وجُوبُ التَّوبة إلى اللهِ والضَّراعة عند نُزُول المَصَائب
لسماحة الشيخ: عبد العزيز بن باز –رحمه الله–

من عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، إلى مَنْ يطّلع عليه من المسلمين.
وفقني الله وإيَّاهم للتذكر والاعتبار، والاتعاظ بما تجري به الأقدار، والمُبادرة بالتوبة النَّصُوح من جميع الذنوب والأوزار. آمين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...

أمَّا بعد:
اللهُ -عز وجل- بحكمته البالغة وحُجَّتِهِ القاطعة وعِلْمِهِ المُحيط بكل شيء، يبتلي عبادهُ بالسَّرَّاء والضَّرَّاء والشِّدَّة والرَّخاء وبالنِّعَمِ والنِّقَمِ، ليمتحن صبرهم وشكرهم، فمَنْ صبر عند البلاء وشكر عند الرَّخاء وضرع إلى الله سبحانه عند حُصُول المصائب، يشكو إليه ذنوبه وتقصيره ويسأله رحمته وعفوه، أفلح كل الفلاح وفاز بالعاقبة الحميدة.
وجُوبُ التَّوبة إلى اللهِ والضَّراعة عند نُزُول المَصَائب Untit117
قال الله جل وعلا في كتابه العظيم:
(الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (العنكبوت: 1-3) والمقصود بالفتنة في هذه الآية: الاختبار والامتحان حتى يتبيَّن الصادق من الكاذب، والصابر والشاكر، كما قال تعالى: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا) (الفرقان: 20)، وقال عز وجل: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (الأنبياء: 35)، وقال سبحانه: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الأعراف: 168).

والحسنات هنا هي النِّعَمِ من الخِصْبِ والرَّخاء والصّحة والعِزَّة، والنَّصر على الأعداء ونحو ذلك، والسيئات هنا هي المصائب، كالأمراض وتسليط الأعداء والزلازل والرياح والعواصف والسيول الجارفة المدمرة ونحو ذلك، وقال عز وجل: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم: 41).

والمعنى:
أنه سبحانه قَدَّرَ ما قَدَّرَ من الحسنات والسيئات وما ظهر من الفساد، ليرجع الناس إلى الحق ويبادروا بالتوبة مِمَّا حَرَّمَ اللهُ عليهم ويُسارعوا إلى طاعة الله ورسوله؛ لأن الكُفر والمعاصي هما سبب كل بلاء وشر في الدنيا والآخرة، وأمَّا توحيد الله والإيمان به وبرسله وطاعته وطاعة رسله والتمسك بشريعته والدعوة إليها والإنكار على مَنْ خالفها فذلك هو سبب كل خير في الدنيا والآخرة، وفي الثبات على ذلك والتواصي به والتعاون عليه، عز الدنيا والآخرة، والنجاة من كل مكروه، والعافية من كل فتنة كما قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد: 7).

وقال سبحانه:
(وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) (الحج: 40 - 41)، وقال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور: 55).

وقال سبحانه:
(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الأعراف: 96).

وقد بَيَّنَ سبحانه في آيات كثيرات أن الذي أصاب الأمم السابقة من العذاب والنَّكال بالطوفان والريح العقيم والصيحة والخسف وغير ذلك كله بأسباب كفرهم وذنوبهم، كما قال عز وجل: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (العنكبوت: 40)، وقال سبحانه وتعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى: 30).

وأمر عباده بالتوبة إليه والضراعة إليه عند وقوع المصائب، فقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) (التحريم: 8)، وقال سبحانه: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (النور: 31)، وقال سبحانه: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأنعام: 42 - 43).

وفي هذه الآية الكريمة:
حَثٌ من اللهِ سبحانه لعباده وترغيبٌ لهم إذا حَلَّتْ بهم المصائب من الأمراض والجراح والقتال والزلازل والريح والعاصفة وغير ذلك من المصائب، أن يتضرعوا إليه ويفتقروا إليه فيسألوه العون، وهذا هو معنى قوله سبحانه: (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا) (الأنعام: 43).

والمعنى:
هلا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا، ثم بَيَّنَ سبحانه أن قسوة قلوبهم وتزيين الشيطان لهم أعمالهم السيئة كل ذلك صَدَّهُمْ عن التوبة والضراعة والاستغفار فقال عز وجل: (وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأنعام: 43).

وقد ثبت عن الخليفة الراشد -رحمه الله- أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز أنه لما وقع الزلزال في زمانه كتب إلى عماله في البلدان وأمرهم أن يأمروا المسلمين بالتوبة إلى الله والضراعة إليه والاستغفار من ذنوبهم.

هذه المصائب وغيرها تُوجِبُ على العباد البَدَارَ بالتوبة إلى الله سبحانه من جميع ما حَرَّمَ اللهُ عليهم، والبَدَارَ إلى طاعته وتحكيم شريعته والتعاون على البر والتقوى والتواصي بالحق والصبر عليه.

وقد علمتم أيها المسلمون ما وقع في عصرنا هذا من أنواع الفتن والمصائب، ومن ذلك تسليط الكفار على المسلمين في أفغانستان والفلبين والهند وفلسطين ولبنان وأثيوبيا وغيرها، ومن ذلك ما وقع من الزلازل في اليمن وبلدان كثيرة، ومن ذلك ما وقع من فيضانات مدمرة والريح العاصفة المدمرة لكثير من الأموال والأشجار والمراكب وغير ذلك، وأنواع الثلوج التي حصل بها ما لا يُحصى من الضرر، ومن ذلك المجاعة والجدب والقحط في كثير من البلدان، وكل هذا وأشباهه من أنواع العقوبات والمصائب التي ابتلى اللهُ بها العباد بأسباب الكفر والمعاصي، والانحراف عن طاعته سبحانه والإقبال على الدنيا وشهواتها العاجلة، والإعراض عن الآخرة وعدم الإعداد لها إلا مَنْ رَحِمَ اللهُ من عِبَادِهِ.

ولا شك أن هذه المصائب وغيرها تُوجِبُ على العباد البَدَارَ بالتوبة إلى الله سبحانه من جميع ما حَرَّمَ اللهُ عليهم، والبَدَارَ إلى طاعته وتحكيم شريعته والتعاون على البر والتقوى والتواصي بالحق والصبر عليه، ومتى تاب العباد إلى ربهم وتضرَّعُوا إليه، وسارعوا إلى ما يُرضِيه: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) (المائدة: 2) وتآمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، أصلح اللهُ أحوالهم، وكفاهم شَرَّ أعدائهم، ومكَّن لهم في الأرض، ونصرهم على عدوهم، وأسبغ عليهم نِعَمَهُ وصرف عنهم نِقَمَهُ، كما قال سبحانه وهو أصدق القائلين: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) (الروم: 47).

وقال عز وجل:
(ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (الأعراف: 55 - 56).

وقال عز وجل:
(وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) (هود :3) وقال سبحانه: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا) (النور: 55) الآية.

وقال عز وجل:
(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة: 71) فأوضح عز وجل في هذه الآيات أن رحمته وإحسانه وأمنه وسائر أنواع نعمه، إنما تحصل على الكمال الموصول بنعيم الآخرة لمن اتقاه وآمن به وأطاع رسله واستقام على شرعه وتاب إليه من ذنوبه.

أمَّا مَنْ أعرض عن طاعته وتكبَّر عن أداء حَقِّه وأصَرَّ على كُفره وعصيانه، فقد توعَّده سبحانه بأنواع العقوبات في الدنيا والآخرة وعجَّل له من ذلك ما اقتضته حكمته ليكون عبرة وعظة لغيره، كما قال سبحانه: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام: 44، 45).

فيا معشر المسلمين:
حاسبوا أنفسكم وتوبوا إلى ربكم واستغفروه، وبادروا إلى طاعته، واحذروا معصيته، وتعاونوا على البر والتقوى، وأحسنوا إن الله يحب المحسنين، وأقسطوا إن الله يحب المقسطين، وأعدوا العدة الصالحة قبل نزول الموت، وارحموا ضعفاءكم، وواسوا فقراءكم، وأكثروا من ذكر الله واستغفاره، وتآمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر لعلكم ترحمون، واعتبروا بما أصاب غيركم من المصائب بأسباب الذنوب والمعاصي، والله يتوب على التائبين، ويرحم المحسنين، ويحسن العاقبة للمتقين، كما قال سبحانه: (فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) (هود: 49) وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (النحل: 128).

والله المسؤول بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرحم عباده المسلمين، وأن يفقههم في الدين، وينصرهم على أعدائه وأعدائهم من الكفار والمنافقين، وأن ينزل بأسه بهم الذي لا يرد عن القوم المجرمين، إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته (*).
*. نشرت في مجلة البحوث الإسلامية العدد، 11 ص، 7 - 12، (مجموع فتاوى ومقالات متنوعة للشيخ ابن باز 2/ 126).