلى الإسلام دون الدفاع عن أنفسهم، متحملين الأذى من قريش ثلاث عشرة سنة متتالية، كان المسلمون خلالها يحتملون أشد صنوف العذاب في صبر وتضحية، وأراد مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- أن تكون البيعة هذه المرة على أساس القوة ودفع الأذى بالأذى ورد العدوان بالعدوان، وفى البداية قرر مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- مواعدة أهل البيعة سراً عند العقبة، ليلتقوا في جوف الليل في أوسط أيام التشريق، فلمَّا مضى ثلث الليل خرجوا متسللين إلى العقبة، مستخفين من الناس، حتى لا ينكشف سرهم، وجاء مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- ومعه عمه "العباس" الذي كان مازال على دين قومه، لكنه أتى للدفاع عن مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم-.
كان العباس هو أول من تكلم في هذا الجمع من المسلمين، فقال: (يا معشر الخزرج! إن مُحَمَّداً منا حيث قد علمتم وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، وهو في عز من قومه، ومنعة في بلده، وقد أبى إلا الانحياز إليكم، واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له فيما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم مسلميه وخاذليه بعد خروجه إليكم فمن الآن فدعوه).
قالوا: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت، فقال مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم-: ((أبايعكم على أن تمنعونى مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم))، ومد "البَرَاءُ بن معرور" يده إلى رسول الله وقال: (بايعناك يا رسول الله! فنحن والله أبناء الحروب، وأهل الحلقة ورِثناها كابراً عن كابر)، وكان "البراء" سيد قومه وكبيرهم، أسلم بعد العقبة الأولي، لكنه كان يتخذ الكعبة قبلة له، واختلف مع قومه لاتخاذهم المسجد الأقصى قبلة لهم في صلواتهم، فلمَّا احتكموا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- رده عن الصلاة في اتجاه الكعبة، لذا مد يده لمبايعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ليؤكد له السمع والطاعة، غير أن "أبا الهيثم بن التيهان" اعترض "البراء" قائلا: (يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال ( يعنى اليهود) حبالاً (أي عهوداً) نحن قاطعوها، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟! فتبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: ((بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنتم مني وأنا منكم، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم)).
واعترض" العباس بن عبادة" قائلا: (يا معشر الخزرج! أتعلمون عَلام تبايعون هذا الرجل؟ إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا نُهِكت أموالكم مُصيبة وأشرافكم قتلاً أسلمتموه فمن الآن فدعوه، فهو والله إن فعلتم خِزْيُ الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال، وقتل الأشراف فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة)، فرد القوم: (إنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، فما لنا يا رسول الله إن نحن وفينا بذلك؟)، فرد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائلاً: ((الجنة))، فلمَّا بايعوه قال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أخرجوا لي منكم أثني عشر نقيباً يكونون على قومهم بما فيهم كفلاء))، فاختار القوم تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للنقباء: ((أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء، ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم، وأنا كفيل على قومي))، وقال أهل البيعة الثانية لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (بايعنا على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا ومنشطنا ومكرهنا، وأن نقول الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومه لائم).
علمت قريش من أحد القرشيين الذين تجسسوا على مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- ومن معه في تلك الليلة أن أصحاب البيعة الثانية بيتوا لحرب قريش، ولمَّا عرف مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- والذين بايعوه بتلك الوشاية أوثق الأوس والخزرج عهدهم مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقال "العباس بن عبادة" لمُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم-: (والله الذي بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل مِنى غداً بأسيافنا)، فقال مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم-: ((لم نؤمر بذلك ولكن ارجعوا إلى رحالكم))، فرجعوا إلى رحالهم.
ذهبت قريش إلى منازل الخزرج يعاتبونهم على هذه البيعة فالتزم المبايعون الصمت، وأيدهم في ذلك المشركون من الخزرج الذين حلفوا بالله ما كان من هذا شيء (أي البيعة)، وصدَّقت قريش شركاءها من مشركي الخزرج، وعادت لا تؤكد خبر المبايعة ولا تنفيه، وحمل أهل يثرب رحالهم ومضوا قاصدين المدينة، ولمَّا تأكدت قريش بعد ذلك من أن خبر البيعة صحيح، حاولت اللحاق بهم، لكنها لم تستطع اللحاق بهم إلا واحداً منهم، هو "سعد بن عبادة" فأخذوه إلى مَكَّة وعذبوه، حتى أجاره كل من: "جُبير بن مُطعم بن عدي"، و"الحارث بن أمية" فقد كان "سعد بن عبادة" من قبل يجير لهم من يخرجون في التجارة إلى الشام حين يمرون عليه بيثرب.
ثانياً: الهجرة إلى المدينة وبناء الدولة الإسلامية 1.إن تاريخ الهجرة من أهم الأحداث عند المسلمين، ففي هذا التاريخ تحول الإسلام من الضعف إلى القوة، ومن الدفاع إلى الهجوم، إن المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يحسبون ويسجلون تاريخهم معتمدين هذا التاريخ الذي يسمى عند المسلمين بالتاريخ الهجري، كما أن المسلمين يَحسِبون السنين بناء على تاريخ أول هجرة للمسلمين إلى المدينة بعد بيعتَي العقبة الأولي والثانية، فحساب السنين عند المسلمين مقاس بالسنة الهجرية، محسوباً منذ هذه الهجرة التي تُعَدّ من أهم الأحداث عند المسلمين حتى الآن، وستظل كذلك دوماً، لقد نصر الأوس والخزرج مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- في بيعة العقبة الثانية (الكبرى)، ورأت قريش أنها في موقف حرج، فقد انفتح أمام مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- والذين معه أبواب الدعوة إلى دين الله بحرية، وفُتحت أيضاً أبواب الطعن في عبادة الأصنام.
2.رأت قريش أنها إن لم تقض على هذه الحركة في مهدها فلن تستطيع إيقافها إذا انتشرت بعد ذلك، واستفحلت في قبائل الجزيرة العربية، لقد أصبحت المعركة بين مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- وقريش أشد ما يمكن منذ بعثته، إن الموقف الآن يحتاج من مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- إلى حنكة وسياسة وقيادة حكيمة، لذا فقد أمر أصحابه باللحاق بالأنصار في يثرب، وأن يهاجروا إلى هناك فرادى أو في جماعات قليلة، ومتفرقين غير مجتمعين، ولا مثيرين ثائرة قريش ضدهم.
3.علمت قريش بما نوى عليه مسلمو مكة، فحاولت رد من استطاعت أن ترده منهم إلى مَكَّة مرة أخرى، مع إلحاق أشد صنوف العذاب بهم لفتنتهم عن دينهم، حتى بلغ من الأمر أن قريشاً كانت تحول بين الزوج وزوجته، فتحبسها عنه محاولة تقليل عدد المهاجرين من المسلمين.
4.وتتابعت هجرة المسلمين من مَكَّة إلى المدينة، ولم تعلم قريش بنية مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- في الهجرة!!، هل سيهاجر مع الذين هاجروا أم سيبقى في مكة؟، لكن لم يساورهم شك في أنه قد يبقى في مَكَّة ولا يهاجر، فهم يعلمون أن مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- قد مكث في مَكَّة من قبل حين هاجر المسلمون إلى الحبشة مرتين، ولم يهاجر معهم في ذلك الوقت بل مكث في مكة، ولمَّا استأذن أبو بكر -صلى الله عليه وسلم- رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الهجرة قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحباً))، ولم يزد على ذلك، وكأنه أراد أن يكون أبو بكر -رضي الله عنه- هو صاحبه -صلى الله عليه وسلم- في رحلة الهجرة إلى يثرب، حين يقرر الهجرة إلى هناك.
5.لقد حسبت قريش لهجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- ألف حساب، فالمسلمون في يثرب يتزايد عددهم يوماً بعد يوم، ويزدادون قوة، فماذا لو هاجر إليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟، لاشك أن ذلك سيكون خطراً عليهم، وعلى قوافلهم التجارية التي تمر بهم عندما يذهبون بها فى طريقهم إلى الشام، كما أن بقاء مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- أيضاً في مَكَّة سيجعلهم في خطر من جانب اليثربيين الذين سيدافعون عن نبيهم ورسولهم -صلى الله عليه وسلم- إذا تعرض للخطر هناك، فهم في ريبهم يترددون؛ أيقتلونه ليستريحوا منه، أم يتركونه على دعوته للناس بمكة، فيزداد بذلك عدد المسلمين بها، ويكونوا خطراً علي قريش.
6.اجتمعت قريش بدار الندوة يفكرون في قرار صائب يريحهم من هذا الهم الواصب، واتفقوا على أن يأخذوا شاباً قوياً من كل قبيلة، وأن يعطوا لكل واحد منهم سيفاً صارماً، فيضربوه جميعاً ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه بين القبائل، ولا يستطيع بنو عبد مناف قتالهم بعدها فيقبلوا فيه الدية، وبذلك تستريح قريش بعده، فهو الذي شتت شملهم وفرق جمعهم.
7.بات أمر التخلص من مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- وقتله أمراً وشيكاً، وعلم مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- بما تبيته قريش له، فكتم أمره حتى على صاحبه أبي بكر الصديِّق -رضي الله عنه-، وأخذ ينتظر أمر ربه، ولمَّا أذِن الله له بالهجرة وأوحى إليه هذا الأمر، ذهب إلى أبو بكر الصديِّق -رضي الله عنه- وأخبره بأن الله -سبحانه وتعالى- قد أمره بالهجرة، وطلب منه أن يعد نفسه لصحبته في هجرته، وكان أبو بكر الصديِّق -رضي الله عنه- قد أعد راحلتين، دفعهما إلى "عبدالله بن أريقط"، ليرعاهما حتى يحين هذا الموعد الذي كان يرتقبه.
8. كان مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- يعلم أن قريش ستتبعه، وتحاول القضاء عليه، فقرر أن يسلك طريقاً آخر، وأن يخرج مهاجراً في موعد غير مألوف لديهم، وكان شباب قريش المكلفون بالقضاء عليه، يحيطون بداره ليلاً، ويحاصرونه بسيوفهم، خشية أن يفر منهم، وأسّر مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- في تلك الليلة إلى "عليّ" -رضي الله عنه- أن يتسجى ببُرده الحضرَميَّ ذات اللون الأخضر، وأن ينام على فراشه -صلى الله عليه وسلم- في تلك الليلة، ثم يبقى بعدها في مكة، حتى يؤدي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الودائع التي كانت عنده للناس.
9.كان الفتية المتربصون بمُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- كلمَّا نظروا من طرف خفي، يظنون أنه مازال نائماً في فراشه، فيطمئنون بذلك لوجوده، حتى إذا جاء الثلث الأخير من الليل خرج مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- إلى بيت أبى بكر -رضي الله عنه- في غفلة من هؤلاء المتربصين لقتله، وخرجا معاً من مكة، متوجهين جنوباً نحو غار ثور (اُنظر صورة غار ثور) قاصدين المدينة، ولم يكن يعلم بمكانهما غير "عبدالله" ابن أبي بكر، الذي كان يقضى النهار بين قريش، يتقصى أخبارهم ومؤامراتهم على مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- وأبيه، ثم يذهب إليهما بالليل في الغار ليقص عليهما ما سمع، وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما بالطعام إذا أمست بما يصلحهما، وكان مولاهم "عامر بن فهيرة" يرعى غنم أبي بكر، فإذا جاء المساء حلب، وذهب إليهما باللبن، وإذا عاد "عبدالله بن أبي بكر" من عندهما، تبعه بالغنم؛ ليمحو أثر قدمه حتى لا تقص قريش أثره.
أقام مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر بالغار ثلاثة أيام، ومُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- لا يفتر عن ذكر الله، وأبو بكر -رضي الله عنه- يركز كل همه لمعرفة شيء عمن يحاولون أن يقتفوا أثرهما.
10.تحرَّكت قريش بكل وسائلها لمحاولة العثور على مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه أبي بكر الصِديق -رضي الله عنه-، فهم يعلمون أن الخطر سيُحدق بهم (أي بقريش) إن لم يلحقوا بمُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- ليَحُولُوا بينه وبين يثرب، وقد جعلوا (جائزة) مائة ناقة لِمَنْ يُرشد عن مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر، إمعاناً في محاولة إحباط هجرته إلى يثرب، وظلت قريش تبحث عن مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- بإصرار وعناد حتى اقتربوا من الغار، وهناك سألوا راعياً قريباً من الغار عما إذا كان قد رأى مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه -رضي الله عنه-، فأجاب قائلاً: (قد يكونان في الغار، وإن كنت لم أر أحداً منهما)، وسمع أبو بكر ما قاله الراعي، فخشي أن تقتحم قريش عليهما الغار.
11.صعد بعض فتيان قريش ومعهم سيوفهم نحو الغار، لكنهم عادوا أدراجهم حين لم يجدوا أية علامة على وجود مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه هناك، ولمَّا رجعوا إلى أصحابهم المترقبين عودتهم وسماع أخبارهم، سألهم أصحابهم لماذا عدتم دون أن تبحثوا في الغار، قالوا: (رأينا على باب الغار عنكبوت من قبل أن يولد مُحَمَّد، ورأينا حمامتين وحشيتين بفم الغار، فعرفنا أن ليس به أحد).
12.وازداد مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- من صلاته، بينما ازداد خوف أبي بكر -رضي الله عنه- حتى أنه همس في أذن النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: (لو نظر أحدهم تحت قدميه لأبصرنا)، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يطمئنه: ((يا أبا بكر! لا تحزن إن الله معنا))، ولمَّا اشتد خوف أبي بكر على النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم-: ((يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما!))، ولقد أنزل الله عز وجل فب القرآن الكريم هذا المشهد الرائع في سورة التوبة يصف حالهما وهما في الغار، والمشاعر والأحاسيس التي كان عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر الصديق وهما في الغار، قال تعالى: (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة: الآية40).
13.اقتنع القرشيون بأن مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- ليس في الغار، وأنه لادعي للدخول للبحث عنهما في هذا الغار، خاصة بعد أن شاهدوا هذه العلامات التي تشير إلى استحالة وجود أي أثر لبشر في هذا الغار منذ زمن بعيد، وبناء على ذلك قرروا العودة من حيث أتوا، ولمَّا تأكد أبو بكر -رضي الله عنه- بأنهم قد ضلوا طريقهم إليهم، وبدأوا في العودة بعيداً عن الغار، فرح فرحاً عظيماً بنصر الله، وازداد إيمانا بالله وبرسوله -صلى الله عليه وسلم-، ولمَّا رأى مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- هذا التأييد الإلهي له ولصاحبه على قريش نادي: "الحمد لله، الله أكبر".
14.في اليوم الثالث وبعد أن اطمأن مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- أن قريش يئست من البحث عنهما، جاء صاحبهما "عبدالله بن أريقط" ببعيريهما، وجاءت أسماء بنت أبي بكر بطعام لهما، فلمَّا لم تجد ما تعلق به الماء والطعام في رحالهما شقت نطاقها نصفين، وعلقت الطعام والماء في نصفه، وانتطقت بالنصف الآخر ولذلك سميت (بذات النطاقين)، وكان مع أبي بكر خمسة آلاف درهم حين ركب هو ومُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- رحالهما.
15.قرر مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- أن يسلك وأبا بكر طريقاً آخر إلى يثرب، خشية متابعة قريش لهما، وكان دليلهما إلى يثرب "عبدالله بن أريقط" الذي اتجه بهما إلى الجنوب أسفل مكة، ثم توجه بهما إلى تهامة بعد ذلك، وهي على مقربة من شاطئ البحر الأحمر، ثم أخذ شمالا مبتعدا عن الساحل؛ حتى لا يتعرضوا لقوافل التجار، فقد كانت قوافل التجارة تسلك الطريق القريب من الساحل نفسه. (اُنظر خريطة هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم-).
16.أقبل رجل على قريش وأخبرهم بأنه رأى ركباً من ثلاثة، يعتقد أنه مُحَمَّد وبعض أصحابه، فلمَّا سمع" سراقة بن مالك بن جُعٌشم" ما قاله هذا الرجل، فكر في أن تكون له الجائزة التي خصصتها قريش لمن يرشد عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فلمَّا سأل ركب من قريش سراقة عن رؤيته لركب الرسول -صلى الله عليه وسلم- ضللهم عن الاتجاه الذي ذكره الرجل لهم، ونفى أن يكون مُحَمَّد هو الذي رآه هذا الرجل، لم يكن ذلك محاولة من سراقة لإنقاذ مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- من قريش، بل كان طمعاً في أخذ المكافأة من قريش إذا أرشدهم هو على الطريق الذي سلكه مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم-، وبعد أن نجح في تضليلهم خرج بفرسه ومعه سلاحه، وراح يسرع بفرسه للحاق بمُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فلمَّا اقترب من الركب كبا فرسه كبوتين شديدتين، لكنه لم يبالي وقام وواصل سيره لمتابعته لمُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر، حتى إذا أصبح وشيك اللحاق بهم وإدراكهم، إذ بفرسه يكبو كبوة ثالثة جعلت سراقة يطير في الهواء ويتدحرج على الرمال، وهو مذهول مما يحدث له، وشعر سراقة أن الآلهة تلاحقه وتمنعه من الإمساك بهم، وأنه إذا حاول اللحاق بهم مرة رابعة فسوف يعرض نفسه إلى خطر محقق، هناك وقف ونادى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: (أنا سُراقة بن مالك بن جُعْشُم، انظروني أكلمكم، فوالله لا أريبكم ولا يأتيكم منى بشيء تكرهونه، أريد كتاباً يكون آية بيني وبينكم).
17.كتب أبو بكر بأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- كتاباً، أخذه سراقة وعاد ليُضَلِّلَ قومهُ حتى لا يلحقوا بمُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-، ضللهم بدلاً من أن يُرشدهم عنه -صلى الله عليه وسلم-، فقد أخذ عهداً أن يكون وسيلة لتضليل قريش بدلاً من أن يكون وسيلة لتسليمه -صلى الله عليه وسلم- إليهم، وتحوَّل سراقة في لحظة من عدو لمُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- يريد أن يُسلمه لقريش أو يدلهم عليه لينال جائزتهم، إلى صديق حميم يُدافع عنه -صلى الله عليه وسلم- في غيبته ويحميه من لحاق قريش به.
18.انطلق مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر في شدة الحر يقطعان بطون تهامة سبعة أيام متتالية، يوصلان الليل بالنهار، لا يجدان ملجأ يحتميان به من هذا القيظ المُحرق نهارا،ً ولا هذا الليل البارد المُظلم أيضاً، تحمَّلا ذلك صابرين واثقين من أن الله معهما، فلمَّا أصبح قاب قوسين أو أدنى من يثرب جاءهم "بُريدة" وهو شيخ قبيلة بني سهم يحييهما، وهنا زالت مخاوفهما واطمأن قلبهما لنصر الله وبلوغ هدفهما، هدف الوصول إلى يثرب، التي وصلت أخبار هجرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليها (اُنظر خريطة هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم-)، وكان المهاجرون والأنصار في المدينة ينتظرون وصوله -صلى الله عليه وسلم-، فقد كان الكثيرون من أهل المدينة يحلمون برؤية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قبل، وفي شوق إليه -صلى الله عليه وسلم- لذا كانوا جميعاً يترقبون وصوله.
19.انتشر الإسلام في المدينة، وأصبح المُشرك يخرج من بيته مُشركاً، فيعود مُسلمَّا في جلسة واحدة من جلسات مصعب بن عمير، ومن أمثلة ذلك أن "سعد بن معاذ"، و"أسيد بن حُضير" حين شاهدا مُصٌعَب بن عُمَيٌر، وأسعد بن زُرارة، في بني ظفر يُعَلِّمان المسلمين القرآن والإسلام اغتاظ "سعد بن معاذ" وأرسل "أسيد بن حُضير" لزجرهما عن ذلك، فلمَّا ذهب أسيد إلى "مصعب" ليزجره قال له "مصعب بن عمير": (أو تجلس لتسمع؟ فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته كُف عنك ما تكره)، قال أسيد: (أنصفت)، وجلس أسيد ليستمع إلى "مصعب" فأعجب بما يقول، ولم يقم من مجلسه حتى أسلم.
20.وعاد "أسيد بن حُضير" إلى "سعد بن معاذ" مختلفاً تماماً عمَّا كان عليه قبل ذهابه إليهما، فاغتاظ "سعد بن معاذ" من ذلك، وذهب بنفسه إلى "مصعب بن عمير" لكنه عاد كصاحبه الذي أرسله إليه من قبل، عاد مسلمَّا بعد أن استمع إلى كلام مصعب وإلى قراءته، ولم يلبث أن ذهب "سعد بن معاذ" على أثر ذلك إلى قومه وقال: (يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟) قالوا: (سيدنا وأوصلنا وأفضلنا رأياً)، قال: (فإن كلام نسائكم ورجالكم علىّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله)، ونتيجة ذلك أسلم بنو عبد الأشهل كلهم جميعاً رجالا ونساءً.
21.لقد كان المسلمون ينقلبون على الأصنام التي كانوا يعبدونها من قبل، وينقلبون على التي مازال يعبدها آخرون منهم، فقد كان "لعمرو بن الجموح" صنم من خشب يسمى "مناة"، فلمَّا أسلم فتيان من قومه قضوا عليه حاجتهم، فقام عمرو بتطهيره ووضعه في مكانه، وكانوا يكررون تلك الأفعال مع "مناة" هذا الصنم الذي لا يعقل ولا يفكر ولا يضر ولا ينفع، وكانت تلك الأفعال تغضب "عمرو بن الجموح" فكيف يُفعل ذلك بإلهه، وهو سيد من سادات بني سلمة، وشريف من أشرافهم؟ وكلمَّا أصبح عمرو وذهب إلى صنمه لم يجده، فبحث عنه حتى وجده في مكان بعيد مقضياً عليه الحاجة، فاغتاظ لذلك، وأخذه وطهره وأعاده إلى مكانه مستشيطاً غضباً، ولمَّا ضاق ذرعاً بما يحدث لصنمه علق سيفه على الصنم وهو يقول للصنم: (إن كان فيك خير فامتنع، فهذا السيف معك)، فلمَّا أصبح لم يجده مرة أخرى، بل لم يجد سيفه أيضاً، أخذ يبحث عنه في كل مكان، حتى وجده في بئر مقروناً إلى كلب ميت ولم يجد سيفه هناك، فلمَّا رأى بعينه أن هذا الصنم لا يضر ولا ينفع، ولا يستطيع حتى أن يدافع عن نفسه بالسيف الذي كان معه، فكر كثيراً وعاد إلى نفسه، ثم لم يلبث أن كلمه المسلمون من قومه في أمور الإسلام حتى تأثر بقولهم وأسلم، هكذا عن قناعة رأى بنفسه ما في الشرك من ضلال وشرك وظلام.
22.تحرق أهل يثرب شوقاً لمقدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فكانوا يخرجون كل يوم بعد صلاة الصبح، يلتمسون مجيئه حتى تغيب الشمس، فلمَّا بلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قباء، وأصبح على مسافة فرسخين من المدينة، مكث في قباء أربعة أيام أسس خلالها مسجداً، ولحق به هناك "عليّ بن أبي طالب" بعد أن رد ودائع الناس بمكة تنفيذاً لأوامر الرسول -صلى الله عليه وسلم- له قبل أن يهاجر، وكان عليُّ بن أبي طالب يعاني الكثير من المشاق قبل أن يبلغ قباء، فكان يسير بالليل ويستخفي بالنهار وهو سائر على قدميه لمدة أسبوعين كاملين.
23.وتأكد قدوم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأهل المدينة حين صاح يهودي قائلاً: (يا بني قيلة، هذا صاحبكم قد جاء)، وصلى مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- صلاة الجمعة بالمدينة وأقبل عليه مسلمو المدينة حين كان فى مسجد ببطن وادي رانُونا، أقبلوا عليه يحاولون رؤيته -صلى الله عليه وسلم-، وبلغ من حب أهل المدينة وشوقهم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن عرض سادة المدينة عليه أن يقيم عندهم، فاعتذر لهم، وامتطى ناقته، حيث انطلقت به في طرقات يثرب، وسط حشود من مسلمي أهل المدينة واليهود والمشركين، الكل يريد مشاهدة ورؤية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي اجتمعت عليه الأوس والخزرج بعد أن كانوا أعداءً يقاتل بعضهم بعضاً، ومرت الناقة تحمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى إذا كانت عند مربد لغلامين يتيمين من بني النجار، هما "سهل وسهيل ابني عمرو" بركت الناقة هناك ونزل عنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ورجا "معاذ بن عفراء" رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يتخذ هذا المربد مسجدا فقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأمر أن يبنى مسجده وداره -صلى الله عليه وسلم- في هذا المكان بعد أن اشتراه من الغلامين.
24.اشترك المسلمون من المهاجرين والأنصار في بناء المسجد وأيضاً مساكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان -صلى الله عليه وسلم- يشاركهم البناء بيديه، كان بناء المسجد بسيطاً للغاية، كان عبارة عن فناء فسيح جدرانه من الآجر والتراب، وسقفه من سعف النخيل، خصصت إحدى نواحيه لإيواء الفقراء، وكان المسجد لا يضاء نوره إلا في صلاة العشاء، وظل المسجد على هذا الحال تسع سنوات متتالية، حتى شدت له مصابيح، علقت على جذوع النخل للإضاءة، ولم يكن بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- أكثر ترفاً من المسجد، وخلال فترة البناء أقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في دار "أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري" حتى اكتمل البناء، ولمَّا اكتمل البناء تحول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى مسكنه؛ ليبدأ عهداً جديداً في بناء آخر، من نوع آخر، هو بناء الدولة الإسلامية، كان أول همِّهِ -صلى الله عليه وسلم- هو توفير الطمأنينة والحرية للمسلمين واليهود والنصارى على السواء، ليقضي بذلك على جيوش الظلم، التي تحارب هذه الحرية، وتلك المساواة بين السادة والعبيد، وبين الأبيض والأسود.
25.الأذان للصلاة: عندما قدم المسلمون إلى المدينة كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقيم الصلاة، أول أمره، بغير أذان، وفكر أن يدعو إلى الصلاة عن طريق استخدام البوق للإعلان عن موعد الصلاة، كما كان يفعل اليهود، لكنه كره ذلك!!، ثم أمر بالناقوس، كما كان يفعل النصارى، لكنه عدل عن ذلك أيضاً!!، ثم إن عبدالله بن زيد بن ثعلبة رأى في المنام من يقول له: لا تجعلوا الناقوس أذانا للصلاة، بل أذنوا لها، فذهب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ليخبره بذلك فوجده قد أوحِى إليه من الله عز وجل بالأذان، حينئذ قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((قم مع بلال فألقها عليه، (أي صيغة الأذان) فليؤذن بها فإنه أندى صوتاً منك))، وكان بلال من قبل أن يُبَلّغَ بهذا الأمر، يعلو بيت امرأة من بني النجار، يؤذن من فوقه لصلاة الفجر على الصيغة التالية: (اللهم أني أحمدك وأستعينك على قريش أن يقيموا على دينك)، فلمَّا أبلغه "عبدالله بن زيد" بالصيغة الجديدة للأذان، أخذ يؤذن بها ويسمعه أهل يثرب جميعاً فيقومون بعدها إلى صلاتهم، أخذ بلال يؤذن لكل صلاة: (الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن مُحَمَّد رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله)، بهذا الأذان.
وبهذه الصيغة الموحاة إلى مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- توحد المسلمون في المدينة أكثر مما كانوا عليه من قبل، ليظل هذا الأذان، هو أذان المسلمين في كل بقاع الأرض حتى قيام الساعة.
26.انفسح المجال أمام مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- ليعلن تعاليم الإسلام السمحة على الناس، ولتكون هذه التعاليم هي أساس الحضارة الإسلامية (اُنظر شكل من البعثة إلى الهجرة)؛ فحين سأل رجل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أي الإسلام خير؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: (( تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف))، وظل مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- يواصل دعوته، وينشر تعاليم الإسلام من خلال خطبه التي كان يلقيها في المدينة، يذكر المؤرخون أن أول خطبه بالمدينة قال فيها -صلى الله عليه وسلم-: ((من استطاع أن يقي وجهه من النار، ولو بشق تمرة فليفعل، ومن لم يجد فبكلمة طيبة، فإن بها تُجزى الحسنةُ عشر أمثالها))، وفي خطبته الثانية قال -صلى الله عليه وسلم-: ((اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، واتقوه حق تقاه، واصدقوا الله صالح ما تقولون، وتحابوا بروح الله بينكم، إن الله يغضب أن يُنكثَ عهده)).
27.كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب في الناس في مسجده، وهو متكئ على جذع نخلة، وظل كذلك حتى أمر بصنع منبر له من ثلاث درجات، يخطب خطبته على الدرجة الأولي ثم، يجلس على الثانية، وكان -صلى الله عليه وسلم- يأبى أن يظهر بمظاهر المُلك أو الثراء، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يكره الإطراء حتى قال لأصحابه: ((لا تُطرونى كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد الله، فقولوا عبد الله ورسوله))، وكان حين يسير، ويقومون له توقيراً واحتراماً، يقول -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تقوموا لي كما تقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضاً)).
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الثلاثاء 14 ديسمبر 2021, 5:56 pm عدل 1 مرات
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
موضوع: رد: مُحَمَّد (صلى الله عليه وسلم) الثلاثاء 14 ديسمبر 2021, 12:26 am
ثالثاً: المهاجرون والأنصار والأوس والخزرج واليهود 1.المهاجرون هم المسلمون الذين هاجروا من مَكَّة إلى المدينة، والأنصار هم أهل المدينة الذين أسلموا في بيعتي العقبة الأولي والثانية وما بعدها، وقد ناصر أهل المدينة المهاجرين، واستضافوهم في بيوتهم وديارهم، وذللوا لهم كل الصعاب، وهيئوا لهم كل سُبُل الحياة، حتى استقرت بهم الأمور، كانوا كرماء في تعاملهم مع المهاجرين، كانوا يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، فقد ألف الدين الجديد بينهم بروابط وثيقة، ولم تكن تلك الروابط القوية معروفة بتلك الحرارة قبل الإسلام أو قبل الهجرة. 2.وكان في المدينة مشركون من الأوس والخزرج (اُنظر خريطة شبه الجزيرة العربية) تنتشر بينهم العداوة الدائمة والبغضاء، ولم يحدث أن تصالحوا فيما بينهم ولو مرة واحدة إلا حين دخل الإسلام يثرب، فقد وجدوا أنفسهم ضعفاء بين المسلمين واليهود، أنهكتهم حروب الماضي، أمَّا اليهود فكانوا يقيمون في أماكن شتى من المدينة، يهود (بني قينقاع) كانوا في داخل المدينة، ويهود (بني قريظة) كانوا يقيمون في ضواحي المدينة، ويهود (بني النضير) كانوا على مقربة منهم، أمَّا يهود (خيبر) فكانوا في شمال المدينة.
3.في البداية حاول اليهود استمالة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليهم، ظناً منهم أنهم بذلك يمكنهم من الوقوف في وجه النصارى، لذا فقد استقبلوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استقبالا حسناً حين أقبل إلى المدينة، وأراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذا الجو المليء بفئات شتى من مسلمين ومهاجرين وأنصار ونصارى ويهود بالإضافة إلى مشركي الأوس والخزرج، أراد أن يوحدهم سياسياً ونظامياً، بتنظيم صفوف المسلمين أولا، ثم التسوية بينهم، ولتحقيق ذلك دعا المسلمين ليتآخوا في الله أخوين آخوين.
4.كان مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- وعليّ بن أبي طالب أخوين في الإسلام - وكان حمزة بن عبد المطلب ومولاه زيد أخوين في الإسلام - وأبو بكر وخارجة بن زيد أخوين في الإسلام - وجعفر بن أبي طالب ومعاذ بن جبل أخوين في الإسلام - وكان عمر بن الخطاب وعِتبان بن مالك الخزرجى أخوين في الإسلام - وعثمان بن عفان وأوس بن ثابت بن المنذر أخوين في الإسلام - وأبو عبيدة بن الجراح وسعد بن معاذ أخوين في الإسلام - وعبدالرحمن بن عوف وسعد بن الربيع أخوين في الإسلام - والزبير بن العوام وسلمة بن سلامة أخوين في الإسلام - وطلحة بن عبيد الله وكعب بن مالك أخوين في الإسلام - ومصعب بن عمير وأبو أيوب خالد بن زيد أخوين في الإسلام - وبلال مؤذن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأبو رويحة عبدالله بن عبدالرحمن الخثعمى أخوين في الإسلام... الخ، وهكذا فعل المهاجرين فيما بينهم، وقد أظهر الأنصار كرم الضيافة للمهاجرين منذ اللحظة الأولي التي وصلوا فيها إلى يثرب، فهم يعلمون أن إخوانهم من المهاجرين قد ضحوا بكل شيء في سبيل الوصول إلى المدينة، والالتقاء بإخوانهم من الأنصار هناك، والحقيقة أن المهاجرين تركوا وراءهم كل شيء في مكة، ولم يبالوا بالمشقة والعناء والجوع والعطش الذي تعرضوا إليه في رحلة الهجرة، حتى إن كثيراً منهم لم يجد قوتاً يقتات به حين بلغ المدينة.
5.لقد بلغ كرم الأنصار ذروته مع المهاجرين!، حتى كان بعض الأنصار يعرضون نصف أموالهم على ضيوفهم من المهاجرين، فقد عرض "سعد بن الربيع" من الأنصار ماله على"عبد الرحمن بن عوف" وهو من المهاجرين ليقتسمه معه، فأبى"عبد الرحمن بن عوف" وأخذ يتاجر في الأسواق حتى كثرت ثروته نتيجة خبرته في التجارة وهو في مَكَّة وأصبح له قوافل للتجارة بالمدينة، وفعل ذلك كثير من المهاجرين أيضاً فقد كان معظمهم تجاراً محترفين لهم دراية بهذا المجال، أمَّا الذين لم يعملوا بالتجارة في مَكَّة من قبل فقد اشتغلوا بالزراعة في أراضي الأنصار، وكان هناك أيضاً فئة من المهاجرين لم يكن لهم أي عمل بالمدينة وكانوا في حالة من العوز، لذا فقد أفرد لهم مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- مكاناً مسقوفاً في المسجد يأوون إليه، وجعل لهم نصيباً في مال المسلمين، وهؤلاء كانوا يعرفون "بأهل الصُّفَّة" نظراً لوجودهم في صُفة المسجد أي (المكان المسقوف منه).
6.لم يتوقف المنافقون عن محاولات الوقيعة بين المسلمين من الأوس والخزرج، وبين المهاجرين والأنصار، لكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوت عليهم كل الفرص، فقد وضع نظاماً سياسياً قوياً ومتيناً يربط الجميع برباط المودة والأخوة، كان -صلى الله عليه وسلم- على صله وثيقة باليهود حتى كان يصوم في يوم صومهم، كما كان يبر البائس والفقير والمحروم منهم والآخرين على اختلاف ديانتهم، مؤكداً أن الإسلام دين يكفل حرية العقيدة، وقد ألف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين المهاجرين والأنصار واليهود فكتب لهم معاهدة فيما بينهم تقر بدينهم وأموالهم أنظر (اُنظر ملحق عهد المهاجرين والأنصار واليهود) هذه الوثيقة ذات الطابع السياسي التي تقرر حرية العقيدة والرأي، وحرمة البلد، وحرمة الحياة، وتحرم الجريمة، تُعَدّ فتحاً جديداً من فتوحات الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الحياة السياسية وبناء الدولة الإسلامية بالمدينة.
7.استقر الدين الإسلامي في المدينة، وأصبح المسلمون يقيمون الفرائض دون خوف من بطش أو تعذيب كما كان يحدث لهم من قبل في مكة، تزوج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "عائشة بنت أبى بكر" وهى في التاسعة من عمرها، وكان قد عقد عليها وهو بمكة، وانتقلت معه إلى مسكنها بجوار المسجد بجانب مسكن "سَودة" التي تزوجها النبي -صلى الله عليه وسلم- في مَكَّة بعد موت خديجة، وكان زوجها قد توفى وهو من المهاجرين الذين عادوا من الحبشة إلى مَكَّة (اُنظر ملحق زوجات الرسول -صلى الله عليه وسلم-) و(شكل نسب الرسول -صلى الله عليه وسلم-)، وفى تلك الفترة فرضت الزكاة، وفرض الصيام، وقامت الحدود.
8.كان أحبار اليهود يكتمون عداوتهم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وللمسلمين بالمدينة بغياً وحسداً، لمَّا خص الله به هذا الدين، وهذا الرسول -صلى الله عليه وسلم-، كانوا يتمنون أن تكون الديانة اليهودية هي آخر الديانات، وأن يكون موسى-عليه السلام- هو خاتم المرسلين، وانضم إلى اليهود في هذا العداء المنافقون من الأوس والخزرج، فقد كانوا على دين آبائهم من شرك وتكذيب، لكنهم في حقيقة الأمر لم يسلموا إلا جُنة (وقاية لهم) من القتل، كان اليهود والمنافقون من الأوس والخزرج يسألون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بتعنت ليلبسوا له الحق بالباطل، وكان القرآن ينزل فيما يسألون عنه؛ ليكشف نواياهم أمام المسلمين، غير أن هناك من اليهود -رغم قلتهم- من كانت لهم مواقف صدق وإيمان، كان الرجل منهم إذا دخل في دين الله مع المسلمين، دخل دون وجل أو تردد، ومن أمثلة هؤلاء "عبدالله بن سلام، ومخيريق".
9.كان عبد الله بن سلام: حبراً وعالمَّا من علماء اليهود، وكان يحكى قصة إسلامه كما ذكرها ابن إسحاق، حيث قال عبد الله بن سلام: (لمَّا سمعت برسول الله -صلى الله عليه وسلم- عرفت صفته واسمه وزمانه الذي كنا نتوقف له (أي نتوقع)، فكنت مسروراً لذلك صامتاً عليه، حتى قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، فلمَّا نزل بقباء في بني عمرو بن عوف، أقبل رجل إلىَّ وأخبرني بقدومه -صلى الله عليه وسلم- وأنا في رأس نخلة لي أعمل فيها، وعمتي "خالدة بنت الحارث" تحتي جالسة، فلمَّا سَمِعتُ بقدوم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كبَّرتُ، فقالت لي عمتي حين سمعت تكبيري: خيبك الله، والله لو كنت سمعت بموسى بن عمران قادماً ما زدت، قال: فقلت لها: أي عمة، هو والله أخو موسى بن عمران، وعلى دينه، بُعث بما بُعث به، فقالت: أي ابن أخي، أهو النبي الذي كنا نُخبر أنه يُبعث مع نفس الساعة؟ قال: فقلت لها: نعم0قال: فقالت: فذاك إذا، قال: ثم خرجت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأسلمتُ، ثم رجعت إلى أهل بيتي فأمرتهم فأسلموا.
وقال: وكتمت إسلامي من يهود، ثم جئت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت له: يا رسول الله، إن يهود قوم بهت، وإني أحب أن تدخلني في بعض بيوتك، وتغيبني عنهم، ثم تسألهم عني حتى يخبروك كيف أنا فيهم، قبل أن يعلموا بإسلامي، فإنهم إن علموا به بهتوني وعابوني- قال: فأدخلني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعض بيوته، ودخلوا عليه، فكلموه وسألوه، ثم قال -صلى الله عليه وسلم- لهم: أي رجل الحُصٌين بن سلام فيكم؟ قالوا سيدنا وابن سيدنا، وحَبرنا وعالمنا)، قال عبدالله بن سلام: (فلمَّا فرغوا من قولهم خرجت عليهم، فقلت لهم: يا معشر يهود، اتقوا الله، واقبلوا ما جاءكم به، فو الله إنكم لتعلمون أنه لرسول الله، تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة باسمه وصفته، فإني أشهد أنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأؤمن به وأصدقه وأعرفه)، فقالوا: (كذبت)، ثم وقعوا بي، قال عبدالله: فقلت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ألم أخبرك يا رسول الله أنهم قوم بُهتُ، أهل غدر وكذب وفجور!) قال: (فأظهرت إسلامي وإسلام أهل بيتي، وأسلمتَ عمتي خالدة بنت الحارث، فحسن إسلامها).
10.أمَّا مخيريق فقد كان عالمَّا وحَبراً غنياً كثير الأموال، كان يعرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بصفته لمَّا كان له من علم بهذا في التوراة، لكنه كتم ذلك، وظل على دينه حين هاجر رسول الله إلى المدينة، فلمَّا كانت غزوة أحد وكانت في يوم سبت، فقال مخيرق: (يا معشر يهود والله إنكم لتعلمون أن نصر مُحَمَّد عليكم لحق (يعنى بذلك ما عاهدهم عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المدينة)، قالوا: (إن اليوم يوم السبت)، قال: (لا سبت لكم)، ثم أخذ سلاحه، فخرج حتى أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأُحد، وعهِد إلى من ورائه من قومه: (إن قُتلت هذا اليوم، فأموالي لمُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- يصنع فيها ما أراه الله)، فلمَّا اقتتل الناس قاتل حتى قُتل، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((مُخيريق خير يهود))، وقبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أموال مخيريق، ووضعها مع صدقات المسلمين بالمدينة.
11.لم يكتف اليهود بالوقيعة بين المهاجرين والأنصار ولا بين الأوس والخزرج فحسب، بل حاولوا فتنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نفسه، فقد ذهب أحبارُهم وأشرافُهم إليه وقالوا: (إنك قد عرفت أمرنا ومنزلتنا، وأنا إن اتبعناك اتبعك اليهود ولم يخالفونا، وأنا بيننا وبين بعض قومنا خصومة، فنحتكم إليك فتقضي لنا فنتبعك ونؤمن بك)، فنزل فيهم قول الله عز وجل: (وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)) (المائدة: الآيتان49، 50).
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الثلاثاء 14 ديسمبر 2021, 5:57 pm عدل 1 مرات
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
موضوع: رد: مُحَمَّد (صلى الله عليه وسلم) الثلاثاء 14 ديسمبر 2021, 12:29 am
رابعاً: تحويل القبلة صرفت القبلة في شعبان على رأس سبعة عشر شهراً من مقدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، في البداية فكر اليهود أن يمكروا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- كعادتهم، وأرادوا بحيلة دنيئة أن يجلوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن المدينة كما فعلت قريش بهم في مكة، وذلك حين جعلتهم يفكرون في الهجرة من مَكَّة والخروج منها؛ فذكروا له أن قبلة الرسل مِن قبله كانت بيت المقدس، وأنهم ذهبوا جميعاً إليها، وعليه أن يحذوا حذوهم بأن يعد المدينة محطة متوسطة بين مَكَّة والمسجد الأقصى، لكن الله أحبط لهم مكرهم، وأوحى إلى عبده ورسوله -صلى الله عليه وسلم-: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) (البقرة: الآية 144).
تلك الآيات هي التي حسمت القضية، لكن اليهود أنكروا عليه ذلك، وحاولوا أن يفتنوه مرة أخرى فقالوا: (نتبعك إذا عدت إلى القبلة التي كنت عليها)، يريدون مخالفة ما أمره الله به من تحويل قبلته من بيت المقدس إلى المسجد الحرام في مكة، فأنزل الله قوله تعالى ليفضحهم: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)) (البقرة: 142، 143).
أراد النصارى استغلال عداوة اليهود لمُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- ليشعلوا نار الخلاف بين اليهود ومُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم-، ومن ثَمَّ يستريحون من دسائس اليهود وعدوان العرب، لذا جاء وفد من نجران مكون من ستين رجلاً، واجتمع اليهود مع المسلمين والنصارى، وكانت ملحمة كلامية بينهم، أو يمكن القول بين اليهودية والمسيحية والإسلام، كلُ يريد إقناع الآخر بصحة عقيدته، خاصة فيما يتعلق بالإله الذي يعبدونه، قال المسيحيون بعقيدة التثليث وألوهية عيسى، بينما زعم اليهود أن العزير بن الله، أمَّا الإسلام فهو يدعو إلى توحيد الله -صلى الله عليه وسلم- وعدم الشرك به، ونتج عن هذا المؤتمر بين الأديان الثلاثة الذي عقد في يثرب، نتج عنه إعلان المبادئ الروحية في صياغة العبودية الصحيحة لله رب العالمين بين جميع الأديان، فالإله واحد، ليس له شريك ولا ولد، وفى هذا الشأن أمر الله مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- أن يقول هذا القول الفصل: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ ولاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران: الآية 64).
دَعا مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- اليهود والنصارى بهذه الدعوة، فأمَّا أن يستجيبوا وأمَّا أن يلاعنهم، فأمَّا اليهود فكان بينه -صلى الله عليه وسلم- وبينهم عهد الموا دعة، أمَّا النصارى الذين جاءوا من نجران على رأس وفد مكون من ستين رجلاً فقد رأوا ألا يلاعنوه، وأن يتركوه هو وأصحابه على دينهم، ويرجعوا هم أيضا إلى دينهم، لكنهم حين رأوا عدل مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم-، وحرصه على الحق، ومدى صدقه، وطلبوا أن يبعث معهم رجلاً يحكم بينهم فيما كانوا يختلفون فيه، فبعث -صلى الله عليه وسلم- معهم "أبا عبيدة بن الجراح" ليقضي بينهم فيما كانوا فيه مختلفون. خامساً: غزوات الرسول -صلى الله عليه وسلم- من بدر حتى صلح الحديبية لمَّا هاجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مَكَّة إلى المدينة، واستقر به المقام هناك، استمر في نشر الدعوة بكل الوسائل السلمية لمدة سنة كاملة؛ ليتم بذلك أربع عشرة سنة، كانت دعوته دون حرب، ودون أن يمتشق فيها حساماً، ولقد رحب المسلمون به -صلى الله عليه وسلم- في يثرب والتفوا حوله، حتى أصبح الرسول -صلى الله عليه وسلم- أحب إليهم من فلذات أكبادهم، لكن قريش لم تكن لتخفي عداوتها، والرسول -صلى الله عليه وسلم- يلاقى هذا التأييد من المسلمين، لم يكن لها أن تتوقف عن عداوة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، والإسلام يزداد انتشاراً، ويقوى يوماً بعد يوم، وسعت قريش بكل الوسائل والسبل أن توقف هذا التيار الديني الجديد، الذي يدعو إلى ترك آلهتهم التي كانوا يعبدونها هم وآباؤهم من قبل، فقامت قريش بضم بعض القبائل إليها، وتعاهدت سراً مع يهود المدينة بهدف التصدي للدعوة، ومحاولتهم أيضاً النيل من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والقضاء على المسلمين، لكن مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- بوحي من الله تأهب لهم، وأسرع إليهم في عقر دارهم، فقضى عليهم وكسر شوكتهم في معارك كثيرة، عُرفت بالغزوات والسرايا، وكان الرسول يقود الغزوات بنفسه، بينما السرايا كان يقودها أحد قادة المسلمين، بأمر من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
1.كانت غزوة بدر الأولى (سفوان) في جمادى الآخرة سنة 2ه- (اُنظر خريطة غزوات الرسول -صلى الله عليه وسلم-)، وكان هدفها مطاردة المشركين، وتخليص الغنم والإبل المستولى عليها من المدينة بقيادة" كُرز بن جابر الفهرى".
2.وقد سبقتها غزوة ودَّان (الأبواء) في صفر سنة 2ه- (اُنظر خريطة غزوات الرسول -صلى الله عليه وسلم-)، وكان هدفها تهديد طريق تجارة قريش الواصل بين مَكَّة والشام، والعمل على إقامة تحالف بين المسلمين والقبائل المسيطرة على هذا الطريق.
3.غزوة (بواط) في ربيع الأول سنة 2ه- (اُنظر خريطة غزوات الرسول -صلى الله عليه وسلم-)، كان هدفها تهديد طريق التجارة لقريش.
4.غزوة بدر الكبرى رمضان سنة 2ه- (اُنظر خريطة غزوات الرسول -صلى الله عليه وسلم-)، كان هدفها انتظار عودة قافلة أبى سفيان للاستيلاء عليها، بعد أن أفلتت القافلة من المسلمين في غزوة "العشيرة"، وفى تلك الغزوة انتصر المسلمون على مشركي قريش.
5.وقد أعقب غزوة بدر الكبرى غزوات أخرى لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بداية من غزوة (بني قينقاع) شوال سنة 2ه- (اُنظر خريطة غزوات الرسول -صلى الله عليه وسلم-)، التي كان هدفها القضاء على اليهود لأنهم كانوا يقومون بالتجسس على المسلمين لصالح المشركين من ناحية، ومن ناحية أخرى كان اليهود قد تعرضوا لامرأة مسلمة في سوق قينقاع، وقتلوا أحد المسلمين حين قام بالدفاع عنها.
6.غزوة (بني سليم) شوال سنة 2 ه- (اُنظر خريطة غزوات الرسول -صلى الله عليه وسلم-)، كان هدفها القضاء على بني سليم وغطفان الواقعتان على طريق التجارة الحيوي بين مَكَّة والشام، وكانت القبيلتان قد اعتزما الاعتداء على المسلمين اتفاقاً بينهما.
7.غزوة (السويق) ذو الحجة سنة 2ه- (اُنظر خريطة غزوات الرسول -صلى الله عليه وسلم-)، كان هدفها ردع أبى سفيان؛ لمحاولته القيام بإغارة على المدينة.
8.غزوة (ذي إمر)، محرم سنة 2ه- (اُنظر خريطة غزوات الرسول -صلى الله عليه وسلم-)، كان هدفها ردع بني ثعلبة، وقبيلة محارب اللتان تآمرتا على المسلمين وحاولتا الإغارة على أطراف المدينة.
9.غزوة (بحران) ربيع الأول سنة 2ه- (اُنظر خريطة غزوات الرسول -صلى الله عليه وسلم-)، كان هدفها إحباط استعدادات قبيلة بني سليم التي كانت تتهيأ لقتال المسلمين.
10.غزوة (أحد) شوال سنة 3ه- (اُنظر خريطة غزوات الرسول -صلى الله عليه وسلم-)، كان هدفها الاستعداد لصد هجوم قريش المتوقع على المدينة.
11.غزوة (بني النضير) ربيع الأول سنة 4ه- (اُنظر خريطة غزوات الرسول -صلى الله عليه وسلم-)، كان هدفها تأديب اليهود، بعد أن تأمروا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، محاولين قتله بإلقاء حجر فوق رأسه من فوق الدار التي كان يجلس تحتها.
12.غزوة (ذات الرقاع) جمادى الأولى سنة 4ه- (اُنظر خريطة غزوات الرسول -صلى الله عليه وسلم-)، كان هدفها القضاء على بني ثعلبة، وبني محارب اللذان كانا يستعدان لحشد قوات لغزو المدينة، بالإضافة لعزم المسلمين الأخذ بالثأر للذين استشهدوا في بئر معونة.
13.غزوة (بدر الآخرة) شعبان سنة 4ه- (اُنظر خريطة غزوات الرسول -صلى الله عليه وسلم-)، كان هدفها قتال قريش بعد مرور عام كامل على تهديد أبى سفيان ووعيده عقب غزوة "أُحد" حين قال أبو سفيان: (يوم بيوم بدر، والموعد العام المقبل).
14.أعقب تلك الغزوات غزوة (دومة الجندل) ربيع الأول سنة 5ه- (اُنظر خريطة غزوات الرسول -صلى الله عليه وسلم-)، كان هدفها منع القبائل الموجودة في دومة الجندل، من التعرض للمسلمين، والقضاء على الحشود التي أعدتها لمهاجمة المدينة.
15.غزوة (بني المصطلق) جمادى الأولى سنة 5ه- (اُنظر خريطة غزوات الرسول -صلى الله عليه وسلم-)، كان هدفها تأديب بني المصطلق الذين تجرؤوا على المسلمين بعد غزوة أحد، وبسبب تهيؤهم للهجوم على المدينة.
16.غزوة (الخندق) شوال سنة 5ه- (اُنظر خريطة غزوات الرسول -صلى الله عليه وسلم-)، كان سببها تحريض اليهود لقريش وقبائل العرب على غزو المدينة.
17.غزوة (بني قريظة) شوال سنة 5ه- (اُنظر خريطة غزوات الرسول -صلى الله عليه وسلم-)، والتي كان هدفها القضاء على بني قريظة واستئصالهم، نظراً لنقضهم العهد ومناصرتهم المشركين، للفتك بالمسلمين، لولا أن الله أنعم على المسلمين بهزيمة الأحزاب في الغزوة المعروفة بغزوة الخندق.
18.غزوة (بني لحيان) جمادى الأولى سنة 6ه- (اُنظر خريطة غزوات الرسول -صلى الله عليه وسلم-)، كان هدفها الانتقام من بني لحيان؛ لقتلهم أصحاب "خُبيب بن عدي" عند ماء الرجيع.
19.غزوة (ذي قرد) جمادى الأولى سنة 6ه- (اُنظر خريطة غزوات الرسول -صلى الله عليه وسلم-)، كان هدفها تأديب "عُيينة بن حصن"؛ لإغارته على أطراف المدينة، وقتل رجل وخطف امرأته والاستيلاء على إبله.
20.ثم كان (صلح الحديبية) الذي أبرم بين المسلمين وقريش في ذي القعدة سنة 6ه- (اُنظر خريطة غزوات الرسول -صلى الله عليه وسلم-)، والذي كان سببه محاولة قريش منع المسلمين من دخول المسجد الحرام لأداء فريضة الحج، هذا الصلح الذي حقق نصراً للمسلمين على المشركين دون إراقة دماء، فبرغم أن قريش منعت الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين من أداء العمرة ودخول مَكَّة في هذا العام، إلا أن المعاهدة تُعَدّ اعترافاً من قريش بالمسلمين لأول مرة على أنهم طرف مساو لهم، كما سمحت المعاهدة للمسلمين بزيارة البيت الحرام في العام التالي والتمتع بأمان تام مدة عشر سنوات، بعد أن كانوا مهددين من قريش في السابق؛ وحققت معاهدة صلح الحديبية للمسلمين لأول مرة تفرغاً كاملاً لنشر الدعوة الإسلامية بدلا من القتال المستمر بين المسلمين وقريش، خاصة وأن قريش كانت أشد القبائل بأساً، ما جعل المسلمين يتوقفون عن الدعوة لبعض الوقت.
21.وتُعَدّ المعاهدة أهم النتائج التي توصل إليها المسلمون مع قريش سلمَّا دون قتال، برغم ما كان يبدو للوهلة الأولي من أن هذه المعاهدة مجحفة لحقوق المسلمين، الأمر الذي جعل "عمر بن الخطاب" يتشاور مع "أبي بكر الصّديق" ويذهب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحدثه وهو مغتاظاً مما فعله "سهيل بن عمرو" حين تشدَّد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعض نصوص المعاهدة بينما كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يتساهل معه في قبولها، ما جعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُطمئن عمر بن الخطاب ويقول له: "أنا عبد الله ورسوله ولن أخالف أمره ولن يُضيعنى".
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الثلاثاء 14 ديسمبر 2021, 5:58 pm عدل 1 مرات
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
موضوع: رد: مُحَمَّد (صلى الله عليه وسلم) الثلاثاء 14 ديسمبر 2021, 12:32 am
سادساً: حادثة الإفك وقعت حادثة الإفك الذي تعرضت له عائشة أم المؤمنين، أثناء عودتها من غزوة بني المصطلق، فقد كانت التقاليد في هذا الوقت تقضي بأن تذهب النساء والأطفال مع الرجال في الغزوات، وكان الغرض من ذلك تشجيع المحاربين، وتضميد جراحهم، وإعداد الطعام والشراب لهم، فلمَّا انتصر المسلمون في غزوة بني المصطلق، وعادوا بالأسرى والغنائم، تخلفت عائشة عن الركب، كان ذلك حين نزلت من هودجها لتقضي بعض حاجتها خلال فترة راحة الركب، ففقدت عقداً لأختها، كانت قد استعارته منها، فرجعت تلتمسه في الموضع الذي فقدته فيه، فجاء النفر الذين كانوا يرحلون الهودج، فظنوها فيه، فحملوه، ولم ينتبهوا لخفته، لأنها(رضي الله عنها) كانت فتية لم يغشها اللحم الذي يثقلها فارتحلوا، فرجعت عائشة وقد أصابت العقد إلى محل الركب، فإذا ليس به داع ولا مجيب، فقعدت تنتظر رجوعهم إليها.
وتصادف في هذا الوقت مرور أحد الصحابة وهو "صفوان بن المعطل السلمي" فتوقف عندها حين عرفها، وقال مندهشاً لها حين رآها: (إنا لله وإنا إليه راجعون! ظعينة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-! ما خلفك رحمك الله؟) فلم تجبه، فتأخر عنها وقدم لها راحلته، وسار بها حتى دخل أدرك الجيش في الظهيرة، وعائشة (رضي الله عنها) على ظهر بعيره.
ولم يخطر ببال أحد آن يُحِدثَ في أمر عائشة قولاً، ولا يجول بخاطر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أيضاً ظِنَّة واحدة بعائشة بنت أبي بكر الصدَّيق، ولا حتى في صفوان الشاب المؤمن الحسن السيرة والخُلق.
كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون ينتظرون عودة عائشة بعد أن اكتشفوا تخلفها عن الركب، فلمَّا جاء صفوان وعائشة (رضي الله عنها) معه، وهي لا تدري أن الناس سوف يتحدثون عنها وعن صفوان، ولم يخطر ببالها أن تنسج حولهما خيوط من الشائعات، ووجد الخبيث "ابن أبي" متنفساً لحقده وعداوته، فأشاع حديث الأفك، وجعل يفيض فيه لمَّا قدموا المدينة، وكان أصحابه يتقربون به إليه، وانتظر المسلمون توزيع الغنائم والأسلاب والسبايا التي غنموها في غزوة بني المصطلق، وفى تلك الأثناء كانت "جويرية بنت الحارث" وهى من سبايا بني المصطلق قد وقعت في سهم أحد الأنصار، فأرادت أن تفدي نفسها منه، فذهبت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في بيت عائشة فقالت: (أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه، وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك، فوقعت في سهم فلان فكاتبته على نفسي، فجئتك أستعينك على كتابتي).
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فهل لك في خير من ذلك؟"، قالت: (وما هو؟)، قال -صلى الله عليه وسلم-: "أقضي كتابتك وأتزوجك"، فلمَّا بلغ الناس خبر زواج مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- أطلقوا ما في أيديهم من أسرى، إكراماً لصهر رسول الله إياهم، ولقد أحبتها عائشة حتى أنها قالت عنها: (ما أعلم امرأة كانت أعظم على قومها بركة منها).
وهناك روايات تقول: إن أباها جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليفتدي ابنته، وأنه أسلم!، وأنها أسلمت كما أسلم أبوها!، ثم عرض على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يتزوجها، ورواية أخرى تقول: إن أباها لم يكن راغباً في زواجها من مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم-، وأن أحد أقاربها هو الذي زوجها إياه -صلى الله عليه وسلم-، وأصدقها مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- أربعمائة درهم، وبنى لها منزلاً جانب منازل نسائه، وبينما هو في شغل بهذا الزواج كان القوم يتهامسون فيما بينهم عن عائشة وصفوان، وعن عودتهما معاً بعد تخلفها عن الركب.
وبدأت "حمنة" أخت: "زينب بنت جحش زوج رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" تذيع ما يهمس به الناس عن عائشة، ووجد "عبدالله بن أبي" في هذا الحديث مرتعاً خصباً لينفث فيه عن حقده، فأخذ ينشر ويذيع تلك الإشاعات ويعظم منها، غير أن جماعة من الأوس تصدوا له، وكادت تحدث فتنة في المدينة، وبلغ الأمر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتأذى منه ولم يفصح عما في صدره لعائشة، وظل في حيرته هذه وعدم تصديقه لكل ما يشاع عن عائشة، فهو يعرف خلقها وعفافها وطهارتها، لكنه لمَّا كثر الحديث تألم كثيراً من هذا الإفك الذي يقال عن عائشة، وبتلك الإشاعات المغرضة التي تنال منه، حتى لقد بلغ من تأثر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بهذا الحدث أن انعكس ذلك في معاملته مع عائشة، وكانت عائشة لا تدري شيئاً عما يقال عنها، فلم يخبرها أحد بما يحدث خارج بيتها من إشاعات، حتى أمها وأبوها.
مرضت عائشة مرضاً شديداً بعد عودتها، عانت منه شهراً، لكنها لم تعرف من الرسول -صلى الله عليه وسلم- اللطف الذي كانت تعرفه حين تشتكي، حتى ظنت أن الرسول أحب "جويرية" بدلاً منها، فكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل عليها وهى مريضة يقصر في كلامه حين يسأل عن حالها ويقول: "كيف تيكم؟" ولا يزيد على ذلك شيئاً، ما كان له أثر سلبي على نفس عائشة، ورأت أن تستأذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أن تُمرض في بيت أمها، لمَّا لاقته من جفائه، فوافق الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وهي مندهشة من هذا التفريط في أمرها، ما زاد من آلامها، وظلت في مرضها بضعة وعشرين يوماً حتى تعافت منه، وخلال هذه المدة لم تكن تدري ما يقال عنها في الخارج، ولمَّا بلغ الأذى برسول الله -صلى الله عليه وسلم- من تلك الإشاعات مبلغه، لم يبق أمامه إلا مواجهة الناس، فقام يخطب فيهم ويقول: "أيها الناس! ما بال رجال يأذونني في أهلي ويقولون عنى غير الحق! والله ما علمت منهم إلا خيراً، ويقولون ذلك لرجل والله ما علمت منه إلا خيراً، وما يدخل بيتاً من بيوتي إلا معي"، فقام "أسيد بن حضيرا" فقال: (يا رسول الله إن كانوا من الأوس كفيناكهم، وإن كانوا من إخواننا الخزرج فمرنا بأمرك، فوالله إنهم لأهل أن تُضرب أعناقهم)، وردَّ "سعد بن عبادة" قائلاً: (لقد قال ذلك لعلمه بأنهم من الخزرج، ولو كانوا من الأوس ما قالها)، وكادت الفتنة تقع بين المسلمين، وتعصف بنصرهم على بني المصطلق، لولا حكمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التي أوقفت تلك الفتنة بين المسلمين من الأوس والخزرج.
وأخيراً وصل خبر الإفك إلى عائشة (رضي الله عنها) فأغشي عليها من هول ما سمعت، وقالت لأمها: (يغفر الله لك يا أماه! تحدَّث الناسُ بما تحدَّثُوا به ولا تذكرين لي شيئاً!)، فأرادت أمها أن تخفف عنها فقالت: (أي بُنية، خُفي عليك الشأن، فوالله لقلمَّا كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها لها ضرائر، إلا كثرن، وكثر الناس عليها).
لم يكن هذا الحديث يؤذي عائشة وحدها ولا أمها ولا أبا بكر نفسه ولا المسلمين، بل كان هذا الحديث يؤذي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشد الأذى، أخيراً قرر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يستشير خلصاءه فيما يحدث وما عليه أن يفعل؟، فذهب إلى بيت أبي بكر -رضي الله عنه- ودعا إليه علياً وأسامة بن زيد ليستشيرهما في هذا الأمر، فأمَّا أسامة فقد نفى كل ما أشيع عن عائشة، وقال بأن هذا الحديث عن عائشة أفك وكذب وباطل، وأمَّا علىَّ -رضي الله عنه- فقال: (يا رسول الله، إن النساء لكثير)، وذهب الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى عائشة في بيت أبيها وقال لها: "يا عائشة، إنه قد كان ما بلغك من قول الناس، فاتقي الله إن كنت قارفت سوءاً مما يقولون، فتوبي إلى الله فإن الله يقبل التوبة عن عباده"، فبكت عائشة بكاءً شديداً وقالت: (والله لا أتوب إلى الله مما ذكرت أبداً! إني لأعلم لئن أقررت بما يقوله الناس، والله يعلم أنى بريئة لأقولن ما لم يكن، ولئن أنا أنكرت لا تصدقوني، إنما أقول كما قال أبو يوسف -عليه السلام-: "فصبرٌ جميلٌ واللهُ المُستعانُ على ما تصفُون)، وعمَّ الصمت بعد هذا الحديث كل الحاضرين في بيت أبي بكر، وتغش رسول الله مكان يتغشّاه حين نزل الوحي، حتى إنه ليتصبب عرقاً، ثم قالت عائشة: (أمَّا والله ما فزعت ولا باليت حين رأيت من ذلك ما رأيت، فقد عرفت أنى بريئة، وأن الله غير ظالمي، وأمَّا أبواي فما سُرّى عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى ظننت لتخرجن نفساهما فرقاً من أن يأتي من الله تحقيق ما قال الناس)، ثم سري عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأخذ يمسح جبينه ويقول لعائشة: "أبشري يا عائشة! قد أنزل الله براءتك"، قالت عائشة: (الحمد لله!)، وخرج مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- إلى المسجد وتلى على المسلمين تلك الآيات: "إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ {11} لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ {12} لَوْلاَ جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ {13} وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ {14} إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ {15} وَلَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ {16} يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ {17} وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ {18} إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ ءاَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ {19} وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّه رَءُوفٌ رَحِيمٌ {20}) (النور: الآيات 11- 20).
كما نزلت أيضاً في هذه المناسبة آيات تحدد عقوبة رمي المحصنات في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور: الآية 4).
وتنفيذاً لحُكم القرآن الكريم فقد طبَّق رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- عقوبة رمي المُحصنات، فأتي "بمسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش"، وضُرب كل منهم ثمانين جلدة، وعادت "عائشة" إلى بيتها وإلى قلب مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- من جديد كريمة مُعزّزة، أنزل اللهُ براءتها في كتابه الكريم، وبرَّأها مما قالوا عنها من إفك، لتبقى الآيات شاهداً على براءتها إلى يوم الدين، وشاهداً أيضاً على ما نال أفَّاكيها من خزي وعار وعقاب على ما اقترفوه من إثم في حق أم المؤمنين.
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الثلاثاء 14 ديسمبر 2021, 5:59 pm عدل 1 مرات
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
موضوع: رد: مُحَمَّد (صلى الله عليه وسلم) الثلاثاء 14 ديسمبر 2021, 12:41 am
المبحث الخامس من صلح الحديبية حتى فتح مكة أولا: رسل مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- إلى الملوك بعد تمام الصلح في الحديبية بين مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- وقريش والذي سمى (بصلح الحديبية)، عاد رسول -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون إلى المدينة بعد ثلاثة أسابيع من هذا الصلح، وفى نفوسهم شيء، فقد حسب بعضهم أن هذا الصلح غير متفق مع كرامة المسلمين، لمَّا حدث من تنازلات من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في نص المعاهدة، وما قابله في الوقت نفسه من تشدد من جانب قريش، ولم يستمر هذا الشعور بين المسلمين كثيراً، فقد أنزل الله على رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وهم في طريق عودتهم إلى المدينة، سورة الفتح التي تبشر المسلمين بالنصر القريب.
وفكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد هذا الصلح في أمرين: 1.توسيع نطاق الدعوة الإسلامية خارج الجزيرة العربية. 2.القضاء على شوكة اليهود داخل الجزيرة العربية. من أجل ذلك قرر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إرسال رسل إلى هرقل، وكسرى، والمقوقس، والنجاشي، والحارث الغساني، وعامل كسري في اليمن وغيرهم، وكان هرقل على رأس دولة الروم، وكسرى على رأس دولة الفرس، والنجاشي على رأس الحبشة، وكان النزاع دائم بين الدولتين الكبيرتين، الروم والفرس، فهما اللتان تتحكمان في سياسة الأمم ومصائرها في ذلك الوقت، غَلبت الفرس الروم في أول الأمر، واستولت على فلسطين ومصر وبيت المقدس، ونقلت الصليب منه إلى عاصمة الإمبراطورية، ثم انتصر الروم على الفرس بعد ذلك، واستولوا على مصر وسورية وفلسطين، وأعاد هرقل الصليب مرة أخرى إلى بيت المقدس، في الوقت نفسه لم يكن أحد ليجرؤ على مواجهة هاتين الدولتين الكبيرتين، ومع هذا فقد قرر مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- إرسال الرسل إلى ملوك تلك الدول الكبرى، وغيرها ليدعوهم إلى الإسلام، وجدير بالذكر أن فارس والروم كانتا ذاواتي حضارة إلا أنها حضارة تخلو من القوة الروحية، ففارس مقسمة بين الوثنية والمجوسية، بينما بيزنطية كانت مضطربة بسبب اختلاف المذاهب والفرق هناك.
لم يتردد مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- في دعوة هؤلاء الملوك إلي الدين الإسلامي، وخطب -صلى الله عليه وسلم- في الناس وقال: ((أيها الناس، إن الله قد بعثني رحمة للناس كافة فلا تختلفوا علىَّ كما اختلف الحواريون على عيسى بن مريم))، قال أصحابه وكيف اختلف الحواريون يا رسول الله؟ قال: ((دعاهم إلى الذي دعوتكم إليه، فأمَّا من بعثه مبعثاً قريباً فرضى وسلَّم، وأمَّا من بعثه مبعثاً بعيداً فكره وجهه وتثاقل))، وذكر لهم -صلى الله عليه وسلم- أنه سيرسل إلى هرقل، وكسرى، والمقوقس، والحارث الغساني ملك الحيرة، والحارث الحميري ملك اليمن، والنجاشي ملك الحبشة، رسلاً ليدعوهم إلى الإسلام. كتب مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- إلى هرقل ملك الروم كتاباً جاء فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم، من مُحَمَّد بن عبد الله ورسوله، إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى. أمَّا بعد، فإني أدعوك بدعوة الإسلام. أسلم تَسلَم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم الإيريسيين (أي رعيته الذين يصدهم عن هذا الدين)"، ثم ختم كتابه بخاتم من فضه نقش عليه كلمة (مُحَمَّد رسول الله) (اُنظر صورة ختم الرسول -صلى الله عليه وسلم-)، ودفع "دحية بن خليفة الكلبي" بهذا الكتاب إلى هرقل (اُنظر صورة رسالة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى هرقل). وكذلك أرسل إلى كسرى كتاباً جاء فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم، من مُحَمَّد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن مُحَمَّداً عبده ورسوله، أدعوك بدعاية الله، فأني رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين، أسلم تسلم، فإن أبيت فعليك إثم المجوس" ودفع "عبدالله بن حذافة السهمي" بهذا الكتاب إلى كسرى (اُنظر صورة رسالة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى كسرى). وأرسل كتاباً إلى النجاشي ملك الحبشة قال فيه: ((بسم الله الرحمن الرحيم، من مُحَمَّد رسول الله إلى النجاشي الأصخم ملك الحبشة، سلام على من اتبع الهدى، أمَّا بعد: فأني أحمد الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن وأشهد أن عيسى بن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة فحملت به، فخلقه من روحه، ونفخه كما خلق آدم بيده، وأني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني فأني رسول الله وأني أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل، وقد بلغت ونصحت فاقبلوا نصيحتي، والسلام على من اتبع الهدى)) ودفع" عمرو بن أمية الضمري" به إلى النجاشي (اُنظر صورة رسالة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى النجاشي). وكتاباً إلى المقوقس عظيم القبط قال فيه: ((بسم الله الرحمن الرحيم من مُحَمَّد عبد الله ورسوله إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى. أمَّا بعد فإنى أدعوك بدعايه الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فعليك إثم كل القبط. يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمه سواء بيننا وبينكم، أن لانعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا إشهدوا بأنا مسلمون. مُحَمَّد رسول الله)) ودفع "حاطب بن أبي بلتعة" به ليسلمه إلى المقوقس (اُنظر صورة رسالة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى المقوقس). وأرسل كتاباً إلى ملك البحرين دفع به "العلاء بن الحضرمي" (اُنظر صورة رسالة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى أمير البحرين)، وكتاباً إلى ملك عُمان دفع به"عمرو بن العاص السهمي، وكتاباً إلى ملك اليمامة دفع به"سليط بن عمرو"، وكتاباً إلى الحارث الغساني ملك تخوم الشام دفع به "شُجاع بن وهب الأسدي"، وكتاباً إلى الحارث الحميري ملك اليمن دفع به "المهاجر بن أمية المخزومي"، وانطلقوا جميعاً بتلك الرسائل إلى الملوك لتسليمها.
أمَّا "هرقل" فقد أظهر مظهر الذي لم يحفل بما جاء به "دحية بن خليفة الكلبي"، وأمَّا "كسرى" ملك الفرس فقد استشاط غضباً من كتاب مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- ومزقه، وكتب إلى "باذان" عامل اليمن أن يبعث إليه برسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع رجلين جلدين من قومه، وقد زاد من غضبه أنه كان واقعاً تحت تأثير هزيمته من هرقل، بل وكانت هزائمه المتلاحقة ما زالت تتوالى في ذاك الوقت، وأرسل "باذان" رسله يحملون رسالة منه إلى مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم-، وفي تلك الأثناء مات كسري وخلفه "شيرويه" فعلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهذا الخبر من جبريل -عليه السلام- فأبلغ رسل "باذان" بنبأ موت كسرى، ولمَّا بلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- ما فعله كسري بكتابه الذي مزقه، قال -صلى الله عليه وسلم- لرسل باذان: ((مزق الله ملكه))، وطلب منهم أن يكونوا دعاة الإسلام عند أهل اليمن، فلمَّا رجع رسل باذان وأبلغوه بما قال مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- وما فعل معهم سُر بذلك وأعلن إسلامه، وظل باذان عاملاً لمُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- على اليمن بعد إسلامه، ولعل باذان بإسلامه هذا كان نقطة ارتكاز قوية للإسلام في جنوب شبه الجزيرة العربية.
أمَّا "المقوقس" فقد رَدَّ رداً جميلاً بعد أن استقبل رسول مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- وأحسن استقباله، وقال:
(بسم الله الرحمن الرحيم. لمُحَمَّد بن عبدالله من المقوقس عظيم القبط. أمَّا بعد فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت فيه وما تدعو إليه وقد علمت أن نبياً قد بقي وكنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمتُ رسولك وبعثت لك بجاريتين لهما مكان من القبط عظيم وبكسوه وأهديت لك بغله لتركبها والسلام). قال إنه يعتقد أن نبياً سيظهر، لكنه سيظهر في الشام!!، ثم بعث مع رسول مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- بهدايا (جاريتين هما (مارية القبطية - وسيرين))، وبغلة، وحمار، ومقداراً من المال، وبعض خيرات مصر، أمَّا "مارية" (اُنظر شكل نسب الرسول -صلى الله عليه وسلم-) فقد تزوجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وولدت له إبراهيم (اُنظر ملحق زوجات الرسول -صلى الله عليه وسلم-)، أمَّا "سيرين" فقد أهداها إلى "حسان بن ثابت"، وأمَّا البغلة فكانت بيضاء وفريدة من نوعها في أرض العرب سماها النبي -صلى الله عليه وسلم- "دُلٌدَل"، أمَّا الحمار فسمى "عُفيراً" أو "يعفورا"، وقَبِل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هدايا المقوقس، قيل إن المقوقس كاد أن يسلم لولا خشيته من أن يسلبه الروم ملك مصر إذا علموا بإسلامه، ولولا ذلك لأسلم.
أمَّا "النجاشي" فقد رد على "عمرو بن أمية الضمري" رسول مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- رداً جميلاً، وأرسل كتاباً إلى مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- قال فيه: (بسم الله الرحمن الرحيم، إلى مُحَمَّد رسول الله من النجاشي الأصخم بن أبجر، سلام عليك يا نبي الله من الله، ورحمة الله وبركات الله الذي لا إله إلا هو، الذي هداني إلى الإسلام، أمَّا بعد، فقد أتاني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى، فورب السماء والأرض أن عيسى لا يزيد على ما ذكرت ثغروقاً، وإنه كما قلت، ولقد عرفنا ما بعثت به إلينا، ولقد قربنا ابن عمك وأصحابه وأشهد أنك رسول الله صادقاً، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت على يديه لله رب العالمين، وبعثت إليك بابني ارمى بن الأصخم، فأني لا أملك إلا نفسي وان شئت أن آتيك يا رسول الله فعلت، فأني أشهد أن ما تقوله حق، والسلام عليك يا رسول الله)، لقد كانت له صلة وطيدة بينه وبين المسلمين، وكان كريماً مع من هاجر إليه من مكة، ولقد أرسل له مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- خطاباً آخر مع رسوله يطلب فيه عودة المسلمين الذين أقاموا بالحبشة إلى المدينة، فجهز "النجاشي" لهم سفينتين حملتاهم برئاسة "جعفر بن أبي طالب، وكان معه "رملة" أم حبيبة بنت أبى سفيان (اُنظر شكل نسب الرسول -صلى الله عليه وسلم-) التي مات زوجها "عبدالله بن جحش"، بعد أن تنصر في الحبشة، بعد أن كان مهاجراً إليها مسلماً، وقد تزوجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد عودتها من الحبشة (اُنظر ملحق زوجات الرسول -صلى الله عليه وسلم-).
وكذلك اختلفت ردود فعل الأمراء العرب، فقد رد أمير اليمن وعمان رداً قبيحاً فاحشاً، ورد أمير البحرين رداً حسناً وأعلن إسلامه، بينما رد أمير اليمامة رداً ليس من باب الإسلام الحقيقي بل من باب الطمع في الولاية، فقد أعلن استعداده للإسلام إن نُصِّب حاكماً، لذا لعنه مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم-، وقد مات أمير اليمامة بعدها بعام واحد كما تقول بعض الروايات، لكن بوجه عام لم يُقتل أحد من رسل مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- ولم يسجن أحد منهم، بل عادوا جميعاً سالمين محملين برسالات إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكثرها حسن، وقليلها فيه غلظة وحدة.
التقى رسل مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- في المدينة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد عودته من خيبر وأخبروه بردود الملوك والأمراء، وهاهم قد عادوا مرة أخرى سالمين، كما عاد جعفر والمسلمون من الحبشة، كلهم ينتظرون العام المقبل ليَحُجُّوا إلى مَكَّة ويدخلوا المسجد الحرام آمنين، محلقين رؤوسهم ومقصرين لا يخافون، لقد بلغت فرحة مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- بعودة "جعفر بن أبي طالب"، أنه ذكر له أنه لا يدري بأي أمريه يغتبط، أيغتبط بالنصر على خيبر أم بلقاء جعفر -رضي الله عنه-، وظل المسلمون في المدينة آمنين مستمتعين بالعيش والحياة الآمنة هناك، لا يفكرون في أمر غزو أو هجوم إلا دفع لبعض السرايا التي كان الرسول يرسلها لردع من يفكر في الاعتداء على المسلمين أو سلب حقوقهم، فلمَّا دار العام وهَلَّ ذو القعدة، خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- لعمرة القضاء في ألفين من المسلمين، تنفيذا لمَّا قُطع من عهد في العام السابق في الحديبية.
ثانياً: عُمْرَةُ القضاء مَرَّ عام على صلح الحديبية، وأصبح للمسلمين الحق في دخول مكة، وزيارة الكعبة، وقضاء العمرة، ونادى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الناس أن يجهزوا أنفسهم للخروج إلى مَكَّة لقضاء العمرة، وأقبل المهاجرون والأنصار يلبون هذا النداء، وبعد أن كان ركب المسلمين إلى مَكَّة في العام السابق قد بلغ ألفاً وأربعمائة، زاد هذا العدد في هذا العام إلى ألفين، خرجوا جميعاً دون سلاح إلا السيف في قِرابه، وجهز الرسول -صلى الله عليه وسلم- مائة فارس يرأسهم "مُحَمَّد بن مَسٌلَمة"، ليكونوا في الطليعة، وليقوموا بتأمين الركب خشية غدر قريش ونقض عهدها، وسار المسلمون إلى مَكَّة يتقدمهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ناقته القصواء، ومعهم ستون ناقة للهدى، ولمَّا علمت قريش بقدوم مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، جلوا عن مكة، وصعدوا إلى التلال المجاورة، وركبوا كل مرتفع يطل على مكة، تنفيذا لعهد الحديبية الذي قطعوه مع مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- في العام السابق.
انحدر المسلمون من شمال مَكَّة وأخذ "عبد الله بن رواحه" بخطام القصواء ناقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تحيط به الصحابة، حتى إذا بلغوا البيت الحرام نادوا جميعاً: (لبيك لبيك!)، كانوا يلبون بصوت فيه الفرحة والإجلال الذي يهز القلوب، ولمَّا بلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المسجد اضطبع بردائه أي (أخذ بالإزار أو البرد وجعل وسطه تحت إبطه الأيمن وألقى بطرفيه على كتفه الأيسر من جهتي الصدر والظهر)، ثم قال -صلى الله عليه وسلم-: ((اللهم أرحم إمرأً أراهم اليوم من نفسه قوة))، ثم استلم الركن عند الحجر الأسود ليبدأ مناسك العمرة ومعه ألفان من المسلمين يحذون حذوه متحمسين لهذا الموقف المهيب؛ وبلغ من حماسة "عبد الله بن رواحة" أن أطلق صيحة حرب ضد قريش، فصده عمر، وقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((مهلاً يا بن رواحة وقل لا إله إلا الله وحده، نصر عبده وأعز جنده، وخذل الأحزاب وحده))، فنادى بن رواحة بما قاله الرسول -صلى الله عليه وسلم- وردد المسلمون من بعده هذا النداء، تلك الأصوات العالية المُهَلِلة التي خرجت من حناجر المسلمين، أخافت قريش وهم في أماكنهم فوق الجبال المطلة على مكة.
ولمَّا أتم المسلمون الطواف بالكعبة توجهوا إلى الصفا والمروة ليقوموا بباقي مناسك العمرة، فقاموا بحلق رؤوسَهم ليتموا بذلك أول عمرة بعد صلح الحديبية، أتموها بكل مناسكها وهم آمنون، محلقين رؤوسهم ومقصرين وكأنهم هم أصحاب هذا البلد الأمين، ولمَّا جاء الفجر دخل مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- الكعبة، وبقي بها حتى صلاة الظهر وصلى خلفه ألفان من المسلمين في مشهد مهيب، وكان بلال يؤذن لهم للصلاة في أوقاتها، وأقام المسلمون بمكة ثلاثة أيام، وهى المدة التي نص عليها عهد الحديبية، ولمَّا أسلمت "ميمونه" أخت أم الفضل زوج العباس بن عبد المطلب، وكلت أختها في زواجها من مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم-، وهي حينئذ في السادسة والعشرين من عمرها، وفوضت أم الفضل هذا الأمر إلى زوجها العباس.
وكانت "ميمونة" (اُنظر شكل نسب الرسول -صلى الله عليه وسلم-) قد دخلت الإسلام حين رأت ما يفعله المسلمون في عمرة القضاء، فخطب العباس ميمونة لمُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- وقَبِل مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- زواجها، وجعل صداقها أربعمائة درهم (اُنظر ملحق زوجات الرسول -صلى الله عليه وسلم-)، وأراد مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- بزواجه من "ميمونة" أن يزيد من أواصر الروابط بينه وبين قريش، ولمَّا انقضت الأيام الثلاثة طبقاً لعهد الحديبية، جاء"سهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى" يقول لمُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم-: (إنه انقضى أجلك فاخرج عنا)، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ما عليكم لو تركتموني فأعرست بين أظهركم وصنعنا لكم طعاماً فحضرتموه))، لكن سهيل كان سفيها في قوله فقال: (لا حاجة بنا إلى طعامك فاخرج عنا)، قال ذلك خشية أن يؤثر المسلمون في قريش إن أطالوا مدة بقائهم في مكة، واضطر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الاستجابة لمَّا نصت عليه المعاهدة وأذِن للمسلمين بالرحيل، واستعد المسلمون للرحيل وخرجوا كلهم معه، وخلَّف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "أبا رافع" مولاه على "ميمونه" لتستعد للذهاب معه -صلى الله عليه وسلم-، على أن تلحق به مع أبي رافع في "سرف" (موضع قريب من مكة)، فلمَّا أتى "أبو رافع" بها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بنى بها هناك، وكانت هي آخر زوجات الرسول -صلى الله عليه وسلم- (اُنظر ملحق زوجات الرسول -صلى الله عليه وسلم-)، وعمرت بعده خمسين سنة.
بلغ المسلمون المدينة ومُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- لا يشك لحظة واحدة فيما تركته تلك العمرة من أثر في نفوس أهل مَكَّة بعد رحيلهم عنها، ودليل ذلك أن" خالد بن الوليد" فارس قريش المقدام، حين هم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والذين معه بالرحيل عن مكة، وقف خالد في جمع من قريش قائلاً: (لقد استبان لكل ذي عقل أن مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- ليس بساحر ولا شاعر، وأن كلامه من كلام رب العالمين.
فحق على كل ذي لب أن يتبعه)، جاء هذا الكلام كالصاعقة على قريش، ما جعل "عِكرمة بن أبي جهل" يقول لخالد بن الوليد: (لقد صبوت يا خالد)، وقد بعث خالد بن الوليد إلى النبي بأفراس وأقر بالإسلام وأسلم.
لمَّا سمع أبو سفيان بإسلام خالد بن الوليد ذلك غضب غضباً شديداً، وقال: (واللات والعزى لو أعلم أن الذي تقول حقُّ لبدأت بك قبل مُحَمَّد) قال خالد: (فوالله إنه لحق على رغم من رَغَمٍ)، ولم يتمالك أبا سفيان نفسه من الغضب فاندفع نحو خالد فحجزه عِكرمة وقال: (مهلا يا أبا سفيان فوالله لقد خفت للذي خِفٌتَ أن أقول مثل ما قال خالد وأكون على دينه.أنتم تقتلون خالداً على رأى رآه وقريش كلها تبايعت عليه! والله لقد خفت ألا يحول الحول حتى يتبعه أهل مَكَّة كلهم)، وانضم خالد إلى المسلمين ليزيدهم قوة ومنعه وذهب معهم إلى المدينة، وقد أسلم من بعد خالد بن الوليد كل من (عمرو بن العاص)، (عثمان بن طلحة)حارس الكعبة، وبإسلام هؤلاء أسلم كثيرون من أهل مكة، فقويت بذلك شوكة الإسلام وأصبح فتح مَكَّة أمراً وشيكاً.
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الثلاثاء 14 ديسمبر 2021, 5:59 pm عدل 1 مرات
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
موضوع: رد: مُحَمَّد (صلى الله عليه وسلم) الثلاثاء 14 ديسمبر 2021, 12:48 am
ثالثاً: غزوات الرسول -صلى الله عليه وسلم- من بعد الحديببية حتى فتح مكة خلال هذه الفترة كانت الغزوات الآتية: 1.غزوة خيبر في ذي الحجة 6هـ- (اُنظر خريطة غزوات الرسول -صلى الله عليه وسلم-). وكان سببها استمرار يهود خيبر في تحريض القبائل الأخرى ضد المسلمين وإيواء أعداء المسلمين عندهم، بالإضافة لرغبة المسلمين في التخلص نهائياً منهم لتأمين المنطقة والتفرغ بعدها لقريش وللإعراب.
2.غزوة مؤتة فى جمادى الأولي 8هـ-
وكان هدفها تأديب الإعراب الذين غدروا بدعاة المسلمين" بذات أطلاح" وتأديب "شرحبيل بن عمرو الغسانى" عامل هرقل على بصرى، وتأديب مناصريه لسكوتهم على اغتيال مبعوث مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- الذي أرسله إلى هرقل.
3.غزوة ذات السلاسل في جمادى الآخرة 8هـ-
وكان سببها أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يستعيد هيبة المسلمين مرة أخرى في شمال الجزيرة العربية بعد عودة "خالد بن الوليد "من مؤته، بالإضافة إلى منع "قضاعة" من الاقتراب من أطراف المدينة.
4.ثم كان فتح مَكَّة في شهر رمضان سنة 8هـ-
وكان سببه تنازع بنو بكر مع خزاعة بسبب قتل بني بكر رجالاً من خزاعة عند بئر من آبار المياه، وفرار خزاعة إلى مَكَّة ولجوئهم إلى دار "بُديل"، وذهاب "عمرو بن سالم" من رجال خزاعة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليستنصره، كما رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن قريش قد نقضت عهدها، فقرر أن يقابل هذا النقض بفتح مكة.
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الثلاثاء 14 ديسمبر 2021, 6:00 pm عدل 1 مرات
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
موضوع: رد: مُحَمَّد (صلى الله عليه وسلم) الثلاثاء 14 ديسمبر 2021, 12:56 am
المبحث السادس مرض الرسول مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- ووفاته أولاً: آخر غزوات الرسول -صلى الله عليه وسلم- قبل مرضه 1.كان آخر غزوات الرسول -صلى الله عليه وسلم- قبل مرضه هي: غزوة حنين وحصار الطائف في شوال 8هـ: ، وكان سببها أن المسلمين بعد فتح مَكَّة وانهيار قريش لم يبق من المشركين في الجزيرة العربية سوى بعض القبائل، وبعد خمسة عشر يوماً من فتح مَكَّة تنامي إلى المسلمين أن "مالك بن عوف" قد جمع هوازن وثقيفاً، واجتمعت أيضاً قبيلتا نصر وجشم معهم بأموالهم ونسائهم يريدون القضاء على المسلمين في مكة، والاستيلاء على مَكَّة التي فتحها المسلمون، فأراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضرب القبائل المحتشدة قبل أن يستفحل أمرها.
ثم كانت غزوة تبوك في شهر رجب 9هـ: وكان سببها أن المسلمين بعد أن سيطروا على شبه الجزيرة العربية وحتى حدود الشام والعراق، حشدت الرومان جيوشها لغزو المسلمين، فأراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقف أمام هذا الغزو، كما أراد أيضاً رد اعتبار المسلمين بعد الذي حدث لهم في غزوة مؤتة. ثانياً: عام الوفود لمَّا انسحبت الروم إلى داخل الشام، ترك هذا الانسحاب في نفوس قبائل العرب، وفى نفوس قبائل الجنوب باليمن وحضرموت أثراً عميقاً؛ فهؤلاء الروم هم الذين غلبوا الفرس من قبل، وهاهم اليوم ينسحبون إلى داخل الشام ليتحصنوا بمعاقلهم فيها، فأجدر باليمن والبلاد العربية الأخرى أن تدخل تحت لواء مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم-، وتحت علم الإسلام حتى تخرج من سيطرة الروم والفرس، فلتكن إذا السنة العاشرة من الهجرة هي عام الوفود، وليدخل الناس في دين الله أفواجاً بعد هزيمة الروم، وانسحابها إلى داخل الشام (اُنظر خريطة مراحل توحيد شبه الجزيرة العربية)، وتشاء الأقدار أن تكون (الطائف) هي أول من سارع من البلدان إلى إعلان الطاعة، وهى التي حاصرها المسلمون من قبل، ثم انصرفوا عنها، دون اقتحامها لصمودها أمام الحصار، فكيف تكون (الطائف) هي أول من يعلن الطاعة والانصياع!!.
كان "عروة بن مسعود" غائباً باليمن حين غزا النبي -صلى الله عليه وسلم- بلاده بعد موقعة حنين، فلمَّا عاد من اليمن وعلم بأخبار انتصار المسلمين في تبوك، أسرع إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليعلن إسلامه، ويتطوع بدعوة قومه إلى الإسلام، وهو الذي كان أحد سادة ثقيف المقيمين بالطائف، وكان متعصباً لقومه، وهم على دينهم، فهو أحد الذين فاوضوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في صلح الحديبية، ولمَّا كان الرسول على معرفة بأحوال ثقيف وتعصبها لصنمها "اللات" فقد حذر"عروة" من قومه وقال له: ((إنهم قاتلوك))، وقال عروة: (يا رسول الله، أنا أحب إليهم من أبكارهم)، وصدق حدس رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلمَّا ذهب "عروة" إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام لم يبدوا له رأياً، فلمَّا أصبح نادى في قومه إلى الصلاة، فاستشاطوا غضباً، وأحاطوا به من كل مكان، وقاموا برميه بالنبل فأصابه سهم قاتل، وقال وهو يسلم الروح: (كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها الله إلىَّ، فليس في إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يرتحل عنكم)، مات عُروة شهيداً ودفنه أهله مع الشهداء.
أسلمت جميع القبائل التي تحيط بالطائف، ورأت ما صنع أهل ثقيف بسيد من سادتهم، وأيقنت ثقيف في الوقت نفسه أن شوكة المسلمين قد قويت، وإن لم يعقدوا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هدنة أو صلحاً فإنهم سيخسرون لا محالة وسيكون مصيرهم إلى الفناء، أرادوا أن يرسلوا كبيرهم "عبد يا ليل" ليعرض صلح ثقيف مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولمَّا خشي" عبد ياليل " أن يفعل قومه معه كما فعلوا "بعروة"، رفض أن يذهب وحده، وطلب أن يوفد معه خمسة آخرين، فلمَّا أرسلوا هؤلاء الرجال معه اطمأن قلبه، وحين اقتربوا من مقر النبي -صلى الله عليه وسلم- في المدينة رآهم" المغيرة بن شُعبة" فأسرع ليبلغ الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقدومهم، ورأى أبو بكر الصديق أن يبشر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بذلك بنفسه، ويزف له تلك البشرى.
كان الوفد المرافق "لعبد يا ليل" على حذر من المسلمين، فقد كانوا على جانب من الاعتزاز بأنفسهم لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- حاصرهم من قبل فصمدوا، حتى عاد المسلمون دون اقتحام للطائف، وبرغم أن"عُروة" قد علمهم كيف يحيَّوُن رسول الله بتحية الإسلام، إلا أنهم أبوا ذلك، وحيوه بتحية الجاهلية، لقد كانوا على حذر من المسلمين، وضرب لهم -صلى الله عليه وسلم- قبة خاصة في ناحية من المسجد كي يسمعوا القرآن ويروا الناس إذا صلوا، ولقد بلغ شدة حذرهم أنهم ما كانوا ليشربوا شراباً، أو يُطعموا طعاماً قبل أن يتذوقه "خالد بن سعيد بن العاص" الذي كان وسيطاً بينهم، بين "عبد ياليل" وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تلك المفاوضات، وكانت المفاوضات شاقة وعسيرة كثر فيها جدالهم، أبلغوا مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- استعدادهم للإسلام على أن يدع لهم صنمهم "اللات" ثلاث سنوات من قبل أن يهدمها، فأبى -صلى الله عليه وسلم- ذلك، برغم أنهم تنازلوا عن مطلبهم تدريجياً فيما يتعلق بالفترة الزمنية التي يُبٌقىِ لهم فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على صنمهم، لكنه -صلى الله عليه وسلم- أصر على موقفه من هدم الأصنام دون تحديد فترة زمنية لذلك، تدرجت تنازلاتهم من ثلاث سنوات إلى سنتين إلى سنة إلى شهر فأبى -صلى الله عليه وسلم- ذلك أيضاً، طلبوا منه أن يعفيهم من الصلاة فقال: ((إنه لا خير في دين لا صلاة فيه))، وافقت أخيراً ثقيف على هدم أصنامهم وأوثانهم بعد هذا الجدال، وطلبوا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألا يكون هدم أصنامهم بأيديهم، فوافق الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقال: ((أمَّا كسر أوثانكم بأيديكم فسنعفيكم منها)).
جعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "عثمان بن أبى العاص" أميراً عليهم برغم حداثة سنه ذلك لتفقهه في الدين عنهم، وأقاموا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما بقي من شهر رمضان، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خلال شهر رمضان يرسل لهم طعام الإفطار والسحور، حتى إذا انتهى رمضان وحان وقت العودة أوصى -صلى الله عليه وسلم- "عثمان بن أبى العاص" أن يُصَلّى بهم إماماً وقال: ((تجاوز في الصلاة وأقُدُر الناس بأضعفهم، فإن فيهم الكبير والصغير والضعيف وذا الحاجة))، ووجه الرسول -صلى الله عليه وسلم- معهم أبا سفيان بن حرب، والمغيرة بن شعبة ليقوما بهدم "اللات" الذي كانوا يتخذونها إلهاً من قبل، كانت لهم روابط مودة وحرمة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان الناس يهابون فعل ذلك بالآلهة حتى لا تصب عليهم لعناتهم، وبدأ المغيرة في هدم "اللات" بعد أن أخذ مالها وحليها فقضى بها ديناً كان على "عُروة بن مسعود" كأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- له بالاتفاق مع أبي سفيان.
وبهدم اللات، وبإسلام الطائف، تكون الحجاز كلها قد أسلمت، ويكون الإسلام قد انتشر من بلاد الروم في الشمال، إلى بلاد اليمن وحضرموت في الجنوب، فقد كانت الوفود تأتي منها إلى المدينة للمبايعة وإعلان الطاعة والولاء، وظلت الوفود تتوافد على المدينة من هنا وهناك حتى جاء موعد الحج، كان هناك في الجزيرة من لم يؤمن بالله ولا بمُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم-، إضافة إلى اليهود والنصارى الكفار الذين مازالوا يحجون إلى الكعبة في الأشهر الحرم، وهم قوم نجس فالعهود التي قطعها معهم -صلى الله عليه وسلم- تنص على عدم صدهم عن الحج، وبالتالي سيكون هناك تناقض غير مفهوم!!، فكيف يحج المسلمون جنباً إلى جنب مع المشركين النجس، كيف يطوفون سوياً حول الكعبة؟، لن يستطيع أحد أن يفهم اجتماع عبادتين في مكان واحد في بيت الله الحرام وفى وقت واحد هي الأشهر الحرم، عبادة تأمر بتحطيم الأصنام، وعبادة تأمر ببقائها وعبادتها، لذا قرر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يخرج أبو بكر -رضي الله عنه- حاجاً بالناس هذا العام، وخرج أبو بكر -رضي الله عنه- في ثلاثمائة مسلم للحج قاصداً مكة، ونزلت في ذلك سورة براءة، فأرسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علىَّ بن أبى طالب ليلحق بأبي بكر الصديق -رضي الله عنه- ليقرأ سورة براءة على الحجيج، هذه السورة التي تؤكد أمر الله بنقض العهد بين المشركين والمسلمين، إلا العهود المحدد لها أجل، فتبقى سارية حتى تنتهي مدتها.
لمَّا اجتمع الناس لتأدية مناسك الحج في مِنى، وقف عليٌ بن أبى طالب وبجانبه أبو هريرة -رضي الله عنه- ينادي في الناس ويقرأ من سورة التوبة قوله تعالى:
فلمَّا أتمَّ تلاوته لتلك الآيات توقف ثم صاح بالناس: (أيها الناس، إنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مُشرك، ولا يطوف بالبيت عُريان، ومَنْ كان له عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عَهْدٌ فهو إلى مُدَّتِهِ)، من يومئذ لم يحج مشرك ولم يطف بالبيت عريان، ومن ذلك اليوم وضع الأساس الأول لبناء الدولة الإسلامية، إن الشرك الذي كان موجوداً حين قام مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- بالدعوة إلى الإسلام، لم يكن يتمثل في عبادة الأصنام وحدها، بل كان هناك شرك من نوع أخر يتمثل في مجموعة من التقاليد والعقائد والعادات، فقد كان هناك رق ووأدُ للبنات وخمر، وربا، وتعدد زوجات بلا حدود، حتى كان الرجل يتزوج بعدد من الزوجات يصل إلى عشرات، بل مئات من الزوجات.
دخل في دين الإسلام عدد من البلاد، منها اليمن ومهرة والبحرين واليمامة، ولم يكن هناك من يرفض الدخول في هذا الدين إلا عدد قليل أخذته العزة بالإثم، كان من هؤلاء" عامر بن الطفيل" الذى أبى أن يكون من المسلمين، ولمَّا أتى مع وفد من بني عامر وحاول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إقناعه، أبى وأصر على موقفه بل وأراد أن يكون نداً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فخرج وهو يقول: (أمَّا والله لأملأنها عليك خيلا ورجالا)، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((اللهم أكفني عامر بن الطفيل!))، وانصرف عامر ليلحق بقومه، وفى الطريق أصيب بالطاعون وقضى عليه وهو في بيت امرأة من بني سلول، مات وهو يردد: (يابني عامر! أغُدة كغُدة البعير وموتة في بيت سلولية!).
ومن هؤلاء الذين أبوا أن يؤمنوا ويسلموا لله، وأخذتهم العزة بالإثم "أربد بن قيس" الذي أبى أن يُسلم، وعاد إلى بني عامر، ثم لم يلبث طويلاً بينهم حتى أحرقته صاعقة، أمَّا أشرهم فكان "مسيلمة بن حبيب" هذا الرعديد الذي جاء في وفد بني حنيفة من أهل اليمامة فخلفه القوم على رحالهم، ولمَّا عادوا إليه أدعى النبوة، وأخذ يقول أقوالا تضاهي القرآن، وما هي من عند الله من شيء، كان يقول على سبيل المثال: (لقد أنعم الله على الحُبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشى)، وأحل الخمر والزنا، ووضع عن قومه الصلاة، ولم يكتف بذلك بل كان يدعو الناس إلى تصديقه، هذه كانت نماذج من الذين آخذتهم العزة بالإثم، ورفضوا الإسلام، وأمَّا ما عداهم فقد أقبلوا على الإسلام يدخلون في دين الله أفواجاً فرحين مستبشرين، حتى ملوك حمير بعثوا رسولا بكتاب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلنون فيه إسلامهم، فأقر الرسول -صلى الله عليه وسلم- إسلامهم، وأرسل لهم يُعرَّفُهم مالهم وما عليهم في الإسلام.
وهذه أسماء القبائل والوفود التي أقبلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لتُسلم وهي: مُزينة، أسد، تميم، عبس، فزارة، مُرة، ثعلبة، مُحارب، سعد بن بكر، كلاب، رؤاس بن كلب، عُقيل بن كعب، جعدة، قشير بن كعب، بني البكاء، كنانة، أشجع، باهلة، سُليم، هلال بن عامر، عامر بن صعصعة، ثقيف.
ووفود ربيعة من: عبد القيس، بكر بن وائل، تغلب، حنيفة، شيبان.
ومن اليمن وفد من: طيئ، تُجيب، خولان، جعفى، صُداء، مُراد، زبيدة، كندة، الصدف، خشين، سعد هُزيم، بلى، بهراء، عُدرة، سلامان، جهبنة، كلب، جرم، الأزد، غسان، الحارث بن كعب، همدان، سعد العشيرة، عنس، الداريين، الرهاويين، غامد، النخع، بجيلة، خثعم، الأشعريين، حضرموت، أزد عمان، غافق، بارق، دوس، ثمالة، حُدان، أسلم، جُذام، مهرة، حمير، نجران، جيشان.
هكذا دخلت كل شبه الجزيرة العربية في دين الله أفواجاً، إلا ما قدمنا من الذين أخذتهم العزة بالإثم منهم، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، لقد سارع المشركون إلى الدخول في الإسلام، فتركوا عبادة الأوثان، وتطهرت بلاد العرب كلها من الأصنام طواعية واختياراً دون إراقة دماء أو إزهاق أية أرواح.
ثالثاً: حجة الوداع 1.كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكرم الوفود فيستقبلهم أحسن استقبال، ويودعهم أحسن توديع، وكان يكرم الأمراء الوافدين، ويردهم مكرمين إلى إماراتهم، فحين قدُم" وائل بن حُجر الكندى" مع "الأشعث" وكان أمير بلاد الشاطئ من حضرموت فى ذلك الوقت، كلف مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- معاوية بن أبي سفيان باصطحابه إلى بلاده، ولمَّا انتشر الإسلام في ربوع اليمن أوفد النبي -صلى الله عليه وسلم- "مُعاذا"ً إلى أهله يعلمهم ويفقههم فى الدين وأوصاه قائلاً: ((يسر ولا تعسر، وبشر ولا تنفر، وإنك ستقوم على قوم من أهل الكتاب يسألونك: ما مفتاح الجنة؟ فقل: شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له))، بهذه الروح انتشر الإسلام في ربوع شبه الجزيرة العربية، أصبحت كلها تحت لواء واحد هو لواء مُحَمَّد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كلها تدين بدين واحد هو دين الإسلام، بعد أن كانت قبائل متفرقة قبل عشرين سنة، كل قبيلة تعبد صنماً من الأصنام، غير أنه كان هناك جماعة من نصارى نجران ظلوا على دينهم، ولم يسلموا، احتفظوا بدينهم دون قومهم الذين أسلموا من بني الحارث، فأرسل مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- "خالد بن الوليد" إليهم ليدعوهم إلى الإسلام، فأسلموا!!.
2.وبعث "خالد بن الوليد" وفداً منهم إلى المدينة قابلهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالترحيب والمودة، وكان هناك جماعة أخرى من اليمن عَزَّ عليها أن تخضع للواء الإسلام في الحجاز، فأرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- إليهم علىَّ بن أبى طالب ليدعوهم إلى الإسلام فأبوا في البداية وهاجموه، وبرغم صغر سنه وقلة عدد فرسانه (كان معه ثلاثمائة فارس فقط)، إلا أنه استطاع أن يشتت جمعهم ويهزمهم ويوقع في صفوفهم الرعب، فلم يجدوا من التسليم بداً، فسلَّموا وأسلموا!!، وحسن إسلامهم، واستمعوا إلى معاذ وأصحابه فتعلموا منهم الإسلام وتعاليمه السمحة، وكان هذا آخر وفد يستقبله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المدينة قبل وفاته.
3.بينما كان علىَّ بن أبي طالب يتأهب للعودة من اليمن، كان النبي -صلى الله عليه وسلم- في الوقت نفسه يتجهز للحج ويأمر الناس بالتجهز له أيضا، فقد أقبل شهر ذو القعدة واقترب موعد الحج، أراد النبي أن يدعو المسلمين في كل الجزيرة العربية للحج هذا العام، وانتشرت دعوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للحج في أنحاء الجزيرة العربية، وأقبل الناس ألوفاً ألوفاً من كل فج عميق، من كل بقعة في البلاد العربية المترامية الأطراف، وسار الناس قاصدين بيت الله الحرام، وضربت الخيام حول المدينة لمَّا يقرب من مائة ألف من المسلمين، جاءوا كلهم إخوة متحابين في الله متعارفين، تجمع بينهم المودة والأخوة الإسلامية.
4.في اليوم الخامس والعشرين من ذي القعدة من السنة العاشرة الهجرية، سار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعه نساؤه جميعاً، وسار معه جمع كبير من المسلمين (قدره بعض المؤرخين بتسعين ألفاً)، وقدره آخرون (بأربعة ومائة ألف)، ساروا جميعاً خلف رسول الله يتعلمون منه مناسك الحج، وينتهجون نهجه، ويسلكون طريقه، فلمَّا بلغوا "ذا الحليفة" أقاموا فيها ليلتهم، فلمَّا أصبحوا أحرم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأحرم المسلمون معه، كلُ يلبس إزاره ورداءه، في زى موحد للمسلمين جميعاً فقيرهم وغنيهم، صغيرهم وكبيرهم، كلهم يرتدون لباساً واحداً، ويقلدون ما يفعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويتعلمون منه مناسكهم في الحج.
5.نادى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ملبياً، ولبى المسلمون من ورائه -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إنَّ الحمد والنعمة والشكر لك لبيك، لبيك، لاشريك لك لبيك))، انطلق الألوف من المسلمين، بل وعشرات الألوف يلبون ويقطعون الطريق بين المدينة ومكة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يقفون مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند كل مسجد، ليصلوا فيه حين يأتي موعد الصلاة، فلمَّا بلغوا "سَرِفاً" (محلة في الطريق بين المدينة ومكة)، وقف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال لهم: ((من لم يكن منكم معه هدى فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل ومن كان معه هدى فلا)).
6.وصَلَ الجمع الكبير من الحجيج مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى مَكَّة في اليوم الرابع من ذي الحجة، وأسرع المسلمون إلى الكعبة مستلمين الحجر الأسود في شوق ولهفة، واستلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحجر الأسود وقبله وطاف بالبيت سبعاً، هرول في الثلاث الأولي منها كما فعل في عمرة القضاء، ثم صلى عند مقام إبراهيم فقد أمر الله المسلمين أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى لقوله تعالى: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) (البقرة: من الآية 125).
7.خرج الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومعه المسلمون من المسجد الحرام إلى ربوة الصفا، فسعى بينها وبين المروة، ثم نادى -صلى الله عليه وسلم- في المسلمين بأن يتحللوا من إحرامهم إن لم يكن معهم هدى، وتردد البعض في التحلل فغضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منهم أشد الغضب ودخل قبته، فلمَّا سألته عائشة: ما أغضبك؟ قا -صلى الله عليه وسلم-: ((ومالي لا أغضب وأنا آمر أمراً فلا يتبع!))، فلمَّا بلغ المسلمين غضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حل الألوف منهم إحرامهم آسفين على ترددهم لآمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وحلَّ نساء النبي، وحلت فاطمة ابنته أيضاً، فلم يبق على الإحرام سوى من كان معه هدى ليذبحه.
8.أقبل علىَّ بن أبى طالب من اليمن وقد أحرم حين علم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد حج بالناس، فلمَّا بلغ مَكَّة دخل على فاطمة فوجدها قد حلت إحرامها وذكرت له أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالحلِّ من الإحرام لمن ليس معه هدى، وتوجه علىَّ -رضي الله عنه- إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقص عليه ما حدث خلال رحلته إلى اليمن، فلمَّا فرغ من قصته قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((انطلق فطُف بالبيت وحِل كما حَلَّ أصحابك)) قال عليَّ: (يا رسول الله إني أهللت كما أهللت) قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((ارجع فاحلل كما حلَّ أصحابك)) قال عليَّ: (يا رسول الله إني قلت حين أحرمت: اللهم إني أُهل بما أهل به نبيك وعبدك ورسولك مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم-)، فسأله مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم-: ((أمعك هديٌ؟)) قال علىَّ: (لا يا رسول الله)، فأشركه مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- في هَدٌيه، وقام عليٌ مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليُكمل حجَّهُ.
9.في الثامن من ذي الحجة (يوم التروية) ذهب مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- إلى مِنّى، وصلَّ بها فروض يومه، وظل بها حتى مطلع فجر يوم الحج (التاسع من ذي الحجة)، فصلى الفجر وركب ناقته: (القصواء)، ويمم بها جبل عرفات، وجموع المسلمين من ورائه تحذو حذوه ويتبعونه في مسيرته، يأخذون عنه مناسكهم في الحج والعمرة، بعضهم يلبي، وبعضهم يكبر، والرسول -صلى الله عليه وسلم- يسمعهم ولا ينكر عليهم ذلك، ثم ضربوا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبة "بنمِرة" (قرية شرق عرفات) حتى زالت الشمس، فسار حتى بطن الوادي من أرض عرفة.
10.خطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المسلمين وربيعة بن أمية بن خلف يردد ما يقوله مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- حتى يسمعوه قا -صلى الله عليه وسلم- بعد أن حمد الله وأثنى عليه: ((أيها الناس: اسمعوا قولي فإني لا أدرى لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً.
أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا.
وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم وقد بلَّغتُ، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها، وإن كان رباً فموضوع (أي مهدر)، ولكن لكم رؤوس أموالِكُم لا تَظٌلِمون ولا تُظلمون، قضى الله أنه لا رِباً، وأن رِبا عباس بن عبد المطلب موضوع كله، وأن كل دم كان في الجاهلية موضوع، وان أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب...، أمَّا بعد أيها الناس، فإن الشيطان قد يئس من أن يُعبد بأرضكم هذه أبداً، ولكنه إن يُطِع فيما سوى ذلك فقد رضى به مما تَحقِرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم.
أيها الناس، إن النسئ زيادة في الكفر يُضَلُ به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ليواطئوا عدة ما حرم الله، فيحلوا ما حرم الله ويحرموا ما أحل الله.
وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً منها أربعة حُرم، ثلاث متوالية ورجب مفرد الذي بين جمادى وشعبان.
أمَّا بعد، أيها الناس، فإن لكم على نسائكم حقاً، ولهن عليكم حقاً، لكم عليهن ألا يوطئن فُرشكم أحداً تكرهونه، وعليهن ألا يأتين بفاحشة مبيَّنة، فإن فعلن فإن الله قد أذِن لكم أن تهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضرباً غير مبّرح، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، واستوصوا بالنساء خيرا فهن عندكم عَوَان (أي كالأسرى) لا يملكن لأنفسهن شيئاً، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمات الله، فاعقلوا أيها الناس قولي فإني قد بلَّغتُ، وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به لن تضلوا أبداً أمراً بيناً: كتاب الله وسنة رسوله.
أيها الناس، أسمعوا قولي واعقلوه.
تَعَلمُنَّ أن كل مسلم أخ للمسلم، وأن المسلمين أخوة فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه فلا تظلمُنَّ أنفسكم. اللهم هل بلغت!))، فلمَّا ختم الرسول -صلى الله عليه وسلم- خطابه بقوله اللهم هل بلغت، أجاب المسلمون كلهم في صوت واحد: (نعم)، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((اللهم اشهد))، خطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا الخطاب من فوق ناقته القصواء، فلمَّا فرغ من خطبته نزل عنها وأقام حتى صلى صلاتي الظهر والعصر، ثم ركبها مرة أخرى حتى الصَّخَرات، وهناك تلى قول الله عز وجل: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلَامَ دِينًا) (المائدة: من الآية 3).
11.لمَّا سمع أبو بكر هذه الآية من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بكى، فقد أحس أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد أتم رسالته، وأن يومه الذي يلقى فيه ربه قد دنا، ثم ترك الرسول -صلى الله عليه وسلم- عرفة وقضى المسلمون ليلهم بالمزدلفة، وفى الصباح نزلوا بالمشعر الحرام، ثم ذهب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى مِنى وألقى الجمرات وهو في طريقه إليها، ثم نحر ثلاثاً وستين ناقة من مائة ناقة كانت معه حين بلغ خيامه هناك، نحر واحدة عن كل سنة من سني حياته، ونحر علىَّ بن أبى طالب باقي النوق المائة، ثم حلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأسه وأتم حجه، هذه الحجة التي رأى فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مَكَّة والبيت الحرام للمرة الأخيرة في حياته، سميت هذه الحجة(حجة الوداع) لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودع فيها مَكَّة والبيت الحرام، وسميت أيضاً (حجة البلاغ) لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتم فيها ما أمر الله أن يبلغه للناس، وسميت (حجة الإسلام) لأنها الحجة التي أكمل الله فيها للناس دينهم، وأتم عليهم نعمته، ورضى لهم اٌلإسلام ديناً.
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الثلاثاء 14 ديسمبر 2021, 6:01 pm عدل 1 مرات
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
موضوع: رد: مُحَمَّد (صلى الله عليه وسلم) الثلاثاء 14 ديسمبر 2021, 12:58 am
رابعاً: مرض الرسول -صلى الله عليه وسلم- ووفاته: 1.تمت حجة الوداع وعاد عشرات الألوف من الحجيج إلى ديارهم، وفكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أمر البلاد الخاضعة للروم والفرس بالشام ومصر والعراق، فقد آمَّنَ شبه الجزيرة العربية بعد أن دخل الناس في دين الله أفواجاً، حتى الملوك العرب أخلصوا ولاءهم للنبي، منهم "باذان" عامل فارس على اليمن الذي أبقاه الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد إسلامه على أرض اليمن.
2.في نفس الوقت ظهر مدعو النبوة أمثال "طَليٌحة" كبير بني أسد، وذو السلطان بنجد حيث زعم أنه نبي ورسول؛ وأيد زعمه أمام الناس أنه تنبأ بموقع ماء حين كاد قومه يموتون من الظمأ، غير أنه لم يجرؤ على الثورة على النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا بعد وفاته، وتكفل خالد بن الوليد بالقضاء على هذه الثورة وهزمه، وانضم "طَليٌحة" من جديد في صفوف المسلمين وحسن إسلامه.
3.كما ظهر "مُسَيٌلِمِة" الذي بعث للنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (أنا نبي مثلك، وإن لنا نصف الأرض، ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشاً قوم لا يعدلون)، فأرسل إليه مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- مع رسله رسالة قال فيها: ((قد استمعت إلى كتابك وما فيه من كذب، وأن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده الصالحين، والسلام على من اتبع الهدى)).
4.أمَّا "الأسود العنسي" الذي تولى حكم اليمن بعد موت "باذان" فقد أدعى السحر، وذاع صيته، وعظم أمره، فسار إلى الجنوب، وطرد عمال مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- على اليمن، ثم سار إلى نجران فقتل ابن باذان، وتولى الحكم بدلا منه وأخذ زوجته، ونشر سلطانه، واستفحل أمره، فبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى عماله باليمن كي يحيطوا بالأسود أو يقتلوه، فنجحوا في ذلك، وقتلته زوجته انتقاماً لزوجها "ابن باذان" الذي قتله هو من قبل، وتزوجها عنوة.
5.رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يعيد الحسابات مرة أخرى نحو الروم، بعد غزوة مؤتة التي نجح فيها خالد بن الوليد في الانسحاب بقوات المسلمين سالمين، ورأى أن يقوى سلطان المسلمين على حدود الشام لمنع الروم من مهاجمة شبه الجزيرة العربية، فجهز لذلك جيش "العَرِم" للذهاب إلى الشام بقيادة "أسامة بن زيد بن حارثة" الذي كان صغير السن، على الرغم من وجود من هم أكبر منه سناً (لم يكن قد بلغ إلا عشرين عاماً) في ذلك الوقت، فقد كان في هذا الجيش من المهاجرين الأولين "أبو بكر وعمر"، وبرغم أن تعيين أسامة قد أثار دهشة كبار الصحابة !، فكيف يولي الرسول -صلى الله عليه وسلم- قيادة الجيش لأسامة؛ على حداثة سنه قياساً بالمخضرمين من المهاجرين!؟، لكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يقوم أسامة مقام أبيه، الذي استشهد في موقعة مؤتة فيكون له الفخار بالنصر، وأيضا لبعث الهمة والحمية في نفوس الشباب المحاربين في صفوفه القريبين من سنه، أمَّا كبار الصحابة فكانوا يؤمنون إيمانا ًعميقاً بما يراه مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- دون ريب أو وجل.
6.أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "أسامة" أن يطأ بالجيش تخوم البلقاء، من أرض فلسطين، وهى على مقربة من مؤتة، حيث استشهد أبوه، وأمره أن ينزل على أعدائه في عماية الصباح، ويمعن في قتلهم وحرقهم بالنار دون أن يشعر به أعداؤه، فإن انتصر فلا يطيل البقاء هناك، ويعود غانما منتصراً، وتحرك "أسامة" بالجيش إلى "الجُرٌف" قرب المدينة يتجهز للذهاب إلى فلسطين، وبينما هو يستعد إذ برسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمرض مرضاً شديداً حال بينهم وبين المسيرة، كيف يسيرون؟، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي هو أحب إليهم من أنفسهم مريض، كيف يتركونه وهو في هذا المرض، ويغادرون المدينة دون أن يكونوا مطمئنين على صحته، فهذا يقلقهم إذا ذهبوا للحرب، فحين يمرض الرسول فمن الطبيعي أن يخاف عليه محبوه وأصحابه.
7.برغم مرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا أنه كان بشوشاً يُداعب عائشة رضى الله عنها ويبتسم في وجهها، فقد مر بعائشة وهى تشكو صداعاً في رأسها تقول: (وارأساه !) فكان -صلى الله عليه وسلم- يقول لها: ((بل أنا والله يا عائشة وارأساه!))، فلمَّا كرَّرت عائشة الشكوى من هذا الصداع قال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((وما ضرَّك لو مت قبلي فقمتُ عليكِ وكفنتكِ وصليتُ عليكِ ودفنتكِ؟!))، فأثارت تلك الدُّعابة غيرتها وحرصها على الحياة فقالت: (ليكن ذلك حظ غيري، والله لكأني بك لو قد فعلت ذلك لكنت رجعت إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك)، فتبسَّم -صلى الله عليه وسلم- من قولها، غير أن مرضه كان يشتد به، فذهب يطوف بأزواجه كعادته، حتى إذا كان في بيت "ميمونة" لم يستطع المُواصلة، ورأى أنه في حاجة إلى تمريض، فدعا نسائه إلى بيت "ميمونة" يستأذنهن في أن يُمَرَّض في بيت عائشة فوافقن جميعاً، واتكأ الرسول -صلى الله عليه وسلم- على عليَّ بن أبي طالب، وعلى عمِّه العباس حتى دخل بيت عائشة.
8.اشتدَّت الحُمَّى على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لكنها لم تمنعه من أن يمشي إلى المسجد للصلاة بالناس، إلا انه لم يكن ليزيد على الصلاة بالناس لشدة مرضه، فهو لا يقوى على الجلوس لمحادثة أصحابه أو الاستماع إليهم، وكان يستمع أثناء ذلك وهو في المسجد لهمس الناس عن "أسامة بن زيد بن حارثة" الذي أمَّره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على كبار المهاجرين والأنصار على الرغم من حداثة سنه، فقرر -صلى الله عليه وسلم- أن يتحدث إلى الناس في هذا الشأن، فقرر أن يذهب إلى المسجد متحاملاً على نفسه متغلباً على شدة مرضه، فقال لأزواجه وأهله: ((هَريقوا علىَّ سبع قرب من آبار شتى حتى أخرج إلى الناس فأعهد إليهم))، فاستجابوا له، وأتوا بالماء من آبار شتى وأقعدوه في مِخْضَب لحفصة، وصببن عليه الماء من القرب السبع، ثم لبس ثيابه، وعصب رأسه، وذهب إلى المسجد، ثم جلس على المنبر، وبعد أن حمد الله وصلى على أصحابه الذين استشهدوا في غزوة "أُحد" واستغفر لهم وأكثر من الصلاة عليهم،قال: ((أيها الناس أنفِذوا بعث أسامة، فلعمري لئن قلتم في إمارته لقد قلتم في إمارة أبيه من قبله، وإنه لخليق للإمارة وإن كان أبوه لخليقاً لها)) ثم سكت، ثم عاد للحديث فقال: ((إن عبدا من عباد الله خيَّره الله ما بين الدنيا والآخرة وما بين ما عنده فاختار ما عند الله)) ثم سكت مرة أخرى والناس كأن على رءوسهم الطير، وعرف أبو بكر أن النبي إنما قصد نفسه بتلك العبارة فأجهش بالبكاء وقال: (بل نفديك بأنفسنا وأبنائنا)، وخشي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن تمتد عدوى هذا التأثر الذي أبداه أبو بكر إلى الآخرين فأشار إليه قائلاً: ((على رسلك يا أبا بكر)).
9.أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بإغلاق جميع أبواب المسجد عدا باب أبي بكر وقال: ((إني لا أعلم أحداً كان أفضل في الصحبة عندي يداً منه، وإني لو كنتُ مُتَّخِذاً من العباد خليلاً لاتخذتُ أبا بكر خليلاً ولكن صحبة وإخاء إيمان حتى يجمع اللهُ بيننا عنده))، ثم نزل من على المنبر، وقبل أن يخرج من المسجد قال: ((يا معشر المهاجرين استوصوا بالأنصار خيراً، فإن الناس يزيدون والأنصار على هيئتها لا تزيد، وإنهم كانوا عَيبتي التي أويت إليها، فأحسنوا إلى مُحسنهم وتجاوزوا عن مُسيئهم))، ثم ذهب إلى بيت عائشة مُجهداً، وقد زادت عليه وطأة المرض وشِدَّته.
10.حاول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في اليوم التالي أن يقوم للصلاة بالناس في المسجد، لكنه لم يقو على ذلك، حينئذ قال للناس: ((مُرُوا أبا بكر فليُصل بالناس))، وحاولت عائشة رضي الله عنها أن تشجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على القيام والصلاة بالناس في المسجد كعادته فذلك يعكس مظهر الصحة والعافية لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند المسلمين، ويرفع من معنوياتهم، لكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمام هذا المرض كرر أمره بأن يتولى أبو بكر الصلاة بالمسلمين، وقام أبو بكر يصلي بالمسلمين عدة أيام، حتى غاب عنهم في يوم من الأيام، فدعا بلال "عمر بن الخطاب" ليصلي بالناس بدلا من أبي بكر -رضي الله عنه-، فلمَّا صلى عُمر بالناس، وكان صوته جهورياً، سمعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في فراشه فقال: ((فأين أبو بكر؟ يأبى الله ذلك والمسلمون))، لقد ظن بعض الصحابة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهذا القول قد استخلف أبا بكر -رضي الله عنه- من بعده.
11.وكانت فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تعوده كل يوم، فلمَّا اشتد عليه المرض، أراد أن يخفف عنها حين دخلت عليه فقبلها وقال لها: ((مرحباً يا بنيتي))، ثم أجلسها جانبه، وأسر لها حديثاً فبكت، ثم أسر لها حديثاً آخر فضحكت، فلمَّا سألوها بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم- عما أبكاها وأضحكها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قالت: (أنه أسر إليها أنه سيُقبض في مرضه هذا فبكت، فلمَّا أسر لها أنها أول من يلحقه من أهله ضحكت)، لقد كانت الحمى على أشدها، كان يغشى عليه منها أحياناً، ثم يفيق، وهو في أشد المعاناة من قسوة هذا المرض، حتى كانت فاطمة تقول: (واكرب ابتاه!) فكان يقول لها -صلى الله عليه وسلم-: ((لا كرب على أبيك بعد اليوم))، وتجمع الرجال حوله في بيته حين اشتد به المرض فقال لهم: ((ائتوني بدواة وصحيفة أكتب لكم كتاباً لا تَضلوا بعد أبداً)).
12.يُذكر أن عمر -رضي الله عنه- قال في هذا الوقت: (إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد غلبه الوجع، وعندكم القرآن، وحسبنا كتاب الله)، وكان بعضهم يريد أن يقرب صحيفة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليكتب لهم فيها ما شاء أن يكتبه، فلمَّا رأى -صلى الله عليه وسلم- هذا الخلاف في الرأي بينهم قال: ((قوموا! ما ينبغي أن يكون بين يدي النبي خلاف))، ولقد رأى ابن عباس أنهم أضاعوا شيئاً كثيراً بعدم إعطاء رسول الله صحيفة ليكتب لهم فيها في هذا الوقت.
13.لمَّا سمع "أسامة بن زيد" بأن المرض قد اشتد على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، نزل من الجُرف إلى المدينة ومعه كثيرون، فلمَّا دخل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في بيت عائشة (رضي الله عنها) (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذه اللحظة لا يستطيع الكلام من شدة المرض)، نظر الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى أسامة ورفع يده لأعلى علامة الدُّعاء له، وصنعت أسماء قريبة ميمونة شراباً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانت قد تعلمته أثناء مُقامها في الحبشة، وصبُّوا هذا الشراب في فِيهِ، فلمَّا أفاق -صلى الله عليه وسلم- سأل: ((مَنْ صنع هذا؟ ولِمَ فعلتمُوه؟!))، قال عمه العباس: (خشينا يا رسول الله أن تكون بك ذات الجنب)، قال -صلى الله عليه وسلم-: ((ذلك داء ما كان الله عز وجل ليقذفني به))، وكان لدى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين اشتد به المرض سبعة دنانير، أمر أهله أن يتصدَّقوا بها، لكنهم انشغلوا بمرضه، ولم يتصدَّقوا بها، فلمَّا أفاق من إغمائه سأل عن هذه الدنانير، فأجابت عائشة أن الدنانير مازالت عندها، فطلب منها أن تحضرها إليه، فلمَّا أحضرتها له وضعها في كفه وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((ما ظن مُحَمَّد بربه لو لقي الله وعنده هذه؟))، ثم تصدَّق بها جميعا للفقراء من المسلمين.
14.استطاع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يخرج إلى المسجد في صباح اليوم التالي، عاصباً رأسه معتمداً على عليَّ بن أبي طالب وعلى الفضل بن العباس، وكان أبو بكر -رضي الله عنه- يُصَلِّي بالناس، فلمَّا أحسَّ الناسُ بوصول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كادوا يفتنون بوجوده المفاجئ فأشار إليهم أن يثبتوا، فلمَّا شعر أبو بكر بوصول رسول الله إلى المسجد أراد أن يتخلّى له عن مكانه في إمامة المسلمين بالمسجد، فدفعه مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- في ظهره وقال له: ((صلِّ بالناس)) ثم جلس إلى جانب أبي بكر حتى أتَمَّ الصلاة، فلمَّا فرغ أبو بكر من الصلاة خطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الناس وقال: ((أيها الناس، سُعِّرتُ النارُ، وأقبلت الفتن كقطع الليل المُظلم، وإني والله ما تمسكون علىَّ بشيء، إني والله لم أحِلَّ إلا ما أحلّ القرآنُ ولا أحَرِّم إلا ما حرَّم القرآن، لعِن اللهُ قوماً اتَّخذوا قُبورهم مساجد))، وقد فرح المسلمون لمظهر التقدم الذي بدت عليه صحة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك الوقت.
15.عاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى بيت عائشة مسروراً برؤية المسلمين، وقد امتلأ بهم المسجد خلف أبي بكر -رضي الله عنه-، لكن خروج الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى المسجد لم يكن سوى الصحوة التي تسبق الموت، فقد شعر -صلى الله عليه وسلم- بدنو أجله، وما أحس إلا أنها سويعات ثم ينتقل إلى الرفيق الأعلى.
16.معظم الروايات تُجمِع على أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- في يوم 8 يونيو 632م وكان يوماً شديد الحر، طلب أناءً ماء يبلل منه يده ثم يمسح بها على جبينه، ودخل رجل من آل أبي بكر معه سواك، فنظر رسول -صلى الله عليه وسلم- إليه نظرة تدل على أنه يريد السواك، فأخذته عائشة، ومضغته له، وأعطته إياه، فاستاك به، وفى النزع الأخير من الموت توجه -صلى الله عليه وسلم- إلى الله يدعوه قائلاً: ((اللهم أعنِّي على سكرات الموت))، وتقول عائشة وهى تصف اللحظات الأخيرة لحياة مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- وهو يرقد في حجرها قالت: (وجدت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يثقُل في حجري، فذهبت أنظر في وجهه فإذا بصره قد شخص وهو يقول: ((بل الرَّفيق الأعلى من الجنَّة))، قلت: خُيرتَ فاخترتَ والذي بعثك بالحق، قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين سحري (أي مستنداً إلى ما يحاذي الرئة من الصدر)، ونحري ودولتي لم أظلم فيه أحداً، فمن سفهي وحداثة سني أنه -صلى الله عليه وسلم- قُبض وهو في حجري، ثم وضعت رأسه على وسادة، وقمت التدم مع النساء، وأضرب وجهي).
17.مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولم يصدق عمر -رضي الله عنه- أنه قد مات حقاً، فأسرع إلى حيث كان جثمان النبي -صلى الله عليه وسلم- وكشف عن وجهه الشريف فلم يجد أي حراك له فظن للوهلة الأولي أنه في غيبوبة، وحاول المغيرة إقناعه بالحقيقة غير أنه كذبه وخرج إلى المسجد وهو يصيح في الناس: (إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد توفي، وإنه والله ما مات ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل: قد مات، والله ليرجعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما رجع موسى، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنه مات)، وذهل المسلمون لمَّا سمعوه عن وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- ويا للهم الناصب لأولئك الذين سمعوه ورأوه، وأحاط بعض الرجال بعُمر يحاولون تصديقه، فكيف يموت -صلى الله عليه وسلم-، وقد كان معهم منذ ساعات، كانوا يرونه ويسمعونه، ويستمعون إلى دعائه واستغفاره بصوته الجهوري، كيف يموت وقد اهتزت الدنيا له ودانت له العرب كلها، ولم يبق إلا أن يدين له هرقل وكسرى بالإسلام (اُنظر شكل من تأسيس الدولة إلى وفاته -صلى الله عليه وسلم-).
وأنهم لكذلك لا يصدقون موت النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ أقبل أبو بكر وقد بلغه الخبر، فذهب إلى بيت عائشة واستأذنها فقالت: (لا حاجة لأحد اليوم بإذن)، فدخل فلقي النبي -صلى الله عليه وسلم- مسجى عليه (بُرد حبرة موشى مخطط) فكشف عن وجه -صلى الله عليه وسلم- وقبله وقال: (ما أطيبك حياً وما أطيبك ميتاً!) ثم قال: (بأبي أنت وأمي! أمَّا الموتة التي كتب الله عليك فقد ذقتها، ثم لن تصيبك بعدها موتة أبداً)، ثم غطى البردة على وجهه -صلى الله عليه وسلم-، ثم خرج أبو بكر ورأى عمر بن الخطاب ما يزال يحاول إقناع الناس بأن مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- لم يمت، فقال لعمر: (على رسلك يا عمر! انصت!) فلم يصمت عمر، واستمر في حديثه، لكن الناس أقبلوا على أبي بكر وانصرفوا عن عمر، فخطب أبو بكر في الناس وقال: (أيها الناس، من كان يعبد مُحَمَّداً فإن مُحَمَّداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت)، ثم تلا قوله تعالى: (وَمَا مُحَمَّد إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) (آل عمران: الآية 144).
18.لمَّا سمع عمر -رضي الله عنه- قول أبي بكر وسمع تلك الآية، خر إلى الأرض، موقناً أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد مات، أمَّا الناس الذين أخذوا بقول عمر فقد تعجبوا إذ سمعوا هذه الآية يتلوها أبو بكر، وكأنهم لم يعلموا من قبل أنها نزلت عليهم، وكان "أسامة بن زيد" قد رأى مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- في الصباح فظن أنه قد تعافى وشفى من مرضه فعاد إلى معسكره بالجرف، وأمر الجيش بالتجهز للمسير، فلمَّا سمع بوفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- عاد أدراجه مرة أخرى، وأمر الجيش فرجع كله إلى المدينة، ثم ذهب إلى بيت عائشة، ووضع علمه على بابها، ثم انتظر ماذا يكون من أمر المسلمين بعد موت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
19.كاد المسلمون أن يتفرقوا بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فانحاز "حيُّ" من الأنصار إلى "سعد بن عُبادة" في سقيفة بني ساعدة، كما أعتزل "الزبير بن العوام"، و"طلحة بن عبيد الله" مع "على بن أبى طالب" في بيت فاطمة، وانحاز المهاجرون ومعهم "أسيد بن حُضير" في بني الأشهل إلى "أبي بكر الصديق"، فلمَّا علم أبو بكر وعمر بانحياز الأنصار إلى "سعد بن عبادة"، توجها إليهم لينظرا ما هم عليه قبل أن يتفاقم الأمر، وفي الطريق لقيهما رجلان صالحان من الأنصار نصحهما بعدم الاقتراب من الأنصار، فلمَّا سمع عمر ذلك قال "والله لنأتينهم" فانطلقا حتى نزلا في سقيفة بني ساعدة فوجدوا "سعد بن عبادة" بها وبه وجع، وحدثت خلافات بين المهاجرين والأنصار كلُ يتحيز لفريقه.
20.قام خطيب من الأنصار فقال: (أمَّا بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منا وقد دَفَّتٌ دافةُ من قومكم وإذا هم يريدون أن يحتازونا من أصلنا ويغصبونا الأمر)، فلمَّا سمع عمر ذلك غضب وأراد أن يدفع هذا الرجل الأنصاري فأمسكه أبو بكر وقال: (على رسلك يا عمر)، ثم وجه أبو بكر كلامه إلى الأنصار فقال: (أيها الناس نحن المهاجرون أول الناس إسلاماً وأكرمهم أحساباً، وأوسطهم داراً، وأحسنهم وجوهاً، وأكثرهم ولادة في العرب، وأمسهم رحماً برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أسلمنا قبلكم، وقُدَّمنا في القرآن عليكم، فقال تبارك وتعالى عنا: (والسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {100}) (التوبة: الآية 100)، فنحن المهاجرون وأنتم الأنصار، إخواننا في الدين، وشركاؤنا في الفىء، وأنصارنا على العدو، وأمَّا ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، وأنتم أجدر بالثناء من أهل الأرض جميعاً، فأمَّا العرب فلن تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، فمنا الأمراء ومنكم الوزراء) فقاطعه رجل من الأنصار غاضباً وقال: (أنا جذ يلها (أي أصل الشجرة) المحكك، وعذيقها المرجب، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش) قال أبو بكر: (بل منا الأمراء ومنكم الوزراء، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين "عمر بن الخطاب، وأبي عبيدة بن الجراح" فبايعوا أيهما شئتم).
21.ارتفعت الأصوات وخيف الاختلاف فأخذ عمر بن الخطاب بيد أبي بكر -رضي الله عنه- وبايعه وهو يقول: (ألم يأمرك النبي بأن تصلي أنت يا أبا بكر بالمسلمين! فأنت خليفته، ونحن نبايعك فنبايع خير من أحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منا جميعاً)، هذه الكلمات فعلت فعل السحر في قلوب المسلمين الحاضرين، وقضت تلك المبايعة على ما بينهم من خلاف، فبايع المهاجرون أبا بكر ثم بايعه الأنصار.
22.في صباح اليوم التالي جلس أبو بكر على المنبر وتقدم عمر بن الخطاب ثم قال: (أني قد قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت مما وجدتها في كتاب الله، ولا كانت عهداً عهده إلىَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولكني قد كنت أرى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سيدبَّر أمرنا ويبقى ليكون آخرها، وإن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي به هدى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإن اعتصمتم به هداكم الله لمَّا كان هداه له، وإن الله قد جمع أمركم على خيركم صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وثاني اثنين إذ هما في الغار، فقوموا فبايعوه)، فقام الناس فبايعوا أبا بكر البيعة العامة بعد بيعة السقيفة.
23.قام أبو بكر -رضي الله عنه- بعد هذه البيعة وخطب فيهم خطبة تُعَدّ آية من آيات الحكمة، قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: (أمَّا بعد، أيها الناس، قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوى فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله).
24.بعد أن بايع الناس أبا بكر -رضي الله عنه- اختلفوا أيضاً على مكان دفن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال جماعة من المهاجرين يدفن في مكة، وقال غيرهم يدفن في بيت المقدس، واستقر الرأي على دفن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المدينة، واقترحوا أن يدفن في المسجد، لكن عائشة روت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كره ذلك وهو حي حيث قال -صلى الله عليه وسلم-: ((قاتل الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))، ثم قضى أبو بكر بأنه قال: (إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول ما قُبض نبي إلا دفن حيث يقبض)، ثم قرر أن يدفن تحت مكان فراشه الذي قُبض فوقه.
25.تولى غسل النبي -صلى الله عليه وسلم- أهله الأقربون وهم: (عليَّ بن أبي طالب، العباس بن عبد المطلب؛ وولداه الفضل وقُثم، أسامة بن زيد)، وكان "أسامة بن زيد" و "شُقران" مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هما اللذان يصبان الماء عليه، كما كان علىَّ -رضي الله عنه- يغسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو بقميصه، فقد أبوا أن ينزعوا قميص رسول الله -صلى الله عليه وسلم-،وكانوا يصبون الماء من فوق القميص، وكانوا يجدون به طيباً، فكان علىَّ -رضي الله عنه- يقول وهو يغسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (بأبى أنت وأمي! ما أطيبك حياً وميتاً)، ثم كُفِّن الرسول -صلى الله عليه وسلم- في ثلاثة أثواب، أثنين صُحاريين وبُرد حبرة أدرج فيها إدراجاً، ثم ترك الجثمان حيث كان، وتركت أبواب المسجد مفتوحة للمسلمين يلقون على نبيهم -صلى الله عليه وسلم- نظرة الوداع، ويصلون عليه ويخرجون وهم مملوئون بالحزن الشديد على فراقه، فلمَّا فرغ الناس وصمتوا قال أبو بكر -رضي الله عنه-: (السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، نشهد أن نبي الله ورسوله قد بلغ رسالة ربه، وجاهد في سبيله حتى أتم الله النصر لدينه، وأنه وفَّى بوعده، وأمر ألا نعبد إلا الله وحده لا شريك له).
وبعد أن خرج الرجال دخلت النساء يودعن جثمان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويُصلّين عليه، ثم أدخلوا الصبيان بعد النساء، الكل يودع الرسول -صلى الله عليه وسلم- وينظر النظرة الأخيرة قبل أن يوارى جثمانه في مكانه الطاهر، هكذا فارق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحياة لكنه رحل إلى الرفيق الأعلى، يُصلّي اللهُ عليه وملائكته، ويُصلّي المسلمون عليه في كل صلاة وحين يُذكر اسمه -صلى الله عليه وسلم- فصلاةُ اللهِ عليك وسلامُهُ يا أكرم خلق الله، صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليك يا رسولَ اللهِ، قال تعالى: (إِن اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءاَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (الأحزاب: الآية 56).
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الثلاثاء 14 ديسمبر 2021, 6:02 pm عدل 1 مرات
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
موضوع: رد: مُحَمَّد (صلى الله عليه وسلم) الثلاثاء 14 ديسمبر 2021, 12:59 am
خامساً: عظمة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إن أكثر الكائنات في عالمنا المحسوس أضعف وأعجز من أن تتلقى مباشرة من الخالق -سبحانه وتعالى- عطايا الربوبية التي هي مقومات وجودها من الخير والرحمة والبركة والسلام؛ ذلك لأن الكائنات بها نقص في عبوديتها، وضعف في كيانها، فلا يصلح للتلقي مباشرة من الله -عز وجل- سوى العبد الكامل العبودية، الذي هو أقرب الخلق للخالق، وأعبد العبيد للمعبود عز وجل- وهو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مُحَمَّد بن عبد الله، كان يأكل الطعام ويمشي في الأسواق كما يفعل البشر، ومع ذلك، فهو أول من كان يطبق آيات الله التي كانت توحى إليه على نفسه قبل أن يطلب تطبيقها على غيره، وهذا وحده حمل ثقيل لا يقوى عليه إلا مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم-، هذا الأمر يستغرق من العبد الانقطاع والصبر، والبعد عن الترف واللهو؛ لينفذ أمر الله الذي أوحاه إليه قبل أن يأمر به المسلمين لينفذوه.
تحمل الأذى من قريش، وهاجر من مَكَّة إلى المدينة، وأنشأ الدولة الإسلامية التي يسير على نهجها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها حتى الآن، وسيسير عليها المسلمون في كل العصور إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، حارب الكفار والمشركين، ولم يخش في الله لومة لائم، كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: قرآنا يمشي على الأرض، تفرد وحده من دون سائر الخلائق بكمال العبودية لله بقدر ما تطيقه طبيعة المخلوق، لقد أرسله الله رحمة للعالمين يفك كرب المكروبين، ويفك أسر المأسورين ويقول لهم: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء)) وهم الذين حاربوه من قبل أعداء، يعطف على الفقير، ويتعامل برفق مع الشيوخ والأطفال والنساء، بل وسائر الكائنات من طيور وحيوانات وزرع ونبات، لقد كان مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- صاحب رسالة وجودية كونية، قبل أن تكون بلاغية تعليمية دنيوية.
اتخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الدعوة إلى الدين الإسلامي أساليب عديدة، فهو يذهب إلى الأسواق، ويلتقي بالحجاج الوافدين إلى مكة، ويستقبل الوفود، ويذهب إلى المناطق المجاورة لمكة، فلم يقتصر نشاطه على مَكَّة وحدها بل انتقل بالدعوة خارج مكة، كان يشرح بصدر رحب، ويناقش من هو أمامه بالحكمة والموعظة الحسنة، كان يوصل الليل بالنهار دون كلل أو ملل، لم يعتمد في شرحه للدين على الغيبيات، بل كان يقنع بالحجة بوجه باش باسم، وفكر متوقد وقلب رحيم، يقابل زائريه بتواضع وكرم، فتأخذهم شخصيته، كان من يؤمن يؤمن عن حب ورضى واقتناع، ويسجل التاريخ أن بعض من حاول الاعتداء عليه أسلم بين يديه، وكان إسلامه قوة للمسلمين، ومن أمثال هؤلاء عُمر بن الخطاب.
كان -صلى الله عليه وسلم- قوى الحجة مقداماً شجاعاً في الحق، لم يثنه عن الدعوة عداوة قريش، لم يجد المشركون في يد مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- سيفاً أو رمحاً، بل وجدوا عقلاً قوياً وحجة، وقلباً رحيماً، فأين كان السيف حين بدأ الدعوة سراً، وأين كان السيف حين جهر بالدعوة لعشيرته الأقربين، وأين كان السيف حين أقام مع بني عبد المطلب في الشعب محاصراً، وأين كان السيف حين ذهب إلى الطائف، وأين كان السيف حين كان يقابل الوفود في الأسواق، وأين كان السيف عند بيعة العقبة الأولي والثانية، وأين كان السيف حين انتشر الإسلام في يثرب، وأين كان السيف حين هاجر المسلمون إلى الحبشة، وأين كان السيف حين هاجر إلى يثرب، وأين كان السيف يوم الحديبية، وأين كان السيف حين أرسل رسله للملوك والأمراء...الخ، إنما كان السيف حين حاربته قريش والمشركون، إنما كان السيف حين مكر به اليهود، فحينئذ خرجت السيوف من أغمادها لتحارب هؤلاء الفاسقين، ولولا ذلك لشاع في الأرض الفساد.
كان مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- خير أسوة في تطبيق الحضارة كما صورها القرآن الكريم، فقد كان إخاؤه لبني الإنسان جميعاً إخاءً تامَّاً صادقاً، فقد كان إخوانه بمكة متساوين وإياه في احتمال الشدائد، وكان هو أشدهم في تحمل البأساء والضراء، ولمَّا هاجر إلى المدينة آخى بين المهاجرين والأنصار، ثم كان إخاؤه للمسلمين عامة إخاء محبة وتقوى، إخاء صادق وإيمان صادق بالله بلغ من قوته أنه كان يسمو ب -صلى الله عليه وسلم- إلى حد الاتصال بالله تعالى، وهذا مظهر من مظاهر قوة اتصال مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- بالله عز وجل، يتجلى في موقفه من غزوة بدر حين ناشد ربه النصر الذي وعده إياه، فأمده الله بالملائكة يقاتلون مع المسلمين حتى جاءه نصر الله المبين كما وعد.
ولقد كان -صلى الله عليه وسلم- دائم الاتصال بالله عن طريق الوحي الذي كان يأتيه من عند ربه في أوقات لا يعلمها إلا ربه، كان لا يهاب الموت بل يستهين به ويقبل عليه ويتمناه، لأنه يعلم أن لكل أجل كتاب وهذا مالا يعلمه اعداؤه الكفار والمشركون، يعلم من الله أنه حين يأتي المرء أجله فلا يستأخر عنه ساعة ولا يستقدم، هذا الذي جعله يوم حنين يثبت حين فر المسلمون منهزمين، يدعو الناس إليه غير آبه بالموت المحيط به، ولا بالعدد القليل الذي ثبت معه، هذا الإيمان الذي جعله يبر اليتيم وابن السبيل، ويعطى كل بائس ومحروم، وحينما حذا المسلمون حذوه، انتشر الإسلام في ربوع الأرض، ورفرفت راياته في كل البقاع، وعم الخير في كل البلاد، وفى الوقت الذي اندس فيه العلماء المضلون ظلت المبادئ الإسلامية التي رسخَّها الرسول باقية تواجه الأعاصير التي تهب ضد الإسلام على مر العصور، لقد ترك فينا ما إن تمسكنا به لن نضل بعده أبداً، كتاب الله وسنته -صلى الله عليه وسلم-.
إن عظمة الرسول -صلى الله عليه وسلم- تتمثل في جهاده المستمر حتى اللحظات الأخيرة من حياته، لقد أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله رغم كره الكافرين، ورغم كره المجرمين، من أجل ذلك تحمل أشد أنواع الأذى قولاً وفعلاً من المشركين وعبَّاد الأوثان، حتى سّرى الله عنه -صلى الله عليه وسلم- فقال: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِى الْمُرْسَلِينَ) (الأنعام: الآيتان 33، 34).
إن عظمة الرسول -صلى الله عليه وسلم- تأتى من الرحمة التي أنزلها الله -سبحانه وتعالى- عليه، فحبب فيه المسلمين في كل بقاع الأرض منذ بدء الدعوة وحتى يومنا هذا، هذه الرحمة التي جعلته يلين للمسلمين وغير المسلمين، يلين للمستضعفين، ويلين بالقول مع أعدائه حتى دخلوا في دين الله أفواجاً، أعطاه الله رحمة من عنده تفيض على العالمين، ولو كان فظاً غليظ القلب لانفضوا من حوله، قال تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاورْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران: الآية 159).
إن عظمة الرسول -صلى الله عليه وسلم- تتجلى في أنه حمل الدين الذي ارتضاه الله للمسلمين، فدين الإسلام الذي أتى به مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- هو دين كل الأنبياء والرسل، وهو خاتم الأنبياء والمرسلين، والله قد ارتضى هذا الدين الحنيف للناس أجمعين، ومن يبتغ غير هذا الدين فلن يتقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين، فخالق الناس هو الذي أرسل الرسل والأنبياء وأنزل الكتب السماوية التي أوحاها إليهم، فجعل لنا ديناً حنيفاً هو خير الأديان في الدنيا والآخرة، ألا هو دين الإسلام، الذي وصى به الأنبياء من قبل، تدبَّر قوله تعالى: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (البقرة: الآية 132).
إن الدِّينَ عند الله هو الإسلام، تدبَّر قوله تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَاب) (آل عمران: الآية 19).
أرسله الله بهذا الدين ليُظهره على الدِّين كله، تدبَّر قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُون) (التوبة: الآية 33).
هذا الدين، الذي ختم به مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- الأديان السماوية السابقة، هو فطرة الله التي فطر الناس عليها، تدبَّر قوله تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (الروم: الآية 30).
لن يقبل الله دينا من البشر ينتهجون نهجه، ويسيرون على تعاليمه سوى هذا الدين الحنيف، دين الإسلام تدبَّر قوله تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران: الآية 85).
لقد رضى الله لنا الإسلام ديناً، تدبَّر قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامِ دِينًا) (المائدة: من الآية 3).
خاض الحروب والغزوات دفاعاُ عن هذا الدين الحنيف، حاملاً كتاب الله ليبينه للناس بلسان عربي مبين، لم يكن معتدياً في يوم من الأيام، ولم ينشر الإسلام في ربوع الأرض بالسيف وبالرعب كما يفعل المجرمون، بل كان يدعو إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة.
إن عظمة الرسول -صلى الله عليه وسلم- تتجلّى في أن الله قد أرسلهُ رحمة ليس للمسلمين وحدهم، ولا للناس كافة على اختلاف مذاهبهم ومللهم فحسب، بل أرسله الله رحمة للعالمين، فهو الذي علّمنا كيف نرفق بالكائنات، بالحيوانات والطيور، وأن نُميط الأذى من الطريق، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: الآية 107).
إن حياة مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- كانت حياة إنسانية بلغت من السُّمُو غاية ما يستطيع إنسان أن يبلغها، فكانت أسوة حسنة لِمَنْ حاول أن يبلغ الكمال الإنساني عن طريق الإيمان الصادق والعمل الصالح، لقد كان مُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم- قبل الرسالة مضرب المثل في الصدق والكرامة والأمانة، وكان بعد الرسالة كذلك كما كان أيضاً مُضحياً بحياته وبراحته، فلم تغره مغريات الدنيا، ولم تثن من عزمه على مواصلة رسالته في سبيل الله، وفى سبيل الحق، تلك المغريات الدنيوية الزائلة، ولقد بلغت حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الإنسانية من السمو في جميع نواحي الحياة ومن القوة ما لم تبلغه حياة غيره من البشر.
موضوع: رد: مُحَمَّد (صلى الله عليه وسلم) الثلاثاء 14 ديسمبر 2021, 6:04 pm
ملحق زوجات الرسول -صلى الله عليه وسلم-
1. خديجة بنت خويلد
هي خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي (وهى قرشية)، أول من تزوج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصدقها عشرين بكرة، وهى أول من آمن بالله وبرسوله -صلى الله عليه وسلم- من النساء، عاشا معاً خمساً وعشرين سنة، لم يتزوج بغيرها في حياتها، بل تزوج بعد وفاتها، ولدت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أولاده كلهم إلا إبراهيم، كانت قبل ذلك عند أبي هالة بن مالك أحد بني أسد بن عمرو بن تميم، ولدت له هند بن أبي هالة، وكانت قبل أبي هالة عند عتُيق بن عابد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، ولدت له عبد الله، وجارية، توفيت وهي في الخامسة والستين.
2. سودة بنت زمعة بن قيس
هي سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبد ودَّ بن نصر بن مالك بن حِسل بن عامر بن لؤي (وهي قرشية)، زوجه إياها سليط بن عمرو، ويقال أبو حاطب بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ودَّ بن نصر بن مالك بن حِسل، وأصدقها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أربعمائة درهم، وكانت قبله عند السكران بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ودَّ بن نصر بن مالك بن حِسل، الذي هاجرت معه إلى الحبشة، وهو من أوائل المهاجرين، فلما مات زوجها بعد عودته من مكة، تزوَّجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كانت متقدِّمة في السِّن، وهى أول سيدة تزوَّجها الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد خديجة (رضي الله عنها).
3. عائشة بنت أبى بكر
هي عائشة بنت أبي بكر بن أبي قحافة بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤى (وهي قرشية)، خطبها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهى بنت سبع سنين في مكة، لزيادة رابطة الصداقة بينه وبين أبي بكر، وبنى بها بالمدينة وهى بنت تسع أو عشر، وقيل وهى بنت اثنتي عشرة سنة ولم يتزوج رسول الله بكراً غيرها، زوجه إياه أبو بكر (رضي الله عنه وأصدقها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأربع مائة درهم، كانت ذكية للغاية، وذات ذهن متوقد، حفظت القرآن الكريم، والأحاديث النبوية الشريفة، حتى قال عنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء))، كانت أثيرة عنده وتغار من باقي الزوجات، ذاع ضدها حديث الإفك فأظهر الله براءتها في القرآن الكريم، توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في بيتها ورأسه على صدرها، كانت مرجعاً للفقهاء والعلماء في الشئون الدينية، وخاصة الأحاديث النبوية بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم-.
4. زينب بنت جحش بن رئاب
هي زينب بنت جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة(وهى عربية)، ابنة عمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "أمية بنت عبد المطلب" زوجها إياه أخوها أبو أحمد بن جحش، وأصدقها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أربعمائة درهم، كانت قبله عند زيد بن حارثة، مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، واشتد الخلاف بينها وبين زيد حتى طلقها، ثم تزوجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفى هذا الزواج أعطى المسلمين قاعدة فقهية جديدة، لأنه تزوج من مطلقة الابن بالتبني، وأقر القرآن ذلك، واقتصر المنع على زوجات الأبناء من الأصلاب، وفيها نزل قول الله تبارك وتعالى: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً {37}) (الأحزاب: الآية 37).
5. أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة
هي أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي (وهي قرشية) واسمها "هند" زوجه إياها ابنها سلمة بن أبي سلمة، وأصدقها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فراشاً حشوه ليف، وقدحاً، وصَحفة، ومجشمة (أى رحى -وهو ما يوضع فيه الطحين أو الطعام إذا طحن طحناً غليظاً)، وكانت قبله عند أبي سلمة بن عبد الأسد، واسمه عبد الله، وولدت له سلمة وعمر وزينب ورقية..
6. حفصة بنت عمر بن الخطاب
هي حفصة بنت عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن عبد الله بن قُرط بن رباح بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي (وهى قرشية)، زوجه إياها أبوها عمر بن الخطاب، وأصدقها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أربعمائة درهم، وكانت قبله عند خنيس بن حذافة السهمي..
7. رملة بنت أبي سفيان بن حرب
هي أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي (وهى قرشية)، زوجه إياها خالد بن سعيد بن العاص، وهما في (أرض الحبشة)، وأصدقها النجاشي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أربعمائة دينار، وهو الذي كان خطبها على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكانت قبلها عند عبيد الله بن جحش الأسدي، وأنجبت منه حبيبة، ثم تنصر زوجها، وتركها دون عائل في الحبشة، لذا تزوجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان أبوها أشد أعداء الإسلام حتى هداه الله فأسلم يوم فتح مكة..
8. جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار
هي جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار (وهي عربية ـ خزاعية ثم مصطلقية)، كانت في سبايا بني المصطلق من خزاعة، فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن الشماس الأنصاري، فكاتبها على نفسه، فأتت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تستعينه في كتابها، فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((هل لك في خير من ذلك؟))، قالت: (وما هو؟)، قال -صلى الله عليه وسلم-: ((أقضي عنك كتابك وأتزوجك؟))، فقالت: (نعم)، وفضلت الإسلام والزواج من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على العودة إلى أهلها، فتزوجها، قال ابن هشام: (اشتراها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من ثابت بن قيس فاعتقها وتزوجها، وأصدقها أربعمائة درهم)، وتقديراً لهذا الزواج أعاد المسلمون الأسرى والأموال والسبايا من بني المصطلق إلى قومهم.
9. صفية بنت حيي بن أخطب
هي صفية بنت حيي بن أخطب (وهى غير عربية ـ من بني النضير)، تزوجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد أن سباها من خيبر، واصطفاها لنفسه، بعد أن قُتل أبوها في المعركة، وقُتل زوجها لغدره وكذبه وإخفاء أمواله، كانت قبله عند كنانة بن الربيع بن أبي الحُقيق، خيرها الرسول -صلى الله عليه وسلم- بين البقاء على دينها وإعادتها إلى أهلها فاختارت الإسلام.
10. ميمونة بنت الحارث الهلالي
هي ميمونة بنت الحارث بن حزن بن بحير بن هزم بن روبية بن عبد الله بن هلال بن عامر ابن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة ابن قيس بن عيلان (وهى عربية) وكان اسمها "برة" فسماها الرسول -صلى الله عليه وسلم- ميمونة، وهى شقيقة أم الفضل زوجة العباس بن عبد المطلب، عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كانت فقيرة، وفى الخمسين من عمرها، زوجه إياه العباس ابن عبد المطلب، وأصدقها العباس عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أربعمائة درهم، وكانت خطبتها أثناء عمرة القضاء في مكة، وكانت قبله عند أبي رُهم بن لؤي، وقيل إنها وهبت نفسها للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وذلك أن خطبة النبي انتهت إليها وهى على بعيرها، فقالت: (البعير وما عليه لله ولرسوله، فأنزل الله تبارك وتعالى قوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي ءاتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً {50}) (الأحزاب: الآية 50)، وهناك أراء أخرى في هذا الشأن، فمنهم من قال آن هذه الآية نزلت في زينب بنت جحش، ومنهم من قال نزلت في أم شريك، ومنهم من قال نزلت في امرأة من بني سامة بن لؤى، فأرجاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والله اعلم.
11. زينب بنت خزيمة بن الحارث
هي زينب بنت خزيمة بن الحارث بن عبد الله بم عمرو بن عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة بن معاوية (وهى عربية)، كانت تسمى أم المساكين لرحمتها بالمساكين ورقتها عليهم، زوجه إياها قَبيصة بن عمرو الهلالي، وأصدقها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أربعمائة درهم، وكانت قبله عند عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف، وكانت قبل عبيدة عند جهم بن عمرو بن الحارث، وهو ابن عمها.
12. أسماء بنت النعمان الكندية
وهى عربية (لم يدخل بها)، تزوَّجها فلما وجد بها بياضاً (برصاً) متَّعها وردَّها إلى أهلها مُعزَّزة مُكرَّمة.
13. عَمرة بنت يزيد الكلابية
وهى عربية (لم يدخل بها)، كانت حديثة العهد بالكفر، وكان عندها الاستعلاء والكبرياء وتُسيئً التعبير، فلمَّا قدمت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استعاذت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((منيعّ عائذ الله، فردَّها إلى أهلها))، ويُقال إن التي استعاذت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كندية بنت عم لأسماء بنت النعمان، ويُقال إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعاها فقالت: (إنا قوم نُؤتى ولا نأتي)؛ فردَّها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أهلها.
14. مارية المصرية (القبطية)
هي مارية القبطية، أرسلها المقوقس عظيم القبط هدية قيمة للرسول -صلى الله عليه وسلم-، فأسلمت وتزوجها رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- وأنجبت له إبراهيم الذي توفي وعمره عام ونصف، وقد حزن الرسول على وفاته حزناً شديداً ، تزوَّجت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في السِّتين من عمره أي قبل وفاته بثلاث سنوات.
ملحوظة:
مات قبله من أزواجه خديجة بنت خويلد، وزينب بنت خزيمة.
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الثلاثاء 14 ديسمبر 2021, 7:50 pm عدل 1 مرات
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
موضوع: رد: مُحَمَّد (صلى الله عليه وسلم) الثلاثاء 14 ديسمبر 2021, 6:04 pm
ملحق أبناء وبنات الرسول -صلى الله عليه وسلم-
أولاً: الإناث
1. زينب
بعد سنة من زواج محمد -صلى الله عليه وسلم- بخديجة أنجبت له " زينب" ، وعلى الرغم من أن خديجة قد أنجبت أولاداً من زوجيها السابقين، إلا أنها شعرت بسرور بالغ بمجيء زينب؛ لمكان زوجها الذي أنجبت منه وهو محمد -صلى الله عليه وسلم-.
كبرت زينب، وساعدت خديجة في رعاية إخوتها، وكانت تعد الأم الصغيرة لأختها" فاطمة"، قبل النبوة، تزوجها" أبو العاص بن الربيع" ابن "هالة" أخت خديجة (رضي الله عنها)، وكانت زينب في الثالثة عشرة من عمرها، وكان أبو العاص من الأثرياء ومن أشراف قريش، أنجبت له "أمامة"، وكانت زينب تذهب عند أبيها -صلى الله عليه وسلم-، حين يخرج زوجها للتجارة فلما نزل الوحي على محمد -صلى الله عليه وسلم- أسلمت زينب، ولما عاد زوجها من تجارته، أخبرته بإسلامها، لكنه لم يستجيب للإسلام، وظل على شركه، ولما علم أبو جهل بإسلام زينب طلب من" أبي العاص بن الربيع" أن يطلقها، لكنه أبى أن يطلقها، وفى السنة الثانية من الهجرة وقع "أبو العاص بن الربيع" في الأسر في غزوة بدر الكبرى، ولما علم الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون بذلك أطلقوا سراحه، وعاد إلى مكة بعد أن وعد الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يعيد زينب إليه، فالدين الجديد يمنع زواج المشرك من المسلمة، وحزنت زينب لفراق زوجها، وبدأت تستعد للسفر إلى المدينة، وأرسل أبو العاص معها أخاه "كنانة بن الربيع".
وفى أثناء سفرها تعرض لها بعض الشباب من الذين قُتل لهم أهل في غزوة بدر، ونخس "هبارة بن الأسود" بعير زينب برمح فوقعت على الأرض، ونزف منها دم غزير، وكانت حامل في شهرها الرابع، فسقط الجنين واشتدت حالتها سوءاً، واضطر "كنانة" إلى العودة بها إلى مكة للعلاج، ولما تعافت، واصلت رحلتها إلى المدينة مرة أخرى، واستقبلها أهل المدينة استقبالا حافلاً، وعاشت في كنف محمد -صلى الله عليه وسلم- عدة سنوات، وقد أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقتل "هبارة بن الأسود ونافع بن قيس" بعد أن علم ما فعلاه بزينب، ومضت بضع سنين، وأثناء عودة "أبي العاص" بتجارته من الشام عرض له بعض المسلمين، وأحاطوا به، ولما طاردوه لجأ إلى بيت زينب واستغاث بها، فوقفت زينب على باب المسجد بعد صلاة الفجر، وأعلنت أنها أجارت أبا العاص، وقابله بعدها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأسلم على يديه، وعاد أبو العاص إلى مكة معلناً إسلامه، وعاد لزينب زوجها مرة أخرى بعد أن عقد له الرسول -صلى الله عليه وسلم- عقداً جديداً على زينب، وبعد سنة عاشتها زينب مع زوجها، بعد إسلامه، توفيت ودفنت بالمدينة في أوائل السنة الثامنة من الهجرة، وتوفي زوجها في السنة الثانية عشرة من الهجرة .
2. رقية
قبيل النبوة، ذهب "عبد العزى" –أبو لهب- أحد أعمام محمد -صلى الله عليه وسلم- ومعه أخوه "أبو طالب" إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- يطلب زواج ولديه "عتبة وعتيبة" من رقية وأم كلثوم ابنتي محمد -صلى الله عليه وسلم-، ووافق محمد -صلى الله عليه وسلم- على زواجهما، وانتقلت الأختان إلى بيت زوجيهما، حيث يقيم أبوهما وأمهما "أم جميل" ذات القلب الغليظ واللسان السليط، وكانت الشقيقتان تتجنبان "أم جميل" بقدر المستطاع، وفى هذه الفترة نزل الوحي على محمد -صلى الله عليه وسلم- وأعلنت النبوة، وآمنت خديجة وبناتها ومن في بيته، وانقلبت قريش على محمد -صلى الله عليه وسلم-، وانقلبت محبة "عبد العزى" لمحمد -صلى الله عليه وسلم- إلى كره، وانضمت إليه "أم جميل" التي أمرت ولديها بتطليق رقية وأم كلثوم ليشغلوا بذلك محمد -صلى الله عليه وسلم- عن أمر الدعوة، وذهبت أم جميل وزوجها إلى "أبي العاص" لتحريضه على طلاق زوجته "زينب" لكنه رفض ذلك في شجاعة، وعادت رقية وأختها أم كلثوم إلى بيت أبيهما، وفى تلك الأثناء تقدم عثمان بن عفان لخطبة رقية، وهو شاب من شباب قريش المعروفين بالثراء والخلق الحسن، فضلاً عن حسبه ونسبه، وتزوجها عثمان بن عفان وهاجرت معه إلى الحبشة، وفى الحبشة مرضت، وهى حامل، وأسقطت جنينها، وحينما عادت إلى مكة مع عثمان في السنة العاشرة للنبوة، بعد أن علما أن رجال مكة قد دخلوا في الإسلام، لكن هذا الخبر لم يكن صحيحاً، فذهبت إلى بيت أبيها محمد -صلى الله عليه وسلم- وهى في شوق ولهفة إلى رؤية الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأمها السيدة خديجة وأخواتها، ولما دخلت بيت أبيها، علمت بوفاة أمها السيدة خديجة، فحزنت حزناً شديداً عليها، وعادت مرة أخرى مع زوجها عثمان بن عفان إلى المدينة بعد وصول محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، وهناك أنجبت "عبد الرحمن" ثم مرضت واشتد مرضها حتى اضطر عثمان إلى التخلف عن غزوة بدر الكبرى لمداواتها ورعايتها، ولما عاد الرسول -صلى الله عليه وسلم- منتصراً من غزوة بدر، وجد رقية مسجاة على فراش الموت، وما لبثت أن فارقت الحياة، فحزن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وزوجها عليها حزناً شديداً، وحزن المسلمون أيضاً عليها، فقد ضربت أروع الأمثلة في التضحية، ونكران الذات، وتحمل المشاق والصعاب، وصلى عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين ماتت ودفنها في البقيع.
3. أم كلثوم
بعد موت رقية حزنت أم كلثوم عليها حزناً شديداً، وتقدم عثمان بن عفان لخطبتها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوافق، وانتقلت أم كلثوم إلى بيت زوجها، وفى ذاكرتها أختها رقية التي كانت تعيش في هذا البيت من قبل، فقد تعلقت بها منذ الطفولة لتقاربهما في السن، وارتباط مصيرهما معاً حينما تزوجتا ولدي أبي لهب، وها هي تعيش في بيت كانت تعيش فيه أختها من قبل، فتهتاج ذكرياتها مع أختها في قلبها، فلا تملك سوى البكاء برغم سعادتها بزواجها من عثمان بن عفان الذي عُرف عنه التقوى والصلاح والخلق الطيب والورع، ومرت الأيام حتى جاء موعد انتقالها إلى الرفيق الأعلى، فماتت في شهر شعبان من السنة التاسعة للهجرة.
4. فاطمة الزهراء
أنجبت خديجة "فاطمة" الابنة الرابعة وذلك في السنة العاشرة من زواجها من محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولدتها يوم إعادة بناء الكعبة، سماها الرسول -صلى الله عليه وسلم- فاطمة تيمناً باسم زوجة عمه أبي طالب التي كان يعدها أمه الثانية حين كان في كفالة عمه، كانت فاطمة متعلقة بأختها الكبرى زينب، وتألمت كثيراً لفراقها حين تزوجت من أبي العاص بن الربيع، ولما بلغت الخامسة من عمرها علمت بنزول الوحي على أبيها محمد -صلى الله عليه وسلم-، وسعدت كثيراً بنبوة أبيها، ولمست جهاده في سبيل الدعوة، وما يلاقيه من عناء ومشقة، وكانت لا تتركه لحظة، تذهب معه إلى المسجد، وتخفف عنه من معاناته مع قريش، وتزيل الأقذار التي يلقيها عليه المشركون، وقد حضرت فاطمة زواج أختيها رقية وأم كلثوم، وروعت بوفاة أمها خديجة (رضي الله عنها)، وعاشت فترات حزينة حين توفيت أختاها أيضاً، وظلت في بيت أبيها وحيدة ترعى شؤون البيت، ولم يؤنسها إلا علىَّ ابن أبى طالب الذي تربى معها، وكان يكبرها بأربع سنوات، ومرت الأيام وتعلق بها علىَّ وأحبها وفكر في الزواج منها، ولم يعرف كيف يبدأ الحديث مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذا الأمر، لكنه تشجع وطلب من الرسول -صلى الله عليه وسلم- يد فاطمة فوافق الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وأشار عليه أن يبيع درعه الذي كسبه في بدر؛ ليدفع جزءاً من ثمنه مهراً لفاطمة، واشترى عثمان الدرع من علىَّ ليشجعه على الزواج من فاطمة، ثم أعاده إليه هدية منه، فقد كان علىَّ خالي الوفاض، لا يملك مالا، وفى تلك الأثناء كانت فاطمة تعيش مع زوجي النبي -صلى الله عليه وسلم- سودة بنت زمعه" وكانت عجوزاً فقيرة، وعائشة (رضي الله عنها)، إلى أن انتقلت إلى بيت زوجها علي، وهي في العشرين من عمرها، عاشت حياة تقشف مع علي، فتحملت أن تنام على حشية من الليف؛ لأنها تعلم أن علياً نشأ فقيراً.
أنجبت "الحسن" وبعد عام أنجبت "الحسين"، ثم أنجبت "زينب" ثم "أم كلثوم"، وقد حزنت حزناً شديداً بعد موت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد تعلقت به وأحبته حباً كبيراً، وتوفيت بعده بعدة شهور، في الثامن من رمضان من السنة الحادية عشرة للهجرة، ودفنت بالبقيع.
ثانياً: الذكور
1. القاسم
هو أول بن لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- من خديجة بنت خويلد، أنجبته بعد أربع بنات وبعد أن جاوزت الخمسين من عمرها، ولد القاسم قبل نزول الوحي على محمد -صلى الله عليه وسلم- بوقت قليل، لم يعش طويلاً، ومات وهو في الثانية من عمره، وقد حزن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخديجة على وفاته حزناً شديداً.
2. عبدالله
عوَّض اللهُ محمداً بعد وفاة القاسم فأنجبت خديجة عبدالله، الذي لقب بالطيب وبالطاهر، لقبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهذا الألقاب لأنه ولد في الإسلام، لكنه لم يلبث كثيراً، فلحق بأخيه، ولم يتجاوز الثانية من عمره، وكانت أمه في الرابعة والخمسين، وحزن أبواه عليه حزنا شديداً.
3. إبراهيم
رزق محمد -صلى الله عليه وسلم- بإبراهيم في السنة الثامنة من الهجرة وهو في المدينة ، أنجبته مارية القبطية، وفرح الرسول -صلى الله عليه وسلم- به كثيراً، حيث كان أخر أبنائه الذكور، وكان يحمله أحياناً بين يديه ويحتضنه، لكن فرحة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم تدم به طويلاً فقد لحق إبراهيم بالقاسم وعبد الله، وكان عمره ثمانية عشر شهراً تقريباً، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد بلغ الثانية والستين من عمره، وبموت إبراهيم انتهى الأمل في إنجاب البنين، وقد عير "العاص بن وائل" وهو من المشركين رسول الله فقال للناس عن محمد -صلى الله عليه وسلم-: (اتركوه إنه أبتر بلا عقب يذكره من بعده)، فانزل الله على محمد -صلى الله عليه وسلم- قوله: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر(1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَر) (الكوثر: الآيات 1-3)، ليثلج صدر نبيه -صلى الله عليه وسلم-، ويخبره بأن عدوه هو الأبتر.
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الثلاثاء 14 ديسمبر 2021, 7:54 pm عدل 1 مرات
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
موضوع: رد: مُحَمَّد (صلى الله عليه وسلم) الثلاثاء 14 ديسمبر 2021, 6:05 pm
ملحق العشرة المبَشَرون بالجنة
1.أبو بكر الصديق
هو أبو بكر الصديق عبد الله بن أبي قحافة عثمان بن كعب التيمي القرشي، أمه أم الخير سلمى بنت صخر بن عامر التيمي، ولد سنة 51 قبل الهجرة (573م)، صحابي ممن رافقوا محمداً -صلى الله عليه وسلم- منذ بداية الدعوة، كان من أوائل من أسلموا من بني قريش، وهو والد عائشة (رضي الله عنها) زوجة رسول الله وأم المؤمنين، وهو أول الخلفاء الراشدين، سمى الصديق لأنه أول من صدق النبي في حادثة الإسراء، وقيل لأنه كان يصدق النبي -صلى الله عليه وسلم- في كل خبر يأتيه من السماء، كان يدعى بالعتيق لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: ((يا أبا بكر أنت عتيق الله من النار))، كان غنياً وسيداً من سادات قريش، كلن ممن حرموا الخمر على أنفسهم في الجاهلية،شهد الحروب، واحتمل الشدائد، وبذل الأموال، وكان رفيق النبي حين هاجر إلى المدينة، وإليه عهد النبي بالناس حين اشتد به المرض، بويع بالخلافة يوم وفاة النبي في سنة 11 هـ، حارب المرتدين والممتنعين عن أداء الزكاة، افتتحت في أيامه بلاد الشام، وقسم كبير من العراق، توفي يوم الثلاثاء 8 جمادى الآخرة عن ثلاث وستين سنة، وكانت مدة خلافته سنتين وثلاثة أشهر ونصف، قاد حروب الردة بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
2.عمر بن الخطاب
هو عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رباح بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي وكنيته أبو حفص، وفي كعب يجتمع نسبه مع نسب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أمه حنتمة بنت هشام المخزومية، أخت أبي جهل، ولد قبل بعثة محمد -صلى الله عليه وسلم- بثلاثين سنة وكان عدد المسلمين يوم أسلم تسعة وثلاثين مسلماً، ثاني الخلفاء الراشدين امتدّت خلافته 10 سنين و6 أشهر وأربعة أيام، وهو من علماء الصحابة وزهادهم، نودي بعد موت أبى بكر بخليفة خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو أول مَنْ لُقِّبَ بأمير المؤمنين، وأول من عمل بالتقويم الهجري، لُقِّبَ بالفاروق لأنه كان يفرق بين الحق والباطل، ولا يخاف في الله لومة لائم.
فكان حريصًا على أن يذيع نبأ إسلامه في قريش كلها، وزادت قريش في حربها وعدائها لمحمد وأصحابه؛ حتى بدأ المسلمون يهاجرون إلى "المدينة" فرارًا بدينهم من أذى المشركين، وكانوا يهاجرون إليها خفية، فلما أراد عمر الهجرة تقلد سيفه، ومضى إلى الكعبة فطاف بالبيت سبعًا، ثم أتى المقام فصلى، ثم نادى في جموع المشركين: "من أراد أن تثكله أمه، أو ييتم ولده، أو يرمل زوجته فليلقني وراء هذا الوادي".
تمنَّاهُ رسول الله يوم قال: "اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك، عمر بن الخطاب وأبي جهل بن هشام" [الطبرانى].
3.عثمان بن عفان
هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر.
يلتقي نسبه مع الرسول في الجد الرابع من جهة أبيه.
عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، فهو قرشي أموي، يجتمع هو والنبي في عبد مناف، أمه أروى بنت كريز بن حبيب بن عبد شمس, ولد بمكة, كان غنياً شريفاً في الجاهلية، وكان أنسب قريش لقريش، و أعلم قريش بما كان فيها من خير وشر، وكان رجال قريش يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمور لعلمه، وتجاربه، وحسن مجالسته، وكان شديد الحياء، ومن كبار التجار، كبير الجاه زكي النفس، لم يقترف فاحشة قط لا في جاهلية ولا في إسلام ويلقب ذا النورين لأنه تزوج بنتي الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يحبه جدا وقال فيه (أحيا أمتي عثمان) وقال ((لقد رأيت أني أعطيت المقاليد والموازين، فأما المقاليد فهي المفاتيح فوضعت ووضعت الأمة فرجحت بها ثم جيء بأبي بكر فوزن فوزن بها ثم جيء بعمر فوزن فوزن بها ثم جيء بعثمان فوزن فوزن بها)).
أسلم عثمان في أول الإسلام قبل دخول محمد رسول اللَّه دار الأرقم، وكان عمره قد تجاوز الثلاثين، دعاه أبو بكر الصديق إلى الإسلام فأسلم، وكان عثمان أول مهاجر إلى أرض الحبشة لحفظ الإسلام، ثم تابعه سائر المهاجرين إلى أرض الحبشة، ثم هاجر الهجرة الثانية إلى المدينة, تزوج عثمان رقية بنت رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم- وهاجرت معه إلى الحبشة، وأيضاً هاجرت معه إلى المدينة وكان يقال: أحسن زوجين رآهما إنسان رقية وعثمان، ثم إنها مرضت وماتت سنة 2هـ أثناء غزوة بدر، فحزن عليها حزنً شديداً فزوجه الرسول -صلى الله عليه وسلم- من أختها أم كلثوم لذلك لقب بذي النورين لأنة تزوج من بنتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وكان رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- يثق به ويحبه ويكرمه لحيائه، ودماثة أخلاقه، وحسن عشرته، وما كان يبذله من المال لنصرة المسلمين، وبشره بالجنة كأبي بكر وعمر وعلي وبقية العشرة، وأخبره بأنه سيموت شهيدًا، واستخلفه رسول اللَّه على المدينة في غزوته إلى ذات الرقاع وإلى غطفان، وكان محبوبًا من قريش، وكان حليمًا، رقيق العواطف، كثير الإحسان.
وكانت العلاقة بينة وبين أبي يكر وعمر وعليّ على أحسن ما يرام، ولم يكن من الخطباء، وكان أعلم الصحابة بالمناسك، حافظًا للقرآن، ولم يكن متقشفًا مثل عمر بن الخطاب، بل كان يأكل اللين من الطعام.
يُقال لغزوة تبوك غزوة العُسرة، ندب رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- الناس إلى الخروج وأعلمهم المكان الذي يريد ليتأهبوا لذلك، وبعث إلى مكة وإلى قبائل العرب يستنفرهم وأمر الناس بالصدقة، وحثهم على النفقة والحملان، فجاءوا بصدقات كثيرة، فجهَّز عثمان ثلث الجيش، جهزهم بتسعمائة وخمسين بعيرًا وبخمسين فرسًا.
قال ابن إسحاق: أنفق عثمان في ذلك الجيش نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها.
وقيل: جاء عثمان بألف دينار في كمه حين جهز جيش العُسرة فنثرها في حجر رسول اللَّه فقلبها في حجره وهو يقول: ما ضرَّ عثمان ما عمل بعد اليوم.
وقال رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: من جهز جيش العُسرة فله الجنة.
ولي عثمان الخلافة وعمره 68 عامًا، وقد تولى الخلافة بعد استشهاد عمر بن الخطاب، وفي اختياره للخلافة قصة تُعرف بقصة الشورى، وهي أنه لَماَّ طُعِنَ عمر بن الخطاب دعا ستة من الصحابة وهم: على بن أبي طالب وعثمان بن عفان و عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبى وقاص والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله ليختاروا من بينهم خليفة وذهب المدعوون إلى لقاء عمر إلا طلحة بن عبيد الله، فقد كان في سفر، فعهد إليهم أن يختاروا خليفة من بينكم في مدة أقصاها ثلاثة أيام من وفاته، حرصاً على وحدة المسلميـن، فتشاور الصحابـة فيما بينهم ثم أجمعوا على اختيار عثمان، وبايعـه المسلمون في المسجد بيعة عامة سنة (23 هـ)، فأصبح ثالث الخلفاء الراشدين.
ومن أهم أعمال عثمان فتح مرو وتركيا، وتوسيع الدولة الإسلامية، وتوسعة المسجد النبوي، وجمع القران الكريم في مصحف مكتوب برسمه إلى الوقت الحالي.
فتحت في أيام خلافة عثمان الإسكندرية ثم أرمينية والقوقاز وخراسان وكرمان وسجستان وإفريقية وقبرص.
وقد أنشأ أول أسطول إسلامي لحماية الشواطئ الإسلامية من هجمات البيزنطيين، كان من أهم إنجازاته كتابة القرآن الكريم الذي كان قد بُدِئ بجمعه في عهد الخليفة الراشد أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
حدثت في الفترة الأخيرة من خلافته رضي الله عنه فتنة ظهرت خيوطها على يد عبد الله بن سبأ، فنقم بعض الناس عليه.
فجاءت الوفود من مصر والكوفة والبصرة وحاصروا دار الخليفة عثمان ومنعوا عنه الماء، والخروج إلى الصلاة حتى يتنازل عن الخلافة.
فلم يقبل ولم يكن بالمدينة جيش أو شرطة لضبط النظام.
وكان علي بن أبي طالب وابناه الحسن والحسين واقفين عند الباب لحماية عثمان، لكن القاتل دخل من الخلف واقتحموا عليه داره وهو يقرأ القرآن، فقتلوه وكان ذلك في شهر ذي الحجة سنة 35هـ فسقطت أول قطرة من دمه على قول الله تعالى (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ) (البقرة: 137).
4.علىَّ بن أبى طالب
هو علي بن أبي طالب بن عبد المطلب الهاشمي القرشي لقبه أمير المؤمنين كنيته أبو الحسن وأبو تراب ولقبه حيدر، ولد سنة 600م في مكة، وتربى في بيت رسول الإسلام محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي آخاه، ثم زَوَّجَهُ ابنته فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين.
هو رابع الخلفاء الراشدين عند أهل السُّنَّة والجماعة وأول الأئمة عند الشيعة.
اتفق المسلمون على فضله وعرف بالعلم والحلم والشجاعة والكرم.
هو أول من آمن وصلي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
يوجد كثير من فضائله عند أهل السنة في صحاح الستة وكتب الحديث النبوي الشريف غيرها.
زوجته فاطمة الزهراء بنت محمد بن عبدالله -صلى الله عليه وسلم-، اللقب: الزهراء، الكنية: أم الأئمة، أبناؤه من فاطمة هما: الحسن والحسين، وبناته من فاطمة هن: زينب بنت علىَّ، وزينب الصغرى الملقبة بأم كلثوم.
قتل علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) في 21 من رمضان سنة 40 للهجرة بعد ضربة بالسيف وهو خارج لصلاة الفجر في مسجد الكوفة صبيحة اليوم التاسع عشر من شهر رمضان، قتله عبد الرحمن بن ملجم، و كان عمر علي يوم مات 63 سنة.
و كانت مدة خلافته خمس سنوات وثلاثة أشهر.
وتولّى غسله وتجهيزه أبناؤه الحسن والحسين وقد دفن في النجف (الكوفة).
5.الزبير بن العوام
الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب، أبو عبد الله، لقب بحواري الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
ولد سنة 28 قبل الهجرة، وأسلم وعمره خمس عشرة سنة، كان ممن هاجر إلى الحبشة، وهاجر إلى المدينة، قال عنه الرسول -صلى الله عليه وسلم- "إن لكل نبي حوارياً وحواريّ الزبير"، تزوج أسماء بنت الصديق، كان من السبعة الأول في الإسلام، أمُّهُ صفية بنت عبد المطلب بن عبد مناف, عمة رسول الإسلام.
عمته السيدة خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها.
كان خفيف اللحية أسمر اللون، كثير الشعر، طويلاً.
شهد بدراً وجميع الغزوات مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- وحارب الردة ومانعي الزكاة تحت خلافة أبي بكر الصديق، وكان ممن بعثهم عمر بن الخطاب بمدد إلى عمرو بن العاص في فتح مصر، وقد ساعد ذلك المسلمين كثيراً لما في شخصيته من الشجاعة والحزم.
ولما مات عمر بن الخطاب على يد أبو لؤلؤة المجوسي كان الزبير من الستة أصحاب الشورى الذين عهد عمر إلى أحدهم بشئون الخلافة من بعده.
عادى الزبير بن العوام علي بن أبي طالب، ولمَّا تبين له موقف الإمام على من مقتل عثمان رَدَّ راجعاً عن الجيش في موقعة الجمل، وكان بجانبه طلحة بن عبيد الله وأم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر، قتله غدراً رجل، يُدعى عمرو بن جرموز، وقد توعّد النبي صلى الله عليه وسلم قاتله بالنار..
وقد دفن الزبير في أطراف البصرة في موضع يُسَمَّى اليوم باسمه.
أبنائه: كان يُسَمِّي أبناءه بأسماء الشهداء وهم: عبد الله، جعفر، عبيدة، عمرو، خالد، عروة، المنذر، مصعب، عاصم، حمزة.
6.طلحة بن عبيد الله
هو طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة القرشي التيمي المكي أبو محمد.
قال أبو عبد الله بن منده كان رجلاً آدم كثير الشعر ليس بالجعد القطط ولا بالسبط، حسن الوجه إذا مشى أسرع ولا يغير شعره.
وعن موسى بن طلحة قال كان أبي أبيض يضرب إلى الحمرة، مربوعاً إلى القصر، هو أقرب رحب الصدر، بعيد ما بين المنكبين، ضخم القدمين إذا التفت التفت جميعاً.
عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ((من أراد أن ينظر إلى شهيد يمشي على رجليه فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله)).
كان طلحة رضي الله عنه ممن سبق إلى الإسلام، وأوذي في الله، ثم هاجر، غاب عن وقعة بدر؛ إذ كان في تجارة له بالشام، وتألم لغيبته، فضرب له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسهمه وأجره.
وقيل: بل غاب عنها لأن النبي -صلى الله عليه وسلم-، بعثه مع سعيد بن زيد يتحسسان أخبار العير، عير أبي سفيان، وعادا بعد انتهاء المعركة، قال أبو القاسم بن عساكر الحافظ في ترجمته: كان مع عمر لما قدم الجابية، وجعله على المهاجرين، وقال غيره كانت يده شلاء مما وقى بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد.
روي عن علقمة بن وقاص الليثي قال: لما خرج طلحة والزبير وعائشة للطلب بدم عثمان، عرجوا عن منصرفهم بذات عرق، فاستصغروا عروة بن الزبير وأبا بكر بن عبد الرحمن فردوهما، قال ورأيت طلحة، وأحب المجالس إليه أخلاها، وهو ضارب بلحيته على زوره.
فقلت: يا أبا محمد، إني أراك، وأحب المجالس إليك أخلاها، إن كنت تكره هذا الأمر فدعه.
فقال: يا علقمة، لا تلمني، كنا أمس يداً واحدة على من سوانا، فأصبحنا اليوم جبلين من حديد يزحف أحدنا إلى صاحبه، ولكنه كان مني شيء في أمر عثمان، مما لا أرى كفارته إلا سفك دمي، وطلب دمه.
قلت: الذي كان منه في حق عثمان تأليب فعله باجتهاد، ثم تغير عندما شاهد مصرع عثمان، فندم على ترك نصرته رضي الله عنهما، وكان طلحة أول من بايع علياً، أرهقه قتلة عثمان، وأحضروه حتى بايع، قال البخاري حدثنا موسى بن أعين حدثنا أبو عوانة عن حصين في حديث عمرو بن جاوان قال: التقى القوم يوم الجمل، فقام كعب بن سور معه المصحف فنشره بين الفريقين، وناشدهم الله والإسلام في دمائهم، فما زال حتى قتل، وكان طلحة أول قتيل، وذهب الزبير ليلحق ببنيه فقتل.
كنَّاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: في معركة أحد بطلحة الخير، وفي غزوة العشيرة بطلحة الفياض، وفي معركة خيبر بطلحة الجود.
7.عبد الرحمن بن عوف
هو عبد الرحمن بن عوف، أحد الثمانية السابقين إلى الإسلام، عرض عليه أبو بكر الإسلام فما غُـمَّ عليه الأمر ولا أبطأ، بل سارع إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- يبايعه، وفور إسلامه حمل حظه من اضطهاد المشركين، هاجر إلى الحبشة الهجرة الأولى والثانية، كما هاجر إلى المدينة مع المسلمين، وشهد المشاهد كلها، فأصيب يوم أُحُد بعشريـن جرحاً، تركت إحداها عرجاً دائماً في ساقه، كما سقطت بعـض ثناياه، فتركت هتما واضحا في نطقه وحديثه.
كان (رضي الله عنه) محظوظاً بالتجارة إلى حَدٍ يُثير الإعجاب، كانت تجارة عبد الرحمن بن عوف ليست له وحده، وإنما لله وللمسلمين حَقٌ فيها، فقد باع يوما أرضا بأربعين ألف دينار، فرّقها جميعاً على أهله من بني زُهرة، وأمهات المسلمين، وفقراء المسلمين، وقدّم خمسمائة فرس لجيوش الإسلام، ويوماً آخر ألفاً وخمسمائة راحلة.
وعند موته أوصى بخمسين ألف دينار في سبيل الله، وأربعمائة دينار لكل من بقي ممن شهدوا بدراً، حتى وصل للخليفة عثمان نصيب من الوصية فأخذه.
كان عبد الرحمن بن عوف من الستة أصحاب الشورى الذين جعل عمر الخلافة لهم من بعده، وفي العام الثاني والثلاثين من الهجرة جاد بأنفاسه (رضي الله عنه)، وأرادت أم المؤمنين أن تخُصَّه بشرف لم تخصّ به سواه، فعرضت عليه أن يُدفن في حجرتها إلى جوار الرسول وأبي بكر وعمر، لكنه استحى أن يرفع نفسه إلى هذا الجوار، وطلب دفنه بجوار عثمان بن مظعون إذ تواثقا يوماَّ أيهما مات بعد الآخر يدفن إلى جوار صاحبه... وكان يُتمتم وعيناه تفيضان بالدمع: (إني أخاف أن أحبس عن أصحابي لكثرة ما كان لي من مال).
ولكن سرعان ما غشيته السكينة، وأشرق وجهه، وأرْهِفَت أذناه للسمع، كما لو كان هناك مَنْ يُحادثه، ولعله سمع ما وعده الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((عبد الرحمن بن عوف في الجنة)).
8.سعد بن أبي وقاص
سعد بن مالك بن أهيب الزهري القرشي أبو إسحاق.
فهو من بني زهرة أهل آمنة بنت وهب أم الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
فقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يعتز بهذه الخؤولة، فقد ورد أنه -صلى الله عليه وسلم- كان جالساً مع نفر من أصحابه، فرأى سعد بن أبي وقاص مقبلاً فقال لمن معه :"هذا خالي فليرني امرؤ خاله".
كان سعد (رضي الله عنه) من النفر الذين دخلوا في الإسلام أول ما علموا به.
فلم يسبقه إلا أبو بكر وعلي وزيد وخديجة.
كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يجلس بين نفر من أصحابه، فرنا ببصره إلى الأفق في إصغاء من يتلقى همساً وسراً، ثم نظر في وجوه أصحابه وقال لهم: ((يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة)).
وأخذ الصحاب يتلفتون ليروا هذا السعيد، فإذا سعد بن أبي وقاص آت.
كان سعد بن أبي وقاص إذا رمى عدوا أصابه وإذا دعا الله دعاء أجابه، أول دم هريق في الإسلام في بداية الدعوة كان على يديه، فبينما هو في نفر من الصحابة في شعب من شعاب مكة يستخفون بصلاتهم؛ إذ ظهر عليهم نفر من المشركين وهم يصلون، فناكروهم وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم، فضرب سعد (رضي الله عنه) يومئذ رجلاً من المشركين بلحي بعير فشجه (العظم الذي فيه الأسنان)، فكان أول دم هريق في الإسلام.
بعثه الرسول -صلى الله عليه وسلم- في سرية عبيدة بن الحارث (رضي الله عنه) إلى ماء بالحجاز أسفل ثنية المرة فلقوا جمعاً من قريش، ولم يكن بينهم قتال، إلا أن سعداً قد رمى يومئذ بسهم، فكان أول سهم رمي به في الإسلام.
ولاه عمر (رضي الله عنه) إمرة جيش المسلمين الذي حارب الفرس في القادسية، وكتب الله النصر للمسلمين، وقتلوا الكافرين وزعيمهم رستم.
وعبر مع المسلمين نهر دجلة حتى وصلوا المدائن وفتحوها، وكان إعجازا عبور النهر بموسم فيضانه حتى أن سلمان الفارسي قد قال: (إن الإسلام جديد، ذللت والله لهم البحار، كما ذللت لهم البر، والذي نفس سلمان بيده ليخرجن منه أفواجا، كما دخلوه أفواجاً).
وبالفعل أمن القائد الفذ سعد مكان وصول الجيش بالضفة الأخرى بكتيبة الأهوال وكتيبة الخرساء، ثم اقتحم النهر بجيشه، ولم يخسر جندياً واحداً في مشهد رائع، ونجاح باهر.
ودخل سعد بن أبي وقاص إيوان كسرى، وصلى فيه ثماني ركعات صلاة الفتح شكرا لله على نصرهم.
ولاه عمر (رضي الله عنه) إمارة العراق، اعتزل سعد الفتنة، وأمر أهله وأولاده ألا ينقلوا له أخبارها، وعمر سعد بن أبي وقاص (رضي الله عنه) كثيراً.
وأفاء الله عليه من المال الخير الكثير.
لكنه حين أدركته الوفاة دعا بجبة من صوف بالية وقال: (كفنوني بها فاني لقيت بها المشركين يوم بدر، واني أريد أن ألقى بها الله عز وجل أيضاً).
وفاته سنة خمس وخمسين من الهجرة النبوية.
وكان آخر المهاجرين وفاة، ودفن في البقيع.
9.أبو عبيدة بن الجراح
أبو عبيدة عامر بن عبدالله بن الجراح الفهري.
يلتقي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في أحد أجداده (فهر بن مالك).
وأمه من بنات عم أبيه، أسلمت، وقتل أبوه كافراً يوم بدر.
كان (رضي الله عنه) طويل القامة، نحيف الجسم، خفيف اللحية.
أسلم على يد أبي بكر الصديق في الأيام الأولى للإسلام، وهاجر إلى الحبشة في الهجرة الثانية ثم عاد ليشهد مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- المشاهد كلها.
قال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) وهو يجود بأنفاسه: (لو كان أبو عبيدة بن الجراح حياً لاستخلفته فإن سألني ربي عنه، قلت: استخلفت أمين الله، وأمين رسوله).
في أثناء قيادة خالد (رضي الله عنه) معركة اليرموك التي هزمت فيها الإمبراطورية الرومانية توفي أبو بكر الصديق (رضي الله عنه)، وتولى الخلافة بعده عمر (رضي الله عنه)، وقد ولى عمر قيادة جيش اليرموك لأبي عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمة، وعزل خالد.
وصل الخطاب إلى أبى عبيدة فأخفاه حتى انتهت المعركة، ثم أخبر خالداً بالأمر، فسأله خالد: (يرحمك الله أبا عبيدة، ما منعك أن تخبرني حين جاءك الكتاب؟).
فأجاب أبو عبيدة: (إني كرهت أن أكسر عليك حربك، وما سلطان الدنيا نريد، ولا للدنيا نعمل، كلنا في الله أخوة).
وأصبح أبو عبيدة أمير الأمراء بالشام.
كان أبو عبيدة (رضي الله عنه) في ستة وثلاثين ألفاً من الجُند، فلم يبق إلاّ ستة آلاف رجل، ومات الآخرون في طاعون عمواس.
ومات معهم أبو عبيدة (رضي الله عنه) سنة (18) ثماني عشرة للهجرة.
وقبره في غور الأردن.
رحمه الله وأسكنه الفردوس الأعلى.
10.سعيد بن زيد
سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفَيْل العدوي القرشي، أبو الأعور، من خيار الصحابة ابن عم عمر بن الخطاب وزوج أخته، ولد بمكة عام (22 قبل الهجرة) وهاجر إلى المدينـة، شهد المشاهد كلها إلا بدراً لخروجه مع طلحة بتجسس خبر العير، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، كان من السابقين إلى الإسلام هو وزوجته أم جميل (فاطمة بنت الخطاب).
وأبوه (رضي الله عنه) (زيـد بن عمرو) اعتزل الجاهليـة وحالاتها، ووحّد الله تعالى بغير واسطة.
كان (رضي الله عنه) مُجاب الدعوة، وقصته مشهورة مع أروى بنت أوس، فقد شكته إلى مروان بن الحكم، وادَّعت عليه أنّه غصب شيئاً من دارها، فقال: (اللهم إن كانت كاذبة فاعْمِ بصرها، واقتلها في دارها).
فعميت ثم تردّت في بئر دارها، فكانت منيّتُها.
كان سعيد بن زيد موصوفاً بالزهد محترماً عند الوُلاة، ولمّا فتح أبو عبيدة بن الجراح دمشق ولاّه إيّاها.
كتب معاوية إلى مروان بالمدينة يبايع لابنه يزيد، فقال رجل من أهل الشام لمروان: (ما يحبسُك؟).
قال مروان: (حتى يجيء سعيد بن زيد يبايع، فإنه سيد أهل البلد، إذا بايع بايع الناس).
وماتت أم المؤمنين (أظنّها زينب) فأوصت أن يصلي عليها سعيد بن زيد.
توفي بالمدينة سنة (51 هـ) ودخل قبره سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر، رضي الله عنهم أجمعين.