الخلوة بالمخطوبة
من المقرر شرعًا أن المخطوبة أجنبية عن الخاطب وأنها ليست محرمًا له وهي محرمة عليه كغيرها من النساء الأجنبيات عنه، فليس بينهما أي رابط من روابط النكاح التي بين الزوجين، وما أبيح لهما من نظر أحدهما إلى الآخر قبل الخطبة أو بعدها فإنما هو فقط إباحة وقتية شرعها الشارع الحكيم للحاجة؛ فيبقى غيرها على حكم الأصل وهو التحريم، ومن ذلك الخلوة بالمخطوبة فهي محرمة لا تجوز بناء على أن المخطوبة أجنبية عن الخاطب وهذا بالسُّنَّةِ والإجماع.
فقد أجمع أهل العلم على تحريم الخلوة بالأجنبية
قال النووي:
"إذا خلى الأجنبي بالأجنبية من غير ثالث معهما فهو حرام باتفاق العلماء، وكذا لو كان معهما من لا يستحى منه لصغره كابن سنتين وثلاث ونحو ذلك فإن وجوده كالعدم" (31)، والسنة جاءت بهذا، ففي حديث ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَخْطُبُ يَقُولُ: "لا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ، وَلا تُسَافِرْ الْمَرْأَةُ إِلا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه؛ِ إِنَّ امْرَأَتِي خَرَجَتْ حَاجَّةً وَإِنِّي اكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا قَالَ: انْطَلِقْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ، وحَدَّثَنَاه أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ عَمْرٍو بِهَذَا الإِسْنَادِ نَحْوَهُ، وحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ يَعْنِي ابْنَ سُلَيْمَانَ الْمَخْزُومِيُّ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ: لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ" (32).
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ قَالَ الْحَمْوُ الْمَوْتُ" (33).
إذًا يُفهم من هذا أن على الخاطبين إذا أرادوا النظر إلى مخطوباتهم أن يكون بدون خلوة، وأن الخلوة بالمخطوبة محرم والإباحة لم ترد إلا بالنظر فيبقى ما عداه محرمًا كما تقدم.
قال ابن قدامة:
"ولا يجوز له الخلوة بها؛ لأنها مُحَرَّمَةٌ ولم يرد الشرع بغير النظر فبقيت على التحريم" (34).
بمَنْ تنتفى الخلوة
قد أرشد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى كيفية انتفاء الخلوة حيث إنها تحصل بوجود واحد فأكثر مع الرجل والمرأة بقوله: "لا يدخلن رجل بعد يومي هذا على مُغيبة إلا ومعهُ رجل أو اثنانِ" والمغيبة التي غاب عنها زوجها عن منزلها، فتدفع الخلوة بوجود شخص ثالث مع الرجل والمرأة سواء كان هذا الثالث رجلاً أو امرأة.
قال الزركشي في شرحه على الخرقي:
"ويخرج عن الخلوة بحضور امرأة صبية فأكثر أو رجل من ذوي أرحامها أو عصابتها مِمنَّ ْيُباح له السَّفر بها" (35).
ضوابط النظر إلى المخطوبة
للرؤية ضوابط ومعايير لابد من مراعاتها عند إرادة اجتماع الخطيب بمخطوبته وهي:
أولاً: أن تكون الرؤية إلى المخطوبة بعد العزم على نكاحها (36) فلا يتصفح وجوه النساء ليبحث عمن تصلح له (37) بل إذا تعينت وعزم على نكاحها؛ جاز له أن ينظر إليها سواء بعلمها أو بدون علمها سواء قبل الخطبة أو بعدها.
ثانيًا: أن يغلب على ظنه أنه سوف يُجاب إلى نكاحها (38) فإن لم يغلب على ظنه أنه سوف يجاب إلى نكاحها؛ لم يجز له النظر إليها.
ثالثًا: أن لا ينظر منها أكثر مما ينظر المحرم من محارمه من وجه وكف وقدم ورقبة ورأس.
رابعًا: أن يكون الاجتماع للنظر من غير خلوة بها؛ بل لابد من وجود من ترتفع الخلوة به من محرم أو امرأة أو صبي مميز؛ لأنه أجنبي عنها فلا تحل الخلوة بها.
خامسًا: أن لا يقصد بنظره التلذذ فذلك لا يجوز (39)؛ لأن نظر التلذذ لا يجوز إلا للزوج، والخاطب أجنبي فلا يجوز له ذلك.
سادسًا: أن يأمن من ثوران الشهوة عند النظر؛ لأن ذلك قد يؤدي إلى الفتنة مع خلاف الفقهاء فيه.
سابعًا: أن لا تتعدى مدة الرؤية ولا عددها القدر المطلوب، فمتى ما اطّلع على ما يريد من الأوصاف وتأكد منها مرة أو مرتين أو أكثر؛ لم يجز له أن يستمر في الرؤية، وذكر الفقهاء -رحمهم الله تعالى- أن له أن ينظر إليها ويكرر النظر إلى أن يتم مقصوده ويتحقق من أوصافها، فإذا تحقق من أوصافها؛ انقضت حاجته التي أبيح النظر من أجلها فيحرم بعد ذلك أن يزيد النظر أو يكرره (40).
ومما يدل على جواز تكرير النظر للحاجة:
هو فعله -صلى الله عليه وسلم- في حديث الواهبة نفسها للنبي -صلى الله عليه وسلم- المتقدم، وهو عن سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جِئْتُ لِأَهَبَ لَكَ نَفْسِي فَنَظَرَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَصَعَّدَ النَّظَرَ إِلَيْهَا وَصَوَّبَهُ ثُمَّ طَأْطَأَ رَأْسَهُ فَلَمَّا رَأَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ فِيهَا شَيْئًا جَلَسَتْ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ إِنْ لَمْ تَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيهَا فَقَالَ: هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالَ: لا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: اذْهَبْ إِلَى أَهْلِكَ فَانْظُرْ هَلْ تَجِدُ شَيْئًا فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: لا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا وَجَدْتُ شَيْئًا، قَالَ: انْظُرْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلا خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ وَلَكِنْ هَذَا إِزَارِي، قَالَ سَهْلٌ: مَا لَهُ رِدَاءٌ فَلَهَا نِصْفُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا تَصْنَعُ بِإِزَارِكَ إِنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْءٌ وَإِنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ مِنْهُ شَيْءٌ فَجَلَسَ الرَّجُلُ حَتَّى طَالَ مَجْلِسُهُ ثُمَّ قَامَ فَرَآهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُوَلِّيًا فَأَمَرَ بِهِ فَدُعِيَ فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: مَاذَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ؟ قَالَ: مَعِي سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا عَدَّدَهَا قَالَ: أَتَقْرَؤُهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: اذْهَبْ فَقَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ" (41).
ثامنًا: عدم استعمال المساحيق في الوجه أو حمرة الشفاه أو صبغ الشعر من المرأة أو الرجل؛ لأن ذلك من الغش والتدليس الذي نهى عنه الإسلام وحَذَّرَ منه النبي-صلى الله عليه وسلم- والرؤية إنما جُعِلَتْ لمعرفة الحقيقة وهذه الأشياء تحول دون معرفة الحقيقة.
التوكيل في الرؤية ورؤية الصورة العاكسة للبدن
توكيل المرأة الأجنبية لرؤية المخطوبة وتوكيل الرجل الأجنبي لرؤية الخاطب، هذه المسألة جائزة فيجوز للرجل أن يوكل امرأة أجنبية عن المخطوب لتراها عنه، ويجوز للمرأة أن توكل رجلاً ليرى الخاطب (42) وذلك فيما إذا تعذرت الرؤية المباشرة إمَّا لخجل أو لبُعد مسافة أو لكون الخاطب أعمى، أو غير ذلك، وهذا لا خلاف فيه؛ لأن المرأة في الأصل يجوز لها أن ترى المرأة كما أن الرجل يجوز له أن يرى الرجل، وقد دلت السُّنَّةُ على ذلك، فعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَرْسَلَ أُمَّ سُلَيْمٍ تَنْظُرُ إِلَى جَارِيَةٍ فَقَالَ: "شُمِّي عَوَارِضَهَا وَانْظُرِي إِلَى عُرْقُوبِهَا" (43).
وتوكيل الرجل الأجنبي لرؤية المخطوبة، وتوكيل المرأة الأجنبية لرؤية الخاطب مسألة فيها أقوال، والرَّاجح أن ذلك أمر غير جائز؛ لأن النظر مُحَرَّمٌ على الأجنبي الذي لم يخطب فالنص إنما هو في حِلِّ النظر للخاطب والمخطوبة فقط، ثم إن الأمر فيه سعة حيث تقوم المرأة مقام الرجل فلا حرج في هذا ولا ضرورة للرجل.
وأمَّا رؤية الصورة العاكسة للبدن
هل تقوم الصورة العاكسة لبدن الشخص مقام الرؤية؟ وهل يجوز ذلك؟ أمَّا أن الصورة تقوم مقام الرؤية المباشرة فالأمر ظاهر في أنها لا تقوم مقامها تمامًا.
وأمَّا الجواز فإن أهل العلم لم يتطرَّقُوا لهذا؛ نظرًا لأن تصوير المثلي هو العاكس للبدن أمْرٌ حديثٌ والذي يترجَّح هو عدم الجواز لأن أصل التصوير حرام ولا يجوز، ثم إنها لا تقوم بالمقصد الشرعي وهو أن يؤدم بينهما.
المهـــــــــــــــر بين التوجيه والتشريع
إن التشريع الإسلامي قد أنشأ للمرأة حقَّا صريحًا وحقًّا شخصيًّا في صداقها يقول الله تعالى: (وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا) (النساء: 4)، أي يؤديه عن طيب نفس وارتياح خاطر كما يؤدي الهبة والمنحة؛ فالله سبحانه وتعالى يجعل صداق المرأة فريضة لها مقابل الاستمتاع بها: (فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) (النساء: 24)، وذلك هو المهر الذي فرضه الله ويكون المهر لما يتراضى عليه الزوجان بينهما وفق مقتضيات الحياة؛ لقوله تعالى: (وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) (النساء: 24)، وعلى هذا الأساس يجب أن ينظر في تسهيل الأمور التي دعا الإسلام إليها ومنها القصد في المهور وتيسير الزواج قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن أعظم النكاح بركة أيسرُهُ مؤونةً" (44).
نعم هناك إجماع للعلماء على أن المهر لا حدَّ لأكثره ولكن البركة في يسر المؤونة التي يصورها لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَعْطَى امْرَأَةً صَدَاقًا مِلْءَ يَدَيْهِ طَعَاماً كَانَتْ لَهُ حَلَالًا" (45)، وكان عمر -رضي الله عنه- يقول: "لا تغلوا صداق النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى في الآخرة لكان أولاكم بها النبي -صلى الله عليه وسلم-".
فأين نحن من هذا الهدي المبارك، ولأن يقبل المرء اليسير من الصداق تحصيلاً لما وعد رسول الله من البركة خير له ولمن ولاه الله أمرها من ملء الأرض ذهبًا يشق به على الخاطب والله يقول الحق وهو يهدي السبيل: (يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة: 185).
نداء وصرخة عاجلة إلى أولياء البنات
أقول إذا كان المهر مشروعاً في الزواج فإنه ينبغي أن يكون مقداره بالمعروف طبقاً لحال الزوج وحال المرأة لأن المهر وتحصيله وسيلة لا غاية فيجب أن يكون بحدود المعقول وحسب الاستطاعة فاتقوا الله ولا يكون قلة المهر أو عدم حضوره حائلًا بين الكفء وبين الزواج أو سبباً في المفاخرة والمضاهاة المنافية لشريعة الإسلام.
----------------------------------------------
الهوامش:
31. النووي على مسلم 9/109، وحكى النووي الإجماع أيضًا في 14/153، وكذا ابن حجر في الفتح 4/77.
32. رواه مسلم.
33. رواه مسلم.
34. المغني 9/490/ وانظر المقنع 3/ 4، الزركشي على الخرقي، 5/146 المبدع 7/7.
35. الزركشي على الخرقي 5/146، ونحو هذا في النووي على مسلم 9/109.
36. روضة الطلبين 7/20، مغني المحتاج 3/ 128، نهاية المحتاج 6/185، الزركشي على الخرقي 5/147.
37. خطبة النكاح 198 -ـ 199.
38. مواهب الجليل 3/405، منح الجليل 2/4، الخرشي على خليل 3/165، مغنى المحتاج 6/185، شرح الخطيب 3/318، المبدع 7/7، كشاف القناع 5/10، شرح منتهى الإرادات 3/4.
39. مواهب الجليل 3/405، منح الجليل 2/4، الخرشي على خليل 3/166، الشرح الكبير 2/215، المغني 9/490، المبدع 7/7.
40. حاشية ابن عابدين 6/370، تحفة المحتاج 7191.
41. رواه البخاري.
42. حاشية ابن عابدين (6/370)، روضة الطلبين 7/20، مغني المحتاج 3/128، حاشية الدسوقي 2/215، الخرشي على خليل 3/166.
43. مستدرك الحاكم (2/166) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجه ووافقه الذهبي.
44. أخرجه أحمد في مسنده ج 6/82 وهو في المشكاة برقم 3097 خير الصداق أيسره -صحيح الجامع الصغير رقم 3279 وعزاه إلى الحاكم وابن ماجه- انظر الإرواء 1924.
45. أخرجه أحمد في مسنده ج3/ 355، والدار قطني في سننه ج/ 3/343.