ثالثا: وسائل للوقاية والعلاج
لمحاولة طرح حلول لمشكلة التفكك الأسري، قد يكون من المناسب طرح الحلول في جانبين: جانب وقائي وجانب علاجي.
أ – الوقاية:
قيل قديما: درهم وقاية خير من قنطار علاج، وقد تبني هذا المثل بشكل واسع في كثير من البرامج الاجتماعية والصحية والاقتصادية والتربوية المعاصرة.. وفي مشكلة التفكك الأسري، لا شك أن العناية بما يقي من الوقوع في هذه المشكلة يجب أن يعطى الأهمية التي يستحقها من قبل الجميع.
ولعلنا نعرض بعضا من طرق الوقاية فيما يلي:
* تقوية إيمان الفرد من أهم الأمور التي تقي الأفراد من الوقوع في مختلف المشكلات، بناء إيمان قوي في نفوس الناشئة من الصغر، ونقصد بذلك التربية الإيمانية التي عرفها أحد الباحثين بأنها: ربط الولد منذ تعقله بأصول الإيمان، وتعويده منذ تفهمه أركان الإسلام، وتعليمه من حيث تمييزه مبادئ الشريعة الغراء.
وقد قال الشاعر:
وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه
ما دان الفتى بحجى ولكن يعوده التدين أقربوه
فإذا نشأ الفتى على إيمان قوي صحيح صادق، نتج عن ذلك شخصية سوية مستقيمة قادرة على مواجهة كافة المشكلات بروح المؤمن القوي، المتكل على الله، المتسلح بسلاح المعرفة الشرعية الصحيحة والمستفيدة من كل ما هو جديد مفيد لا يتعارض مع تعاليم دينه، فهيهات أن تفت تلك المشكلات عضد هذه الشخصية أو توهن قواها، بل سرعان ما تنجلي عن طريقه منذ بدايتها وفي مهدها.
وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (الإيمان بضع وسبعون -أو بضع وستون- شُعبة فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شُعبة من الإيمان).
وهذا الحديث اشتمل على الأركان الثلاثة للسلوك:
الركن الداخلي والركن الخارجي والركن الخُلُقِي.. فالركن الداخلي هو الإيمان والذي أساسه الإيمان الصادق بالله بكل الدلالات التي تحويها كلمة الشهادة.. ثم الركن الخارجي وهو السلوك، وضرب له مثلا بإماطة الأذى عن الطريق الذي يعكس تطبيقا لعدد كبير من معايير المجتمع، كالمسئولية والمشاركة ودفع الأذى وخدمة الآخرين وصيانة المرافق العامة، وغير ذلك مما يدخل في هذا المفهوم.. وأخيرا الركن الخلقي، وضرب له مثلا بالحياء، وهو خلق رفيع يدل على سماحة النفس وتواضعها ولين الجانب واحترام الآخرين، والحديث يحمل في طياته الكثير من المعاني التي يصعب علينا حصرها.
وقد أكَّد الكثير من الباحثين الغربيين أهمية الإيمان في سلوك الأفراد، فقد قال الطبيب النفسي الأمريكي هنري لنك: إن هؤلاء الآباء الذين كانوا يتساءلون كيف ينمون عادات أولادهم الخلقية ويشكلونها، في حين ينقصهم هم أنفسهم تلك التأثيرات الدينية التي كانت قد شكلت أخلاقهم من قبل، كانوا في الحقيقة يجابهون مشكلة لا حل لها، فلم يوجد بعد ذلك البديل الكامل الذي يحل محل تلك القوة الهائلة التي يخلقها الإيمان بالخالق وبناموسه الخلقي الإلهي في قلوب الناس.
كما يجب التنبيه إلى أن تقوية الإيمان لا تقف على صغار السن، بل يجب أن تمتد لتشمل الأفراد في جميع مراحلهم العمرية، وهذه مسئولية كافة مؤسسات المجتمع السياسية والدينية والثقافية والتربوية والإعلامية.
1- بناء الأسرة على أسس صحيحة:
ويقصد بذلك قيام الأسرة من البداية على تعاليم الإسلام، من مرحلة اختيار الزواج أو الزوجة، امتثالا لما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك).
فهذه هي معايير الاختيار عند الناس، ولكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نبَّه إلى أهمها، والذي إذا فقد لا قيمة للبقية من بعده وهو الدين، فالزوج سواء كان ذكرا أم أنثى إذا كان ذا دين قوي قويم أسس النجاح لهذه الأسرة الوليدة، وكان حريصا على قيامها بما هو مطلوب منها على أفضل وجه، مبتعدا عن ما يعكر صفوها أو يحدث خللا في علاقاتها وتماسكها، كما أن التقارب بين الزوجين في السن والمستوى التعليمي والاجتماعي والاقتصادي من عوامل الوقاية من الخلافات الأسرية التي قد تحدث عند التباين بين الزوجين في بعض ما ذكره أعلاه، ويدخل في هذا فهم وتطبيق الزوجين للحقوق والواجبات التي شرعها الإسلام لكل منهما.
3- عدم التدخل في حياة الزوجين وهذا موجه بالدرجة الأولى لأهل الزوج والزوجة، فعندما ينأى أهلهما عن التدخل فيما يعرض لهما من مشكلات، ويطلبون منهما أن يعملا سويا على حلها دون إقحام الأهل في تلك المشكلات، فإن هذه وسيلة وقاية تحمي الأسرة من دخول أطراف أخرى قد لا تقدر مسئولية الحفاظ على كيان الأسرة، كما يحدث من بعض الأمهات مع بناتهن المتزوجات (غالبا يحدث هذا عن حسن نية)، فتحول أي مشكلة وإن كانت صغيرة (عدم شراء الزوج لزوجته حلي تطلبها) إلى مشكلة كبيرة يتدخل فيها الآباء والأمهات والأقارب، وأحيانا الجهات الرسمية، وقد يتطور الأمر إلى تفكك تلك الأسرة.
هذه بعض الأمثلة على وسائل الوقاية.
ب – العلاج:
تتعدَّد الوسائل العلاجية التي يمكن استخدامها لعلاج مشكلة التفكك الأسري.
وسنحاول في الصفحات التالية إجمالها في خمس وسائل هي:
1 - المؤسسات الدينية:
ويقصد بها كل المؤسسات الدينية المتاحة في المجتمع، كالمساجد والعلماء وهيئات الإفتاء.. فالمساجد، وهي المكان الذي يتردد عليه المسلم خمس مرات في اليوم والليلة، يمكن أن يقدم فيها بيان لحقوق الزوجين في الإسلام، وكيف عالج الإسلام نماذج من المشكلات الأسرية في القرآن الكريم وفي سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي حياة الصحابة والتابعين ومن بعدهم من صالحي الأمة.
كما أن علماء الشريعة، من خلال تفاعلهم مع مشكلات الأسر التي تصلهم عن طريق الإذاعة أو التلفاز أو الصحافة، وعرضهم لرأي الإسلام في تلك المشكلات وخصوصا الجديد منها، يقدمون خدمة الناس هم بأمس الحاجة إليها، كما أن لقاءاتهم المباشرة مع الأفراد أو عبر الهاتف لها أثر كبير في حل العديد من المشكلات الأسرية قبل تفاقمها وتسببها في تفكك تلك الأسر المسلمة.
وهذا الدور يقوم به كثير من علماء المسلمين في العديد من البلدان الإسلامية، ولعل الباحث يذكر هنا ما هو حاصل من أعضاء هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية (أعلى هيئة دينية) حيث يقومون بالتفاعل مع الناس عبر كل الوسائل، سواء المباشرة من خلال اللقاء في مكان عملهم، أو في مساجدهم، أو في مختلف مساجد المملكة، أو من خلال تلقي الاتصالات الهاتفية في منازلهم، من خلال أرقام هواتف معلنة وموزعة على نطاق واسع، أو من خلال إذاعة القرآن الكريم والتلفاز السعودي عبر البرامج المباشرة أو المسجلة، أو من خلال الصحف والمجلات في كثير من بلدان العالم الإسلامي.
2 - المؤسسات التربوية:
وهي مؤسسات التربية والتعليم في المجتمع، حيث يقع عليها مسئولية توفير برامج تلامس احتياجات الناس، ومن ذلك توفير المرشدين الطلابيين في مدارس التعليم العام، الذين يعملون على تلمس مشكلات الطلاب، والسعي لحلها بالاتصال بالوالدين ومناقشة المشكلة معهما (لأنهما أحيانا سبب المشكلة)، فما يحدث في منزل الطالب من خلافات ونزاعات يؤثر عليه وعلى تحصيله العلمي.
كما أن الجامعات ومؤسسات التعليم العالمي بما يتوفر لديها من كفاءات علمية عالية التأهيل يتوقع منها توفير برامج موجهة للأسر في مجتمعاتها لإيضاح السبل إلى حياة زوجية سعيدة، وكيفية مواجهة المشكلات الأسرية، وتوفير عيادات إرشادية لأفراد الأسر يقابلون فيها المختصين فيعرضون عليهم المشكلات ويتلقون منهم سبل العلاج المناسبة.
3 - المؤسسات الثقافية والإعلامية:
وهذه المؤسسات كما أنها قد تسهم في وقوع مشكلة التفكك من خلال برامجها وما يعرض فيها، يمكن أن تساهم في العلاج من خلال وعي القائمين عليها بمسئولياتهم نحو المجتمعات التي يوجهون إليها برامجهم فيمكن تقديم برامج وندوات حول عدد من المواضيع، مثل مقومات الأسرة المسلمة في العصر الحديث، حقوق الزوجين في الإسلام، السعادة الزوجية في المنظور الإسلامي، مشكلات أسرية معاصرة وحلولها من منظور إسلامي، كما يمكن طرح مثل هذه الموضوعات من خلال الكتب، وفي المجلات والصحف، وعلى مواقع في شبكة الإنترنت، ويحرص على برامج اللقاءات المباشرة.
4- المؤسسات الخيرية:
وهي المؤسسات التي يمكن أن تعين في حل مشكلات لها دور في التفكك الأسري، مثل المساعدة المادية والعينية للأسر الفقيرة، فالوضع الاقتصادي المتردي يؤدي إلى تصدع الأسرة وتفككها، ونشاهد في عالمنا الإسلامي الدور الإيجابي الذي تقوم به تلك المؤسسات الخيرية في مجالات عدة، ومنها الاهتمام بالأسر من حيث المسكن والغذاء واللباس والتعليم، وهذه عناصر رئيسة لحياة كل أسرة والنقص فيها يخلق مشكلات داخل الأسرة وبين أفرادها.
كما تستطيع تلك المؤسسات تبني مشاريع عديدة تساعد الأسر على مواجهة متطلبات الحياة المعاصرة المتزايدة، مثل تكاليف الزواج، والمساندة الاجتماعية للمتزوجين الجدد، ورعاية ضحايا الأسر المتفككة، خصوصا صغار السن منهم عن طريق دور مهيأة بكل الوسائل المعينة لعيش حياة مستقرة وسعيدة.
5 - المؤسسات الصحية:
وهي المؤسسات التابعة لوزارة الصحة والتي يتوقع منها توفير برامج متعددة تهتم بالجانب الصحي للأسر، سواء ما تعلق منها بالأمراض الجسمية أو الأمراض النفسية أو برامج الصحة النفسية، ولا شك أن معالجة هذه الأمراض يساعد على تماسك الأسرة ويخفف عنها المعاناة الناتجة من تدهور الوضع الصحي لأحد أفرادها.
ولكن الملاحظ ضعف أو غياب برامج الصحة النفسية في خدمات المؤسسات الصحية الحكومية، وهي برامج هامة تساعد على حماية المجتمع من الوقوع في الأمراض النفسية والتي تتزايد يوما بعد يوم، بسبب أسلوب الحياة المعاصرة، السريع في خطاه، والجالب للضغوط النفسية نتيجة المطالب المتزايدة التي يحتاجها إنسان هذا العصر.
6 - مؤسسات الإرشاد الزواجي:
وهي مؤسسات تهتم بكل ما يخص الأسرة في جميع مراحل دورة حياة الأسرة، ففي التأسيس تقدَّم خدمات المشورة للراغبين في الزواج، عن وصف للحياة الزوجية والحقوق الواجبات على الزوجين، وتوقع حدوث الخلافات نتيجة اختلاف الطبيعة بين الزوجين ونوعية التربية التي تلقاها كل منهما والظروف المحيطة بهما.
كما تقدَّم خدمات معالجة المشكلات التي تطرأ بعد الزواج بين الزوجين، وتقترح الحلول المعينة على تجاوز تلك المشكلات، وتقدَّم برامج مخصصة لتنمية مهارات معينة لدى الزوجين، لتجنب تفاقم المشكلات واستخدام الأساليب المناسبة لحلها بطريقة تحافظ على تماسك الأسرة وترابط أفرادها.
ويهدف الإرشاد الزواجي إلى:
1- تخفيف التوتر والقلق والعداوة بين الزوجين.
2- وقف ردود الفعل العدائية في التفاعل الزواجي.
3- التعرف على أسباب الصراع وتبصير الزوجين به.
4- تنمية الدافع عندهما لحل الصراع والتنافس الذي قد يحدث بينهما.
5- مساعدتهما على توفيق آرائهما المختلفة، والوصول إلى حلول وسط لتسوية الخلافات الناشئة بينهما.
6- تشجيع كل منهما على التعبير عن همومه التي مصدرها البيت أو العمل، والتعرف على هموم الطرف الآخر.
7- مساعدتهما على تحسين ظروفهما الأسرية التي لها علاقة بالخلافات.
8- مساعدة كل منهما على تعديل مفهوم الذات، ومفهوم الزوج الآخر عنده، مما يجلعه يحسن الظن به، ويتفاعل معه تفاعلا إيجابيا حسنا
ومؤسسات الإرشاد الزواجي يمكن أن تساعد أيضاً في المرحلة اللاحقة للإرشاد، وهي مرحلة الحكمين التي حددها القرآن الكريم لحل النشوز الذي يطرأ على الحياة الزوجية ويهدد بتفككها.
قال سبحانه وتعالى: (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها إن يريدا إصلاحًا يوفق الله بينهما إن الله كان عليمًا خبيرًا) (النساء: 35).
وهنا نجد مهمة الحكمان علاجية تسعى للإصلاح والتوفيق، وحل الخلافات بما يعين على عودة المياه إلى مجاريها وحفظ رابطة الزواج من التفكك والانسلاخ، مع لزوم حسن النية وإرادة الخير من الحكمين والزوجين،
كما في الآية: (إن يريدا إصلاحًا يوفق الله بينهما) (النساء: 35).
فخطاب المثنى موجه للحكمين كما قال بعض المفسرين (الزمخشري) كما أنه موجه للزوجين.
7- صندوق العائلة الخيري:
وهي تجربة اجتماعية لدى عدد كبير من العوائل في المملكة العربية السعودية، وتقوم على أساس تكوين صندوق خيري يساهم فيه رب كل أسرة ينتسب لتلك العائلة بمبلغ مالي سنوي.. ويختار للصندوق مجلس إدارة من أفراد العائلة، ويقوم المجلس بتنظيم العديد من الأنشطة، من أهمها عقد لقاء سنوي أو نصف سنوي أو ربع سنوي حسب ما يتم الاتفاق عليه، ويحضر هذا اللقاء كل أفراد العائلة من مختلف مناطق المملكة وأحيانا من دول الخليج المنتسبين لتلك العائلة، حيث يتم التعارف بين أفراد العائلة.
كما أن من الأنشطة التي يضطلع بها الصندوق، إصلاح ذات البين بين أفراد العائلة والتوسط لحل الخلافات الزوجية، وتقديم المساعدات المالية للمحتاجين أو الذين تواجههم ظروف ديون لا يستطيعون سدادها، كما يتم مساعدة شباب العائلة المقدمين على الزواج ولا يستطيعون توفير كافة المبالغ المادية للزواج.. وهذه كلها أنشطة إيجابية يرجى أن تنتشر في بقية العالم الإسلامي، لما لها من فوائد كثيرة على العائلة وعلى المجتمع ككل.
هذا ما تيسر عرضه في موضوع التفكك الأسري، والذي يحتاج لتضافر الجميع دون وقوعه، والبحث عن سبل العلاج إذا وقع.
* * *
من مراجع البحث
- تربية الأولاد في الإسلام، عبدالله ناصح علوان، 1403هـ.
- العلاقة الزوجية والصحة النفسية، كمال إبراهيم مرسي، 1411هـ.
- أطفالنا والخادمات، اعتدال عطيوي، بدون تاريخ.
- إنتاجية مجتمع، محمود محمد سفر، 1404هـ.
- هل يسبب سوء استعمال الإنترنت إدمانا نفسيا؟، أسامة أبو سريع، 2000م.
- مسئولية الأب المسلم في تربية الولد، عدنان حسن باحارث، 1414هـ.
- الزواج والعائلة: التحليل النفسي والاجتماعي للعلاقات الأسري، عدنان عبدالكريم الشطي، 1995م.